بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 34 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 34 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
الوجيز فى اصول الفقه"
صفحة 1 من اصل 1
الوجيز فى اصول الفقه"
--[size=24] القسم الأول:
-- المقدمات والمبادئ.
-- المقدمة الأولى:
-- معنى القواعد الفقهية والتعريف بها:
1. المعنى اللغوي للقواعد:
القواعد جمع قاعدة، ومعنى القاعدة: أصل الأُس، وأساس البناء والقواعد
الإساس، وقواعد البيت إسَاسُه، ومنه قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد
من البيت وإسماعيل ربنا تقبَّل منا). البقرة، آية (127).
ومنه قوله تعالى: (فأتى الله بنيانَهم من القواعد). النحل، آية (26).
قال الزجاج: القواعد أساطين البناء التي تعمده، وقواعد الهودج خشبات أربع معترضة في أسفله تُرّكب عيدان الهودج فيها.
قال أبو عبيد: قواعد السحاب أصولها المعترضة في آفاق السماء، شُبهت بقواعد البناء.
قال ابن الأثير: أراد بالقواعد ما اعترض منها وسفل تشبيهاً بقواعد البناء.
قال ذلك في بيان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأل عن سحابة
مرَّت فقال: كيف ترون قواعدها وبواسقها. وقالوا في المرأة التي قعدت عن
الحيض والأزواج قاعد والجمع قواعد، ومنه قوله تعالى: (والقواعد من النساء
التي لا يرجون نِكاحاً). النور، آية (60).
ومن معاني القاعدة في اللغة: الضابط وهو: الأمر الكلي ينطبق على جزئيات، مثل قولهم: كل أذون ولود وكل صموخ بيوض.
2. المعنى الاصطلاحي للقاعدة:
وأما معنى القاعدة في الاصطلاح الفقهي فقد اختلف الفقهاء في تعريفها بناء
على اختلافهم في مفهومها هل هي قضية كلية أو قضية أغلبية؟ فمن نظر إلى أن
القاعدة هي قضية كلية عرَّفها بما يدل على ذلك حيث قالوا في تعريفها:
القاعدة هي:
1. قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها.
2. قضية كلية يتعرف منها أحكام جزئياتها.
3. حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته ليتعرف أحكامها منه.
4. حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته ليتعرف به أحكام الجزئيات والتي تندرج تحتها من الحكم الكلي.
5. الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منه.
6. أمر كلي منطبق على جزئيات موضوعه.
7. عبارة عن صور كلية تنطبق كل واحدة منها على جزئياتها التي تحتها.
8. هي القضايا الكلية التي تعرف بالنظر فيها قضايا جزئية.
9. قضية كلية يتعرف منها أحكام الجزئيات المندرجة تحت موضوعها.
10. أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية تتضمن أحكاماً تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها.
11. أصول ومبادئ كلية تصاغ في نصوص موجزة تتضمن أحكاماً تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها.
وهذه التعريفات كلها متقاربة تؤدي معنى متحداً وإن اختلفت عباراتها حيث
تفيد جميعها أن القاعدة هي حكم أو أمر كلي أو قضية كلية تفهم منها أحكام
الجزئيات التي تندرج تحت موضوعها وتنطبق عليها.
ومن نظر إلى أن القاعدة الفقهية قضية أغلبية نظراً لما يستثنى منها
عرَّفها بأنها حكم أكثري لا كلي، ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها
منه.
وقال في تهذيب الفروق: ومن المعلوم أن أكثر قواعد الفقه أغلبية، والقول
إن أكثر قواعد الفقه أغلبية مبني على وجود مسائل مستثناة من تلك القواعد
تخالف أحكامها حكم القاعدة، ولذلك قيل: حينما أرجع المحققون المسائل
الفقهية عن طريق الاستقراء إلى قواعد كلية كل منها ضابط وجامع لمسائل
كثيرة، واتخذوها أدلة لإثبات أحكام تلك المسائل رأوا أن بعض فروع تلك
القواعد يعارضه أثر أو ضرورة أو قيد أو علة مؤثرة تخرجها عن الاطراد فتكون
مستثناة من تلك القاعدة ومعدولاً بها عن سنن القياس فحكموا عليها بالأغلبية
لا بالاطراد.
فمثال الاستثناء بالأثر جواز السلم والإجارة في بيع المعدوم الذي الأصل فيه عدم جوازه، ومثال الاستثناء بالإجماع عقد الاستصناع.
ومثال الاستثناء بالضرورة طهارة الحياض والآبار في الفلوات مع ما تلقيه الريح فيها من البعر والروث وغيره.
ولكن العلماء مع ذلك قالوا: إن هذا (أي الاستثناء وعدم الاطراد) لا ينقض كلية تلك القواعد ولا يقدح في عمومها للأسباب الآتية:
أولاً: لما كان مقصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة، وكانت القواعد
التي قد جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة، وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى
ذلك الوضع، كان من الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي لا
على العموم الكلي العام الذي لا يتخلف عنه جزئي ما.
ويقول الشاطبي في موافقاته تأييداً لهذا: إن الأمر الكلي إذا ثبت فتخلف
بعض الجزئيات عن مقتضاه لا يخرجه عن كونه كلياً، وأيضاً فإن الغالب الأكثري
معتبر في الشريعة اعتبار القطعي.
ثانياً: إن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت،
وهذا شأن الكليات الاستقرائية، وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات
قادحاً في الكليات العقلية.
فالكليات الاستقرائية صحيحة وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات.
كما يقال كل حيوان يحرك فكه الأسفل حين المضغ، وهذه قاعدة كلية استقرائية
خرج عنها: التمساح، حيث يقال: إنه يحرك فكه الأعلى حين المضغ فخروج
التمساح عن القاعدة لا يخرجها عن كونها كلية. فكأنه قيل: كلي حيوان يحرك
فكه الأسفل حين المضغ إلا التمساح.
فالعموم العادي المبني على الاستقراء لا يوجب عدم التخلف بل الذي يوجب
عدم التخلف إنما هو العموم العقلي لأن العقليات طريقها البحث والنظر، وأما
الشرعيات فطريقها الاستقراء ولا ينقضه تخلف بعض الجزئيات.
ثالثاً: ومن ناحية أخرى فإن تخلف مسألة ما عن حكم قاعدة ما يلزم منه
اندراج هذه المسألة تحت حكم قاعدة أخرى، فالمسألة المخرَّجة تندرج ظاهراً
تحت حكم قاعدة، ولكنها في الحقيقة مندرجة تحت حكم قاعدة أخرى وهذا من باب
تنازع المسألة بين قاعدتين.
فليس إذاً استثناء جزئية من قاعدة ما بقادح في كلية هذه القاعدة ولا بمخرج لتلك الجزئية عن الاندراج تحت قاعدة أخرى.
-- المقدمة الثانية:
-- الفروع بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية:
علم الفقه وعلم أصول الفقه علمان مرتبطان بارتباط وثيق بحيث يكاد المرء
يجزم بالوحدة بينهما، وكيف لا يكون ذلك وأحدهما أصل والآخر فرع لذلك الأصل،
كأصل الشجرة وفرعها، فالأصولي ينبغي أن يكون فقيهاً، والفقيه ينبغي أن
يكون أصولياً وإلا كيف استنباط الحكم من الدليل؟ وكيف يكون مجتهداً من لم
يتبحر في علم الأصول؟
ومع ذلك يمكن أن يقال: إنهما علمان متمايزان فأحدهما مستقل عن الآخر من حيث موضوعه واستمداده وثمرته والغاية من دراسته.
وبالتالي فإن قواعد كل علم منهما تتميز عن قواعد الآخر تبعاً لتمايز
موضوعي العلمين: فموضوع علم أصول الفقه هو أدلة الفقه الإجمالية والأحكام
وما يعرض لكل منها، وأما موضوع علم الفقه فهو أفعال المكلفين وما يستحقه كل
فعل من حكم شرعي عملي. وبالتالي فإن قواعد علم أصول الفقه تفترق وتتميز عن
قواعد علم الفقه، وإن من أول من فرَّق بين قواعد هذين العلمين وميَّز
بينهما الإمام شهاب الدين القرافي في مقدمة كتابه (الفروق) حيث قال: أما
بعد فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله منارها شرفاً وعلواً اشتملت على
أصول وفروع، وأصولها قسمان: أحدهما المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره
ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة وما يعر لتلك
الألفاظ من النسخ والترجيح ونحو: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصبغة
الخاصة للعموم ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر
الواحد وصفات المجتهدين.
والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة
على أسرار الشرع وحِكَمِه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم
يذكر منها شيء في أصول الفقه وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل
الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل، وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع،
إلخ ما قال:
وقال في موضع آخر: إن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة
قواعد كثيرة جداً عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه
أصلاً.
وإذا دققنا النظر في قواعد الأصول وقواعد الفقه لرأينا أن فروقاً عدة تميز بينهما منها.
1. أن قواعد الأصول إنما تتعلق بالألفاظ ودلالاتها على الأحكام في غالب أحوالها، وأما قواعد الفقه فتتعلق بالأحكام ذاتها.
2. أن قواعد الأصول إنما وضعت لتضبط للمجتهد طرق الاستنباط واستدلاله
وترسم للفقيه مناهج البحث والنظر في استخراج الأحكام الكلية من الأدلة
الإجمالية، وأما قواعد الفقه فإنما تراد لتربط المسائل المختلفة الأبواب
برباط متحد وحكم واحد هو الحكم الذي سيقت القاعدة لأجله.
3. إن قواعد الأصول إنما تبنى عليها الأحكام الإجمالية وعن طريقها يستنبط الفقيه أحكام المسائل الجزئية من الأدلة التفصيلية.
وأما قواعد الفقه فإنما تعلل بها أحكام الحوادث المتشابهة وقد تكون أصلاً لها.
4. إن قواعد الأصول محصورة في أبواب الأصول ومواضعه ومسائله، وأما قواعد
الفقه العام والفتوى عند جميع المذاهب ولم تجمع للآن في إطار واحد، وكان
هذا هو الدافع لتأليف موسوعة القواعد الفقهية التي أرجو الله سبحانه أن
يعينني على إتمامها بمنه وكرمه.
5. إن قواعد الأصول إذا اتفق على مضمونها لا يستثنى منها شيء فهي قواعد كلية مطردة كقواعد العربية بلا خلاف.
وأما قواعد الفقه فهي مع الاتفاق على مضمون كثير منها يستثنى من كل منها
مسائل تخالف حكم القاعدة بسبب من الأسباب كالاستثناء بالنص أو الإجماع أو
الضرورة أو غير ذلك من أسباب الاستثناء ولذلك يطلق عليها كثيرون بأنها
قواعد أغلبية أكثرية لا كلية مطردة.
ومع وضوح الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية فقد نجد قواعد
مشتركة بين العلمين ولكن تختلف فيهما زاوية النظر، حيث إن القاعدة الأصولية
ينظر إليها من حيث كونها دليلاً إجمالياً يستنبط منه حكم كلي، والقاعدة
الفقهية ينظر إليها من حيث كونها حكماً جزئياً لفعل من أفعال المكلفين.
فمثلاً قاعدة: (الاجتهاد لا ينقض) بمثله أو بالاجتهاد، ينظر إليها
الأصولي من حيث كونها دليلاً يعتمد عليه في بيان عدم جواز نقض أحكام القضاة
وفتاوى المفتين إذا تعلقت بها الأحكام على سبيل العموم والإجمال.
وينظر إليها الفقه من حيث تعليل فعل من أفعال المكلفين فيبين حكمه من
خلالها، فإذا حكم حاكم أو قاض بنقض حكم في مسألة مجتهد فيها كالخلع هل هو
فسخ للعقد أو طلاق، وقد كان حكم حاكم في مسألة بعينها بأن الخلع فسخ، وأجاز
العقد على امرأة خالعها زوجها ثلاث مرات أو بعد طلقتين، ثم جاء حاكم آخر
فأراد التفريق بين الزوجين؛ لأنه يرى أن الخلع طلاق فيقال له: لا يجوز ذلك؛
لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله.
ولكن لك في مسألة أخرى متشابهة أن تحكم فيها باجتهادك لا أن تنقض حكمك أو حكم غيرك في مسألة اجتهادية لا نصية.
-- المقدمة الثالثة:
-- ميزة القواعد الفقهية ومكانتها في الشريعة وفوائد دراستها:
قال القرافي: إن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة قواعد
كثيرة جداً عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلاً.
هذه المقولة الصادقة من عالم مدقق فاحص تعطينا ميزات عظيمة من ميزات
القواعد الفقهية وهي كونها قواعد كثيرة جداً غير محصورة بعدد، وهي منثورة
في كتب الفقه العام والفتاوى والأحكام، وهو رحمة الله قد أراد من تأليف
كتابه الفروق جمع هذه القواعد في كتاب واحد يجمع شتاتها ويكشف أسرارها
وحكمها، ولكنه رحمه الله ما استوعب ولا قارب.
والميزة الثانية من ميزات القواعد أنها تمتاز بإيجاز عبارتها مع عموم
معناها وسعة استيعابها للمسائل الجزئية إذ تصاغ القاعدة في جملة مفيدة
مكونة من كلمتين أو بضع كلمات من ألفاظ العموم، مثل قاعد (العادة محكمة)
وقاعدة: (الأعمال بالنيات) أو (الأمور بمقاصدها) وقاعدة (المشقة تجلب
التيسير) فكل من هذه القواعد تعتبر من جوامع الكلم إذ يندرج تحت كل منها ما
لا يحصى من المسائل الفقهية المختلفة.
والميزة الثالثة من ميزات القواعد أنها تمتاز بأن كلأ منها ضابط يضبط
فروع الأحكام العملية ويربط بينها برابطة تجمعها وإن اختلفت موضوعاتها
وأبوابها، قال الأستاذ مصطفى الزرقا مد الله في عمره في الخير: لولا هذه
القواعد لبقيت الأحكام الفقهية فروعاً مشتتة قد تتعارض ظواهرها دون أصول
تمسك بها وتبرز من خلالها العلل الجامعة.
وأما فوائد القواعد الفقهية فهي كثيرة جداً نكتفي بذكر بعضٍ منها:
أولاً: ذكرنا أن من ميزات القواعد الفقهية أنها تضبط الفروع الفقهية
وتجمع شتاتها تحت ضابط واحد مهما اختلفت موضوعاتها إذا اتحد حكمها. فهي
بذلك تيسر على الفقهاء والمفتين ضبط الفقه بأحكامه فهو كما قال القرافي:
(من ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات).
لأن حفظ جزئيات الفقه وفروعه يستحيل أن يقدر عليه إنسان، لكن حفظ القواعد
مهما كثرت يدخل تحت الإمكان.
ثانياً: إن دراسة القواعد الفقهية تكوِّن عند الباحث ملكة فقهية قوية
تنير أمامه الطريق لدراسة أبواب الفقه الواسعة والمتعددة ومعرفة الأحكام
الشرعية واستنباط الحلول للوقائع المتجددة والمسائل المتكررة.
ثالثاً: إن دراسة هذه القواعد الفقهية والإلمام بها واستيعابها يعين
القضاة والمفتين والحكام عند البحث عن حلول للمسائل المعروضة والنوازل
الطارئة بأيسر سبيل وأقرب طريق.
ولذلك قال بعضهم: إن حكم دراسة القواعد الفقهية والإلمام بها على القضاة والمفتين فرض عين وعلى غيرهم فرض كفاية.
رابعاً: لما كانت القواعد الفقهية في أكثرها موضع اتفاق بين الأئمة
المجتهدين ومواضع الخلاف فيها قليلة فإن دراسة القواعد والإلمام بها تربي
عند الباحث ملكة المقارنة بين المذاهب المختلفة وتوضح له وجهاً من وجوه
الاختلاف وأسبابه بين المذاهب.
خامساً: إن دراسة القواعد الفقهية وإبرازها تظهر مدى استيعاب الفقه
الإسلامي للأحكام، ومراعاته للحقوق والواجبات، وتسهل على غير المختصين
بالفقه الاطلاع على محاسن هذا الدين، وتبطل دعوة من ينتقصون الفقه الإسلامي
ويتهمونه بأنه إنما يشتمل على حلول جزئية وليس قواعد كلية.
-- المقدمة الرابعة:
-- أنواع القواعد الفقهية ومراتبها:
القواعد الفقهية ليست نوعاً واحداً، ولا كلها في مرتبة واحدة، وإنما هي أنواع وراتب، ويرجع هذا التنوع إلى سببين رئيسيين:
الأول: من حيث شمول القاعدة وسعة استيعابها للفروع والمسائل الفقهية.
الثاني: من حيث الاتفاق على مضمون القاعدة أو الاختلاف فيه.
فمن حيث الشمول والسعة تنقسم القواعد الفقهية إلى ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: القواعد الكلية الكبرى ذوات الشمول العام والسعة العظيمة
للفروع والمسائل حيث يندرج تحت كلِّ منها جُلُّ أبواب الفقه ومسائله
وأفعال المكلفين إن لم يكن كلها.
وهذه القواعد ست هي:
1. قاعدة (إنما الأعمال بالنيات) أو (الأمور بمقاصدها).
2. قاعدة (اليقين لا يزول، أو لا يرتفع بالشك).
3. قاعدة (المشقة تجلب التيسير).
4. قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) أو (الضرر يزال).
5. قاعدة ( العادة محكَّمة).
6. قاعدة (إعمال الكلام أولى من إهماله).
المرتبة الثانية: قواعد أضيق مجالاً من سابقاتها (وإن كانت ذوات شمول
وسعة) حيث يندرج تحت كل منها أعداد لا تحصى من مسائل الفقه في الأبواب
المختلفة، وهي قسمان:
(ا) قسم يندرج تحت القواعد الكبرى ويتفرع عليها.
(ب) قسم آخر لا يندرج تحت أي منها.
فمثال القسم الأول: قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات، وهي تتفرع على
قاعدة (المشقة تجلب التيسير) وقاعدة (لا ينكر تغير الأحكام الاجتهادية
بتغير الأزمان) وهي مندرجة تحت قاعدة (العادة محكَّمة).
ومثال القسم الثاني: قاعدة: (الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، أو بمثله).
وقاعدة: (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة).
المرتبة الثالثة: القواعد ذوات المجال الضيق التي لا عموم فيها حيث تختص
بباب أو جزء باب، وهذه التي تسمى بالضوابط جمع ضابط أو ضابطة، وفي هذا يقول
الإمام عبد الوهاب بن السبكي رحمه الله فالقاعدة: (الأمر الكلي الذي ينطبق
عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منها). ومنها ما لا يختص بباب كقولنا:
(اليقين لا يرفع بالشك) ومنها ما يختص كقولنا: (كل كفارة سببها معصية فهي
على الفور).
والغالب فيما قصد بباب وقُصد به نظم صور متشابهة أن يسمى (ضابطاً). وأما
من حيث الاتفاق على مضمون القاعدة والاختلاف فيها فهي تنقسم إلى مرتبتين:
المرتبة الأولى: القواعد المتفق على مضمونها عند جميع الفقهاء ومختلف المذاهب.
فمن قواعد هذه المرتبة: كل القواعد الكلية الكبرى وأكثر القواعد الأخرى.
المرتبة الثانية: القواعد المذهبية التي تختص بمذهب دون مذهب أو يعمل
بمضمونها بعض الفقهاء دون الآخرين مع شمولها وسعة استيعابها لكثير من مسائل
الفقه من أبواب مختلفة.
وهذه تعتبر من أسباب اختلاف الفقهاء من إصدار الأحكام تبعاً لاختلاف النظرة في مجال تعليل الأحكام.
ومن أمثلة هذه المرتبة: قاعدة: (لا حجة مع الاحتمال الناشئ عن دليل).
وأساسها قولهم: (إن التهمة إذا تطرقت إلى فعل الفاعل حكم بفساد فعله). وهذه
القاعدة يعمل بها الحنفية والحنابلة دون الشافعية، وقد يعمل بها المالكية
ضمن قيود، ومنها عند الحنفية: (الأصل أن جواز البيع يتبع الضمان).
وأما عند الشافعي: (فإن جواز البيع يتبع الطهارة). ويأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله.
مسألة: رأينا أن القواعد ذوات المجال الضيق (أي التي تختص بباب أو جزء
باب) هي ضوابط إذ مجالها التطبيقي بعض الفروع الفقهية من باب واحد من أبواب
الفقه، أو هي تختص بنوع من الأحكام الفرعية لا يعمم في غير مجاله.
ومثال الضابط: (إن المحرم إذا أخر النسك عن الوقت الموقت له أو قدَّمه لزمه دم).
وهذا الضابط عند أبي حنيفة رحمه الله، وخالفه في ذلك الفقهاء الآخرون ومنهم تلميذاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن.
فما الفروق بين القاعدة والضابط؟
مع أن الفقهاء كثيراً ما يستعملون لفظ (القاعدة) ويعنون بها الضابط،
ويستعملون لفظ (الضابط) ويعنون به القاعدة، فالملاحظ أن بين القاعدة
والضابط فرقين رئيسين هما:
الفرق الأول: أن القاعدة (كما سبق) تجمع فروعاً من أبواب شتى ويندرج
تحتها من مسائل الفقه ما لا يحصى، وأما الضابط فإنه مختص بباب واحد من
أبواب الفقه تعلل به مسائله، أو يختص بفرع واحد فقط.
الفرق الثاني: أن القاعدة في الأعم الأغلب متفق على مضمونها بين المذاهب أو أكثرها.
وأما الضابط فهو يختص بمذهب معين (إلا ما ندر عمومه) بل منه ما يكون وجهة
نظر فقيه واحد في مذهب معين قد يخالفه فيه فقهاء آخرون من نفس المذهب، كما
سبق في الضابط المتقدم.
-- المقدمة الخامسة:
-- مصادر القواعد الفقهية:
أعني بمصادر القواعد الفقهية منشأ كل قاعدة منها وأساس ورودها.
تنقسم مصادر القواعد الفقهية إلى أقسام ثلاثة رئيسية:
القسم الأول: قواعد فقهية مصدرها النصوص الشرعية من كتاب وسنة، فما كان
مصدره نصاً من الكتاب الكريم هو أعلى أنواع القواعد وأولاها بالاعتبار حيث
إن الكتاب الكريم هو أصل الشريعة وكليتها وكل ما عداه من الأدلة راجع إليه،
فمن آيات الكتاب التي جرت مجرى القواعد:
1. قوله تعالى: (وأحلَّ الله البيعَ وحرَّم الرِبا). البقرة، آية (275)
فقد جمعت هذه الآية على وجازة لفظها أنواع البيوع ما أحل منها وما حرَّم
عدا ما استثنى.
2. ومنها قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكُم بينَكم بالباطل). البقرة، آية
(188). فهذه قاعدة شاملة لتحريم كل تعامل وتصرف يؤدي إلى أكل أموال الناس
وإتلافها بالباطل من غير وجه مشروع يحله الله ورسوله، كالسرقة والغصب،
الربا، والجهالة، والضرر، والغرر، فكل عقد باطل يعتبر نوعاً من أكل أموال
الناس بالباطل.
3. ومنها قوله تعالى: (خُذِ العفو وأمُر بالعُرفِ وأعرِض عَنِ الجاهلين). الأعراف، آية (199).
فكما قال القرطبي وغيره: هذه الآية من ثلاث كلمات (أي جُمَل) تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات.
فقوله سبحانه: (خُذِ العَفو) دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين.
ودخل في قوله: (وَأمُر بالعُرفِ) صلة الأرحام وتقوى الله في الحلال والحرام وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار.
وفي قوله: (وأَعرِض عن الجاهلين) الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن
أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك
من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
وهذه الآية هي الجامعة لمكارم الأخلاق. قال جعفر الصادق: أمر الله نبيه
بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من
هذه الآية.
4. ومنها قوله تعالى: (يا أيها الذينَ آمنوا أوفُوا بالعُقُودِ).
المائدة، آية (1). فالأمر يقتضي الوفاء بكل عقد مشروع، واحترام كل ما يلتزم
به الإنسان مع الناس.
5. قوله تعالى في الآية الجامعة الفاذة: (فَمَن يعمل مِثقال ذرَّةٍ خيراً
يَرَه ومن يعمل مِثقالَ ذرةٍ شراً يَرَه). الزلزلة، الآيتان (7 و.
وغير ذلك في كتاب الله كثير.
ومن الأحاديث الشريفة الجامعة التي جرت مجرى القواعد إلى جانب مهمتها
التشريعية فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختصر له
الكلام اختصاراً.
1. قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن حكم أنواع من الأشربة فقال عليه
الصلاة والسلام: (كل مسكر حرام). فدل هذا الحديث على وجازة لفظه على تحريم
كل مسكر من عنب أو غيره مائع أو جامد، نباتي أو حيواني أو مصنوع.
2. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار). القاعدة الكلية
الكبرى، فهذا الحديث نص في تحريم الضرر بأنواعه لأن لا النافية تفيد
استغراق الجنس فالحديث وإن كان خبراً لكنه في معنى النهي، فيصير المعنى
(اتركوا كل ضرر وكل ضرار).
3. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام (المسلمون عند شروطهم) فظاهر المعنى
وجوب احترام كل ما رضيه المتعاقدان من الشروط، إلا الشروط التي تحل الحرام
أو تحرم الحلال، كما ورد في رواية.
القسم الثاني: ما كان من غير النصوص: وهو أنواع:
النوع الأول: قواعد فقهية مصدرها الإجماع المستند إلى الكتاب والسنة، فمن أمثلة قواعد هذا المصدر:
1. قولهم: (لا اجتهاد مع النص) فهذه القاعدة تفيد تحريم الاجتهاد في حكم
مسألة ورد فيها نص من الكتاب أو السنة أو الإجماع لأنه إنما يحتاج للاجتهاد
عند عدم وجود النص، أما عند وجوده فلا اجتهاد إلا في فهم النص ودلالته.
2. قولهم (الاجتهاد لا ينتقض بمثله) أو بالاجتهاد وهذا أمر مجمع عليه
والمراد أن الأحكام الاجتهادية إذا فصلت بها الدعوى على الوجه الشرعي ونفذت
أنه لا يجوز نقضها بمثلها لأن الاجتهاد الثاني ليس أولى من الاجتهاد
الأول، ولأنه إذا نقض الأول جاز أيضاً نقض الثاني بثالث والثالث بغيره فلا
يمكن أن تستقر الأحكام.
ولكن إذا تبين مخالفة الاجتهاد للنص الشرعي أو لمخالفته طريق الاجتهاد الصحيح، أو وقوع خطأ فاحش، فينقض حينئذٍ.
النوع الثاني: وهو قسمان:
الأول: قواعد فقهية أوردها الفقهاء المجتهدون مستنبطين لها من أحكام
الشرع العامة ومستدلين لها بنصوص تشملها من الكتاب والسنة والإجماع ومعقول
النصوص مثل:
1. قاعدة (الأمور بمقاصدها) مستدلين لها بقوله عليه الصلاة والسلام:
(إنما الأعمال بالنيات) وقد جعلنا هذا الحديث رأس القاعدة وعنواناً دالاً
عليها لا دليلاً لها، وصُدِّرت به موسوعة القواعد الفقهية تيمناً واقتداء.
ومثل قاعدة (اليقين لا يزول بالشك) المستَدَلّ لها بأحاديث كثيرة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، مثل قوله عليه الصلاة والسلام (إذا شك أحدكم في
صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك وليبن على ما
استيقن). الحديث.
ومثل قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) وهي قاعدة رفع الحرج وقاعدة الرخص الشرعية.
وأدلتها كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
ومثل قاعدة: (العادة محكَّمة) وهي قاعدة اعتبار العرف وتحكيمه فيما لا نص
فيه وأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع كثيرة منها قوله تعالى: (خُذ العفو
وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). الأعراف، آية (199).
وقوله سبحانه (وعاشِروهن بالمعروف). النساء، آية (19).
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لهند (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
ومنها قاعدة: (إعمال الكلام أولى من إهماله) ومن أدلتها قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). ق. آية (18).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى عند كل لسان قائل فليتق الله عبد ولينظر ما يقول). إحدى روايات الحديث.
الثاني: قواعد فقهية أوردها الفقهاء المجتهدون في مقام الاستدلال القياسي
الفقهي، حيث تعتبر تعليلات الأحكام الفقهية الاجتهادية ومسالك الاستدلال
القياسي عليها، أعظم مصدر لتقعيد هذه القواعد وإحكام صيغها عند استقرار
المذاهب الفقهية الكبرى وانصراف أتباعها إلى تحريرها وترتيب أصولها
وأدلتها، كما قال أستاذنا الزرقا.
وهذه القواعد التي استنبطها الفقهاء المتأخرون من خلال أحكام المسائل
التي أوردها أئمة المذاهب في كتبهم أو نقلت عنهم لا تخرج عن نطاق أدلة
الأحكام الشرعية الأصلية أو التبعية الفرعية، فالناظر لهذه القواعد والباحث
عن أدلة ثبوتها وأساس التعليل بها يراها تندرج كل منها تحت دليل شرعي إما
من الأدلة المتفق عليها كالكتاب والسنة والإجماع، وإما من الأدلة الأخرى
كالقياس والاستصحاب والمصلحة أو الاستصلاح والعرف، والاستقراء، وغير ذلك
مما يستدل به على الأحكام؟ لأنه لا يعقل ويستبعد جداً أن يبني فقيه مجتهد
حكماً لمسألة فقهية، أو يعلل لمسائل فقهية معتمداً على مجرد الرأي غير
المدعوم بأدلة الشرع أو معتمداً على الهوى والتشهي، فهم رحمة الله عليهم
كانوا أجلَّ وأورع وأتقى وأخشى لله من أن يفتي أحدهم أو يحكم في مسألة أو
يقضي بحكم غير مستند إلى دليل شرعي مقرر، وسواء اتفق عليه أم اختلف الفقهاء
في اعتباره فمن استند إلى القياس لا يقال: إنه حكم بغير ما أنزل الله: لأن
هناك من يُنكر القياس ولا يعمل به.
وكذلك من استند في حكمه إلى المصلحة الغالبة أو مصلحة غلب على ظنه وجودها
لا يقال: إن حكمه مخالف للشرع لأن غيره من الفقهاء قد لا يعمل بالمصلحة
ولا يستدل بها، أو لا يرى في هذه المسألة مصلحة، وكذلك بالنسبة للعرف أو
قول الصحابي، أو شرع من قبلنا، أو سد الذرائع أو الاستقراء أو غير ذلك من
الأدلة أو مواطن الاستدلال التي ما عمل بها من عمل إلا مستدلاً لها بأدلة
من الكتاب أو السنة أو المعقول المبني على قواعد الشرع وحِكمه.
من أمثلة هذه القواعد المستنبطة والمعلل بها قولهم:
1. (إنما يثبت الحكم بثبوت السبب) هذه قاعدة أصولية فقهية استنبطها
الفقهاء المجتهدون من الإجماع ومعقول النصوص، فمثلاً: يثبت وجوب صلاة الظهر
وتعلقها في ذمة المكلف بزوال الشمس، فزوال الشمس سبب لثبوت الوجوب للصلاة،
فلو لم يثبت الزوال لم يثبت الوجوب، وقد يستدل لها بقوله تعالى: (أقِم
الصلاة لِدُلوكِ الشمس) الإسراء، آية (78) ومنها قولهم: (الأيمان في جميع
الخصومات موضوعة في جانب المدعى عليه إلا في القسامة).
وهذه القاعدة مستنبطة من الحديث: (البينة على المدعي واليمين على
المدَّعى عليه)، ومنها قولهم: (إذا اجتمعت الإشارة والعبارة واختلف موجبهما
غُلِّبت الإشارة).
هذه القاعدة مستنبطة من المعقول والعرف.
ومنها قولهم: (إذا وجبت مخالفة أصل أو قاعدة وجب تقليل المخالفة ما أمكن).
فهذه القاعدة مستنبطة من معقول النصوص الرافعة للحرج والمشقة مثل قوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها). البقرة، آية (286).
ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم).
-- المقدمة السادسة:
-- حكم الاستدلال بالقواعد الفقهية على الأحكام:
هذه المسألة على جانب كبير من الأهمية حيث تتعلق بأمر عظيم وهو مصادر
الأحكام وأدلتها، وهل تعتبر القواعد الفقهية أحد أدلة الأحكام فيستند إليها
عند عدم وجود نص أو إجماع أو قياس في المسألة؟
وبعبارة أخرى: هل يجوز أن تجعل القاعدة الفقهية دليلاً شرعياً يستنبط منه حكم شرعي؟
وفي التقرير الذي صدرت به مجلة الأحكام العدلية قالوا: (فحكام الشرع ما
لم يقفوا على نقل صريح لا يحكمون بمجرد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد،
إلا أن لها فائدة كلية في ضبط المسائل، فمن اطلع عليها من المطالعين يضبط
المسائل بأدلتها، وسائر المأمورين يرجعون إليها في كل خصوص.
وبهذه القواعد يمكن للإنسان تطبيق معاملاته على الشرع الشريف أو في الأقل التقريب.
وقالوا: أيضاً في المقالة الأولى من المقدمة وهي المادة الأولى من مواد
المجلة: إن المحققين من الفقهاء قد أرجعوا المسائل الفقهية إلى قواعد كلية،
كل منها ضابط وجامع لمسائل كثيرة، وتلك القواعد مُسلمة معتبرة في الكتب
الفقهية تتخذ أدلة إثبات المسائل وتفهمها في بادئ الأمر، فذكرها يوجب
الاستئناس بالمسائل ويكون وسيلة لتقررها في الأذهان.
وقال ابن نجيم في الفوائد الزينية كما نقله عنه الحموي في غمز عيون
البصائر: لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط لأنها ليست كلية بل أغلبية،
خصوصاً وهي لم تثبت عن الإمام بل استخرجها المشايخ من كلامه.
وقال استاذنا الجليل الشيخ مصطفى الزرقا:
ولذلك كانت تلك القواعد الفقهية قلما تخلو إحداهما من مستنيات في فروع
الأحكام التطبيقية خارجة عنها، إذ يرى الفقهاء أن تلك الفروع المستثناة من
القاعدة هي أليق بالتخريج على قاعدة أخرى، أو أنها تستدعي أحكاماً
استحسانية خاصة، ومن ثم لم تسوغ المجلة أن يقتصر القضاة في أحكامهم على
الاستناد إلى شيء من هذه القواعد الكلية فقط دون نص آخر خاص أو عام يشمل
بعمومه الحادثة المقضي فيها، لأن تلك القواعد الكلية على ما لها من قيمة
واعتبار هي كثيرة المستثنيات، فهي دساتير للتفقيه لا نصوص للقضاء.
فهذه النقول وأمثالها تفيد أنه لا يسوغ اعتبار القواعد الفقهية أدلة شرعية لاستنباط الأحكام لسببين:
الأول: أن هذه القواعد ثمرة للفروع المختلفة وجامع ورابط لها، وليس من
المعقول أن يجعل ما هو ثمرة وجامع دليلاً لاستنباط أحكام الفروع.
الثاني: أن معظم هذه القواعد لا تخلو عن المستثنيات، فقد تكون المسألة
المبحوث عن حكمها من المسائل والفروع المستثناة، ولذلك لا يجوز بناء الحكم
على أساس هذه القواعد، ولا يسوغ تخريج أحكام الفروع عليها، ولكنها تعتبر
شواهد مصاحبة للأدلة يستأنس بها في تخريج الأحكام للوقائع الجديدة قياساً
على المسائل الفقهية الدوَّنة، هكذا قالوا:
وأقول: هذا الذي قالوه لا يؤخذ على إطلاقه حيث إن القواعد الفقهية تختلف
من حيث أصولها ومصادرها أولاً، ثم من حيث وجود الدليل على حكم المسألة
المبحوث عنها ثانياً، فمن حيث أصول القواعد ومصادرها فقد عرفنا في المقدمة
السابقة أن من القواعد الفقهية ما كان أصله ومصدره من كتاب الله سبحانه
وتعالى أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أو يكون مبنياً على أدلة واضحة
من الكتاب والسنة المطهرة، أو مبنياً على دليل شرعي من الأدلة المعتبرة
عند العلماء، أو تكون القاعدة مبنية على الاستدلال القياسي وتعليل الأحكام.
فإذا كانت القاعدة نصاً قرآنياً كريماً فهي قبل أن تكون قاعدة أو تجري
مجرى القواعد فهي دليل شرعي بالاتفاق فهل إذا جرى النص القرآني مجرى
القاعدة خرج عن كونه دليلاً شرعياً معمولاً به، ولا يجوز تقديم غيره عليه؟
من أمثلة ذلك قوله سبحانه وتعالى: (وأحل اللهُ البيعَ وحرَّم الربا). البقرة، آية (275).
فهذا النص الكريم دليل شرعي يفيد حل البيع وحرمة الربا، وهو في نفس الوقت
يصلح قاعدة فقهية تشمل أنواع البيوع المختلفة ومسائل الربا المتعددة، كما
يستثنى منها بعض أنواع البيوع المحرمة، وبعض مسائل الربا إما بالنص وإما
بالتخريج.
ومن السنة حديث (لا ضرر ولا ضرار) وحديث (الخراج بالضمان).
وحديث: (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) وغيرها كثير.
فهذه أدلة شرعية وقواعد فقهية يمكن الاستناد إليها في استنباط الأحكام وإصدار الفتاوى وإلزام القضاء بها.
ولعل هذا لم يفت الفقهاء الذين وضعوا المجلة حيث قالوا: (فحكام الشرع ما
لم يقفوا على نقل صريح) فلعلهم أشاروا بذلك إلى تلك القواعد التي هي في
الأصل نصوص تشريعية، وكذلك ما أشار إليه الأستاذ الزرقا مد الله في عمره في
الخير حين قال: ومن ثم لم تسوِّغ المجلة أن يقتصر القضاة في أحكامهم على
الاستناد إلى شيء من هذه القواعد الكلية فقط دون نص آخر خاص أو عام.
ولكن الإجمال هنا موهم والتفصيل مطلوب.
وأما ما ذكر في المقالة الأولى من المقدمة وما نقله الحموي عن ابن نجيم
في الفوائد الزينية فهو عام في عدم جواز الفتوى بما تقتضيه هذه القواعد،
ومما ينبني على أدلة واضحة من الكتاب والسنة والإجماع.
قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك).
قاعدة: الضرر يزال.
قاعدة: الأمور بمقاصدها.
وقاعدة: المشقة تجلب التيسير.
وأمثال هذه القواعد فهي تشبه الأدلة وقوتها بقوة الأدلة المعتمدة عليها، فلا يمنع من الاحتكام إليها.
وأما إذا كانت القاعدة مبنية على دليل شرعي من الأدلة التي اختلف في
اعتبارها فيجب الرجوع أولاً إلى الأدلة المتفق عليها فإذا وجد الحكم بأحدها
يستأنس بالقاعدة ولا يحكم بها، وإلا نظر إلى الدليل الذي بنيت عليه
القاعدة فإن أمكن إعطاء المسألة حكماً بموجبه (عن من يعتبرونه دليلاً) كان
بها واعتبرت القاعدة دليلاً تابعاً يستأنس به.
وأما من حيث عدم وجود دليل شرعي لمسألة بعينها أو نص فقهي، أو دليل
أصولي، ووجدت القاعدة الفقهية التي تشملها، فحينئذٍ هل تعتبر القاعدة
الفقهية الاجتهادية دليلاً شرعياً يمكن استناد الفتوى والقضاء إليه؟
قلت سابقاً: إن القواعد الاجتهادية استنبطها العلماء المجتهدون من معقول
النصوص والقواعد العامة للشريعة، أو بناء على مصلحة رأوها أو عرف اعتبروه،
أو استقراء استقرأوه فعلى من تعرَّض لمثل هذه المسائل أن يكون على جانب
كبير من الوعي والإدراك والأحاطة بالقواعد الفقهية وما بنيت عليه كل قاعدة
أو استنبطت منه، وما يمكن أن يستثنى من كل قاعدة حتى لا يدرج تحت القاعدة
مسألة يقطع أو يظن خروجها عنها.
وأما اعتلاهم بأن القواعد الفقهية ثمرة للأحكام الفرعية المختلفة وجامع
لها ولذلك لا يصح أن تجعل دليلاً لاستنباط أحكام هذه الفروع، أقول: إن كل
قواعد العلوم إنما بنيت على فروع هذه العلوم وكانت ثمرة لها، وأقرب مثال
لذلك قواعد الأصول وخاصة عند الحنفية حيث استنبطت من خلال أحكام المسائل
الفرعية المنقولة عن الأئمة الأقدمين، ولم يقل أحد إنه لا يجوز لنا أن
نستند إلى تلك القواعد لتقرير الأحكام واستنباطها.
وكذلك قواعد اللغة العربية التي استنبطها علماء اللغة من خلال ما نطق به
العرب الفصحاء قبل أن تشوب ألسنتهم العجمة واللحن، وهي القواعد التي يستند
إليها في استنباط أحكام اللغة والبناء عليها.
ولم يقل أحد إن هذه القواعد لا تصلح لاستنباط أحكام العربية لأنها ثمرة للفروع الجزئية.
وأما احتجاجهم بأن القواعد الفقهية كثيرة المستثنيات فيمكن أن يستنبط حكم
المسألة من قاعدة وتكون هذه المسألة خارجة ومستثناة عن تلك القاعدة فهذا
قد أجبنا عنه فيما سبق.
وقد قال القرافي رحمه الله في حديثه عن أدلة مشروعية الأحكام قال:
الاستدلال هو محاولة الدليل المفضي إلى الحكم الشرعي من جهة القواعد لا من
جهة الأدلة المنصوبة وفيه قاعدتان: قال: القاعدة الثانية: (إن الأصل في
المنافع الإذن، وفي المضار المنع) بأدلة السمع لا بأدلة العقل (خلافاً
للمعتزلة) وقد تعظم المنفعة فيصحبها الندب أو الوجوب مع الإذن، وقد تعظم
المضرة فيصحبها التحريم على قدر رتبتها، فيستدل على الأحكام بهذه القاعدة
إلى أن قال: يعلم ما يصحبه الوجوب أو الندب أو التحريم أو الكراهة من
الشريعة وما عهدناه من تلك المادة. (والله أعلم).
-- المقدمة السابعة:
-- نشأن القواعد الفقهية وتدوينها وتطورها:
عند الحديث عن مصادر القواعد الفقهية تبين أن من القواعد الفقهية ما أصله
من نصوص الكتاب العزيز، أو من نصوص السنة النبوية المطهرة حيث جرى كثير
منها مجرى القواعد كما جرى كثير مننها مجرى الأمثال.
وإلى جانب ذلك أثر عن فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم وكثير من أئمة
التابعين ومن جاء بعدهم من كبار أتباعهم عبارات وردت إما عند تأصيل مبدأ
وإما عند تعليل أحكام، وهذه العبارات كانت أساساً لما سمي فيما بعد
بالقواعد الفقهية.
ولما كان ما عدا ذلك ناتجاً عن اجتهادات للفقهاء في تعليل الأحكام
وتأصيلها فإنه لا يعرف لكل قاعدة فقية معروف وقائل لها؛ لأن هذه القواعد لم
توضع كلها جملة واحدة على يد هيئة واحدة أو لجنة واحدة كما توضع النصوص
القانونية في وقت معين على أيدي أناس معلومين.
ولكن هذه القواعد تكونت مفاهيمها وصيغت نصوصها بالتدريج في عصر ازدهار
الفقه ونهضته على أيدي كبار فقهاء المذاهب من أهل التخريج والترجيح
استنباطاً من دلالات النصوص الشرعية، وعلل الأحكام وأسرار التشريع
والمقررات العقلية، والمعاني الفقهية لهذه القواعد كانت مقررة في أذهان
الأئمة المجتهدين يعللون بها ويقيسون عليها، وقد كانت تسمى عندهم أصولاً.
ولعل أقدم مصدر فقهي يسترعي انتباه الباحث في هذا المجال هو (كتاب
الخراج) الذي ألَّفه الإمام أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري أكبر
تلاميذ الإمام أبي حنيفة وحامل لواء المذاهب بعده ورئيس قضاة الدولة
الإسلامية في عهد الخليفة هارون الرشيد، وقد ألف أبو يوسف كتابه هذا
للخليفة هارون الرشيد ليجعل نظاماً وقانوناً تسير عليه الدولة في تنظيم
الخراج ومعاملة أهل الذمة، وقد اشتمل هذا الكتاب على عدد من العبارات التي
جرت مجرى القواعد بل كانت أساساً بنى عليه من جاء بعده.
ولما كان المقصود من تأليف هذا الكتاب تيسير علم القواعد على العلماء
والفقهاء وطلاب العلم، ولما كان وضع هذه المقدمات لتعطي الدارس صورة واضحة
عن هذا العلم ومبادئه، ولما كان المقصد وجه الله سبحانه وابتغاء مرضاته
رأيت أن أوفى بحث في هذا الجانب وهذه المقدمة هو ما كتبه الأخ الفاضل
الدكتور علي بن أحمد الندوي في كتابه القواعد الفقهية: نشأتها، تطورها،
دراسة مؤلفاتها، وهو الكتاب الذي قدمه لجامعة أم القرى للحصول على درجة
الماجستير، وليس وراء هذا البحث زيادة لمستزيد رأيت أن أعتمد عليه في بيان
هذه المقدمة لما اشتمل عليه من أبحاث جليلة مفيدة نافعة والحكمة ضالة
المؤمن، قال حفظه الله: ولما توغلت في بحوث الكتاب (يعني كتاب الخراج) وقفت
على عبارات رشيقة تتسم بسمات وشارات تتسق بموضوع القواعد من حيث شمول
معانيها وفيما يلي أورد طرفاً منها:
1. التعزيز إلى الإمام على قدر عِظَم الجرم وصِغَرهِ.
يقول عند تعرّضه لمسائل تتعلق بالتعزيز: (وقد اختلف أصحابنا في التعزيز
قال بعضهم: لا يبلغ به أدنى الحدود أربعين سوطاً، وقال بعضهم: أبلغ
بالتعزيز خمسة وسبعين سوطاً، أنقص من حد الحُرِّ وقال بعضهم: أبلغ به أكثر.
وكان أحسن ما رأينا في ذلك والله أعلم: أن التعزيز إلى الإمام على قدر
عِظَم الجرم وصِغَره).
فهنا بعد أن سجَّل الخلاف القائم بين فقهاء ذلك العصر في موضوع التعزيز
نحا الإمام أبو يوسف منحى جديداً، وهو أن وضع أصلاً في هذا الباب بتفويض
الأمر إلى الحاكم، بحيث سوَّغ له أن يُقدِّر التعزيز في ضوء الملابسات
المحيطة بالجرم وصاحبه.
2. (كل من مات من المسلمين لا وارث له، فماله لبيت المال). لا شك أن هذه
العبارة كسابقتها تقرر قاعدة قضائية مهمَّة، وهي بمثابة شاهد على وجود
قواعد جرت على أقلام الأقدمين مصوغة بصياغات مُحكمة.
3. (ليس للإمام أن يُخرج شيئاً من يد أحدٍ إلا بحق ثابت معروف) هذه
العبارة نظيرة للقاعدة المشهورة المتداولة (القديم يترك على قِدَمِه).
ويمكن أن تكتسب العبارة سِمة القاعدة بعد تعديل طفيف فيها على النحو التالي: (لا يُنزَع شيء من يد أحد إلا بحقٍ ثابتٍ معروف).
4. (ليس لأحد أن يُحدِث مرجاً في ملك غيره، ولا يتخذ فيه نهراً ولا بئراً ولا مزرعة، إلا بإذن صاحبه، ولصاحبه أن يُحدث ذلك كله).
إذا نظرت في هذه العبارة ثم سرَّحت طرفك في القواعد المتداولة في الحِقبة الأخيرة، لمحت فيها شبيهاً للكلام المذكور.
وذلك الشبيه ما جاء في قواعد مجلة الأحكام العدلية أنه: (لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغيرة أو حقه بلا إذنه).
وبجانب آخر يظهر عند الموازنة بين النصين أن عبارة كتاب الخراج تفيد
الحظر على التصرف الفعلي في ملك الغير في حين أن قاعدة المجلة يتسع نطاقها
إلى منع التصرف القولي مع التصرف الفعلي.
وكل ذلك يساعد على فهم التطور المثمر المتواصل في مجال هذا العلم.
5. (لا ينبغي لأحد أن يُحْدِث شيئاً في طريق المسلمين مما يضرّهم، ولا
يجوز للإمام أن يقطع شيئاً مما فيه الضرر عليهم ولا يسعه ذلك).
هذه العبارة يتحقق فيها معنى القاعدة باعتبار أن الشطر الأول منها تعلق
بقواعد رفع الضرر، والشطر الثاني يتمثل فيه مفهوم القاعدة الشهيرة: التصرف
على الرعية منوط بالمصلحة.
6. وإن أقرَّ بحق من حقوق الناس من قذف، أو قصاص في نفس، أو دونها أو
مال، ثم رجال عن ذلك نُفذ عليه الحكم فيما كان أقرَّ به، ولم يبطل شيء من
ذلك برجوعه.
هذه العبارة كسابقتها وردت في صيغة مطولة، لكنها تصوِّر في معنى الكلمة مدلول القاعدة المتداولة: (المرء مؤاخذ بإقراره).
7. (كل ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أراضيهم وأنهارهم، وطلبوا إصلاح ذلك لهم، أجيبوا إليه، إذا لم يكن فيه ضرر على غيرهم).
وبعد التأمل في تلك العبارات وأشباهها يمكن القول بأن فكرة التأصيل كانت
مركوزة في أذهان المتقدمين، وإن لم تظهر في صورة جليّة لعدم الحاجة إليها
كثيراً.
وكذلك من أقدم ما وصل إلينا من تلك المصادر بعض كتب الإمام محمد بن الحسن الشيباني (189 ه).
فإذا أمعنا النظر في كتاب الأصل ألْفيناه يعلل المسائل وهذا التعليل كثيراً ما يقوم مقام التقعيد.
وإليك مقتبسات من الكتاب المذكور، حتى يتبين كيف يوصل الأحكام ويقرنها بقواعدها.
ويقول في مبحث (الاستحسان): ولو أن رجلاً كان متوضئاً، فوقع في قلبه أنه
أحدث وكان ذلك أكبر رأيه، فأفضل ذلك أن يعيد الوضوء، وإن لم يفعل وصلى على
وضوئه الأول، كان عندنا في سعة، لأنه عندنا على وضوء حتى يستيقن بالحدث.
وإن أخبره أحد مسلم ثقة، أو امرأة ثقة مسلمة حرة أو مملوكة: أنك أحدثت أو
نمت مضطجعاً، أو رعفت، لم ينبغ له أن يصلي هكذا، ولا يشبه هذا ما وصفت لك
قبله من الحقوق، لأن هذا أمر الدين، الواحد فيه حجة إذا كان عدلاً، والحقوق
لا يجوز فيها إلا ما يجوز في الحكم.
فإذا تأملنا في هذا النص وجدناه يعلل الحكم، بأكبر الرأي، وهو الظن
الغالب وبناء عليه يفضل إعادة الوضوء في الصورة المذكورة ثم يفتي بجواز
الصلاة إن لم يعد الوضوء بناء على القاعدة المقررة (اليقين لا يزول بالشك).
هذا في الفقرة الأولى، أما الفقرة الثانية فهو ينص فيها على أصلين:
أولاً: كون خبر الواحد حجة في أمر الدين إذا كان عدلاً، ولقد ذكر هذه
القاعدة في موضع آخر فقال: (ما كان من أمر الدين، الواحد فيه حجة، إذا كان
عدلا).
ثانياً: الحقوق لا يجوز فيها إلا ما يجوز في الحكم، أي لا يكفي فيها قول
واحد ولو كان عدلاً، كما في أمر الدين، بل لا بد من شاهدين كما في الحكم،
والله أعلم.
ولا شك أن مثل هذا المنهج في التعليل أقرب ما يكون إلى منهج التقعيد الذي وجد في القرون المتأخرة.
وأحياناً نجده يسلك طريق البدء بالقاعدة ويفرِّع بعض المسائل عليها كما يتمثل ذلك في النص التالي.
3. وكل أمر لا يحل إلا بملك أو نكاح فإنه لا يحرم بشيء، حتى ينتقض النكاح
والملك، ولا يكون الرجل الواحد المسلم ولا المرأة في لك حجة، إنه إنما حل
من وجه الحكم ولا يحرم إلا من الوجه الذي حل به منه.
ألا ترى أن عقدة النكاح وعقدة الملك لا ينقضهما في الحكم إلا رجلان أو
رجل وامرأتان، فإن كان الذي يحل بذلك لا يحل إلا به لم يحرم حتى ينتقض الذي
حل، وكل أمر يحل بغير نكاح ولا ملك إنما يحل بالإذن فيه، فأخبر رجل مسلم
ثقة أنه حرام فهو عندنا حجة في ذلك، ولا ينبغي أن يؤكل ولا يشرب ولا يتوضأ
منه.
وقد وجدت هناك قواعد جامعة أخرى جرت على لسانه عند التعليل والتوجيه لبعض الأحكام، وإليك نماذج منها.
4. كل من له حق فهو له على حاله حتى يأتيه اليقين على خلاف ذلك.
واليقين أن يعلم أو يشهد عنده الشهود العدول.
5. التحري يجوز في كل ما جازت فيه الضرورة.
وبناء على ذلك إذا اشتبه عليه الطاهر بالنجس لم يجب عليه أن يتحرى في أحدهما للوضوء وينتقل إلى البدل وهو التيمم بخلاف الشرب.
6. (لا يجتمع الأجر والضمان) فانظر إلى هذه القواعد كيف أُحكم نسجها
وصقلت صياغتها وإن منها ما يماثل تماماً الأسلوب الذي راج وشاع في كتب
المتأخرين عند التقعيد على سبيل المثال قوله: (لا يجتمع الأجر والضمان) فقد
عبرت عنه
-- المقدمات والمبادئ.
-- المقدمة الأولى:
-- معنى القواعد الفقهية والتعريف بها:
1. المعنى اللغوي للقواعد:
القواعد جمع قاعدة، ومعنى القاعدة: أصل الأُس، وأساس البناء والقواعد
الإساس، وقواعد البيت إسَاسُه، ومنه قوله تعالى: (وإذ يرفع إبراهيم القواعد
من البيت وإسماعيل ربنا تقبَّل منا). البقرة، آية (127).
ومنه قوله تعالى: (فأتى الله بنيانَهم من القواعد). النحل، آية (26).
قال الزجاج: القواعد أساطين البناء التي تعمده، وقواعد الهودج خشبات أربع معترضة في أسفله تُرّكب عيدان الهودج فيها.
قال أبو عبيد: قواعد السحاب أصولها المعترضة في آفاق السماء، شُبهت بقواعد البناء.
قال ابن الأثير: أراد بالقواعد ما اعترض منها وسفل تشبيهاً بقواعد البناء.
قال ذلك في بيان حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم حين سأل عن سحابة
مرَّت فقال: كيف ترون قواعدها وبواسقها. وقالوا في المرأة التي قعدت عن
الحيض والأزواج قاعد والجمع قواعد، ومنه قوله تعالى: (والقواعد من النساء
التي لا يرجون نِكاحاً). النور، آية (60).
ومن معاني القاعدة في اللغة: الضابط وهو: الأمر الكلي ينطبق على جزئيات، مثل قولهم: كل أذون ولود وكل صموخ بيوض.
2. المعنى الاصطلاحي للقاعدة:
وأما معنى القاعدة في الاصطلاح الفقهي فقد اختلف الفقهاء في تعريفها بناء
على اختلافهم في مفهومها هل هي قضية كلية أو قضية أغلبية؟ فمن نظر إلى أن
القاعدة هي قضية كلية عرَّفها بما يدل على ذلك حيث قالوا في تعريفها:
القاعدة هي:
1. قضية كلية منطبقة على جميع جزئياتها.
2. قضية كلية يتعرف منها أحكام جزئياتها.
3. حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته ليتعرف أحكامها منه.
4. حكم كلي ينطبق على جميع جزئياته ليتعرف به أحكام الجزئيات والتي تندرج تحتها من الحكم الكلي.
5. الأمر الكلي الذي ينطبق عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منه.
6. أمر كلي منطبق على جزئيات موضوعه.
7. عبارة عن صور كلية تنطبق كل واحدة منها على جزئياتها التي تحتها.
8. هي القضايا الكلية التي تعرف بالنظر فيها قضايا جزئية.
9. قضية كلية يتعرف منها أحكام الجزئيات المندرجة تحت موضوعها.
10. أصول فقهية كلية في نصوص موجزة دستورية تتضمن أحكاماً تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها.
11. أصول ومبادئ كلية تصاغ في نصوص موجزة تتضمن أحكاماً تشريعية عامة في الحوادث التي تدخل تحت موضوعها.
وهذه التعريفات كلها متقاربة تؤدي معنى متحداً وإن اختلفت عباراتها حيث
تفيد جميعها أن القاعدة هي حكم أو أمر كلي أو قضية كلية تفهم منها أحكام
الجزئيات التي تندرج تحت موضوعها وتنطبق عليها.
ومن نظر إلى أن القاعدة الفقهية قضية أغلبية نظراً لما يستثنى منها
عرَّفها بأنها حكم أكثري لا كلي، ينطبق على أكثر جزئياته لتعرف أحكامها
منه.
وقال في تهذيب الفروق: ومن المعلوم أن أكثر قواعد الفقه أغلبية، والقول
إن أكثر قواعد الفقه أغلبية مبني على وجود مسائل مستثناة من تلك القواعد
تخالف أحكامها حكم القاعدة، ولذلك قيل: حينما أرجع المحققون المسائل
الفقهية عن طريق الاستقراء إلى قواعد كلية كل منها ضابط وجامع لمسائل
كثيرة، واتخذوها أدلة لإثبات أحكام تلك المسائل رأوا أن بعض فروع تلك
القواعد يعارضه أثر أو ضرورة أو قيد أو علة مؤثرة تخرجها عن الاطراد فتكون
مستثناة من تلك القاعدة ومعدولاً بها عن سنن القياس فحكموا عليها بالأغلبية
لا بالاطراد.
فمثال الاستثناء بالأثر جواز السلم والإجارة في بيع المعدوم الذي الأصل فيه عدم جوازه، ومثال الاستثناء بالإجماع عقد الاستصناع.
ومثال الاستثناء بالضرورة طهارة الحياض والآبار في الفلوات مع ما تلقيه الريح فيها من البعر والروث وغيره.
ولكن العلماء مع ذلك قالوا: إن هذا (أي الاستثناء وعدم الاطراد) لا ينقض كلية تلك القواعد ولا يقدح في عمومها للأسباب الآتية:
أولاً: لما كان مقصد الشارع ضبط الخلق إلى القواعد العامة، وكانت القواعد
التي قد جرت بها سنة الله أكثرية لا عامة، وكانت الشريعة موضوعة على مقتضى
ذلك الوضع، كان من الأمر الملتفت إليه إجراء القواعد على العموم العادي لا
على العموم الكلي العام الذي لا يتخلف عنه جزئي ما.
ويقول الشاطبي في موافقاته تأييداً لهذا: إن الأمر الكلي إذا ثبت فتخلف
بعض الجزئيات عن مقتضاه لا يخرجه عن كونه كلياً، وأيضاً فإن الغالب الأكثري
معتبر في الشريعة اعتبار القطعي.
ثانياً: إن المتخلفات الجزئية لا ينتظم منها كلي يعارض هذا الكلي الثابت،
وهذا شأن الكليات الاستقرائية، وإنما يتصور أن يكون تخلف بعض الجزئيات
قادحاً في الكليات العقلية.
فالكليات الاستقرائية صحيحة وإن تخلف عن مقتضاها بعض الجزئيات.
كما يقال كل حيوان يحرك فكه الأسفل حين المضغ، وهذه قاعدة كلية استقرائية
خرج عنها: التمساح، حيث يقال: إنه يحرك فكه الأعلى حين المضغ فخروج
التمساح عن القاعدة لا يخرجها عن كونها كلية. فكأنه قيل: كلي حيوان يحرك
فكه الأسفل حين المضغ إلا التمساح.
فالعموم العادي المبني على الاستقراء لا يوجب عدم التخلف بل الذي يوجب
عدم التخلف إنما هو العموم العقلي لأن العقليات طريقها البحث والنظر، وأما
الشرعيات فطريقها الاستقراء ولا ينقضه تخلف بعض الجزئيات.
ثالثاً: ومن ناحية أخرى فإن تخلف مسألة ما عن حكم قاعدة ما يلزم منه
اندراج هذه المسألة تحت حكم قاعدة أخرى، فالمسألة المخرَّجة تندرج ظاهراً
تحت حكم قاعدة، ولكنها في الحقيقة مندرجة تحت حكم قاعدة أخرى وهذا من باب
تنازع المسألة بين قاعدتين.
فليس إذاً استثناء جزئية من قاعدة ما بقادح في كلية هذه القاعدة ولا بمخرج لتلك الجزئية عن الاندراج تحت قاعدة أخرى.
-- المقدمة الثانية:
-- الفروع بين القواعد الفقهية والقواعد الأصولية:
علم الفقه وعلم أصول الفقه علمان مرتبطان بارتباط وثيق بحيث يكاد المرء
يجزم بالوحدة بينهما، وكيف لا يكون ذلك وأحدهما أصل والآخر فرع لذلك الأصل،
كأصل الشجرة وفرعها، فالأصولي ينبغي أن يكون فقيهاً، والفقيه ينبغي أن
يكون أصولياً وإلا كيف استنباط الحكم من الدليل؟ وكيف يكون مجتهداً من لم
يتبحر في علم الأصول؟
ومع ذلك يمكن أن يقال: إنهما علمان متمايزان فأحدهما مستقل عن الآخر من حيث موضوعه واستمداده وثمرته والغاية من دراسته.
وبالتالي فإن قواعد كل علم منهما تتميز عن قواعد الآخر تبعاً لتمايز
موضوعي العلمين: فموضوع علم أصول الفقه هو أدلة الفقه الإجمالية والأحكام
وما يعرض لكل منها، وأما موضوع علم الفقه فهو أفعال المكلفين وما يستحقه كل
فعل من حكم شرعي عملي. وبالتالي فإن قواعد علم أصول الفقه تفترق وتتميز عن
قواعد علم الفقه، وإن من أول من فرَّق بين قواعد هذين العلمين وميَّز
بينهما الإمام شهاب الدين القرافي في مقدمة كتابه (الفروق) حيث قال: أما
بعد فإن الشريعة المعظمة المحمدية زاد الله منارها شرفاً وعلواً اشتملت على
أصول وفروع، وأصولها قسمان: أحدهما المسمى بأصول الفقه وهو في غالب أمره
ليس فيه إلا قواعد الأحكام الناشئة عن الألفاظ العربية خاصة وما يعر لتلك
الألفاظ من النسخ والترجيح ونحو: الأمر للوجوب، والنهي للتحريم، والصبغة
الخاصة للعموم ونحو ذلك، وما خرج عن هذا النمط إلا كون القياس حجة وخبر
الواحد وصفات المجتهدين.
والقسم الثاني: قواعد كلية فقهية جليلة كثيرة العدد عظيمة المدد مشتملة
على أسرار الشرع وحِكَمِه، لكل قاعدة من الفروع في الشريعة ما لا يحصى، ولم
يذكر منها شيء في أصول الفقه وإن اتفقت الإشارة إليه هنالك على سبيل
الإجمال فبقي تفصيله لم يتحصل، وهذه القواعد مهمة في الفقه عظيمة النفع،
إلخ ما قال:
وقال في موضع آخر: إن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة
قواعد كثيرة جداً عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه
أصلاً.
وإذا دققنا النظر في قواعد الأصول وقواعد الفقه لرأينا أن فروقاً عدة تميز بينهما منها.
1. أن قواعد الأصول إنما تتعلق بالألفاظ ودلالاتها على الأحكام في غالب أحوالها، وأما قواعد الفقه فتتعلق بالأحكام ذاتها.
2. أن قواعد الأصول إنما وضعت لتضبط للمجتهد طرق الاستنباط واستدلاله
وترسم للفقيه مناهج البحث والنظر في استخراج الأحكام الكلية من الأدلة
الإجمالية، وأما قواعد الفقه فإنما تراد لتربط المسائل المختلفة الأبواب
برباط متحد وحكم واحد هو الحكم الذي سيقت القاعدة لأجله.
3. إن قواعد الأصول إنما تبنى عليها الأحكام الإجمالية وعن طريقها يستنبط الفقيه أحكام المسائل الجزئية من الأدلة التفصيلية.
وأما قواعد الفقه فإنما تعلل بها أحكام الحوادث المتشابهة وقد تكون أصلاً لها.
4. إن قواعد الأصول محصورة في أبواب الأصول ومواضعه ومسائله، وأما قواعد
الفقه العام والفتوى عند جميع المذاهب ولم تجمع للآن في إطار واحد، وكان
هذا هو الدافع لتأليف موسوعة القواعد الفقهية التي أرجو الله سبحانه أن
يعينني على إتمامها بمنه وكرمه.
5. إن قواعد الأصول إذا اتفق على مضمونها لا يستثنى منها شيء فهي قواعد كلية مطردة كقواعد العربية بلا خلاف.
وأما قواعد الفقه فهي مع الاتفاق على مضمون كثير منها يستثنى من كل منها
مسائل تخالف حكم القاعدة بسبب من الأسباب كالاستثناء بالنص أو الإجماع أو
الضرورة أو غير ذلك من أسباب الاستثناء ولذلك يطلق عليها كثيرون بأنها
قواعد أغلبية أكثرية لا كلية مطردة.
ومع وضوح الفروق بين القواعد الأصولية والقواعد الفقهية فقد نجد قواعد
مشتركة بين العلمين ولكن تختلف فيهما زاوية النظر، حيث إن القاعدة الأصولية
ينظر إليها من حيث كونها دليلاً إجمالياً يستنبط منه حكم كلي، والقاعدة
الفقهية ينظر إليها من حيث كونها حكماً جزئياً لفعل من أفعال المكلفين.
فمثلاً قاعدة: (الاجتهاد لا ينقض) بمثله أو بالاجتهاد، ينظر إليها
الأصولي من حيث كونها دليلاً يعتمد عليه في بيان عدم جواز نقض أحكام القضاة
وفتاوى المفتين إذا تعلقت بها الأحكام على سبيل العموم والإجمال.
وينظر إليها الفقه من حيث تعليل فعل من أفعال المكلفين فيبين حكمه من
خلالها، فإذا حكم حاكم أو قاض بنقض حكم في مسألة مجتهد فيها كالخلع هل هو
فسخ للعقد أو طلاق، وقد كان حكم حاكم في مسألة بعينها بأن الخلع فسخ، وأجاز
العقد على امرأة خالعها زوجها ثلاث مرات أو بعد طلقتين، ثم جاء حاكم آخر
فأراد التفريق بين الزوجين؛ لأنه يرى أن الخلع طلاق فيقال له: لا يجوز ذلك؛
لأن الاجتهاد لا ينقض بمثله.
ولكن لك في مسألة أخرى متشابهة أن تحكم فيها باجتهادك لا أن تنقض حكمك أو حكم غيرك في مسألة اجتهادية لا نصية.
-- المقدمة الثالثة:
-- ميزة القواعد الفقهية ومكانتها في الشريعة وفوائد دراستها:
قال القرافي: إن القواعد ليست مستوعبة في أصول الفقه بل للشريعة قواعد
كثيرة جداً عند أئمة الفتوى والفقهاء لا توجد في كتب أصول الفقه أصلاً.
هذه المقولة الصادقة من عالم مدقق فاحص تعطينا ميزات عظيمة من ميزات
القواعد الفقهية وهي كونها قواعد كثيرة جداً غير محصورة بعدد، وهي منثورة
في كتب الفقه العام والفتاوى والأحكام، وهو رحمة الله قد أراد من تأليف
كتابه الفروق جمع هذه القواعد في كتاب واحد يجمع شتاتها ويكشف أسرارها
وحكمها، ولكنه رحمه الله ما استوعب ولا قارب.
والميزة الثانية من ميزات القواعد أنها تمتاز بإيجاز عبارتها مع عموم
معناها وسعة استيعابها للمسائل الجزئية إذ تصاغ القاعدة في جملة مفيدة
مكونة من كلمتين أو بضع كلمات من ألفاظ العموم، مثل قاعد (العادة محكمة)
وقاعدة: (الأعمال بالنيات) أو (الأمور بمقاصدها) وقاعدة (المشقة تجلب
التيسير) فكل من هذه القواعد تعتبر من جوامع الكلم إذ يندرج تحت كل منها ما
لا يحصى من المسائل الفقهية المختلفة.
والميزة الثالثة من ميزات القواعد أنها تمتاز بأن كلأ منها ضابط يضبط
فروع الأحكام العملية ويربط بينها برابطة تجمعها وإن اختلفت موضوعاتها
وأبوابها، قال الأستاذ مصطفى الزرقا مد الله في عمره في الخير: لولا هذه
القواعد لبقيت الأحكام الفقهية فروعاً مشتتة قد تتعارض ظواهرها دون أصول
تمسك بها وتبرز من خلالها العلل الجامعة.
وأما فوائد القواعد الفقهية فهي كثيرة جداً نكتفي بذكر بعضٍ منها:
أولاً: ذكرنا أن من ميزات القواعد الفقهية أنها تضبط الفروع الفقهية
وتجمع شتاتها تحت ضابط واحد مهما اختلفت موضوعاتها إذا اتحد حكمها. فهي
بذلك تيسر على الفقهاء والمفتين ضبط الفقه بأحكامه فهو كما قال القرافي:
(من ضبط الفقه بقواعده استغنى عن حفظ أكثر الجزئيات لاندراجها في الكليات).
لأن حفظ جزئيات الفقه وفروعه يستحيل أن يقدر عليه إنسان، لكن حفظ القواعد
مهما كثرت يدخل تحت الإمكان.
ثانياً: إن دراسة القواعد الفقهية تكوِّن عند الباحث ملكة فقهية قوية
تنير أمامه الطريق لدراسة أبواب الفقه الواسعة والمتعددة ومعرفة الأحكام
الشرعية واستنباط الحلول للوقائع المتجددة والمسائل المتكررة.
ثالثاً: إن دراسة هذه القواعد الفقهية والإلمام بها واستيعابها يعين
القضاة والمفتين والحكام عند البحث عن حلول للمسائل المعروضة والنوازل
الطارئة بأيسر سبيل وأقرب طريق.
ولذلك قال بعضهم: إن حكم دراسة القواعد الفقهية والإلمام بها على القضاة والمفتين فرض عين وعلى غيرهم فرض كفاية.
رابعاً: لما كانت القواعد الفقهية في أكثرها موضع اتفاق بين الأئمة
المجتهدين ومواضع الخلاف فيها قليلة فإن دراسة القواعد والإلمام بها تربي
عند الباحث ملكة المقارنة بين المذاهب المختلفة وتوضح له وجهاً من وجوه
الاختلاف وأسبابه بين المذاهب.
خامساً: إن دراسة القواعد الفقهية وإبرازها تظهر مدى استيعاب الفقه
الإسلامي للأحكام، ومراعاته للحقوق والواجبات، وتسهل على غير المختصين
بالفقه الاطلاع على محاسن هذا الدين، وتبطل دعوة من ينتقصون الفقه الإسلامي
ويتهمونه بأنه إنما يشتمل على حلول جزئية وليس قواعد كلية.
-- المقدمة الرابعة:
-- أنواع القواعد الفقهية ومراتبها:
القواعد الفقهية ليست نوعاً واحداً، ولا كلها في مرتبة واحدة، وإنما هي أنواع وراتب، ويرجع هذا التنوع إلى سببين رئيسيين:
الأول: من حيث شمول القاعدة وسعة استيعابها للفروع والمسائل الفقهية.
الثاني: من حيث الاتفاق على مضمون القاعدة أو الاختلاف فيه.
فمن حيث الشمول والسعة تنقسم القواعد الفقهية إلى ثلاث مراتب:
المرتبة الأولى: القواعد الكلية الكبرى ذوات الشمول العام والسعة العظيمة
للفروع والمسائل حيث يندرج تحت كلِّ منها جُلُّ أبواب الفقه ومسائله
وأفعال المكلفين إن لم يكن كلها.
وهذه القواعد ست هي:
1. قاعدة (إنما الأعمال بالنيات) أو (الأمور بمقاصدها).
2. قاعدة (اليقين لا يزول، أو لا يرتفع بالشك).
3. قاعدة (المشقة تجلب التيسير).
4. قاعدة (لا ضرر ولا ضرار) أو (الضرر يزال).
5. قاعدة ( العادة محكَّمة).
6. قاعدة (إعمال الكلام أولى من إهماله).
المرتبة الثانية: قواعد أضيق مجالاً من سابقاتها (وإن كانت ذوات شمول
وسعة) حيث يندرج تحت كل منها أعداد لا تحصى من مسائل الفقه في الأبواب
المختلفة، وهي قسمان:
(ا) قسم يندرج تحت القواعد الكبرى ويتفرع عليها.
(ب) قسم آخر لا يندرج تحت أي منها.
فمثال القسم الأول: قاعدة: (الضرورات تبيح المحظورات، وهي تتفرع على
قاعدة (المشقة تجلب التيسير) وقاعدة (لا ينكر تغير الأحكام الاجتهادية
بتغير الأزمان) وهي مندرجة تحت قاعدة (العادة محكَّمة).
ومثال القسم الثاني: قاعدة: (الاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد، أو بمثله).
وقاعدة: (التصرف على الرعية منوط بالمصلحة).
المرتبة الثالثة: القواعد ذوات المجال الضيق التي لا عموم فيها حيث تختص
بباب أو جزء باب، وهذه التي تسمى بالضوابط جمع ضابط أو ضابطة، وفي هذا يقول
الإمام عبد الوهاب بن السبكي رحمه الله فالقاعدة: (الأمر الكلي الذي ينطبق
عليه جزئيات كثيرة تفهم أحكامها منها). ومنها ما لا يختص بباب كقولنا:
(اليقين لا يرفع بالشك) ومنها ما يختص كقولنا: (كل كفارة سببها معصية فهي
على الفور).
والغالب فيما قصد بباب وقُصد به نظم صور متشابهة أن يسمى (ضابطاً). وأما
من حيث الاتفاق على مضمون القاعدة والاختلاف فيها فهي تنقسم إلى مرتبتين:
المرتبة الأولى: القواعد المتفق على مضمونها عند جميع الفقهاء ومختلف المذاهب.
فمن قواعد هذه المرتبة: كل القواعد الكلية الكبرى وأكثر القواعد الأخرى.
المرتبة الثانية: القواعد المذهبية التي تختص بمذهب دون مذهب أو يعمل
بمضمونها بعض الفقهاء دون الآخرين مع شمولها وسعة استيعابها لكثير من مسائل
الفقه من أبواب مختلفة.
وهذه تعتبر من أسباب اختلاف الفقهاء من إصدار الأحكام تبعاً لاختلاف النظرة في مجال تعليل الأحكام.
ومن أمثلة هذه المرتبة: قاعدة: (لا حجة مع الاحتمال الناشئ عن دليل).
وأساسها قولهم: (إن التهمة إذا تطرقت إلى فعل الفاعل حكم بفساد فعله). وهذه
القاعدة يعمل بها الحنفية والحنابلة دون الشافعية، وقد يعمل بها المالكية
ضمن قيود، ومنها عند الحنفية: (الأصل أن جواز البيع يتبع الضمان).
وأما عند الشافعي: (فإن جواز البيع يتبع الطهارة). ويأتي بيان ذلك في موضعه إن شاء الله.
مسألة: رأينا أن القواعد ذوات المجال الضيق (أي التي تختص بباب أو جزء
باب) هي ضوابط إذ مجالها التطبيقي بعض الفروع الفقهية من باب واحد من أبواب
الفقه، أو هي تختص بنوع من الأحكام الفرعية لا يعمم في غير مجاله.
ومثال الضابط: (إن المحرم إذا أخر النسك عن الوقت الموقت له أو قدَّمه لزمه دم).
وهذا الضابط عند أبي حنيفة رحمه الله، وخالفه في ذلك الفقهاء الآخرون ومنهم تلميذاه أبو يوسف ومحمد بن الحسن.
فما الفروق بين القاعدة والضابط؟
مع أن الفقهاء كثيراً ما يستعملون لفظ (القاعدة) ويعنون بها الضابط،
ويستعملون لفظ (الضابط) ويعنون به القاعدة، فالملاحظ أن بين القاعدة
والضابط فرقين رئيسين هما:
الفرق الأول: أن القاعدة (كما سبق) تجمع فروعاً من أبواب شتى ويندرج
تحتها من مسائل الفقه ما لا يحصى، وأما الضابط فإنه مختص بباب واحد من
أبواب الفقه تعلل به مسائله، أو يختص بفرع واحد فقط.
الفرق الثاني: أن القاعدة في الأعم الأغلب متفق على مضمونها بين المذاهب أو أكثرها.
وأما الضابط فهو يختص بمذهب معين (إلا ما ندر عمومه) بل منه ما يكون وجهة
نظر فقيه واحد في مذهب معين قد يخالفه فيه فقهاء آخرون من نفس المذهب، كما
سبق في الضابط المتقدم.
-- المقدمة الخامسة:
-- مصادر القواعد الفقهية:
أعني بمصادر القواعد الفقهية منشأ كل قاعدة منها وأساس ورودها.
تنقسم مصادر القواعد الفقهية إلى أقسام ثلاثة رئيسية:
القسم الأول: قواعد فقهية مصدرها النصوص الشرعية من كتاب وسنة، فما كان
مصدره نصاً من الكتاب الكريم هو أعلى أنواع القواعد وأولاها بالاعتبار حيث
إن الكتاب الكريم هو أصل الشريعة وكليتها وكل ما عداه من الأدلة راجع إليه،
فمن آيات الكتاب التي جرت مجرى القواعد:
1. قوله تعالى: (وأحلَّ الله البيعَ وحرَّم الرِبا). البقرة، آية (275)
فقد جمعت هذه الآية على وجازة لفظها أنواع البيوع ما أحل منها وما حرَّم
عدا ما استثنى.
2. ومنها قوله تعالى: (ولا تأكلوا أموالكُم بينَكم بالباطل). البقرة، آية
(188). فهذه قاعدة شاملة لتحريم كل تعامل وتصرف يؤدي إلى أكل أموال الناس
وإتلافها بالباطل من غير وجه مشروع يحله الله ورسوله، كالسرقة والغصب،
الربا، والجهالة، والضرر، والغرر، فكل عقد باطل يعتبر نوعاً من أكل أموال
الناس بالباطل.
3. ومنها قوله تعالى: (خُذِ العفو وأمُر بالعُرفِ وأعرِض عَنِ الجاهلين). الأعراف، آية (199).
فكما قال القرطبي وغيره: هذه الآية من ثلاث كلمات (أي جُمَل) تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات.
فقوله سبحانه: (خُذِ العَفو) دخل فيه صلة القاطعين، والعفو عن المذنبين، والرفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق المطيعين.
ودخل في قوله: (وَأمُر بالعُرفِ) صلة الأرحام وتقوى الله في الحلال والحرام وغض الأبصار، والاستعداد لدار القرار.
وفي قوله: (وأَعرِض عن الجاهلين) الحض على التعلق بالعلم، والإعراض عن
أهل الظلم، والتنزه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة الأغبياء، وغير ذلك
من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة.
وهذه الآية هي الجامعة لمكارم الأخلاق. قال جعفر الصادق: أمر الله نبيه
بمكارم الأخلاق في هذه الآية، وليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من
هذه الآية.
4. ومنها قوله تعالى: (يا أيها الذينَ آمنوا أوفُوا بالعُقُودِ).
المائدة، آية (1). فالأمر يقتضي الوفاء بكل عقد مشروع، واحترام كل ما يلتزم
به الإنسان مع الناس.
5. قوله تعالى في الآية الجامعة الفاذة: (فَمَن يعمل مِثقال ذرَّةٍ خيراً
يَرَه ومن يعمل مِثقالَ ذرةٍ شراً يَرَه). الزلزلة، الآيتان (7 و.
وغير ذلك في كتاب الله كثير.
ومن الأحاديث الشريفة الجامعة التي جرت مجرى القواعد إلى جانب مهمتها
التشريعية فإن الرسول صلى الله عليه وسلم أوتي جوامع الكلم واختصر له
الكلام اختصاراً.
1. قوله عليه الصلاة والسلام وقد سئل عن حكم أنواع من الأشربة فقال عليه
الصلاة والسلام: (كل مسكر حرام). فدل هذا الحديث على وجازة لفظه على تحريم
كل مسكر من عنب أو غيره مائع أو جامد، نباتي أو حيواني أو مصنوع.
2. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام: (لا ضرر ولا ضرار). القاعدة الكلية
الكبرى، فهذا الحديث نص في تحريم الضرر بأنواعه لأن لا النافية تفيد
استغراق الجنس فالحديث وإن كان خبراً لكنه في معنى النهي، فيصير المعنى
(اتركوا كل ضرر وكل ضرار).
3. ومنها قوله عليه الصلاة والسلام (المسلمون عند شروطهم) فظاهر المعنى
وجوب احترام كل ما رضيه المتعاقدان من الشروط، إلا الشروط التي تحل الحرام
أو تحرم الحلال، كما ورد في رواية.
القسم الثاني: ما كان من غير النصوص: وهو أنواع:
النوع الأول: قواعد فقهية مصدرها الإجماع المستند إلى الكتاب والسنة، فمن أمثلة قواعد هذا المصدر:
1. قولهم: (لا اجتهاد مع النص) فهذه القاعدة تفيد تحريم الاجتهاد في حكم
مسألة ورد فيها نص من الكتاب أو السنة أو الإجماع لأنه إنما يحتاج للاجتهاد
عند عدم وجود النص، أما عند وجوده فلا اجتهاد إلا في فهم النص ودلالته.
2. قولهم (الاجتهاد لا ينتقض بمثله) أو بالاجتهاد وهذا أمر مجمع عليه
والمراد أن الأحكام الاجتهادية إذا فصلت بها الدعوى على الوجه الشرعي ونفذت
أنه لا يجوز نقضها بمثلها لأن الاجتهاد الثاني ليس أولى من الاجتهاد
الأول، ولأنه إذا نقض الأول جاز أيضاً نقض الثاني بثالث والثالث بغيره فلا
يمكن أن تستقر الأحكام.
ولكن إذا تبين مخالفة الاجتهاد للنص الشرعي أو لمخالفته طريق الاجتهاد الصحيح، أو وقوع خطأ فاحش، فينقض حينئذٍ.
النوع الثاني: وهو قسمان:
الأول: قواعد فقهية أوردها الفقهاء المجتهدون مستنبطين لها من أحكام
الشرع العامة ومستدلين لها بنصوص تشملها من الكتاب والسنة والإجماع ومعقول
النصوص مثل:
1. قاعدة (الأمور بمقاصدها) مستدلين لها بقوله عليه الصلاة والسلام:
(إنما الأعمال بالنيات) وقد جعلنا هذا الحديث رأس القاعدة وعنواناً دالاً
عليها لا دليلاً لها، وصُدِّرت به موسوعة القواعد الفقهية تيمناً واقتداء.
ومثل قاعدة (اليقين لا يزول بالشك) المستَدَلّ لها بأحاديث كثيرة عن رسول
الله صلى الله عليه وسلم، مثل قوله عليه الصلاة والسلام (إذا شك أحدكم في
صلاته فلم يدر كم صلى أثلاثاً أم أربعاً، فليطرح الشك وليبن على ما
استيقن). الحديث.
ومثل قاعدة: (المشقة تجلب التيسير) وهي قاعدة رفع الحرج وقاعدة الرخص الشرعية.
وأدلتها كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
ومثل قاعدة: (العادة محكَّمة) وهي قاعدة اعتبار العرف وتحكيمه فيما لا نص
فيه وأدلتها من الكتاب والسنة والإجماع كثيرة منها قوله تعالى: (خُذ العفو
وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين). الأعراف، آية (199).
وقوله سبحانه (وعاشِروهن بالمعروف). النساء، آية (19).
ومنها قوله صلى الله عليه وسلم لهند (خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف).
ومنها قاعدة: (إعمال الكلام أولى من إهماله) ومن أدلتها قوله تعالى: (ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد). ق. آية (18).
وقوله عليه الصلاة والسلام: (إن الله تعالى عند كل لسان قائل فليتق الله عبد ولينظر ما يقول). إحدى روايات الحديث.
الثاني: قواعد فقهية أوردها الفقهاء المجتهدون في مقام الاستدلال القياسي
الفقهي، حيث تعتبر تعليلات الأحكام الفقهية الاجتهادية ومسالك الاستدلال
القياسي عليها، أعظم مصدر لتقعيد هذه القواعد وإحكام صيغها عند استقرار
المذاهب الفقهية الكبرى وانصراف أتباعها إلى تحريرها وترتيب أصولها
وأدلتها، كما قال أستاذنا الزرقا.
وهذه القواعد التي استنبطها الفقهاء المتأخرون من خلال أحكام المسائل
التي أوردها أئمة المذاهب في كتبهم أو نقلت عنهم لا تخرج عن نطاق أدلة
الأحكام الشرعية الأصلية أو التبعية الفرعية، فالناظر لهذه القواعد والباحث
عن أدلة ثبوتها وأساس التعليل بها يراها تندرج كل منها تحت دليل شرعي إما
من الأدلة المتفق عليها كالكتاب والسنة والإجماع، وإما من الأدلة الأخرى
كالقياس والاستصحاب والمصلحة أو الاستصلاح والعرف، والاستقراء، وغير ذلك
مما يستدل به على الأحكام؟ لأنه لا يعقل ويستبعد جداً أن يبني فقيه مجتهد
حكماً لمسألة فقهية، أو يعلل لمسائل فقهية معتمداً على مجرد الرأي غير
المدعوم بأدلة الشرع أو معتمداً على الهوى والتشهي، فهم رحمة الله عليهم
كانوا أجلَّ وأورع وأتقى وأخشى لله من أن يفتي أحدهم أو يحكم في مسألة أو
يقضي بحكم غير مستند إلى دليل شرعي مقرر، وسواء اتفق عليه أم اختلف الفقهاء
في اعتباره فمن استند إلى القياس لا يقال: إنه حكم بغير ما أنزل الله: لأن
هناك من يُنكر القياس ولا يعمل به.
وكذلك من استند في حكمه إلى المصلحة الغالبة أو مصلحة غلب على ظنه وجودها
لا يقال: إن حكمه مخالف للشرع لأن غيره من الفقهاء قد لا يعمل بالمصلحة
ولا يستدل بها، أو لا يرى في هذه المسألة مصلحة، وكذلك بالنسبة للعرف أو
قول الصحابي، أو شرع من قبلنا، أو سد الذرائع أو الاستقراء أو غير ذلك من
الأدلة أو مواطن الاستدلال التي ما عمل بها من عمل إلا مستدلاً لها بأدلة
من الكتاب أو السنة أو المعقول المبني على قواعد الشرع وحِكمه.
من أمثلة هذه القواعد المستنبطة والمعلل بها قولهم:
1. (إنما يثبت الحكم بثبوت السبب) هذه قاعدة أصولية فقهية استنبطها
الفقهاء المجتهدون من الإجماع ومعقول النصوص، فمثلاً: يثبت وجوب صلاة الظهر
وتعلقها في ذمة المكلف بزوال الشمس، فزوال الشمس سبب لثبوت الوجوب للصلاة،
فلو لم يثبت الزوال لم يثبت الوجوب، وقد يستدل لها بقوله تعالى: (أقِم
الصلاة لِدُلوكِ الشمس) الإسراء، آية (78) ومنها قولهم: (الأيمان في جميع
الخصومات موضوعة في جانب المدعى عليه إلا في القسامة).
وهذه القاعدة مستنبطة من الحديث: (البينة على المدعي واليمين على
المدَّعى عليه)، ومنها قولهم: (إذا اجتمعت الإشارة والعبارة واختلف موجبهما
غُلِّبت الإشارة).
هذه القاعدة مستنبطة من المعقول والعرف.
ومنها قولهم: (إذا وجبت مخالفة أصل أو قاعدة وجب تقليل المخالفة ما أمكن).
فهذه القاعدة مستنبطة من معقول النصوص الرافعة للحرج والمشقة مثل قوله تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها). البقرة، آية (286).
ومثل قوله عليه الصلاة والسلام: (إذا أمرتكم بشيء فخذوا منه ما استطعتم).
-- المقدمة السادسة:
-- حكم الاستدلال بالقواعد الفقهية على الأحكام:
هذه المسألة على جانب كبير من الأهمية حيث تتعلق بأمر عظيم وهو مصادر
الأحكام وأدلتها، وهل تعتبر القواعد الفقهية أحد أدلة الأحكام فيستند إليها
عند عدم وجود نص أو إجماع أو قياس في المسألة؟
وبعبارة أخرى: هل يجوز أن تجعل القاعدة الفقهية دليلاً شرعياً يستنبط منه حكم شرعي؟
وفي التقرير الذي صدرت به مجلة الأحكام العدلية قالوا: (فحكام الشرع ما
لم يقفوا على نقل صريح لا يحكمون بمجرد الاستناد إلى واحدة من هذه القواعد،
إلا أن لها فائدة كلية في ضبط المسائل، فمن اطلع عليها من المطالعين يضبط
المسائل بأدلتها، وسائر المأمورين يرجعون إليها في كل خصوص.
وبهذه القواعد يمكن للإنسان تطبيق معاملاته على الشرع الشريف أو في الأقل التقريب.
وقالوا: أيضاً في المقالة الأولى من المقدمة وهي المادة الأولى من مواد
المجلة: إن المحققين من الفقهاء قد أرجعوا المسائل الفقهية إلى قواعد كلية،
كل منها ضابط وجامع لمسائل كثيرة، وتلك القواعد مُسلمة معتبرة في الكتب
الفقهية تتخذ أدلة إثبات المسائل وتفهمها في بادئ الأمر، فذكرها يوجب
الاستئناس بالمسائل ويكون وسيلة لتقررها في الأذهان.
وقال ابن نجيم في الفوائد الزينية كما نقله عنه الحموي في غمز عيون
البصائر: لا يجوز الفتوى بما تقتضيه الضوابط لأنها ليست كلية بل أغلبية،
خصوصاً وهي لم تثبت عن الإمام بل استخرجها المشايخ من كلامه.
وقال استاذنا الجليل الشيخ مصطفى الزرقا:
ولذلك كانت تلك القواعد الفقهية قلما تخلو إحداهما من مستنيات في فروع
الأحكام التطبيقية خارجة عنها، إذ يرى الفقهاء أن تلك الفروع المستثناة من
القاعدة هي أليق بالتخريج على قاعدة أخرى، أو أنها تستدعي أحكاماً
استحسانية خاصة، ومن ثم لم تسوغ المجلة أن يقتصر القضاة في أحكامهم على
الاستناد إلى شيء من هذه القواعد الكلية فقط دون نص آخر خاص أو عام يشمل
بعمومه الحادثة المقضي فيها، لأن تلك القواعد الكلية على ما لها من قيمة
واعتبار هي كثيرة المستثنيات، فهي دساتير للتفقيه لا نصوص للقضاء.
فهذه النقول وأمثالها تفيد أنه لا يسوغ اعتبار القواعد الفقهية أدلة شرعية لاستنباط الأحكام لسببين:
الأول: أن هذه القواعد ثمرة للفروع المختلفة وجامع ورابط لها، وليس من
المعقول أن يجعل ما هو ثمرة وجامع دليلاً لاستنباط أحكام الفروع.
الثاني: أن معظم هذه القواعد لا تخلو عن المستثنيات، فقد تكون المسألة
المبحوث عن حكمها من المسائل والفروع المستثناة، ولذلك لا يجوز بناء الحكم
على أساس هذه القواعد، ولا يسوغ تخريج أحكام الفروع عليها، ولكنها تعتبر
شواهد مصاحبة للأدلة يستأنس بها في تخريج الأحكام للوقائع الجديدة قياساً
على المسائل الفقهية الدوَّنة، هكذا قالوا:
وأقول: هذا الذي قالوه لا يؤخذ على إطلاقه حيث إن القواعد الفقهية تختلف
من حيث أصولها ومصادرها أولاً، ثم من حيث وجود الدليل على حكم المسألة
المبحوث عنها ثانياً، فمن حيث أصول القواعد ومصادرها فقد عرفنا في المقدمة
السابقة أن من القواعد الفقهية ما كان أصله ومصدره من كتاب الله سبحانه
وتعالى أو من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم. أو يكون مبنياً على أدلة واضحة
من الكتاب والسنة المطهرة، أو مبنياً على دليل شرعي من الأدلة المعتبرة
عند العلماء، أو تكون القاعدة مبنية على الاستدلال القياسي وتعليل الأحكام.
فإذا كانت القاعدة نصاً قرآنياً كريماً فهي قبل أن تكون قاعدة أو تجري
مجرى القواعد فهي دليل شرعي بالاتفاق فهل إذا جرى النص القرآني مجرى
القاعدة خرج عن كونه دليلاً شرعياً معمولاً به، ولا يجوز تقديم غيره عليه؟
من أمثلة ذلك قوله سبحانه وتعالى: (وأحل اللهُ البيعَ وحرَّم الربا). البقرة، آية (275).
فهذا النص الكريم دليل شرعي يفيد حل البيع وحرمة الربا، وهو في نفس الوقت
يصلح قاعدة فقهية تشمل أنواع البيوع المختلفة ومسائل الربا المتعددة، كما
يستثنى منها بعض أنواع البيوع المحرمة، وبعض مسائل الربا إما بالنص وإما
بالتخريج.
ومن السنة حديث (لا ضرر ولا ضرار) وحديث (الخراج بالضمان).
وحديث: (البينة على المدعي واليمين على المدعى عليه) وغيرها كثير.
فهذه أدلة شرعية وقواعد فقهية يمكن الاستناد إليها في استنباط الأحكام وإصدار الفتاوى وإلزام القضاء بها.
ولعل هذا لم يفت الفقهاء الذين وضعوا المجلة حيث قالوا: (فحكام الشرع ما
لم يقفوا على نقل صريح) فلعلهم أشاروا بذلك إلى تلك القواعد التي هي في
الأصل نصوص تشريعية، وكذلك ما أشار إليه الأستاذ الزرقا مد الله في عمره في
الخير حين قال: ومن ثم لم تسوِّغ المجلة أن يقتصر القضاة في أحكامهم على
الاستناد إلى شيء من هذه القواعد الكلية فقط دون نص آخر خاص أو عام.
ولكن الإجمال هنا موهم والتفصيل مطلوب.
وأما ما ذكر في المقالة الأولى من المقدمة وما نقله الحموي عن ابن نجيم
في الفوائد الزينية فهو عام في عدم جواز الفتوى بما تقتضيه هذه القواعد،
ومما ينبني على أدلة واضحة من الكتاب والسنة والإجماع.
قاعدة: (اليقين لا يزول بالشك).
قاعدة: الضرر يزال.
قاعدة: الأمور بمقاصدها.
وقاعدة: المشقة تجلب التيسير.
وأمثال هذه القواعد فهي تشبه الأدلة وقوتها بقوة الأدلة المعتمدة عليها، فلا يمنع من الاحتكام إليها.
وأما إذا كانت القاعدة مبنية على دليل شرعي من الأدلة التي اختلف في
اعتبارها فيجب الرجوع أولاً إلى الأدلة المتفق عليها فإذا وجد الحكم بأحدها
يستأنس بالقاعدة ولا يحكم بها، وإلا نظر إلى الدليل الذي بنيت عليه
القاعدة فإن أمكن إعطاء المسألة حكماً بموجبه (عن من يعتبرونه دليلاً) كان
بها واعتبرت القاعدة دليلاً تابعاً يستأنس به.
وأما من حيث عدم وجود دليل شرعي لمسألة بعينها أو نص فقهي، أو دليل
أصولي، ووجدت القاعدة الفقهية التي تشملها، فحينئذٍ هل تعتبر القاعدة
الفقهية الاجتهادية دليلاً شرعياً يمكن استناد الفتوى والقضاء إليه؟
قلت سابقاً: إن القواعد الاجتهادية استنبطها العلماء المجتهدون من معقول
النصوص والقواعد العامة للشريعة، أو بناء على مصلحة رأوها أو عرف اعتبروه،
أو استقراء استقرأوه فعلى من تعرَّض لمثل هذه المسائل أن يكون على جانب
كبير من الوعي والإدراك والأحاطة بالقواعد الفقهية وما بنيت عليه كل قاعدة
أو استنبطت منه، وما يمكن أن يستثنى من كل قاعدة حتى لا يدرج تحت القاعدة
مسألة يقطع أو يظن خروجها عنها.
وأما اعتلاهم بأن القواعد الفقهية ثمرة للأحكام الفرعية المختلفة وجامع
لها ولذلك لا يصح أن تجعل دليلاً لاستنباط أحكام هذه الفروع، أقول: إن كل
قواعد العلوم إنما بنيت على فروع هذه العلوم وكانت ثمرة لها، وأقرب مثال
لذلك قواعد الأصول وخاصة عند الحنفية حيث استنبطت من خلال أحكام المسائل
الفرعية المنقولة عن الأئمة الأقدمين، ولم يقل أحد إنه لا يجوز لنا أن
نستند إلى تلك القواعد لتقرير الأحكام واستنباطها.
وكذلك قواعد اللغة العربية التي استنبطها علماء اللغة من خلال ما نطق به
العرب الفصحاء قبل أن تشوب ألسنتهم العجمة واللحن، وهي القواعد التي يستند
إليها في استنباط أحكام اللغة والبناء عليها.
ولم يقل أحد إن هذه القواعد لا تصلح لاستنباط أحكام العربية لأنها ثمرة للفروع الجزئية.
وأما احتجاجهم بأن القواعد الفقهية كثيرة المستثنيات فيمكن أن يستنبط حكم
المسألة من قاعدة وتكون هذه المسألة خارجة ومستثناة عن تلك القاعدة فهذا
قد أجبنا عنه فيما سبق.
وقد قال القرافي رحمه الله في حديثه عن أدلة مشروعية الأحكام قال:
الاستدلال هو محاولة الدليل المفضي إلى الحكم الشرعي من جهة القواعد لا من
جهة الأدلة المنصوبة وفيه قاعدتان: قال: القاعدة الثانية: (إن الأصل في
المنافع الإذن، وفي المضار المنع) بأدلة السمع لا بأدلة العقل (خلافاً
للمعتزلة) وقد تعظم المنفعة فيصحبها الندب أو الوجوب مع الإذن، وقد تعظم
المضرة فيصحبها التحريم على قدر رتبتها، فيستدل على الأحكام بهذه القاعدة
إلى أن قال: يعلم ما يصحبه الوجوب أو الندب أو التحريم أو الكراهة من
الشريعة وما عهدناه من تلك المادة. (والله أعلم).
-- المقدمة السابعة:
-- نشأن القواعد الفقهية وتدوينها وتطورها:
عند الحديث عن مصادر القواعد الفقهية تبين أن من القواعد الفقهية ما أصله
من نصوص الكتاب العزيز، أو من نصوص السنة النبوية المطهرة حيث جرى كثير
منها مجرى القواعد كما جرى كثير مننها مجرى الأمثال.
وإلى جانب ذلك أثر عن فقهاء الصحابة رضوان الله عليهم وكثير من أئمة
التابعين ومن جاء بعدهم من كبار أتباعهم عبارات وردت إما عند تأصيل مبدأ
وإما عند تعليل أحكام، وهذه العبارات كانت أساساً لما سمي فيما بعد
بالقواعد الفقهية.
ولما كان ما عدا ذلك ناتجاً عن اجتهادات للفقهاء في تعليل الأحكام
وتأصيلها فإنه لا يعرف لكل قاعدة فقية معروف وقائل لها؛ لأن هذه القواعد لم
توضع كلها جملة واحدة على يد هيئة واحدة أو لجنة واحدة كما توضع النصوص
القانونية في وقت معين على أيدي أناس معلومين.
ولكن هذه القواعد تكونت مفاهيمها وصيغت نصوصها بالتدريج في عصر ازدهار
الفقه ونهضته على أيدي كبار فقهاء المذاهب من أهل التخريج والترجيح
استنباطاً من دلالات النصوص الشرعية، وعلل الأحكام وأسرار التشريع
والمقررات العقلية، والمعاني الفقهية لهذه القواعد كانت مقررة في أذهان
الأئمة المجتهدين يعللون بها ويقيسون عليها، وقد كانت تسمى عندهم أصولاً.
ولعل أقدم مصدر فقهي يسترعي انتباه الباحث في هذا المجال هو (كتاب
الخراج) الذي ألَّفه الإمام أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري أكبر
تلاميذ الإمام أبي حنيفة وحامل لواء المذاهب بعده ورئيس قضاة الدولة
الإسلامية في عهد الخليفة هارون الرشيد، وقد ألف أبو يوسف كتابه هذا
للخليفة هارون الرشيد ليجعل نظاماً وقانوناً تسير عليه الدولة في تنظيم
الخراج ومعاملة أهل الذمة، وقد اشتمل هذا الكتاب على عدد من العبارات التي
جرت مجرى القواعد بل كانت أساساً بنى عليه من جاء بعده.
ولما كان المقصود من تأليف هذا الكتاب تيسير علم القواعد على العلماء
والفقهاء وطلاب العلم، ولما كان وضع هذه المقدمات لتعطي الدارس صورة واضحة
عن هذا العلم ومبادئه، ولما كان المقصد وجه الله سبحانه وابتغاء مرضاته
رأيت أن أوفى بحث في هذا الجانب وهذه المقدمة هو ما كتبه الأخ الفاضل
الدكتور علي بن أحمد الندوي في كتابه القواعد الفقهية: نشأتها، تطورها،
دراسة مؤلفاتها، وهو الكتاب الذي قدمه لجامعة أم القرى للحصول على درجة
الماجستير، وليس وراء هذا البحث زيادة لمستزيد رأيت أن أعتمد عليه في بيان
هذه المقدمة لما اشتمل عليه من أبحاث جليلة مفيدة نافعة والحكمة ضالة
المؤمن، قال حفظه الله: ولما توغلت في بحوث الكتاب (يعني كتاب الخراج) وقفت
على عبارات رشيقة تتسم بسمات وشارات تتسق بموضوع القواعد من حيث شمول
معانيها وفيما يلي أورد طرفاً منها:
1. التعزيز إلى الإمام على قدر عِظَم الجرم وصِغَرهِ.
يقول عند تعرّضه لمسائل تتعلق بالتعزيز: (وقد اختلف أصحابنا في التعزيز
قال بعضهم: لا يبلغ به أدنى الحدود أربعين سوطاً، وقال بعضهم: أبلغ
بالتعزيز خمسة وسبعين سوطاً، أنقص من حد الحُرِّ وقال بعضهم: أبلغ به أكثر.
وكان أحسن ما رأينا في ذلك والله أعلم: أن التعزيز إلى الإمام على قدر
عِظَم الجرم وصِغَره).
فهنا بعد أن سجَّل الخلاف القائم بين فقهاء ذلك العصر في موضوع التعزيز
نحا الإمام أبو يوسف منحى جديداً، وهو أن وضع أصلاً في هذا الباب بتفويض
الأمر إلى الحاكم، بحيث سوَّغ له أن يُقدِّر التعزيز في ضوء الملابسات
المحيطة بالجرم وصاحبه.
2. (كل من مات من المسلمين لا وارث له، فماله لبيت المال). لا شك أن هذه
العبارة كسابقتها تقرر قاعدة قضائية مهمَّة، وهي بمثابة شاهد على وجود
قواعد جرت على أقلام الأقدمين مصوغة بصياغات مُحكمة.
3. (ليس للإمام أن يُخرج شيئاً من يد أحدٍ إلا بحق ثابت معروف) هذه
العبارة نظيرة للقاعدة المشهورة المتداولة (القديم يترك على قِدَمِه).
ويمكن أن تكتسب العبارة سِمة القاعدة بعد تعديل طفيف فيها على النحو التالي: (لا يُنزَع شيء من يد أحد إلا بحقٍ ثابتٍ معروف).
4. (ليس لأحد أن يُحدِث مرجاً في ملك غيره، ولا يتخذ فيه نهراً ولا بئراً ولا مزرعة، إلا بإذن صاحبه، ولصاحبه أن يُحدث ذلك كله).
إذا نظرت في هذه العبارة ثم سرَّحت طرفك في القواعد المتداولة في الحِقبة الأخيرة، لمحت فيها شبيهاً للكلام المذكور.
وذلك الشبيه ما جاء في قواعد مجلة الأحكام العدلية أنه: (لا يجوز لأحد أن يتصرف في ملك الغيرة أو حقه بلا إذنه).
وبجانب آخر يظهر عند الموازنة بين النصين أن عبارة كتاب الخراج تفيد
الحظر على التصرف الفعلي في ملك الغير في حين أن قاعدة المجلة يتسع نطاقها
إلى منع التصرف القولي مع التصرف الفعلي.
وكل ذلك يساعد على فهم التطور المثمر المتواصل في مجال هذا العلم.
5. (لا ينبغي لأحد أن يُحْدِث شيئاً في طريق المسلمين مما يضرّهم، ولا
يجوز للإمام أن يقطع شيئاً مما فيه الضرر عليهم ولا يسعه ذلك).
هذه العبارة يتحقق فيها معنى القاعدة باعتبار أن الشطر الأول منها تعلق
بقواعد رفع الضرر، والشطر الثاني يتمثل فيه مفهوم القاعدة الشهيرة: التصرف
على الرعية منوط بالمصلحة.
6. وإن أقرَّ بحق من حقوق الناس من قذف، أو قصاص في نفس، أو دونها أو
مال، ثم رجال عن ذلك نُفذ عليه الحكم فيما كان أقرَّ به، ولم يبطل شيء من
ذلك برجوعه.
هذه العبارة كسابقتها وردت في صيغة مطولة، لكنها تصوِّر في معنى الكلمة مدلول القاعدة المتداولة: (المرء مؤاخذ بإقراره).
7. (كل ما فيه مصلحة لأهل الخراج في أراضيهم وأنهارهم، وطلبوا إصلاح ذلك لهم، أجيبوا إليه، إذا لم يكن فيه ضرر على غيرهم).
وبعد التأمل في تلك العبارات وأشباهها يمكن القول بأن فكرة التأصيل كانت
مركوزة في أذهان المتقدمين، وإن لم تظهر في صورة جليّة لعدم الحاجة إليها
كثيراً.
وكذلك من أقدم ما وصل إلينا من تلك المصادر بعض كتب الإمام محمد بن الحسن الشيباني (189 ه).
فإذا أمعنا النظر في كتاب الأصل ألْفيناه يعلل المسائل وهذا التعليل كثيراً ما يقوم مقام التقعيد.
وإليك مقتبسات من الكتاب المذكور، حتى يتبين كيف يوصل الأحكام ويقرنها بقواعدها.
ويقول في مبحث (الاستحسان): ولو أن رجلاً كان متوضئاً، فوقع في قلبه أنه
أحدث وكان ذلك أكبر رأيه، فأفضل ذلك أن يعيد الوضوء، وإن لم يفعل وصلى على
وضوئه الأول، كان عندنا في سعة، لأنه عندنا على وضوء حتى يستيقن بالحدث.
وإن أخبره أحد مسلم ثقة، أو امرأة ثقة مسلمة حرة أو مملوكة: أنك أحدثت أو
نمت مضطجعاً، أو رعفت، لم ينبغ له أن يصلي هكذا، ولا يشبه هذا ما وصفت لك
قبله من الحقوق، لأن هذا أمر الدين، الواحد فيه حجة إذا كان عدلاً، والحقوق
لا يجوز فيها إلا ما يجوز في الحكم.
فإذا تأملنا في هذا النص وجدناه يعلل الحكم، بأكبر الرأي، وهو الظن
الغالب وبناء عليه يفضل إعادة الوضوء في الصورة المذكورة ثم يفتي بجواز
الصلاة إن لم يعد الوضوء بناء على القاعدة المقررة (اليقين لا يزول بالشك).
هذا في الفقرة الأولى، أما الفقرة الثانية فهو ينص فيها على أصلين:
أولاً: كون خبر الواحد حجة في أمر الدين إذا كان عدلاً، ولقد ذكر هذه
القاعدة في موضع آخر فقال: (ما كان من أمر الدين، الواحد فيه حجة، إذا كان
عدلا).
ثانياً: الحقوق لا يجوز فيها إلا ما يجوز في الحكم، أي لا يكفي فيها قول
واحد ولو كان عدلاً، كما في أمر الدين، بل لا بد من شاهدين كما في الحكم،
والله أعلم.
ولا شك أن مثل هذا المنهج في التعليل أقرب ما يكون إلى منهج التقعيد الذي وجد في القرون المتأخرة.
وأحياناً نجده يسلك طريق البدء بالقاعدة ويفرِّع بعض المسائل عليها كما يتمثل ذلك في النص التالي.
3. وكل أمر لا يحل إلا بملك أو نكاح فإنه لا يحرم بشيء، حتى ينتقض النكاح
والملك، ولا يكون الرجل الواحد المسلم ولا المرأة في لك حجة، إنه إنما حل
من وجه الحكم ولا يحرم إلا من الوجه الذي حل به منه.
ألا ترى أن عقدة النكاح وعقدة الملك لا ينقضهما في الحكم إلا رجلان أو
رجل وامرأتان، فإن كان الذي يحل بذلك لا يحل إلا به لم يحرم حتى ينتقض الذي
حل، وكل أمر يحل بغير نكاح ولا ملك إنما يحل بالإذن فيه، فأخبر رجل مسلم
ثقة أنه حرام فهو عندنا حجة في ذلك، ولا ينبغي أن يؤكل ولا يشرب ولا يتوضأ
منه.
وقد وجدت هناك قواعد جامعة أخرى جرت على لسانه عند التعليل والتوجيه لبعض الأحكام، وإليك نماذج منها.
4. كل من له حق فهو له على حاله حتى يأتيه اليقين على خلاف ذلك.
واليقين أن يعلم أو يشهد عنده الشهود العدول.
5. التحري يجوز في كل ما جازت فيه الضرورة.
وبناء على ذلك إذا اشتبه عليه الطاهر بالنجس لم يجب عليه أن يتحرى في أحدهما للوضوء وينتقل إلى البدل وهو التيمم بخلاف الشرب.
6. (لا يجتمع الأجر والضمان) فانظر إلى هذه القواعد كيف أُحكم نسجها
وصقلت صياغتها وإن منها ما يماثل تماماً الأسلوب الذي راج وشاع في كتب
المتأخرين عند التقعيد على سبيل المثال قوله: (لا يجتمع الأجر والضمان) فقد
عبرت عنه
مواضيع مماثلة
» الوجيز فى اصول الفقه"الجزء الثانى"
» أصول الفقه الفقه هو مجموعة القواعد
» اصول البزدوى .دلالات الظاهر
» - أصول الفقه :
» قواعد الفقه الكليه
» أصول الفقه الفقه هو مجموعة القواعد
» اصول البزدوى .دلالات الظاهر
» - أصول الفقه :
» قواعد الفقه الكليه
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin