بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 18 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 18 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 4
صفحة 1 من اصل 1
من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 4
ومن سورة الكهف :
قال تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) ، فـــ : "ولدا" : نكرة في سياق الإثبات ، فتفيد الإطلاق ، فمجرد إطلاق وصف الولد على الله ، عز وجل ، أمر مستشنع ، ولذلك كان الإثبات ، وإن خلا من أي مؤكد : منكرا من القول وزورا . فناسب أن تدخل : "من" التي تفيد التنصيص على العموم على "الولد" في آيات النفي من قبيل قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) ، فهي أبلغ في النفي من : ما اتخذ الله ولدا ، ففي الإثبات : مجرد اعتقاد ذلك ، وإن لم يؤكده المعتقد بأي أداة من أدوات التوكيد ، محل إنكار ، دلت عليه الآية التالية : (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) ، وفي النفي : يؤكد ذلك وينص عليه بعينه إمعانا في تنزيه الباري ، عز وجل ، عن مقالة السوء ، فالدعوى ، وإن كانت باطلة في نفسها إلا أنها تقابل بدفاع قوي مؤكد بما يجعل السياق نصا ، ودلالة النص : دلالة قطعية غير محتملة ، ولك أن تتخيل ما لو عكس الأمر فجاءت القضية مؤكدة كأن يقال : إن الله اتخذ ولدا ، أو : إن لله ولدا .............. إلخ من السياقات المؤكدة ، ثم جاء الرد خاليا من أي مؤكد من قبيل : ما اتخذ الله ولدا ، أو : ليس الله والداً ......... إلخ ، لك أن تتخيل ذلك لتدرك بلاغة القرآن في عرض الشبهات مجردة من أدوات التوكيد لئلا ترسخ في ذهن القارئ ، ثم الكر عليها بالنفي مؤكدا لدحض الشبهة ورفع الإشكال .
وفي الآية التالية : (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)
توكيد آخر بــ : "من" الداخلة على النكرة المنفية : "علم" ، فالدفاع مطرد بنفس القوة ، فضلا عن تقديم الجار والمجرور "لهم" وحقه التأخير ، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والتوكيد ، فما لهم من أي علم بذلك ، وإنما هي محض دعوى لا دليل عليها ، بل إن الدليل السمعي والعقلي والفطري والحسي يدل على نقيضها من وحدانية الله ، عز وجل ، وأحديته ، فهو الغني عن عباده المغني لهم فكيف يحتاج إلى صاحبة أو ولد من جنسهم ؟!!! ، ومجرد الجواز العقلي لا يكفي في إثبات القضية ، فللمعارض أن ينقضها بنفس المسلك ، فدعوى مقابل دعوى ، فلا بد من دليل مرجح ينقل القضية من الجواز إلى الوجوب ، فكيف إذا كانت القضية في نفسها : محالة ، لما فيها من إثبات النقص والحاجة للرب ، جل وعلا ، والرب المستحق للعبادة لا يكون إلا كاملا في ذاته كاملا في وصفه ، إذ لو كان محتاجا إلى غيره ، لما صح في الأذهان دعاؤه وطلب قضاء الحوائج منه ، إذ كيف تطلب الحوائج ممن لا يستقل بحوائجه أصلا وإنما يفتقر إلى الأسباب ؟!! ، ولذلك أكد القرآن على أوصاف النقص الذاتي في المعبودات الباطلة في مقابل أوصاف الغنى الذاتي في المعبود الحق ، جل وعلا ، لبيان وجه استحقاق الله عز وجل ، كمال التأله بأفعال العباد ، فرعا على كمال ربوبيته بأفعاله الصادرة من كمال صفاته الفاعلة ، فقال عز وجل :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) .
فصدر الآية بأداة نداء البعيد التي تشعر بغفلة المخاطَب ، فـــ : (مَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) ، و : (مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) . وتشعر بعظمة المخاطِب ، جل وعلا ، فالبعد المعنوي فيها ثابت للخلق سلباً وللخالق عز وجل إيجابا .
وحذف الفاعل للعلم به ، فتقدير الكلام : ضرب الله مثلا .
ونكر "المثل" تعظيما ، فهو مثل عظيم النفع لمن تدبره ، وفيه من اللطافة والغرابة ما فيه .
ثم عطف بالفاء التعقيبية إشعارا بلزوم المبادرة إلى الاستماع لذلك المثل العظيم ، وفي الفاء معنى السببية ، فما قبلها سبب لما بعدها ، فإن علة الاستماع : ضرب ذلك المثل العظيم فلعل المستمع إن أصغى له أن ينتفع به فــ : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) .
وبعد هذه التوطئة التي استرعت انتباه المخاطب وأثارت أشواقه : جيء بالمثل مصدرا بأداة التوكيد : "إن" ، إمعانا في تقرير المعنى في ذهن المستمع ، فقد صار قابلا لتلقي الموعظة بعدما تهيأ عقله لاستقبالها بما صدرت به الآية من مقدمات .
إن الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ : الإتيان بالمضارع يدل على استمرار دعائهم من دون الله ، عز وجل ، فالمخاطب مقيم على شركه سادر في غيه .
وفي قوله : (لن يخلقوا ذبابا .............) : إبطال لألوهيتهم فرعا على إبطال ربوبيتهم بنفي صفة الخلق عنهم ، وهي من أخص أوصاف الربوبية ، وقيد الخلق بالذباب ، مع حقارته ، إمعانا في إهانة هذه الآلهة الباطلة ، فهي عاجزة عن خلق ذلك الكائن الحقير ، فكيف بما فوقه ، فكيف بالسماوات والأرض ، و : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وجيء بالذباب : منكرا إمعانا في التحدي فلن يخلقوا ذبابا أي ذباب ، فليس ذبابا معهودا ذا أوصاف بعينها ، وإنما التحدي بخلق أي ذباب أيا كان وصفه !!! ، وفي بيان عجزهم عن خلق ذباب حقير تنبيه بالأدنى على الأعلى ، فهم من باب أولى عاجزون عن خلق ما فوقه .
وفي قوله تعالى : (ولو اجتمعوا له) : احتراس لئلا يعترض المنكر فيقول : لا يمكنهم خلقه فرادى ، وإنما يمكنهم ذلك إذا اجتمعوا ، فحشدت الطاقات وأقرت الميزانيات وجهزت المعامل وسخرت العقول محادة لله ، عز وجل ، وقد ذكر صاحب رسالة "العلمانية" ، حفظه الله وأتم شفاءه ونفع به ، طرفا من ذلك ، إذ كلف "ستالين" طاغية السوفييت أحد علماء دولته الملحدة وهو "أوبارين" أن يثبت علميا بأن الحياة نشأت تلقائيا من المادة ليدعم بذلك العقيدة الرسمية للدولة وفعلا أمضى أوبارين وأعضاء أكاديميته عشرين عاما في محاولات دائبة غير مجدية . إلا أنه في سنة 1955 قال : "إن النجاح الذي حققته البيولوجيا السوفييتية حديثا يؤيد "الوعد" بأن مسألة خلق كائنات حية بسيطة بطرق صناعية ليس ممكنا فحسب بل سيتحقق عما قريب !!!! .
وظل الناس يترقبون هذا الوعد ومات ستالين قبل أن تقر عينه بتحقيقه وفي سنة 1959 في المؤتمر الدولي للبحار بنيويورك لم يفاجئ "أوبارين" العلماء بقوله : "إن جميع المحاولات التي أجريت لتوليد الحياة من مواد غير عضوية سواء تحت ظروف طبيعية أو في المعمل قد باءت بالفشل" !!! .
بتصرف من : "العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص342 .
ولا يرد على ذلك ما يعرف اليوم بــ : "الاستنساخ" ، فإنه توظيف لخلية حية لا إنشاء لحياة من العدم ، فإن ذلك ما لا يستطيعه أحد إلا الله ، عز وجل ، الذي يخلق تقديرا ويبرأ إيجادا ويصور تمييزا ، فلكل كائن صورة تميزه عن بقية الكائنات بل التوأمان ، وإن كانا متماثلين إلا أنه لا بد من نوع فرق بينهما ، فبصمة الإصبع لا تتماثل بين اثنين ، وإن كانا توأمين ، إذ لكل صورة صوره الله ، عز وجل ، عليها .
وفي قوله : (ولو اجتمعوا له) : إيجاز بحذف جواب الشرط لدلالة ما تقدم عليه ، فلو اجتمعوا له لن يخلقوه ، بل في الكلام إيجاز آخر بحذف الاحتمال الآخر من احتمالات القسمة العقلية وهو : عدم الاجتماع ، فلو اجتمعوا له لن يخلقوه ولو لم يجتمعوا له لن يخلقوه من باب أولى ، كما أشار إلى ذلك أبو السعود ، رحمه الله ، بقوله : "{ وَلَوِ اجتمعوا لَهُ } أي لخلقه وجواب لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على شرطيةٍ أُخرى محذوفةٍ ثقةً بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا عليه لن يخلقُوه ولو اجتمعُوا له لن يخلقُوه" . اهـــ ، وهذا أبلغ في التحدي ، فهو واقع بذباب حقير ، أيا كان جنسه أو نوعه أو وصفه ، على جميع الأحوال الممكنة : جماعات أو أفرادا ، وهيهات !!!! .
فإذا كان ذلك وصفهم فقد ثبت بالدليل القاطع عجزهم عن وظائف الربوبية ، فكيف يصح اتخاذهم آلهة تعبد من دون الله ، ولذلك ذكرهم بوصف الألوهية وهو : "الدعاء" ثم نقضه بإثبات عجزهم عن الخلق ، فقدح في ربوبيتهم ، في مقابل ربوبيته الكاملة ، فأيهما أحق بالدعاء : الرب الكامل أو الرب العاجز ؟!!! .
وفي قوله : وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ :
إمعان في بيان عجزهم فليتهم استطاعوا استنقاذ ما يسلبه الذباب من طعامهم فضلا عن خلقه !!! ، وفي الشرط تحد وتعجيز لهم ، فهو بمنزلة الأمر باستنقاذ ما سلبه الذباب منهم تحديا على وزان قوله تعالى : (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ، فهو خبري المبنى طلبي المعنى ، فتقديره : لتستنقذ تلك الآلهة شيئا مما سلبه الذباب منها إن كانت آلهة قادرة كما تزعمون .
وفي قوله : لا يستنقذوه منه : نفي تسلط على المصدر الكامن في الفعل : "يستنقذ" وهو : "الاستنقاذ" فأفاد العموم ، فلن يستنقذوا منه أي شيء مما سلبه ، وفي زيادة الألف والسين والتاء وهي تدل على الطلب : زيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى ، فلو حرصوا على استنقاذه فلن يمكنهم ذلك أبدا لعجزهم الكامل .
فــ : (ضعف الطالب والمطلوب) ، فعابدها ضعيف لا يملك لنفسه ضرا أو نفعا ، وهي من الضعف بمكان ، بل هي أضعف منه ، عند التحقيق ، هو الذي صنعها بيده ، أو خطها بقلمه ، إن كانت دساتير تعارض فيها شريعة الرحمن بزبالات أذهان المتشرعين من طواغيت بني الإنسان ، أو غلا فيها وهي مثله مخلوقة مربوبة ، كما غلا المثلثة في عيسى عليه السلام ، وكما غلت يهود في عزير عليه السلام .
وعودة إلى آية الكهف :
فقد ذيل الآية بما يناسب الإنكار الشديد على تلك المقالة فقال :
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ : فأسلوب الذم مئنة من الإنكار الشديد ، وفي السياق إيجاز بحذف المخصوص بالذم لدلالة التمييز : "كلمةً" عليه ، فتقدير الكلام : كبرت كلمة الكلمةُ التي تخرج من أفواههم ، فقدر المحذوف لدلالة المذكور عليه ، وهذا أمر مطرد في آيات الكتاب العزيز ، فحذف ما يعلم بدلالة السياق مئنة من بلاغة الكلام ، فكيف بكلام الباري ، عز وجل ؟!! .
إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا : إنكار آخر يناسب عظم البهتان الذي افتروه ، وقد أكد بأقوى أساليب القصر : النفي والاستثناء ، وهو قصر إضافي يتعلق بتلك المقالة بعينها ، فليس قصرا حقيقيا ، إذ لا يخلو كلامهم الآخر من حق ، كأي بشر يوجد في كلامه حق يقبل وباطل يرد ، ولكنهم لما افتروا تلك المقالة على الباري ، عز وجل ، جاء الرد قويا ، فكأنهم بتلك الفرية قد أهدروا كل مصداقية لهم ، فكل كلامهم كذب ، وهذا على سبيل المبالغة في الإنكار ، وهو ما يقتضيه السياق كما تقدم .
ثم تنتقل الآيات إلى قصة أصحاب الكهف وفيها قوله تعالى :
"إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" فقد طلبوا عطاء الربوبية فرعا على كمال ألوهيتهم لله ، عز وجل ، بدليل أنهم أفردوه بالدعاء .
وقوله تعالى : (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) :
استعار فيه الرباط الحسي للرباط المعنوي تصويرا لثباتهم بتأييد الله ، عز وجل ، لهم ، وكالعادة : يستدل الموحد على كمال ألوهية الله ، عز وجل ، بكمال ربوبيته في ثنائية مطردة في كل آيات الكتاب العزيز ، فدلالة الربوبية على الألوهية : دلالة التزام ، فالربوبية : مقدمة والألوهية : نتيجة ، إذا صح عقل المستدل ، فـــ : (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، له الربوبية العامة التي تدل عليها "أل" الجنسية المستغرقة لعموم ما دخلت عليه في "السماوات" و "الأرض" ، والنتيجة : لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ، فلن نصرف عبادة الدعاء لمعبود سواه ، إذ لا معبود بحق سواه ، فإن فعلنا ذلك : فــ : (لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) ، فدعاء غير الله ، عز وجل ، شطط ، نبهت الآية عليه بــ : "اللام" و "قد" التي دخلت على الفعل الماضي فأفادت التحقيق ، فذلك شطط جزما بلا شك ، و "إذاً" ، ونكر "شططا" إمعانا في تعظيم خطره ، فهو شطط عظيم يفسد أمر الدين والدنيا معا ، فالمشرك أتعس الناس وأقلهم طمأنينة في الدنيا وأخسرهم صفقة في الآخرة ، وفي الإتيان بالمصدر "شططا" زيادة تعظيم لقبح ذلك ، فتقدير الكلام كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله : لقد قلنا قولا ذا شطط ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه إمعانا في الوصف على وزان : جاء زيد ركضا ، والقياس : راكضا ، ولكنه أتى بالحال التي هي وصف لصاحبها على صيغة المصدر مبالغة ، فكأنه من شدة ركضه صار هو الركض ذاته .
وفي الكلام إيجاز بحذف شرط مقدر دلت عليه : "إذاً" فتقدير الكلام : لو فعلنا ذلك لقد قلنا إذاً شططا .
هؤلاء قومنا : إشارة إليهم بالبعيد تحقيرا لشأنهم إذ أشركوا بالله عز وجل .
اتخذوا من دونه آلهة : إشعار بتكلفهم ذلك ، فالاتخاذ من "الافتعال" وهو مظنة التكلف وعدم الصدق .
لولا يأتون : تحضيض يفيد التحدي والزجر ، فهلا أتيتم ببرهان على صحة دعواكم أو هو مجرد تحكم لا مستند له كحال أهل الباطل في كل عصر ومصر ، فهو تبكيتٌ لهم وإلقامُ حجرٍ كما يقول أبو السعود رحمه الله .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا : استفهام يفيد النفي فلا أظلم ممن افترى على الله كذبا قليلا كان أو كثيرا فالتنكير مظنة العموم ، والكلام ، وإن كان خبرا ، إلا أنه كما اطرد في آيات الكتاب العزيز ، إن كان في الخبر معنى الوعيد : يحمل في طياته طلبا ، فهو خبري المبنى طلبي المعنى ، فتقدير الكلام : لا تكذبوا على الله ، عز وجل ، فيلحقكم وصف الظلم .
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا :
لما حققوا كمال الألوهية فاعتزلوا آلهة قومهم إلا الله ، على القول بانقطاع الاستثناء فيكون تقدير الكلام : لكن الله هو الإله الحق ، أو اتصاله فيكونوا قد عبدوا الله عز وجل وعبدوا معه غيره ، فتبرأ الفتية من كل معبوداتهم إلا الله عز وجل ، لما حققوا كمال الألوهية ساغ لهم أن يطلبوا عطاء الربوبية من نشر الرحمة وتهيئة الأمر ، وكانوا من الثقة وحسن الظن بالله ، عز وجل ، بمكان ، إذ رتبوا ذلك على فرارهم بدينهم ترتب المشروط على شرطه ، فهو واقع لا محالة ، ففي الكلام إيجاز بحذف الشرط المقدر الذي جَزَمَ الفعل "ينشر" في جواب الطلب ، فتقدير الكلام : إن تأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، وقد استعار النشر الحسي للنشر المعنوي تصويرا لعظم رحمته ، عز وجل ، بهم ، وفي حذف الشرط تعجيل بالبشرى ، فالنفس تتشوف إلى جواب الشرط إذ هو محط الفائدة ، ففيه الجزاء المرتقب ، فبمجرد فراركم بدينكم فإن الله ، عز وجل ، سيجعل لكم مخرجا .
وفي تقديم "لكم" في : (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) و : (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ) : مزيد تشويق إلى الجزاء المرتقب كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله .
ومرة أخرى تظهر ثنائية : الرب الإله ، الثنائية المطردة في الذكر الحكيم .
وإلى قصة الرجلين وفيها اطراد لمحور هذه الكلمات : محور كمال الألوهية فرعا على كمال الربوبية :
إذ يقول لصاحبه وهو يحاوره : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) ، فالاستفهام إنكاري توبيخي إذ ما بعده قد وقع فاستحق صاحبه التوبيخ ، إذ كيف يكفر بالذي خلقه ، والخلق من صفات الرب ، جل وعلا ، فكيف يكفر المخلوق بخالقه ، فيخل بكمال ألوهيته ، وفي تعداد أطوار الخلق مزيد تنبيه على كمال ربوبية الله ، عز وجل ، ولذلك أردف بقوله : (لكنا هو الله ربي) ، فاستدرك بــــ : "لكن" ، وقصر بتعريف الجزأين : "الله" و : "ربي" وأكد بضمير الشأن : "هو" إمعانا في تحقيق ألوهية : "الله" فرعا على ربوبية "ربي" .
وتستمر تلك الثنائية الخالدة مطردة في كتاب ربنا ، عز وجل ، لتقيم الحجة على كل جاحد من نفسه التي تتمتع بعطاء الربوبية وتجحد حق الألوهية .
والله أعلى وأعلم .
قال تعالى : (وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا) ، فـــ : "ولدا" : نكرة في سياق الإثبات ، فتفيد الإطلاق ، فمجرد إطلاق وصف الولد على الله ، عز وجل ، أمر مستشنع ، ولذلك كان الإثبات ، وإن خلا من أي مؤكد : منكرا من القول وزورا . فناسب أن تدخل : "من" التي تفيد التنصيص على العموم على "الولد" في آيات النفي من قبيل قوله تعالى : (مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ) ، فهي أبلغ في النفي من : ما اتخذ الله ولدا ، ففي الإثبات : مجرد اعتقاد ذلك ، وإن لم يؤكده المعتقد بأي أداة من أدوات التوكيد ، محل إنكار ، دلت عليه الآية التالية : (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا) ، وفي النفي : يؤكد ذلك وينص عليه بعينه إمعانا في تنزيه الباري ، عز وجل ، عن مقالة السوء ، فالدعوى ، وإن كانت باطلة في نفسها إلا أنها تقابل بدفاع قوي مؤكد بما يجعل السياق نصا ، ودلالة النص : دلالة قطعية غير محتملة ، ولك أن تتخيل ما لو عكس الأمر فجاءت القضية مؤكدة كأن يقال : إن الله اتخذ ولدا ، أو : إن لله ولدا .............. إلخ من السياقات المؤكدة ، ثم جاء الرد خاليا من أي مؤكد من قبيل : ما اتخذ الله ولدا ، أو : ليس الله والداً ......... إلخ ، لك أن تتخيل ذلك لتدرك بلاغة القرآن في عرض الشبهات مجردة من أدوات التوكيد لئلا ترسخ في ذهن القارئ ، ثم الكر عليها بالنفي مؤكدا لدحض الشبهة ورفع الإشكال .
وفي الآية التالية : (مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآَبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا)
توكيد آخر بــ : "من" الداخلة على النكرة المنفية : "علم" ، فالدفاع مطرد بنفس القوة ، فضلا عن تقديم الجار والمجرور "لهم" وحقه التأخير ، وتقديم ما حقه التأخير يفيد الحصر والتوكيد ، فما لهم من أي علم بذلك ، وإنما هي محض دعوى لا دليل عليها ، بل إن الدليل السمعي والعقلي والفطري والحسي يدل على نقيضها من وحدانية الله ، عز وجل ، وأحديته ، فهو الغني عن عباده المغني لهم فكيف يحتاج إلى صاحبة أو ولد من جنسهم ؟!!! ، ومجرد الجواز العقلي لا يكفي في إثبات القضية ، فللمعارض أن ينقضها بنفس المسلك ، فدعوى مقابل دعوى ، فلا بد من دليل مرجح ينقل القضية من الجواز إلى الوجوب ، فكيف إذا كانت القضية في نفسها : محالة ، لما فيها من إثبات النقص والحاجة للرب ، جل وعلا ، والرب المستحق للعبادة لا يكون إلا كاملا في ذاته كاملا في وصفه ، إذ لو كان محتاجا إلى غيره ، لما صح في الأذهان دعاؤه وطلب قضاء الحوائج منه ، إذ كيف تطلب الحوائج ممن لا يستقل بحوائجه أصلا وإنما يفتقر إلى الأسباب ؟!! ، ولذلك أكد القرآن على أوصاف النقص الذاتي في المعبودات الباطلة في مقابل أوصاف الغنى الذاتي في المعبود الحق ، جل وعلا ، لبيان وجه استحقاق الله عز وجل ، كمال التأله بأفعال العباد ، فرعا على كمال ربوبيته بأفعاله الصادرة من كمال صفاته الفاعلة ، فقال عز وجل :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ) .
فصدر الآية بأداة نداء البعيد التي تشعر بغفلة المخاطَب ، فـــ : (مَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ) ، و : (مَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ) . وتشعر بعظمة المخاطِب ، جل وعلا ، فالبعد المعنوي فيها ثابت للخلق سلباً وللخالق عز وجل إيجابا .
وحذف الفاعل للعلم به ، فتقدير الكلام : ضرب الله مثلا .
ونكر "المثل" تعظيما ، فهو مثل عظيم النفع لمن تدبره ، وفيه من اللطافة والغرابة ما فيه .
ثم عطف بالفاء التعقيبية إشعارا بلزوم المبادرة إلى الاستماع لذلك المثل العظيم ، وفي الفاء معنى السببية ، فما قبلها سبب لما بعدها ، فإن علة الاستماع : ضرب ذلك المثل العظيم فلعل المستمع إن أصغى له أن ينتفع به فــ : (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) .
وبعد هذه التوطئة التي استرعت انتباه المخاطب وأثارت أشواقه : جيء بالمثل مصدرا بأداة التوكيد : "إن" ، إمعانا في تقرير المعنى في ذهن المستمع ، فقد صار قابلا لتلقي الموعظة بعدما تهيأ عقله لاستقبالها بما صدرت به الآية من مقدمات .
إن الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ : الإتيان بالمضارع يدل على استمرار دعائهم من دون الله ، عز وجل ، فالمخاطب مقيم على شركه سادر في غيه .
وفي قوله : (لن يخلقوا ذبابا .............) : إبطال لألوهيتهم فرعا على إبطال ربوبيتهم بنفي صفة الخلق عنهم ، وهي من أخص أوصاف الربوبية ، وقيد الخلق بالذباب ، مع حقارته ، إمعانا في إهانة هذه الآلهة الباطلة ، فهي عاجزة عن خلق ذلك الكائن الحقير ، فكيف بما فوقه ، فكيف بالسماوات والأرض ، و : (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) ، وجيء بالذباب : منكرا إمعانا في التحدي فلن يخلقوا ذبابا أي ذباب ، فليس ذبابا معهودا ذا أوصاف بعينها ، وإنما التحدي بخلق أي ذباب أيا كان وصفه !!! ، وفي بيان عجزهم عن خلق ذباب حقير تنبيه بالأدنى على الأعلى ، فهم من باب أولى عاجزون عن خلق ما فوقه .
وفي قوله تعالى : (ولو اجتمعوا له) : احتراس لئلا يعترض المنكر فيقول : لا يمكنهم خلقه فرادى ، وإنما يمكنهم ذلك إذا اجتمعوا ، فحشدت الطاقات وأقرت الميزانيات وجهزت المعامل وسخرت العقول محادة لله ، عز وجل ، وقد ذكر صاحب رسالة "العلمانية" ، حفظه الله وأتم شفاءه ونفع به ، طرفا من ذلك ، إذ كلف "ستالين" طاغية السوفييت أحد علماء دولته الملحدة وهو "أوبارين" أن يثبت علميا بأن الحياة نشأت تلقائيا من المادة ليدعم بذلك العقيدة الرسمية للدولة وفعلا أمضى أوبارين وأعضاء أكاديميته عشرين عاما في محاولات دائبة غير مجدية . إلا أنه في سنة 1955 قال : "إن النجاح الذي حققته البيولوجيا السوفييتية حديثا يؤيد "الوعد" بأن مسألة خلق كائنات حية بسيطة بطرق صناعية ليس ممكنا فحسب بل سيتحقق عما قريب !!!! .
وظل الناس يترقبون هذا الوعد ومات ستالين قبل أن تقر عينه بتحقيقه وفي سنة 1959 في المؤتمر الدولي للبحار بنيويورك لم يفاجئ "أوبارين" العلماء بقوله : "إن جميع المحاولات التي أجريت لتوليد الحياة من مواد غير عضوية سواء تحت ظروف طبيعية أو في المعمل قد باءت بالفشل" !!! .
بتصرف من : "العلمانية : نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة" ، ص342 .
ولا يرد على ذلك ما يعرف اليوم بــ : "الاستنساخ" ، فإنه توظيف لخلية حية لا إنشاء لحياة من العدم ، فإن ذلك ما لا يستطيعه أحد إلا الله ، عز وجل ، الذي يخلق تقديرا ويبرأ إيجادا ويصور تمييزا ، فلكل كائن صورة تميزه عن بقية الكائنات بل التوأمان ، وإن كانا متماثلين إلا أنه لا بد من نوع فرق بينهما ، فبصمة الإصبع لا تتماثل بين اثنين ، وإن كانا توأمين ، إذ لكل صورة صوره الله ، عز وجل ، عليها .
وفي قوله : (ولو اجتمعوا له) : إيجاز بحذف جواب الشرط لدلالة ما تقدم عليه ، فلو اجتمعوا له لن يخلقوه ، بل في الكلام إيجاز آخر بحذف الاحتمال الآخر من احتمالات القسمة العقلية وهو : عدم الاجتماع ، فلو اجتمعوا له لن يخلقوه ولو لم يجتمعوا له لن يخلقوه من باب أولى ، كما أشار إلى ذلك أبو السعود ، رحمه الله ، بقوله : "{ وَلَوِ اجتمعوا لَهُ } أي لخلقه وجواب لو محذوفٌ لدلالة ما قبله عليه والجملةُ معطوفةٌ على شرطيةٍ أُخرى محذوفةٍ ثقةً بدلالة هذه عليها أي لو لم يجتمعوا عليه لن يخلقُوه ولو اجتمعُوا له لن يخلقُوه" . اهـــ ، وهذا أبلغ في التحدي ، فهو واقع بذباب حقير ، أيا كان جنسه أو نوعه أو وصفه ، على جميع الأحوال الممكنة : جماعات أو أفرادا ، وهيهات !!!! .
فإذا كان ذلك وصفهم فقد ثبت بالدليل القاطع عجزهم عن وظائف الربوبية ، فكيف يصح اتخاذهم آلهة تعبد من دون الله ، ولذلك ذكرهم بوصف الألوهية وهو : "الدعاء" ثم نقضه بإثبات عجزهم عن الخلق ، فقدح في ربوبيتهم ، في مقابل ربوبيته الكاملة ، فأيهما أحق بالدعاء : الرب الكامل أو الرب العاجز ؟!!! .
وفي قوله : وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ :
إمعان في بيان عجزهم فليتهم استطاعوا استنقاذ ما يسلبه الذباب من طعامهم فضلا عن خلقه !!! ، وفي الشرط تحد وتعجيز لهم ، فهو بمنزلة الأمر باستنقاذ ما سلبه الذباب منهم تحديا على وزان قوله تعالى : (قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) ، فهو خبري المبنى طلبي المعنى ، فتقديره : لتستنقذ تلك الآلهة شيئا مما سلبه الذباب منها إن كانت آلهة قادرة كما تزعمون .
وفي قوله : لا يستنقذوه منه : نفي تسلط على المصدر الكامن في الفعل : "يستنقذ" وهو : "الاستنقاذ" فأفاد العموم ، فلن يستنقذوا منه أي شيء مما سلبه ، وفي زيادة الألف والسين والتاء وهي تدل على الطلب : زيادة في المبنى تدل على زيادة في المعنى ، فلو حرصوا على استنقاذه فلن يمكنهم ذلك أبدا لعجزهم الكامل .
فــ : (ضعف الطالب والمطلوب) ، فعابدها ضعيف لا يملك لنفسه ضرا أو نفعا ، وهي من الضعف بمكان ، بل هي أضعف منه ، عند التحقيق ، هو الذي صنعها بيده ، أو خطها بقلمه ، إن كانت دساتير تعارض فيها شريعة الرحمن بزبالات أذهان المتشرعين من طواغيت بني الإنسان ، أو غلا فيها وهي مثله مخلوقة مربوبة ، كما غلا المثلثة في عيسى عليه السلام ، وكما غلت يهود في عزير عليه السلام .
وعودة إلى آية الكهف :
فقد ذيل الآية بما يناسب الإنكار الشديد على تلك المقالة فقال :
كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ : فأسلوب الذم مئنة من الإنكار الشديد ، وفي السياق إيجاز بحذف المخصوص بالذم لدلالة التمييز : "كلمةً" عليه ، فتقدير الكلام : كبرت كلمة الكلمةُ التي تخرج من أفواههم ، فقدر المحذوف لدلالة المذكور عليه ، وهذا أمر مطرد في آيات الكتاب العزيز ، فحذف ما يعلم بدلالة السياق مئنة من بلاغة الكلام ، فكيف بكلام الباري ، عز وجل ؟!! .
إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا : إنكار آخر يناسب عظم البهتان الذي افتروه ، وقد أكد بأقوى أساليب القصر : النفي والاستثناء ، وهو قصر إضافي يتعلق بتلك المقالة بعينها ، فليس قصرا حقيقيا ، إذ لا يخلو كلامهم الآخر من حق ، كأي بشر يوجد في كلامه حق يقبل وباطل يرد ، ولكنهم لما افتروا تلك المقالة على الباري ، عز وجل ، جاء الرد قويا ، فكأنهم بتلك الفرية قد أهدروا كل مصداقية لهم ، فكل كلامهم كذب ، وهذا على سبيل المبالغة في الإنكار ، وهو ما يقتضيه السياق كما تقدم .
ثم تنتقل الآيات إلى قصة أصحاب الكهف وفيها قوله تعالى :
"إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آَتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا" فقد طلبوا عطاء الربوبية فرعا على كمال ألوهيتهم لله ، عز وجل ، بدليل أنهم أفردوه بالدعاء .
وقوله تعالى : (وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آَلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا) :
استعار فيه الرباط الحسي للرباط المعنوي تصويرا لثباتهم بتأييد الله ، عز وجل ، لهم ، وكالعادة : يستدل الموحد على كمال ألوهية الله ، عز وجل ، بكمال ربوبيته في ثنائية مطردة في كل آيات الكتاب العزيز ، فدلالة الربوبية على الألوهية : دلالة التزام ، فالربوبية : مقدمة والألوهية : نتيجة ، إذا صح عقل المستدل ، فـــ : (رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) ، له الربوبية العامة التي تدل عليها "أل" الجنسية المستغرقة لعموم ما دخلت عليه في "السماوات" و "الأرض" ، والنتيجة : لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا ، فلن نصرف عبادة الدعاء لمعبود سواه ، إذ لا معبود بحق سواه ، فإن فعلنا ذلك : فــ : (لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا) ، فدعاء غير الله ، عز وجل ، شطط ، نبهت الآية عليه بــ : "اللام" و "قد" التي دخلت على الفعل الماضي فأفادت التحقيق ، فذلك شطط جزما بلا شك ، و "إذاً" ، ونكر "شططا" إمعانا في تعظيم خطره ، فهو شطط عظيم يفسد أمر الدين والدنيا معا ، فالمشرك أتعس الناس وأقلهم طمأنينة في الدنيا وأخسرهم صفقة في الآخرة ، وفي الإتيان بالمصدر "شططا" زيادة تعظيم لقبح ذلك ، فتقدير الكلام كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله : لقد قلنا قولا ذا شطط ، فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه إمعانا في الوصف على وزان : جاء زيد ركضا ، والقياس : راكضا ، ولكنه أتى بالحال التي هي وصف لصاحبها على صيغة المصدر مبالغة ، فكأنه من شدة ركضه صار هو الركض ذاته .
وفي الكلام إيجاز بحذف شرط مقدر دلت عليه : "إذاً" فتقدير الكلام : لو فعلنا ذلك لقد قلنا إذاً شططا .
هؤلاء قومنا : إشارة إليهم بالبعيد تحقيرا لشأنهم إذ أشركوا بالله عز وجل .
اتخذوا من دونه آلهة : إشعار بتكلفهم ذلك ، فالاتخاذ من "الافتعال" وهو مظنة التكلف وعدم الصدق .
لولا يأتون : تحضيض يفيد التحدي والزجر ، فهلا أتيتم ببرهان على صحة دعواكم أو هو مجرد تحكم لا مستند له كحال أهل الباطل في كل عصر ومصر ، فهو تبكيتٌ لهم وإلقامُ حجرٍ كما يقول أبو السعود رحمه الله .
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا : استفهام يفيد النفي فلا أظلم ممن افترى على الله كذبا قليلا كان أو كثيرا فالتنكير مظنة العموم ، والكلام ، وإن كان خبرا ، إلا أنه كما اطرد في آيات الكتاب العزيز ، إن كان في الخبر معنى الوعيد : يحمل في طياته طلبا ، فهو خبري المبنى طلبي المعنى ، فتقدير الكلام : لا تكذبوا على الله ، عز وجل ، فيلحقكم وصف الظلم .
وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا :
لما حققوا كمال الألوهية فاعتزلوا آلهة قومهم إلا الله ، على القول بانقطاع الاستثناء فيكون تقدير الكلام : لكن الله هو الإله الحق ، أو اتصاله فيكونوا قد عبدوا الله عز وجل وعبدوا معه غيره ، فتبرأ الفتية من كل معبوداتهم إلا الله عز وجل ، لما حققوا كمال الألوهية ساغ لهم أن يطلبوا عطاء الربوبية من نشر الرحمة وتهيئة الأمر ، وكانوا من الثقة وحسن الظن بالله ، عز وجل ، بمكان ، إذ رتبوا ذلك على فرارهم بدينهم ترتب المشروط على شرطه ، فهو واقع لا محالة ، ففي الكلام إيجاز بحذف الشرط المقدر الذي جَزَمَ الفعل "ينشر" في جواب الطلب ، فتقدير الكلام : إن تأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته ، وقد استعار النشر الحسي للنشر المعنوي تصويرا لعظم رحمته ، عز وجل ، بهم ، وفي حذف الشرط تعجيل بالبشرى ، فالنفس تتشوف إلى جواب الشرط إذ هو محط الفائدة ، ففيه الجزاء المرتقب ، فبمجرد فراركم بدينكم فإن الله ، عز وجل ، سيجعل لكم مخرجا .
وفي تقديم "لكم" في : (يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ ) و : (وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرفَقًا ) : مزيد تشويق إلى الجزاء المرتقب كما أشار إلى ذلك أبو السعود رحمه الله .
ومرة أخرى تظهر ثنائية : الرب الإله ، الثنائية المطردة في الذكر الحكيم .
وإلى قصة الرجلين وفيها اطراد لمحور هذه الكلمات : محور كمال الألوهية فرعا على كمال الربوبية :
إذ يقول لصاحبه وهو يحاوره : (أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا) ، فالاستفهام إنكاري توبيخي إذ ما بعده قد وقع فاستحق صاحبه التوبيخ ، إذ كيف يكفر بالذي خلقه ، والخلق من صفات الرب ، جل وعلا ، فكيف يكفر المخلوق بخالقه ، فيخل بكمال ألوهيته ، وفي تعداد أطوار الخلق مزيد تنبيه على كمال ربوبية الله ، عز وجل ، ولذلك أردف بقوله : (لكنا هو الله ربي) ، فاستدرك بــــ : "لكن" ، وقصر بتعريف الجزأين : "الله" و : "ربي" وأكد بضمير الشأن : "هو" إمعانا في تحقيق ألوهية : "الله" فرعا على ربوبية "ربي" .
وتستمر تلك الثنائية الخالدة مطردة في كتاب ربنا ، عز وجل ، لتقيم الحجة على كل جاحد من نفسه التي تتمتع بعطاء الربوبية وتجحد حق الألوهية .
والله أعلى وأعلم .
مواضيع مماثلة
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 2
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 3
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 5
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 6
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 2
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 3
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 5
» من بلاغة القرآن في إثبات الوحدانية ونفي الشرك 6
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin