بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 12 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 12 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 10
صفحة 1 من اصل 1
من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 10
ثم انتقلت الآيات إلى ذكر طرف من أخبار بني إسرائيل :
فقال تعالى : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)
فناداهم نداء البعيد إشعارا بعلو شأن المخاطِب وغفلة المخاطَب ، ولم يخل السياق من تلطف معهم تأليفا لقلب المدعو ، فنسبهم إلى جدهم إسرائيل عليه السلام ، وتلك نسبة شريفة ، وإن كانت العبرة بالأعمال لا بالأنساب ، ولكن النسب الشريف كمعدن الذهب فهو : مظنة كمال في العلم والعمل ، فإن تخلف العلم النافع والعمل الصالح لم يغن النسب شيئا ، وقد كانت بنو إسرائيل أعلم الناس في زمانها ، وأشرف الناس نسبا ، فإلى الأسباط ينتسبون ، وإلى الخليل عليه السلام يصلون ، فلم يغن عنهم ذلك شيئا لما كذبوا النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فعلاهم العرب شرفا وزادوا عليهم فضلا ، إذ لا نسب بين الله ، عز وجل ، إلا الطاعة ، فالنسيب أوضع الناس ، إن كذب وابتدع ، والوضيع أرفع الناس إن صدق واتبع ، ولا يلزم من كون المحل قابلا للفضل أن يكون فاضلا في نفس الأمر ، فقد قيد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك بقوله : (النَّاسُ مَعَادِنُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا) ، فلم يلغ وصف المعدن ، ولم يعتبره إن أعرض صاحبه عن اتباع الحق والتفقه فيه كما أن معدن الذهب أنفس من معدن الفضة ، فهو أنفس بالقوة كما يقول المناطقة ، فإن لم يستفد الناس منه ذهبا بالفعل ، كان معدن الفضة الذي تستفاد منه الفضة بالفعل أفضل منه ، إذ العبرة بالأفعال لا بالأقوال أو القوى الكامنة ، فإن قوة بلا فعل : قوة معطلة ، وإن كانت شريفة في ذاتها .
ثم ذكرهم الله ، عز وجل ، بعطاء ربوبيته ، فأجملها في هذا الموضع ، إذ : صيغة المفرد المضاف : "نعمتي" : تفيد العموم ، والعموم أحد صور الإجمال ، وأضافها إلى نفسه ، عز وجل ، إمعانا في الامتنان عليهم ، إذ شرف النعمة من شرف المنعِم ، ووصفها بالموصول : "التي أنعمت عليكم" : زيادة تقرير للمنة الربانية ، فليس للوصف مفهوم ، ليقال بأن من النعم ما أنعم به الله ، عز وجل ، ومنها ما أنعم بها غيره ، وإنما الكل من عند الله فضلا بلا استحقاق ، وفي التنزيل : (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) ، فالنعمة قد جاءت نكرة في سياق نفي مؤكد بــــ : "من" التي تفيد التنصيص على العموم ، فضلا عن تقديم ما حقه التأخير : "لكم" : حصرا وتوكيدا ، فكل نعمة ابتداء غايتها من الله ، عز وجل ، فإذا أصابتكم المصيبة الكونية : متعلق الربوبية النافذة ، سارعتم بدعائه ، ونبذتم دعاء ما سواه ، إذ لا يملكون ضرا أو نفعا ، فربوبيتهم : دعوى بلا دليل ، بل محض تحكم ، وقد قدم ما حقه التأخير هنا أيضا : "فإليه" ، بيانا لحالهم فإنهم حينئذ ينسون ما عدا الله ، عز وجل ، فيتألهون اضطرارا !!! فقهر الربوبية النافذة قد حملهم على ذل الألوهية ، فإن النفوس مفطورة على التأله للرب ، جل وعلا ، فالضعيف لا يأمن إلا في جوار القوي ، فيلتمس منه العون في النائبات ، وإن أظهر الغنى حال السعة ، فلا بد من قوة غيبية قاهرة تطمئن إليها القلوب ، والناس في ذلك على مراتب لا يحصيها إلا الله ، عز وجل ، فمن مستجير بالله ، عز وجل ، وصفاته الفاعلة ، فيستجلب النعم بصفات جماله ويستدفع النقم بصفات جلاله ، فالغني ينعم على أوليائه ، والجبار يبطش بأعدائه ، ومن مستجير بنبي أو إمام أو ولي قد اعتقد فيه الضر والنفع ، فانصرفت همته إلى دعاء المخلوق الفاني دون الخالق الباقي ، ففسد عمله فرعا على فساد علمه ، ففساد حكمه من فساد تصوره ، وكلما ازداد التصور فسادا ازداد الحكم فسادا حتى وصل الحال ببعض العقلاء إلى تقديس الأشجار والأبقار ، بل والفئران .
فلما قرر ، عز وجل ، عطاء ربوبيته ، أردفه بحق ألوهيته : وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ، وفي السياق إيجاز بالحذف ، فالشرط الذي جزم جواب الطلب : "أوف" في جوابه محذوف ، انتقالا إلى الوعد تعجيلا في المسرة حملا للمخاطب على الامتثال ، فإن وفيتم بعهدي ، وأديتم شكر نعمة الربوبية بامتثال أمر الألوهية وفيت بعهدي لكم ، ومن أصدق من الله حديثا ، وذيل الآية بذكر فرد من أفراد الطاعة الإلهية وهو : الرهبة ، قسيم الرغبة ، فاستمالتهم بإيفاء العهد : رغبة تحمل على امتثال المأمور لا تنفك عن رهبة تحمل على اجتناب المحظور ، وقدم المفعول : "إياي" : حصرا وتوكيدا ، فإياي وحدي فارهبون .
وبعد ذلك فصل ما أجمل من حق الألوهية فقال عز وجل : وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ .
فالأمر بالإيمان فرع على ربوبيته ، عز وجل ، فالرب حكيم يعلم ما يصلح عباده فأنزل لهم من الشرع ما يصلح معادهم ومعاشهم ، وفي نسبة الإنزال إليه في : "أنزلت" : تعظيم للمنزَل ، فشرفه من شرف المنزِل .
و "مصدقا" : حال كاشفة ، لا مقيدة ، فليس مما أنزل الله ، عز وجل ، ما يكذب التوارة الصحيحة قبل أن تمسها يد التحريف والتبديل ، ليقال بأن مفهوم الآية : ولا تؤمنوا بما أنزلت غير مصدق لما معكم من التوارة الصحيحة ، إذ الكتب الإلهية يؤيد بعضها بعضا ، ويشهد بعضها لبعض ، مصداق قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ، وليس النسخ بتعارض يقدح في صحتها ، فإن النسخ محله أحكام الشريعة لا أخبار العقيدة ، ونسخ الأحكام أمر يقع في الشريعة الواحدة دون أن يقدح في صحتها وإحكامها ، فنسخ الشريعة السابقة بالشريعة اللاحقة أمر جائز من باب أولى ، وقد نسخ الإنجيل أحكاما من التوراة ، مصداق قوله تعالى : (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ، فالأنبياء : (إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) ، فالتشبيه البليغ الذي حذفت أداته ووجهه في الحديث ، إذ تقدير الكلام : الأنبياء كالإخوة لعلات فدينهم واحد وشرائعهم شتى كما أن الإخوة لأب : أبوهم واحد وأمهاتهم شتى ، ذلك التشبيه مئنة من اتفاق الكتب المنزلة في مسائل الإلهيات الخبرية ، وإن فصل بعضها وأجمل بعضها ، فأمور التوحيد والمعاد وأصول الشرائع والأخلاق ............. إلخ : نصوص محكمات لا تقبل النسخ ، بخلاف الفرعيات العملية التي يجري عليها النسخ وفق حكمة إلهية بالغة ، فما يصلح أمة لا يصلح أخرى ، فشريعة موسى عليه الصلاة والسلام : شريعة جلال تناسب ما طبع عليه بنو إسرائيل من صلف وكبر ، وشريعة عيسى عليه الصلاة والسلام : شريعة جمال جاءت بالتخفيف عل قلوب بني إسرائيل المتحجرة تهبط من خشية الله ، وشريعة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم : شريعة كمال ، فيها زبدة العلوم والأعمال في كل الشرائع التي تقدمتها ، كما أن الكتاب العزيز مهيمن على كل ما تقدمه من الكتب الإلهية
.
وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ : عطف لازم على ملزومه ، فالأمر بالإيمان يستلزم النهي عن الكفر ، وفي السياق إيجاز بالحذف ، فتقدير الكلام : ولا تكونوا أول فريق كافر به ، أو : بتأويل لا يكنْ كلُّ واحد منكم أولَ كافر به ، كقولك : كسانا حُلةً ، أي : كسا كل واحد منا حلة ، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله .
وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا : عطف لازم آخر ، فالكفر مظنة استبدال الذي هو أدنى من حطام الدنيا بالذي هو خير من نعيم دار المقامة ، فتلك لعمر الله : صفقة خاسرة ، أيما خسران ، وقد تسلط النهي على المصدر الكامن في الفعل : "تشتروا" ، فضلا عن وقوع النكرة : "ثمنا" في حيز النهي فأفادت العموم ، وفي تنكيرها ووصفها بالقلة مئنة من حقرها ، وليسل للوصف : "قليل" مفهوم ليقال بجواز ذلك إن كان الثمن كثيرا ، فإن أي ثمن دنيوي يبيع العبد آخرته به : قليل بخس ، وإن عظم في ناظريه ، مصداق قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ : حصر وتوكيد على غرار : "وإياي فارهبون" .
ثم انتقلت الآيات إلى مزيد تفصيل لمجمل أمر الألوهية :
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
فهو من عطف المتلازمات أيضا ، فإن إلباس الباطل ثوب الحق ليروج على المخاطب لا يكون إلا بكتمان الحق خشية الافتضاح ، ولذلك تجد الكافر أو المبتدع حريصا على كتمان الحق مطلقا سواء أكان ذلك في كتبه التي يزعم قدسيتها أم في كتب المخالف من باب أولى ، فليت النصارى نظروا في كتبهم على ما فيها من دغل إلى بقايا الحق المنزل فيها ، وليت الرافضة نظروا في كتبهم بعين الفحص والتدبر لا التقليد والتلقين ، فربما وجدوا فيها ما يشهد لنقلة دين الإسلام الذي يظهرون انتحاله ، بالعدالة !! ، ورهبان السوء وشيوخ الضلال أحرص الناس على كتمان الحق عن تابعيهم لئلا يفتضح أمرهم وتزول رياساتهم ، وتلك أخلاق أحبار يهود الذي حسدوا محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ما أتاه الله من فضله ، فضنوا بمكاسبهم الزائلة ، وأبوا تصديق من بشرت توراتهم برسالته الخاتمة ، وهم الذين نزلوا يثرب ترقبا لظهوره !!! ، وفي التنزيل : (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) .
يقول ابن تيمية رحمه الله :
"وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ذَمَّهُمْ عَلَى الْوَصْفَيْنِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُقْتَضٍ لِلذَّمِّ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ ؛ وَلِهَذَا نَهَى عَنْهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فَإِنَّهُ مَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَغَطَّاهُ بِهِ فَغَلِطَ بِهِ لَزِمَ أَنْ يَكْتُمَ الْحَقَّ الَّذِي تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ إذْ لَوْ بَيَّنَهُ زَالَ الْبَاطِلُ الَّذِي لَبِسَ بِهِ الْحَقُّ" . اهـــ
ويقول في موضع آخر : "وَقَوْلُهُ : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } هُمَا مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ مَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَجَعَلَهُ مَلْبُوسًا بِهِ خَفَى مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْبَاطِلِ فَصَارَ مَلْبُوسًا وَمَنْ كَتَمَ الْحَقَّ احْتَاجَ أَنْ يُقِيمَ مَوْضِعَهُ بَاطِلًا فَيُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ كَتَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ بَاطِلًا . وَهَكَذَا "أَهْلُ الْبِدَعِ" لَا تَجِدُ أَحَدًا تَرَكَ بَعْضَ السُّنَّةِ الَّتِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا وَالْعَمَلُ إلَّا وَقَعَ فِي بِدْعَةٍ وَلَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ إلَّا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ السُّنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا تَرَكُوا مِنْ السُّنَّةِ مِثْلَهَا } " رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد" . اهــــ
وقد عطف بينهما بلا تكرار للنهي ، إشعارا بشدة تلازمهما فهما كالشيء الواحد لا انفكاك لأجزائه عن بعضها البعض .
وفي قوله تعالى : (وأنتم تعلمون) : احتراس ، لئلا يعتذروا بالجهل ، فهو مقبول في حق من لم يعلم ، أما من تعلم ودرس وعرف الحق ثم أعرض عنه ، فلا عذر له ، بل إن عقابه أشد ، فقد وجب في حقه ما لم يجب في حق الجاهل ، وكلما كان العلم أوسع كان الحساب أشد .
ثم انتقلت الآيات إلى مقام الإنكار :
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ : فهو استفهام إنكار توبيخي إذ ما بعده قد وقع فعلا فيستحق الإنكار والتوبيخ ، فالعلم مظنة العمل حتى يصير صاحبه أهلا للاقتداء به ، وكم فتن علماء السوء من الخلق بمناقضة أعمالهم أقوالَهم ، فالقول : حسن ، والفعل قبيح ، والعمم تيجان والنفوس قيعان .
يقول ابن القيم ، رحمه الله ، في "إغاثة اللهفان" :
"ولما علمت الرهبان والمطارنة والأساقفة : أن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة ، شدوه بالحيل والصور فى الحيطان ، بالذهب واللازورد والزنجفر وبالأرغل وبالأعياد المحدثة ، ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول والبصائر ، وساعدهم ما عليه اليهود من القسوة ، والغلظة والمكر والكذب والبهت ، وما عليه كثير من المسلمين من الظلم ، والفواحش ، والفجور ، والبدعة ، والغلو فى المخلوق ، حتى يتخذه إلها من دون الل ه، واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء من خواص المسلمين وصالحيهم ، فتركب من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم فيه ، ورؤيتهم أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والفجور، والشرك ، والفواحش .
ولهذا لما رأى النصارى الصحابة وما هم عليه آمن أكثرهم اختيارا وطوعا . وقالوا : ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء .
ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرا من أهل الكتاب إلى الإسلام ، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام ، ممن يعظمهم الجهال : من البدع والظلم ، والفجور والمكر والاحتيال ، ونسبة ذلك إلى الشرع ولمن جاء به . فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به .
فالله طليب قطاع طريق الله ، وحسيبه" . اهـــ
ويقول في "الفوائد" :
"علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم , فكلما قالت أقوالهم للناس : هلمّوا : قالت أفعالهم : لا تسمعوا منهم . فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له , فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطّاع طرق" . اهــ
وكثير ممن ارتدى زي العلماء في زماننا قد صار فتنة للناس بفساد طريقته ، فولاؤه لكرسيه وغيرته لمكاسبه ، لا يغضب إذا انتهكت حرمات الله ، ويغضب ويثور وتنتفخ أوداجه إذا انتقده منتقد ، أو استدرك عليه مستدرك ، قد صار إلى طريقة أحبار يهود ، مصداق قول سفيان بن عيينة رحمه الله : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عُبَّادنا كان فيه شبه من النصارى .
وقد احتج النصارى لما ناظرهم ابن تيمية ، رحمه الله ، بأفعال بعض المنتسبين إلى الإسلام ممن جهلوا مضمون الرسالة ، فصرفوا صنوفا من العبادات للأولياء فقالوا : نحن نعمل مثل ما تعملون : أنتم تقولون بالسيدة نفيسة ، ونحن نقول بالسيدة مريم ، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ونفيسة ، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم ، ونحن كذلك !!! .
وهي حجة قاطعة وإلزام صحيح ، ولكنه مما يحتج به على جهلة المتعبدة من المسلمين لا على دين الإسلام : دين الحنيفية ، دين : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ، فلا يحتج على المقالة بسلوك أتباعها ، وإنما ينظر ، من يدعي التحقيق والموضوعية ، إلى نفس المقالة ، ليرى هل كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو الناس إلى التوسل بالحسين ونفيسة ، رضي الله عنهما ، وهل أقام الأضرحة والقباب على المقبورين ليدعوهم الناس من دون الله ، ويصرفوا إليهم صنوف الاستغاثة كما يقع اليوم في كثير من بلاد المسلمين ، وهو القائل : (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) . يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا . وهو الذي بعث عليا رضي الله عنه : أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ .
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَاب : احتراس آخر يزيد المذمة والتوبيخ ، فهم يقولون ما لا يفعلون ، ويأمرون بما لا يمتثلون ، مع علمهم بالكتاب ، فصار العلم في حقهم نقمة ، وفي حديث أسامة رضي الله عنه : (يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ) .
أَفَلَا تَعْقِلُونَ : استفهام إنكاري آخر ، إذ صنيعهم مظنة ذهاب العقل ، حتى صح الاستفهام عن بقائه ، وما جدوى عقول تعرف الحق ولا تنقاد له ، والإطناب في الذم والإنكار مراد في هذا الموضع ، فالسياق يقتضيه ، بل إن ذلك مما يرجح وقوع الإيجاز بالحذف في قوله : "أفلا تعقلون" : زيادة في المساءة ، فتقدر جملة بعد همزة الاستفهام تناسب المقام ، كأن يقال : أذهبت عقولكم يا من تزعمون العلم وتدعون التحقيق فلا تعقلون ؟ ، والذم كما تقدم ، مراد في هذا السياق ، فناسب ذلك تقريره بالمذكور وتوكيده بالمحذوف .
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ :
أمر بالعمل الصالح علاجا لما هم من فساد العلم والعمل ، فإن فعل جنس الطاعة مراد لذاته بخلاف اجتناب جنس المعصية ، فهو مراد لغيره ، وقد نبه ، عز وجل ، على فضل الصلاة ، وهي من آكد صور التأله بــ : التوكيد بــ : "إن" واللام المزحلقة في : "لكبيرة" واستثنى الخاشعين ، ثم فصل حالهم في الآية التالية ، فكان بيانا بعد إجمال استرعى انتباه المخاطب ، فتشوفت نفسه إلى معرفة كنه أولئك الخاشعين فجاء الجواب مباشرة دون ذكر للمسند إليه : "هم" ، فتقدير الكلام : هم الذين ، فالسياق يدل عليه فحسن حذفه إيجازا وانتقالا إلى محط الفائدة ، وقد يقال بالقطع إلى الرفع ، تفخيما لشأنهم فــ : هم الذين يظنون ......... ، لا غيرهم ، أو النصب على الاختصاص مدحا وثناء ، فيكون تقدير الكلام : أخص بالذكر أو المدح الذين ..........
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ :
فاستعمل الظن بمعنى اليقين ، وجاء بجملة : "أنهم ملاقو ربهم" : لتسد مسد مفعولي ظن ، وهي آكد من جهة تصديرها بــ : "إن" المؤكدة ، فذلك أبلغ في تقرير إيمانهم بلقاء الله ، عز وجل ، من قولك في غير الكتاب العزيز : الذين يظنون لقاءَهم الله واقعا ، وأضاف اسم الفاعل إلى مفعوله فأفاد تحقق الأمر ، فكأنه قد وقع وانتهى على وزان : هذا قاتلُ زيدٍ ، فقد قتله وانتهى الأمر ، بخلاف : هذا قاتلٌ زيداً ، فلم يقع الفعل بعد وإن كان الفاعل ينوي إيقاعه .
وعطف عليها جملة : "وأنهم إليه راجعون" : توكيدا على غرار ما تقدم من : (أنهم ملاقو ربهم) ، فهو آكد في التقرير من : ويظنون رجوعهم إليه محققا ، وقدم ما حقه التأخير : "إليه" : حصرا وتوكيدا ، فإيمانهم ويقينهم بالبعث قد بلغ الذروة حتى لكأنه رأي عين قد وقع وانقضى فناسب أن يرد في سياق مؤكد بما تقدم .
ثم عادت الآيات لتذكرهم مرة أخرى بعطاء الربوبية ، تقريرا لحق الألوهية ، فتكرر النداء :
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ : احترازا من غفلة المخاطب لبعد العهد بآخر نداء .
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ : وذلك من عطف الخاص على العام تنويها بذكره وإيغالا في تقرير منة الله ، عز وجل ، عليهم ، وأي منة أعظم من منة اصطفائهم على عالمي زمانهم مع ما كان منهم من تمرد وعصيان . وناسب تخصيص هذه المنة بالذكر أن ترد في سياق مؤكد بـــ : "أن" ، فذلك أبلغ في التوكيد من قولك : وتفضيلي إياكم على العالمين ، بالإتيان بالمصدر الصريح .
ثم انتقل إلى لازم تلك النعمة الربانية :
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ
فالأمر بالتقوى من كمال التأله للباري ، عز وجل ، وقد نكر اليوم تعظيما ، واستعمل فن : "التقسيم" في الإطناب في ذكر أوصافه فهو يوم : (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) ولا يخفى ما في تسلط النفي على المصدر الكامن في : "نجزي" وورود النكرات : "نفس" الأولى والثانية ، و "شيئا" في سياق النفي من العموم وهو ما يقطع أي رجاء في نفع مخلوق لمخلوق اللهم إلا شفاعة المؤمنين لإخوانهم الذين وجبت لهم النار ألا يدخلوها ، أو الذين دخلوها أن يخرجوا منها على تفصيل ليس هذا موضعه ، و : (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) ، وذلك في حق الكافر بضميمة النصوص التي أثبتت الشفاعة لعصاة الموحدين ، ويقال في تسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل : "يقبل" ، وورود النكرة : "شفاعة" في سياقه ، ما قيل في سابقه ، فلا تنفعهم شفاعة إن كان لهم شفاعة أصلا ، فلا شفاعة لهم عند التحقيق .
و : (لا يؤخذ منها عدل) ، إن كان عندها عدل أصلا ، على وزان ما تقدم من : (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) ، فضلا عما اطرد من تسلط النفي على المصدر الكامن في العامل ، وورد النكرة في سياقه .
و : (لا هم ينصرون) : فالنفي مؤكد بالضمير "هم" .
وورود كل تلك الأوصاف في سياق : "التقسيم" المتقدم ، مما يحمل المخاطب على المبادرة بامتثال أمر التقوى ، فالخطب جلل ، واليوم عسير على الكافرين غير يسير .
وفي الآية من فنون البلاغة ما اصطلح على تسميته بــــ : "عكس الظاهر" ، في قوله تعالى : (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) ، فتقدير الكلام : ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ، إن كان لها شفاعة مقبولة أو عندها عدل أصلا ، ولكن لا شفاعة لها ولا عدل عندها عند التحقيق ، ومثله :
قوله تعالى : (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، فتقدير الكلام : غير متبرجات بزينة إن كان لهن زينة ، ولكن لا زينة لهن أصلا ليبرزنها ، ولا يرد على ذلك ، كما قال أحد الفضلاء عندنا في مصر ، أن بعض العجائز يظهرن زينتهن تبرجا ، فذلك استثناء من القاعدة ، ولعل حال : موميات المجلس القومي لإفساد المرأة عندنا في مصر من أبرز الأمثلة على كسر تلك القاعدة المطردة !!
ومثله : قوله تعالى : (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) .
وهم لا يسألون أصلا بإلحاف أو غير إلحاف ، فتقدير الكلام : إن كان منهم سؤال فبلا إلحاف ، ولكن لا سؤال منهم أصلا .
يقول الطبري رحمه الله :
"فإن قال قائل : أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غيرَ إلحاف ؟
قيل : غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئًا على وجه الصدقة إلحافًا أو غير إلحاف ، وذلك أن الله عز وجل وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف ، وأنهم إنما كانوا يُعرفون بسيماهم . فلو كانت المسألة من شأنهم ، لم تكن صفتُهم التعفف ، ولم يكن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة ، وكانت المسألة الظاهرة تُنبئ عن حالهم وأمرهم" . اهــــ
وقوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) ، ولا شفيع لهم أصلا ليطاع .
وقوله تعالى : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ) ، ولا شفاعة لهم أصلا لتغني .
وقول الشاعر :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها ******* علي ومعروفي بها غير منكر
ولا وصيد للأرض الفضاء أصلا ، فإن الباب لا يكون لأرض مفتوحة ، وإنما يكون للغرف المغلقة . فيكون تقدير الكلام : لا يسد وصيدها إن كان لها وصيد ، ولكن لا وصيد لها أصلا ليسد .
وقول الشاعر :
عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَي بِمَنَارِهِ ******* إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النُّبَاطِيُّ جَرْجَرا
فلا يهتدى بمناره إن كان له منار ، ولكن ليس به منار فيهتدى به أصلا .
وقد اصطلح المناطقة على الإشارة إلى هذا الفن بقولهم : "السالبة لا تقتضي وجود الموضوع" ، فنفي الشيء لا يستلزم وجوده أصلا ، تماما كالشرط ، فإنه لا يلزم من إيراده جوازه فضلا عن وجوبه ، كما في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) ، وذلك محال لذاته فليس جائزا ابتداء فضلا عن كونه واجبا ، وإنما سيق مساق التنزل مع الخصم .
والله أعلى وأعلم .
فقال تعالى : (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ)
فناداهم نداء البعيد إشعارا بعلو شأن المخاطِب وغفلة المخاطَب ، ولم يخل السياق من تلطف معهم تأليفا لقلب المدعو ، فنسبهم إلى جدهم إسرائيل عليه السلام ، وتلك نسبة شريفة ، وإن كانت العبرة بالأعمال لا بالأنساب ، ولكن النسب الشريف كمعدن الذهب فهو : مظنة كمال في العلم والعمل ، فإن تخلف العلم النافع والعمل الصالح لم يغن النسب شيئا ، وقد كانت بنو إسرائيل أعلم الناس في زمانها ، وأشرف الناس نسبا ، فإلى الأسباط ينتسبون ، وإلى الخليل عليه السلام يصلون ، فلم يغن عنهم ذلك شيئا لما كذبوا النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، فعلاهم العرب شرفا وزادوا عليهم فضلا ، إذ لا نسب بين الله ، عز وجل ، إلا الطاعة ، فالنسيب أوضع الناس ، إن كذب وابتدع ، والوضيع أرفع الناس إن صدق واتبع ، ولا يلزم من كون المحل قابلا للفضل أن يكون فاضلا في نفس الأمر ، فقد قيد النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم ذلك بقوله : (النَّاسُ مَعَادِنُ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ خِيَارُكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ خِيَارُكُمْ فِي الْإِسْلَامِ إِذَا فَقِهُوا) ، فلم يلغ وصف المعدن ، ولم يعتبره إن أعرض صاحبه عن اتباع الحق والتفقه فيه كما أن معدن الذهب أنفس من معدن الفضة ، فهو أنفس بالقوة كما يقول المناطقة ، فإن لم يستفد الناس منه ذهبا بالفعل ، كان معدن الفضة الذي تستفاد منه الفضة بالفعل أفضل منه ، إذ العبرة بالأفعال لا بالأقوال أو القوى الكامنة ، فإن قوة بلا فعل : قوة معطلة ، وإن كانت شريفة في ذاتها .
ثم ذكرهم الله ، عز وجل ، بعطاء ربوبيته ، فأجملها في هذا الموضع ، إذ : صيغة المفرد المضاف : "نعمتي" : تفيد العموم ، والعموم أحد صور الإجمال ، وأضافها إلى نفسه ، عز وجل ، إمعانا في الامتنان عليهم ، إذ شرف النعمة من شرف المنعِم ، ووصفها بالموصول : "التي أنعمت عليكم" : زيادة تقرير للمنة الربانية ، فليس للوصف مفهوم ، ليقال بأن من النعم ما أنعم به الله ، عز وجل ، ومنها ما أنعم بها غيره ، وإنما الكل من عند الله فضلا بلا استحقاق ، وفي التنزيل : (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ) ، فالنعمة قد جاءت نكرة في سياق نفي مؤكد بــــ : "من" التي تفيد التنصيص على العموم ، فضلا عن تقديم ما حقه التأخير : "لكم" : حصرا وتوكيدا ، فكل نعمة ابتداء غايتها من الله ، عز وجل ، فإذا أصابتكم المصيبة الكونية : متعلق الربوبية النافذة ، سارعتم بدعائه ، ونبذتم دعاء ما سواه ، إذ لا يملكون ضرا أو نفعا ، فربوبيتهم : دعوى بلا دليل ، بل محض تحكم ، وقد قدم ما حقه التأخير هنا أيضا : "فإليه" ، بيانا لحالهم فإنهم حينئذ ينسون ما عدا الله ، عز وجل ، فيتألهون اضطرارا !!! فقهر الربوبية النافذة قد حملهم على ذل الألوهية ، فإن النفوس مفطورة على التأله للرب ، جل وعلا ، فالضعيف لا يأمن إلا في جوار القوي ، فيلتمس منه العون في النائبات ، وإن أظهر الغنى حال السعة ، فلا بد من قوة غيبية قاهرة تطمئن إليها القلوب ، والناس في ذلك على مراتب لا يحصيها إلا الله ، عز وجل ، فمن مستجير بالله ، عز وجل ، وصفاته الفاعلة ، فيستجلب النعم بصفات جماله ويستدفع النقم بصفات جلاله ، فالغني ينعم على أوليائه ، والجبار يبطش بأعدائه ، ومن مستجير بنبي أو إمام أو ولي قد اعتقد فيه الضر والنفع ، فانصرفت همته إلى دعاء المخلوق الفاني دون الخالق الباقي ، ففسد عمله فرعا على فساد علمه ، ففساد حكمه من فساد تصوره ، وكلما ازداد التصور فسادا ازداد الحكم فسادا حتى وصل الحال ببعض العقلاء إلى تقديس الأشجار والأبقار ، بل والفئران .
فلما قرر ، عز وجل ، عطاء ربوبيته ، أردفه بحق ألوهيته : وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ، وفي السياق إيجاز بالحذف ، فالشرط الذي جزم جواب الطلب : "أوف" في جوابه محذوف ، انتقالا إلى الوعد تعجيلا في المسرة حملا للمخاطب على الامتثال ، فإن وفيتم بعهدي ، وأديتم شكر نعمة الربوبية بامتثال أمر الألوهية وفيت بعهدي لكم ، ومن أصدق من الله حديثا ، وذيل الآية بذكر فرد من أفراد الطاعة الإلهية وهو : الرهبة ، قسيم الرغبة ، فاستمالتهم بإيفاء العهد : رغبة تحمل على امتثال المأمور لا تنفك عن رهبة تحمل على اجتناب المحظور ، وقدم المفعول : "إياي" : حصرا وتوكيدا ، فإياي وحدي فارهبون .
وبعد ذلك فصل ما أجمل من حق الألوهية فقال عز وجل : وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ .
فالأمر بالإيمان فرع على ربوبيته ، عز وجل ، فالرب حكيم يعلم ما يصلح عباده فأنزل لهم من الشرع ما يصلح معادهم ومعاشهم ، وفي نسبة الإنزال إليه في : "أنزلت" : تعظيم للمنزَل ، فشرفه من شرف المنزِل .
و "مصدقا" : حال كاشفة ، لا مقيدة ، فليس مما أنزل الله ، عز وجل ، ما يكذب التوارة الصحيحة قبل أن تمسها يد التحريف والتبديل ، ليقال بأن مفهوم الآية : ولا تؤمنوا بما أنزلت غير مصدق لما معكم من التوارة الصحيحة ، إذ الكتب الإلهية يؤيد بعضها بعضا ، ويشهد بعضها لبعض ، مصداق قوله تعالى : (وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) ، وليس النسخ بتعارض يقدح في صحتها ، فإن النسخ محله أحكام الشريعة لا أخبار العقيدة ، ونسخ الأحكام أمر يقع في الشريعة الواحدة دون أن يقدح في صحتها وإحكامها ، فنسخ الشريعة السابقة بالشريعة اللاحقة أمر جائز من باب أولى ، وقد نسخ الإنجيل أحكاما من التوراة ، مصداق قوله تعالى : (وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) ، فالأنبياء : (إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) ، فالتشبيه البليغ الذي حذفت أداته ووجهه في الحديث ، إذ تقدير الكلام : الأنبياء كالإخوة لعلات فدينهم واحد وشرائعهم شتى كما أن الإخوة لأب : أبوهم واحد وأمهاتهم شتى ، ذلك التشبيه مئنة من اتفاق الكتب المنزلة في مسائل الإلهيات الخبرية ، وإن فصل بعضها وأجمل بعضها ، فأمور التوحيد والمعاد وأصول الشرائع والأخلاق ............. إلخ : نصوص محكمات لا تقبل النسخ ، بخلاف الفرعيات العملية التي يجري عليها النسخ وفق حكمة إلهية بالغة ، فما يصلح أمة لا يصلح أخرى ، فشريعة موسى عليه الصلاة والسلام : شريعة جلال تناسب ما طبع عليه بنو إسرائيل من صلف وكبر ، وشريعة عيسى عليه الصلاة والسلام : شريعة جمال جاءت بالتخفيف عل قلوب بني إسرائيل المتحجرة تهبط من خشية الله ، وشريعة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم : شريعة كمال ، فيها زبدة العلوم والأعمال في كل الشرائع التي تقدمتها ، كما أن الكتاب العزيز مهيمن على كل ما تقدمه من الكتب الإلهية
.
وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ : عطف لازم على ملزومه ، فالأمر بالإيمان يستلزم النهي عن الكفر ، وفي السياق إيجاز بالحذف ، فتقدير الكلام : ولا تكونوا أول فريق كافر به ، أو : بتأويل لا يكنْ كلُّ واحد منكم أولَ كافر به ، كقولك : كسانا حُلةً ، أي : كسا كل واحد منا حلة ، كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله .
وَلَا تَشْتَرُوا بِآَيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا : عطف لازم آخر ، فالكفر مظنة استبدال الذي هو أدنى من حطام الدنيا بالذي هو خير من نعيم دار المقامة ، فتلك لعمر الله : صفقة خاسرة ، أيما خسران ، وقد تسلط النهي على المصدر الكامن في الفعل : "تشتروا" ، فضلا عن وقوع النكرة : "ثمنا" في حيز النهي فأفادت العموم ، وفي تنكيرها ووصفها بالقلة مئنة من حقرها ، وليسل للوصف : "قليل" مفهوم ليقال بجواز ذلك إن كان الثمن كثيرا ، فإن أي ثمن دنيوي يبيع العبد آخرته به : قليل بخس ، وإن عظم في ناظريه ، مصداق قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) .
وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ : حصر وتوكيد على غرار : "وإياي فارهبون" .
ثم انتقلت الآيات إلى مزيد تفصيل لمجمل أمر الألوهية :
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
فهو من عطف المتلازمات أيضا ، فإن إلباس الباطل ثوب الحق ليروج على المخاطب لا يكون إلا بكتمان الحق خشية الافتضاح ، ولذلك تجد الكافر أو المبتدع حريصا على كتمان الحق مطلقا سواء أكان ذلك في كتبه التي يزعم قدسيتها أم في كتب المخالف من باب أولى ، فليت النصارى نظروا في كتبهم على ما فيها من دغل إلى بقايا الحق المنزل فيها ، وليت الرافضة نظروا في كتبهم بعين الفحص والتدبر لا التقليد والتلقين ، فربما وجدوا فيها ما يشهد لنقلة دين الإسلام الذي يظهرون انتحاله ، بالعدالة !! ، ورهبان السوء وشيوخ الضلال أحرص الناس على كتمان الحق عن تابعيهم لئلا يفتضح أمرهم وتزول رياساتهم ، وتلك أخلاق أحبار يهود الذي حسدوا محمدا صلى الله عليه وعلى آله وسلم على ما أتاه الله من فضله ، فضنوا بمكاسبهم الزائلة ، وأبوا تصديق من بشرت توراتهم برسالته الخاتمة ، وهم الذين نزلوا يثرب ترقبا لظهوره !!! ، وفي التنزيل : (وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) .
يقول ابن تيمية رحمه الله :
"وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ : { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ذَمَّهُمْ عَلَى الْوَصْفَيْنِ وَكُلٌّ مِنْهُمَا مُقْتَضٍ لِلذَّمِّ وَهُمَا مُتَلَازِمَانِ ؛ وَلِهَذَا نَهَى عَنْهُمَا جَمِيعًا فِي قَوْلِهِ : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فَإِنَّهُ مَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَغَطَّاهُ بِهِ فَغَلِطَ بِهِ لَزِمَ أَنْ يَكْتُمَ الْحَقَّ الَّذِي تَبَيَّنَ أَنَّهُ بَاطِلٌ ؛ إذْ لَوْ بَيَّنَهُ زَالَ الْبَاطِلُ الَّذِي لَبِسَ بِهِ الْحَقُّ" . اهـــ
ويقول في موضع آخر : "وَقَوْلُهُ : { وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ } هُمَا مُتَلَازِمَانِ فَإِنَّ مَنْ لَبَّسَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ فَجَعَلَهُ مَلْبُوسًا بِهِ خَفَى مِنْ الْحَقِّ بِقَدْرِ مَا ظَهَرَ مِنْ الْبَاطِلِ فَصَارَ مَلْبُوسًا وَمَنْ كَتَمَ الْحَقَّ احْتَاجَ أَنْ يُقِيمَ مَوْضِعَهُ بَاطِلًا فَيُلْبِسُ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَلِهَذَا كَانَ كُلُّ مَنْ كَتَمَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَلَا بُدَّ أَنْ يُظْهِرَ بَاطِلًا . وَهَكَذَا "أَهْلُ الْبِدَعِ" لَا تَجِدُ أَحَدًا تَرَكَ بَعْضَ السُّنَّةِ الَّتِي يَجِبُ التَّصْدِيقُ بِهَا وَالْعَمَلُ إلَّا وَقَعَ فِي بِدْعَةٍ وَلَا تَجِدُ صَاحِبَ بِدْعَةٍ إلَّا تَرَكَ شَيْئًا مِنْ السُّنَّةِ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ : " { مَا ابْتَدَعَ قَوْمٌ بِدْعَةً إلَّا تَرَكُوا مِنْ السُّنَّةِ مِثْلَهَا } " رَوَاهُ الْإِمَامُ أَحْمَد" . اهــــ
وقد عطف بينهما بلا تكرار للنهي ، إشعارا بشدة تلازمهما فهما كالشيء الواحد لا انفكاك لأجزائه عن بعضها البعض .
وفي قوله تعالى : (وأنتم تعلمون) : احتراس ، لئلا يعتذروا بالجهل ، فهو مقبول في حق من لم يعلم ، أما من تعلم ودرس وعرف الحق ثم أعرض عنه ، فلا عذر له ، بل إن عقابه أشد ، فقد وجب في حقه ما لم يجب في حق الجاهل ، وكلما كان العلم أوسع كان الحساب أشد .
ثم انتقلت الآيات إلى مقام الإنكار :
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ : فهو استفهام إنكار توبيخي إذ ما بعده قد وقع فعلا فيستحق الإنكار والتوبيخ ، فالعلم مظنة العمل حتى يصير صاحبه أهلا للاقتداء به ، وكم فتن علماء السوء من الخلق بمناقضة أعمالهم أقوالَهم ، فالقول : حسن ، والفعل قبيح ، والعمم تيجان والنفوس قيعان .
يقول ابن القيم ، رحمه الله ، في "إغاثة اللهفان" :
"ولما علمت الرهبان والمطارنة والأساقفة : أن مثل هذا الدين تنفر عنه العقول أعظم نفرة ، شدوه بالحيل والصور فى الحيطان ، بالذهب واللازورد والزنجفر وبالأرغل وبالأعياد المحدثة ، ونحو ذلك مما يروج على السفهاء وضعفاء العقول والبصائر ، وساعدهم ما عليه اليهود من القسوة ، والغلظة والمكر والكذب والبهت ، وما عليه كثير من المسلمين من الظلم ، والفواحش ، والفجور ، والبدعة ، والغلو فى المخلوق ، حتى يتخذه إلها من دون الل ه، واعتقاد كثير من الجهال أن هؤلاء من خواص المسلمين وصالحيهم ، فتركب من هذا وأمثاله تمسك القوم بما هم فيه ، ورؤيتهم أنه خير من كثير مما عليه المنتسبون إلى الإسلام من البدع والفجور، والشرك ، والفواحش .
ولهذا لما رأى النصارى الصحابة وما هم عليه آمن أكثرهم اختيارا وطوعا . وقالوا : ما الذين صحبوا المسيح بأفضل من هؤلاء .
ولقد دعونا نحن وغيرنا كثيرا من أهل الكتاب إلى الإسلام ، فأخبروا أن المانع لهم ما يرون عليه المنتسبين إلى الإسلام ، ممن يعظمهم الجهال : من البدع والظلم ، والفجور والمكر والاحتيال ، ونسبة ذلك إلى الشرع ولمن جاء به . فساء ظنهم بالشرع وبمن جاء به .
فالله طليب قطاع طريق الله ، وحسيبه" . اهـــ
ويقول في "الفوائد" :
"علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم ويدعونهم إلى النار بأفعالهم , فكلما قالت أقوالهم للناس : هلمّوا : قالت أفعالهم : لا تسمعوا منهم . فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول المستجيبين له , فهم في الصورة أدلاء وفي الحقيقة قطّاع طرق" . اهــ
وكثير ممن ارتدى زي العلماء في زماننا قد صار فتنة للناس بفساد طريقته ، فولاؤه لكرسيه وغيرته لمكاسبه ، لا يغضب إذا انتهكت حرمات الله ، ويغضب ويثور وتنتفخ أوداجه إذا انتقده منتقد ، أو استدرك عليه مستدرك ، قد صار إلى طريقة أحبار يهود ، مصداق قول سفيان بن عيينة رحمه الله : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عُبَّادنا كان فيه شبه من النصارى .
وقد احتج النصارى لما ناظرهم ابن تيمية ، رحمه الله ، بأفعال بعض المنتسبين إلى الإسلام ممن جهلوا مضمون الرسالة ، فصرفوا صنوفا من العبادات للأولياء فقالوا : نحن نعمل مثل ما تعملون : أنتم تقولون بالسيدة نفيسة ، ونحن نقول بالسيدة مريم ، وقد أجمعنا نحن وأنتم على أن المسيح ومريم أفضل من الحسين ونفيسة ، وأنتم تستغيثون بالصالحين الذين قبلكم ، ونحن كذلك !!! .
وهي حجة قاطعة وإلزام صحيح ، ولكنه مما يحتج به على جهلة المتعبدة من المسلمين لا على دين الإسلام : دين الحنيفية ، دين : (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) ، فلا يحتج على المقالة بسلوك أتباعها ، وإنما ينظر ، من يدعي التحقيق والموضوعية ، إلى نفس المقالة ، ليرى هل كان محمد بن عبد الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يدعو الناس إلى التوسل بالحسين ونفيسة ، رضي الله عنهما ، وهل أقام الأضرحة والقباب على المقبورين ليدعوهم الناس من دون الله ، ويصرفوا إليهم صنوف الاستغاثة كما يقع اليوم في كثير من بلاد المسلمين ، وهو القائل : (لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ) . يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا . وهو الذي بعث عليا رضي الله عنه : أَنْ لَا تَدَعَ تِمْثَالًا إِلَّا طَمَسْتَهُ وَلَا قَبْرًا مُشْرِفًا إِلَّا سَوَّيْتَهُ .
وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَاب : احتراس آخر يزيد المذمة والتوبيخ ، فهم يقولون ما لا يفعلون ، ويأمرون بما لا يمتثلون ، مع علمهم بالكتاب ، فصار العلم في حقهم نقمة ، وفي حديث أسامة رضي الله عنه : (يُجَاءُ بِالرَّجُلِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقُ أَقْتَابُهُ فِي النَّارِ فَيَدُورُ كَمَا يَدُورُ الْحِمَارُ بِرَحَاهُ فَيَجْتَمِعُ أَهْلُ النَّارِ عَلَيْهِ فَيَقُولُونَ أَيْ فُلَانُ مَا شَأْنُكَ أَلَيْسَ كُنْتَ تَأْمُرُنَا بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنْ الْمُنْكَرِ قَالَ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ وَأَنْهَاكُمْ عَنْ الْمُنْكَرِ وَآتِيهِ) .
أَفَلَا تَعْقِلُونَ : استفهام إنكاري آخر ، إذ صنيعهم مظنة ذهاب العقل ، حتى صح الاستفهام عن بقائه ، وما جدوى عقول تعرف الحق ولا تنقاد له ، والإطناب في الذم والإنكار مراد في هذا الموضع ، فالسياق يقتضيه ، بل إن ذلك مما يرجح وقوع الإيجاز بالحذف في قوله : "أفلا تعقلون" : زيادة في المساءة ، فتقدر جملة بعد همزة الاستفهام تناسب المقام ، كأن يقال : أذهبت عقولكم يا من تزعمون العلم وتدعون التحقيق فلا تعقلون ؟ ، والذم كما تقدم ، مراد في هذا السياق ، فناسب ذلك تقريره بالمذكور وتوكيده بالمحذوف .
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ :
أمر بالعمل الصالح علاجا لما هم من فساد العلم والعمل ، فإن فعل جنس الطاعة مراد لذاته بخلاف اجتناب جنس المعصية ، فهو مراد لغيره ، وقد نبه ، عز وجل ، على فضل الصلاة ، وهي من آكد صور التأله بــ : التوكيد بــ : "إن" واللام المزحلقة في : "لكبيرة" واستثنى الخاشعين ، ثم فصل حالهم في الآية التالية ، فكان بيانا بعد إجمال استرعى انتباه المخاطب ، فتشوفت نفسه إلى معرفة كنه أولئك الخاشعين فجاء الجواب مباشرة دون ذكر للمسند إليه : "هم" ، فتقدير الكلام : هم الذين ، فالسياق يدل عليه فحسن حذفه إيجازا وانتقالا إلى محط الفائدة ، وقد يقال بالقطع إلى الرفع ، تفخيما لشأنهم فــ : هم الذين يظنون ......... ، لا غيرهم ، أو النصب على الاختصاص مدحا وثناء ، فيكون تقدير الكلام : أخص بالذكر أو المدح الذين ..........
الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ :
فاستعمل الظن بمعنى اليقين ، وجاء بجملة : "أنهم ملاقو ربهم" : لتسد مسد مفعولي ظن ، وهي آكد من جهة تصديرها بــ : "إن" المؤكدة ، فذلك أبلغ في تقرير إيمانهم بلقاء الله ، عز وجل ، من قولك في غير الكتاب العزيز : الذين يظنون لقاءَهم الله واقعا ، وأضاف اسم الفاعل إلى مفعوله فأفاد تحقق الأمر ، فكأنه قد وقع وانتهى على وزان : هذا قاتلُ زيدٍ ، فقد قتله وانتهى الأمر ، بخلاف : هذا قاتلٌ زيداً ، فلم يقع الفعل بعد وإن كان الفاعل ينوي إيقاعه .
وعطف عليها جملة : "وأنهم إليه راجعون" : توكيدا على غرار ما تقدم من : (أنهم ملاقو ربهم) ، فهو آكد في التقرير من : ويظنون رجوعهم إليه محققا ، وقدم ما حقه التأخير : "إليه" : حصرا وتوكيدا ، فإيمانهم ويقينهم بالبعث قد بلغ الذروة حتى لكأنه رأي عين قد وقع وانقضى فناسب أن يرد في سياق مؤكد بما تقدم .
ثم عادت الآيات لتذكرهم مرة أخرى بعطاء الربوبية ، تقريرا لحق الألوهية ، فتكرر النداء :
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ : احترازا من غفلة المخاطب لبعد العهد بآخر نداء .
وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ : وذلك من عطف الخاص على العام تنويها بذكره وإيغالا في تقرير منة الله ، عز وجل ، عليهم ، وأي منة أعظم من منة اصطفائهم على عالمي زمانهم مع ما كان منهم من تمرد وعصيان . وناسب تخصيص هذه المنة بالذكر أن ترد في سياق مؤكد بـــ : "أن" ، فذلك أبلغ في التوكيد من قولك : وتفضيلي إياكم على العالمين ، بالإتيان بالمصدر الصريح .
ثم انتقل إلى لازم تلك النعمة الربانية :
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ
فالأمر بالتقوى من كمال التأله للباري ، عز وجل ، وقد نكر اليوم تعظيما ، واستعمل فن : "التقسيم" في الإطناب في ذكر أوصافه فهو يوم : (لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا) ولا يخفى ما في تسلط النفي على المصدر الكامن في : "نجزي" وورود النكرات : "نفس" الأولى والثانية ، و "شيئا" في سياق النفي من العموم وهو ما يقطع أي رجاء في نفع مخلوق لمخلوق اللهم إلا شفاعة المؤمنين لإخوانهم الذين وجبت لهم النار ألا يدخلوها ، أو الذين دخلوها أن يخرجوا منها على تفصيل ليس هذا موضعه ، و : (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) ، وذلك في حق الكافر بضميمة النصوص التي أثبتت الشفاعة لعصاة الموحدين ، ويقال في تسلط النفي على المصدر الكامن في الفعل : "يقبل" ، وورود النكرة : "شفاعة" في سياقه ، ما قيل في سابقه ، فلا تنفعهم شفاعة إن كان لهم شفاعة أصلا ، فلا شفاعة لهم عند التحقيق .
و : (لا يؤخذ منها عدل) ، إن كان عندها عدل أصلا ، على وزان ما تقدم من : (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ) ، فضلا عما اطرد من تسلط النفي على المصدر الكامن في العامل ، وورد النكرة في سياقه .
و : (لا هم ينصرون) : فالنفي مؤكد بالضمير "هم" .
وورود كل تلك الأوصاف في سياق : "التقسيم" المتقدم ، مما يحمل المخاطب على المبادرة بامتثال أمر التقوى ، فالخطب جلل ، واليوم عسير على الكافرين غير يسير .
وفي الآية من فنون البلاغة ما اصطلح على تسميته بــــ : "عكس الظاهر" ، في قوله تعالى : (وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ) ، فتقدير الكلام : ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ، إن كان لها شفاعة مقبولة أو عندها عدل أصلا ، ولكن لا شفاعة لها ولا عدل عندها عند التحقيق ، ومثله :
قوله تعالى : (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ، فتقدير الكلام : غير متبرجات بزينة إن كان لهن زينة ، ولكن لا زينة لهن أصلا ليبرزنها ، ولا يرد على ذلك ، كما قال أحد الفضلاء عندنا في مصر ، أن بعض العجائز يظهرن زينتهن تبرجا ، فذلك استثناء من القاعدة ، ولعل حال : موميات المجلس القومي لإفساد المرأة عندنا في مصر من أبرز الأمثلة على كسر تلك القاعدة المطردة !!
ومثله : قوله تعالى : (لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ) .
وهم لا يسألون أصلا بإلحاف أو غير إلحاف ، فتقدير الكلام : إن كان منهم سؤال فبلا إلحاف ، ولكن لا سؤال منهم أصلا .
يقول الطبري رحمه الله :
"فإن قال قائل : أفكان هؤلاء القوم يسألون الناس غيرَ إلحاف ؟
قيل : غير جائز أن يكون كانوا يسألون الناس شيئًا على وجه الصدقة إلحافًا أو غير إلحاف ، وذلك أن الله عز وجل وصفهم بأنهم كانوا أهل تعفف ، وأنهم إنما كانوا يُعرفون بسيماهم . فلو كانت المسألة من شأنهم ، لم تكن صفتُهم التعفف ، ولم يكن بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى علم معرفتهم بالأدلة والعلامة حاجة ، وكانت المسألة الظاهرة تُنبئ عن حالهم وأمرهم" . اهــــ
وقوله تعالى : (وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآَزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ) ، ولا شفيع لهم أصلا ليطاع .
وقوله تعالى : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ) ، ولا شفاعة لهم أصلا لتغني .
وقول الشاعر :
بأرض فضاء لا يسد وصيدها ******* علي ومعروفي بها غير منكر
ولا وصيد للأرض الفضاء أصلا ، فإن الباب لا يكون لأرض مفتوحة ، وإنما يكون للغرف المغلقة . فيكون تقدير الكلام : لا يسد وصيدها إن كان لها وصيد ، ولكن لا وصيد لها أصلا ليسد .
وقول الشاعر :
عَلَى لاَحِبٍ لاَ يُهْتَدَي بِمَنَارِهِ ******* إِذَا سَافَهُ العَوْدُ النُّبَاطِيُّ جَرْجَرا
فلا يهتدى بمناره إن كان له منار ، ولكن ليس به منار فيهتدى به أصلا .
وقد اصطلح المناطقة على الإشارة إلى هذا الفن بقولهم : "السالبة لا تقتضي وجود الموضوع" ، فنفي الشيء لا يستلزم وجوده أصلا ، تماما كالشرط ، فإنه لا يلزم من إيراده جوازه فضلا عن وجوبه ، كما في قوله تعالى : (قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ) ، وذلك محال لذاته فليس جائزا ابتداء فضلا عن كونه واجبا ، وإنما سيق مساق التنزل مع الخصم .
والله أعلى وأعلم .
مواضيع مماثلة
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 3
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 4
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 5
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 6
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 7
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 4
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 5
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 6
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 7
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin