بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 34 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 34 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
: قتال الفئة الباغية أو الخارجين على الدولة
صفحة 1 من اصل 1
: قتال الفئة الباغية أو الخارجين على الدولة
الحلقة [ 95 ] : الباب التاسع : القتال داخل الدائرة الإسلامية
الفصل الثاني : قتال الفئة الباغية أو الخارجين على الدولة (2 من 3)
• السبيل الذي يُسلك مع مَن خرج على الإمام:
قال أبو القاسم الخِرَقِي، رحمه الله: (وإذا اتَّفق المسلمون على إمام، فمَن خرج عليه من المسلمين يطلب موضعه، حوربوا، ودفعوا بأسهل ما يندفعون به).
قال العلاَّمة ابن قدامة في شرحه: (وجملة الأمر: أن مَن اتَّفق المسلمون على إمامته وبيعته، ثبتت إمامته، ووجبت معونته؛ لما ذكرنا من الحديث والإجماع، فإن أبا بكر ثبتت إمامته بإجماع الصحابة على بيعته، وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه، وأجمع الصحابة على قَبوله.
ولو خرج رجل على الإمام، فقهره، وغلب الناس بسيفه حتى أقرُّوا له، وأذعنوا بطاعته، وبايعوه، صار إمامًا يحرم قتاله، والخروج عليه[1] . فإن عبد الملك بن مروان، خرج على ابن الزبير، فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بايعوه طوعًا وكرهًا، فصار إمامًا يحرم الخروج عليه؛ وذلك لما في الخروج عليه من شقِّ عصا المسلمين، وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم، ويدخل الخارج عليه في عموم قوله عليه السلام: "مَن خرج على أمتي، وهم جميع، فاضربوا عنقه بالسيف، كائنًا مََن كان"[2] . فمَن خرج على مَن ثبتت إمامته بأحد هذه الوجوه باغيًا، وجب قتاله.
• إزالة المظالم وإزاحة الشبهات قبل القتال:
ولا يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم مَن يسألهم، ويكشف لهم الصواب، إلا أن يخاف كَلَبَهم (شدَّتهم)؛ فلا يمكن ذلك في حقِّهم. فأما إن أمكن تعريفهم، عرَّفهم ذلك، وأزال ما يذكرونه من المظالم، وأزاح حججهم[3] . فإن لجُّوا، قاتلهم حينئذ؛ لأن الله تعالى بدأ بالأمر بالإصلاح قبل القتال، فقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9].
ورُوي أن عليًّا، رضي الله عنه، راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل، ثم أمر أصحابه ألا يبدؤوهم بالقتال، ثم قال: إن هذا يوم مَن فلج فيه فلج يوم القيامة. ثم سمعهم يقولون: الله أكبر، يا لثارات عثمان. فقال: اللهم أكبَّ قتلة عثمان لوجوههم[4] .
وروى عبد الله بن شدَّاد بن الهَاد: أن عليًّا لما اعتزلته الحرورية[5] ، بعث إليهم عبد الله بن عباس، فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام، أي جادلهم بالقرآن فرجع منهم أربعة آلاف[6] .
فإن أبَوا الرجوع، وعظهم، وخوَّفهم القتال؛ وإنما كان كذلك، لأن المقصود كفُّهم، ودفع شرِّهم، لا قتلهم، فإذا أمكن بمجرَّد القول، كان أولى من القتال؛ لما فيه من الضرر بالفريقين.
• إذا طلب البغاة المهلة:
فإن سألوا الإنظار، نظر في حالهم، وبحث عن أمرهم:
فإن بان له أن قصدهم الرجوع إلى الطاعة، ومعرفة الحقِّ، أمهلهم. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كلُّ مَن أحفظ عنه من أهل العلم.
وإن كان قصدهم الاجتماع على قتاله، وانتظار مَدَد يقوون به، أو خديعة الإمام، ليأخذوه على غِرة، ويفترق عسكره: لم يُنظِرهم، وعاجلهم؛ لأنه لا يأمن أن يصير هذا طرقًا إلى قهر أهل العدل، ولا يجوز هذا[7] . وإن أعطوه عليه مالاً؛ لأنه لا يجوز أن يأخذ المال على إقرارهم على ما لا يجوز إقرارهم عليه[8] .
• هل يجوز أخذ رهائن منهم؟
وإن بذل له رهائن على إنظارهم، لم يجُز أخذها لذلك؛ ولأن الرهائن لا يجوز قتلهم لغدر أهلهم، فلا يفيد شيئًا.
وإن كان في أيديهم أسرى من أهل العدل، وأعطوا بذلك رهائن منهم، قَبِلَهم الإمام، واستظهر للمسلمين؛ فإن أطلقوا أسرى المسلمين الذين عندهم، أُطلقت رهائنهم، وإن قتلوا مَن عندهم، لم يجز قتل رهائنهم؛ لأنهم لا يُقتلون بقتل غيرهم، فإذا انقضت الحرب، خلَّى الرهائن، كما الأُسارى منهم[9] .
• هل يجوز تأخير قتالهم؟ :
وإن خاف الإمام على الفئة العادلة الضعف عنهم، أخَّر قتالهم إلى أن تمكِّنه القوة عليهم؛ لأنه لا يؤمَن الاصطلام والاستئصال، فيؤخِّرهم حتى تقوى شوكة أهل العدل، ثم يقاتلهم.
وإن سألوه أن يُنظِرَهم أبدا، ويَدَعَهم وما هم عليه، ويكفُّوا عن المسلمين، نظر: فإن لم يعلم قوته عليهم، وخاف قهرهم له إن قاتلهم، تركهم. وإن قوي عليهم، لم يجُز إقرارهم على ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يترك بعض المسلمين طاعة الإمام، ولا تؤمَن قوة شوكتهم، بحيث يفضي إلى قهر الإمام العادل ومن معه.
• وجوب دفعهم بالأسهل من الوسائل:
ثم إن أمكن دفعهم بدون القتل، لم يجُز قتلهم؛ لأن المقصود دفعهم لا قتلهم؛ ولأن المقصود إذا حصل بدون القتل، لم يجُز القتل؛ من غير حاجة[10] .
• لا يُقتل مَن لا يُقاتل:
وإن حضر معهم مَن لا يقاتل؛ لم يجُز قتله. وقال أصحاب الشافعي: فيه وجه آخر: يجوز[11] ؛ لأن عليًّا، رضي الله عنه، نهى أصحابه عن قتل محمد بن طلحة السجَّاد، وقال: إياكم وصاحبَ البُرْنُس. فقتله رجل، وأنشأ يقول:
وأشـعـثَ قـوَّامٍ بآيـات ربـه * قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هـتكتُ له بالرمـح جيب قميصه * فخرَّ صريعـًا لليديـن وللـفـم
على غير شيء غير أن ليس * تابعًا علـيًّا ومَن لم يتبعِ الحـقَّ يظلـم
يناشدني (حم) والرمـح شـاجـر * فهلاَّ تـلا (حـم) قـبل التقـدُّم[12] ؟
وكان السجَّاد حامل راية أبيه، ولم يكن يقاتل، فلم ينكر عليٌّ قتله، ولأنه صار ردءًا لهم.
• الدليل على عدم جواز قتل من حضر القتال ولم يقاتل :
قال ابن قدامة: ولنا: قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيْهَا} [النساء:93]. والأخبار الواردة في تحريم قتل المسلم، والإجماع على تحريمه. وإنما خُصَّ من ذلك ما حصل ضرورة دفع الباغي والصائل، ففيما عداه يبقى على العموم والإجماع فيه؛ ولهذا حرُم قتل مدبرهم وأسيرهم، والإجهاز على جريحهم، مع أنهم إنما تركوا القتال عجزًا عنه، ومتى ما قدروا عليه، عادوا إليه. فمَن لا يقاتل تورُّعًا عنه، مع قدرته عليه ولا يخاف منه القتال بعد ذلك: أولى، ولأنه مسلم، لم يحتج إلى دفعه، ولا صدر منه أحد الثلاثة، فلم يحلَّ دمه؛ لقوله عليه السلام: "لا يحلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"[13] .
• الجواب عن الاستدلال بقتل محمد بن طلحة السجاد :
فأما حديث عليٍّ، في نهيه عن قتل السجَّاد، فهو حُجَّة عليهم، فإن نهي عليٍّ أولى من فعل مَن خالفه، ولا يمتثل قول الله تعالى، ولا قول رسوله، ولا قول إمامه. وقولهم: لم يُنكِر قتله؛ قلنا: لم ينقل إلينا أن عليًّا علم حقيقة الحال في قتله، ولا حضر قتله فينكره.
وقد جاء أن عليًّا، رضي الله عنه، حين طاف في القتلى رآه، فقال: السجَّاد، وربِّ الكعبة، هذا الذي قتله برُّه بأبيه! وهذا يدلُّ على أنه لم يشعر بقتله. ورأى كعب بن سُور، فقال: يزعمون إنما خرج إلينا الرعاع، وهذا الحَبْر بين أظهرهم[14] ! ويجوز أن يكون تركه الإنكار عليهم اجتزاء بالنهي المتقدِّم؛ ولأن القصد من قتالهم كفُّهم، وهذا كافٌّ لنفسه؛ فلم يجُز قتله كالمنهزم.
وإذا قاتل معهم عبيد ونساء وصبيان، فهم كالرجل البالغ الحرِّ، يقاتلون مقبلين، ويتركون مدبرين؛ لأن قتالهم للدفع. ولو أراد أحد هؤلاء قتل إنسان، جاز دفعه وقتاله، وإن أتى على نفسه؛ ولذلك قلنا في أهل الحرب: إذا كان معهم النساء والصبيان، يُقاتِلون: قوتلوا، وقُتلوا[15] .
• لا يقاتل البغاة بما يعم إتلافه:
ولا يُقاتَل البغاة بما يعمُّ إتلافه، كالنار، والمنجنيق، والتغريق، من غير ضرورة[16] ؛ لأنه لا يجوز قتل مَن لا يُقاتِل، وما يعمُّ إتلافه يقع على مَن يُقاتِل ومَن لا يُقاتِل. فإن دعت إلى ذلك ضرورة، مثل أن يحتاط بهم البغاة، ولا يمكنهم التخلُّص إلا برميهم بما يعمَّ إتلافه، جاز ذلك. وهذا قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا تحصَّن الخوارج، فاحتاج الإمام إلى رميهم بالمنجنيق، فعل ذلك بهم ما كان لهم عسكر، وما لم ينهزموا، وإن رماهم البغاة بالمنجنيق والنار، جاز رميهم بمثله[17] .
قال في (المغني): قال أبو بكر: وإذا اقتتلت طائفتان من أهل البغي، فقدر الإمام على قهرهم، لم يُعِن واحدة منهما؛ لأنهما جميعًا على الخطأ، وإن عجز عن ذلك، وخاف اجتماعهما على حربه، ضمَّ إليه أقربهما إلى الحقِّ، فإن استويا، اجتهد برأيه في ضمَّ إحداهما، ولا يقصد بذلك معونة إحداهما، بل الاستعانة على الأخرى، فإذا هزمها، لم يُقاتِل مَن معه حتى يدعوهم إلى الطاعة؛ لأنهم قد حصلوا في أمانه. وهذا مذهب الشافعي[18] .
• هل يستعان بالكفار على البغاة؟
ولا يستعين على قتالهم بالكفار بحال، ولا بمَن يرى قتلهم مدبرين. وبهذا قال الشافعي. وقال أصحاب الرأي: لا بأس أن يستعين عليهم بأهل الذمَّة والمستأمنين وصنف آخر منهم، إذا كان أهل العدل هم الظاهرين على مَن يستعينون به.
ولنا، أن القصد كفُّهم، وردُّهم إلى الطاعة، دون قتلهم، وإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم، فإن كان يقدر على كفِّهم، استعان بهم، وإن لم يقدر، لم يجُز [19].
وهذا ترجيح مقبول: ألا ندخل غير المسلمين في القتال بين المسلمين بعضهم وبعض، فإنهم لا يلتزمون في قتالهم بما نلتزم به، وقد يجدونها فرصة لينفِّسوا عن أحقادهم المكتومة.
• لا يقاتل قوم على مجرد رأيهم ما لم يَشهروا السلاح:
وإذا أظهر قوم رأي الخوارج، مثل: تكفير مَن ارتكب كبيرة، وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، إلا أنهم لم يخرجوا عن قبضة الإمام، ولم يسفكوا الدم الحرام، فحكى القاضي عن أبي بكر: أنه لا يحلُّ بذلك قتلهم ولا قتالهم. وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وجمهور أهل الفقه. ورُوي ذلك عن عمر بن عبد العزيز. فعلى هذا، حكمهم في ضمان النفس والمال حكم المسلمين[20] .
وإن سَبُّوا الإمام أو غيره من أهل العدل، عُزِّروا؛ لأنهم ارتكبوا محرَّمًا لا حدَّ فيه. وإن عَرَّضُوا بالسب، فهل يُعزَّرون؟ على وجهين.
• مذهب مالك في استتابة الخوارج وقتلهم بسبب إفسادهم :
ونقل ابن قدامة رأي مالك في هؤلاء وأمثالهم: أنهم يستتابون، فإن تابوا، وإلا ضُربت أعناقهم. قال إسماعيل بن إسحاق: رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر، من أجل الفساد الداخل في الدِّين، كقطَّاع الطريق، فإن تابوا، وإلا قتلوا على إفسادهم، لا على كفرهم.
وأما مَن رأى تكفيرهم، فمقتضى قوله: أنهم يُستتابون، فإن تابوا، وإلا قُتلوا لكفرهم. كما يُقتل المرتدُّ. وحجَّتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم"[21] .
وقوله عليه السلام: "لئن أدركتُهم، لأقتلنَّهم قتل عاد"[22] .
وقوله صلى الله عليه وسلم - في الذي أنكر عليه، وقال: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله - لأبي بكر: "اذهب فاقتله". ثم قال لعمر مثل ذلك[23] ، فأمر بقتله قبل قتاله. وهو الذي قال: "يخرج من ضئضئ[24] هذا قوم"[25] . يعني الخوارج. وقول عمر لصَبِيغ: لو وجدتُك محلوقًا، لضربتُ الذي فيه عيناك بالسيف[26] . يعني لقتلتُك. وإنما يقتله لكونه من الخوارج؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيماهم التسبيد"[27] . يعني حلق رؤوسهم.
واحتجَّ الأولون بفعل علي، رضي الله عنه، فإنه رُوي عنه: أنه كان يخطب يومًا، فقال رجل بباب المسجد: لا حُكم إلا لله. فقال عليٌّ: كلمة حقٍّ أُريد بها باطل. ثم قال: لكم علينا ثلاث؛ ألا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله تعالى، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال[28] .
وروى أبو تِحْيى، قال: صلَّى علي رضي الله عنه، صلاة، فناداه رجل من الخوارج: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. فأجابه علي رضي الله عنه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] [29].
وكتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز: إن الخوارج يسبُّونك. فكتب إليه: إن سبوني فسبُّوهم، أو اعفوا عنهم، وإن شهروا السلاح فاشهروا عليهم، وإن ضربوا فاضربوا[30] . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرَّض للمنافقين الذين معه في المدينة، فلأن لا يُتعرَّض لغيرهم أولى. وقد روى في خبر الخارجي الذي أنكر عليه، أن خالدًا قال: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: "لا، لعله يصلي". قال: رُبَّ مصلٍّ لا خير فيه. قال: "إني لم أومر أن أنقِّب عن قلوب الناس"[31] .
• تأييد قول الجمهور :
ونحن هنا نؤيِّد ما نقله ابن قدامة عن الحنابلة والشافعية والحنفية والجمهور: أنهم إذا اكتفوا بالوقوف عند التمسك برأيهم دون خروج على الجماعة بالسيف، فلا يجوز قتلهم ولا قتالهم، وإنما هم جزء من الأمة لهم رأي مخالف، ولا يُقاتَل الإنسان ويقتل على مجرَّد رأيه، وما جاء عن علي رضي الله عنه، وعن عمر بن عبد العزيز يؤيِّد ذلك بوضوح. وقد استدللنا بذلك في موضع آخر على مشروعية تكوين الأحزاب المعارضة ما دامت لا تستخدم السيف في تأييد رأيها.
• لا ضمان على أحد في حرب أهل البغي:
قال الخِرَقي: (فإن آل ما دفعوا به إلى نفوسهم، فلا شيء على الدافع، وإن قُتِل الدافع فهو شهيد).
قال ابن قدامة في شرحه: (وجملته أنه إذا لم يمكن دفع أهل البغي إلا بقتلهم، جاز قتلهم، ولا شيء على مَن قتلهم؛ من إثم ولا ضمان ولا كفارة؛ لأنه فعل ما أُمر به، وقتل مَن أَحلَّ الله قتله، وأمر بمقاتلته. وكذلك ما أتلفه أهل العدل على أهل البغي حال الحرب، من المال، لا ضمان فيه؛ لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس، فالأموال أولى. وإن قُتل العادل، كان شهيدًا؛ لأنه قتل في قتال أمر الله تعالى به بقوله: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9].
وقال في (المغني): وليس على أهل البغي أيضًا ضمان ما أتلفوه حال الحرب، من نفس ولا مال. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، في أحد قوليه. وفي الآخر، يضمنون ذلك؛ لقول أبي بكر لأهل الردَّة: تَدُون قتلانا، ولا نَدِي قتلاكم[32] . ولأنها نفوس وأموال معصومة، أُتلفت بغير حقٍّ ولا ضرورة دفع مباح؛ فوجب ضمانه، كالذي تلف في غير حال الحرب[33] .
قال ابن قدامة: ولنا: ما روى الزُّهرِي، أنه قال: كانت الفتنة العظمى بين الناس، وفيهم البدريون، فأجمعوا على ألا يقام حدٌّ على رجل ارتكب فرجًا حرامًا بتأويل القرآن، ولا يغرم مالاً أتلفه بتأويل القرآن. ولأنها طائفة ممتنعة بالحرب، بتأويل سائغ، فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى، كأهل العدل، ولأن تضمينهم يفضى إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة، فلا يشرع، كتضمين أهل الحرب. فأما قول أبي بكر، رضى الله عنه، فقد رجع عنه، ولم يُمضِه، فإن عمر قال له: أما أن يَدُوا قتلانا فلا؛ فإن قتلانا قتلوا في سبيل الله تعالى، على ما أمر الله[34] . فوافقه أبو بكر، ورجع إلى قوله، فصار أيضًا إجماعًا حُجَّة لنا، ولم ينقل أنه غرَّم أحدا شيئًا[35] ، وقد قَتل طليحةُ عكاشةَ بنَ مِحصَن وثابتَ بنَ أَقرَم ثم أسلم فلم يغرم شيئا. ثم لو وجب التغريم في حقِّ المرتدين، لم يلزم مثله ها هنا، فإن أولئك كفار لا تأويل لهم، وهؤلاء طائفة من المسلمين لهم تأويل سائغ، فكيف يصحُّ إلحاقهم بهم؟!
فأما ما أتلفه بعضهم على بعض، في غير حال الحرب، قبله أو بعده، فعلى متلفه ضمانه. وبهذا قال الشافعي، ولذلك لما قتل الخوارج عبد الله بن خبَّاب، أرسل إليهم عليٌّ: أقيدونا عبد الله بن خبَّاب. ولما قتل ابن مُلجم عليًّا في غير المعركة، أقيد به[36] .
• لا اتباع لمدبر ولا إجهاز على جريح ولا قتل لأسير:
قال الخِرَقي في مختصره: (وإذا دفعوا لم يتبع لهم مدبر، ولا يجاز على جريحهم، ولم يقتل لهم أسير، ولم يغنم لهم مال، ولم تسب لهم ذرية)
وشرح ذلك ابن قدامة في (المغني) قائلا: (وجملة الأمر أن أهل البغي إذا تركوا القتال؛ إما بالرجوع إلى الطاعة، وإما بإلقاء السلاح، وإما بالهزيمة إلى فئة أو إلى غير فئة، وإما بالعجز؛ لجراح أو مرض أو أسر، فإنه يحرُم قتلهم، واتباع مدبرهم. وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة، إذا هزموا ولا فئة لهم كقولنا، وإن كانت لهم فئة يلجأون إليها، جاز قتل مدبرهم وأسيرهم، والإجازة على جريحهم، وإن لم يكن لهم فئة، لم يقتلوا، لكن يضربون ضربًا وجيعًا، ويحبسون حتى يُقلعوا عما هم عليه، ويُحدثوا توبة. ذكروا هذا في الخوارج. ويروى عن ابن عباس نحو هذا. واختاره بعض أصحاب الشافعي؛ لأنه متى لم يقتلهم، اجتمعوا ثم عادوا إلى المحاربة[37] .
قال ابن قدامة: ولنا: ما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه، أنه قال يوم الجمل: لا يذفَّف (لا يجهز) على جريح، ولا يهتك ستر، ولا يفتح باب، ومن أغلق بابًا أو بابه فهو آمن، ولا يتبع مدبر[38] . وقد روى نحو ذلك عن عمار[39] .
وعن عليٍّ رضي الله عنه: أنه ودى قومًا من بيت مال المسلمين، قُتلوا مدبرين[40] . وعن أبي أُمامة، أنه قال: شهدتُ صِفِّين، فكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يقتلون مولِّيًا، ولا يسلبون قتيلا [41].
وقد ذكر القاضي، في (شرحه)، عن عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا ابن أم عبد، ما حكم مَن بغى على أمتي؟". فقلتُ: الله ورسوله أعلم. فقال: "لا يُتبع مدبرهم، ولا يُجاز على جريحهم، ولا يُقتل أسيرهم، ولا يُقسم فيئهم"[42] . ولأن المقصود دفعهم وكفُّهم، وقد حصل، فلم يجُز قتلهم، كالصائل. ولا يقتلون لما يخاف في الثاني، كما لو لم تكن لهم فئة.
إذا ثبت هذا، فإنْ قَتَلَ إنسانٌ مَن مُنع من قتله، ضمنه؛ لأنه قتل معصومًا، لم يؤمر بقتله. وفي القصاص وجهان؛ أحدهما: يجب؛ لأنه مكافئ معصوم. والثاني: لا يجب؛ لأن في قتلهم اختلافًا بين الأئمة، فإن ذلك شبهة دارئة للقصاص؛ لأنه مما يندرئ بالشبهات[43] .
---------
هوامش :
[1] انظر: حاشية ابن عابدين (3/310)، والتاج والإكليل (6/277)، ومنهاج الطالبين وحاشية قليوبي (4/173، 174).
[2] رواه مسلم عن عرفجة ، وقد سبق تخريجه ص1101
[3] انظر: تبيين الحقائق (3/294)، وحاشية ابن عابدين (3/311)، وفتح القدير (4/410)، وبدائع الصنائع (7/140)، والشرح الكبير (4/299)، والمهذب (2/219)، وكشاف القناع (6/162).
[4] رواه الحاكم في معرفة الصحابة (3/418)، وسكت عنه هو والذهبي، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/180).
[5] الحَرُورِيَّةُ: هم الخوارج، ينسبون إلى حَرُورَاء، موضع على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به، فنسبوا إليه، ثم أصبح لقبا لفرقة منهم. الأنساب وحاشيته (4/118).
[6] رواه أحمد في المسند وقد سبق تخريجه ص 1071
[7] انظر: حاشية ابن عابدين (3/311)، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي (4/299)، والتاج والإكليل (6/278)، والمهذب (2/219).
[8] انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى صـ40.
[9] انظر: بدائع الصنائع (7/141)، والمهذب (219).
[10] انظر: حاشية ابن عابدين (3/310).
[11] انظر: المهذب (2/219، 220).
[12] رواه الحاكم في معرفة الصحابة (3/423)، وسكت عنه هو والذهبي، عن علي، وانظر: تاريخ الطبري (3/214، 215)، وتاريخ المسعودي (2/365، 366).
[13] متفق عليه عن ابن مسعود ، وقد سبق تخريجه ص 200
[14] انظر: الشرح الكبير (10/52).
[15] انظر: بدائع الصنائع (7/141)، وحاشية الدسوقي (4/299)، والمهذب (2/200).
[16] سبق ترجيحنا التضييق في القتال بما يعمُّ اتلافه، مثل أسلحة الدمار الشامل، حتى مع الكفار. فليراجع (الباب التاسع، الفصل الأول).
[17] انظر: بدائع الصنائع (7/141)، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي (4/299)، والتاج والإكليل (6/278)، ونهاية المحتاج (7/378، 388)، والمهذب (2/220)، وكشاف القناع (6/163).
[18] انظر: المهذب (2/220).
[19] انظر: حاشية الدسوقي (4/299)، والتاج والإكليل (6/278)، والمهذب (2/220)، ونهاية المحتاج (7/387)، وكشاف القناع (6/164).
[20] انظر: نهاية المحتاج (7/383)، وكشاف القناع (6/166).
[21] رواه البخاري عن علي، وقد سبق تخريجه وقد سبق تخريجه ص 1103
[22] متفق عليه عن أبي سعيد، وقد سبق تخريجه وقد سبق تخريجه ص 1104
[23] عن أبي سعيد الخدري، أن أبا بكر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني مررت بوادي كذا وكذا فإذا رجل متخشع حسن الهيئة يصلي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهب إليه فاقتله". قال فذهب إليه أبو بكر فلما رآه على تلك الحال كره أن يقتله، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "اذهب فاقتله". فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر، قال: فكره أن يقتله، قال: فرجع فقال: يا رسول الله إني رأيته يصلي متخشعا فكرهت أن أقتله. قال: "يا علي، اذهب فاقتله". قال: فذهب علي فلم يره فرجع علي فقال: يا رسول الله، إنه لم يره. قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن ...". رواه أحمد في المسند (11118)، وقال مخرِّجوه: إسناده ضعيف، أبو رؤبة شداد بن عمران القيسي مجهول الحال ترجم له البخاري في التاريخ الكبير والكنى، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ونسباه قشيريا، وقال البخاري: القشيري من قيس، والحافظ في تعجيل المنفعة ونسبه ثعلبيا! وذكر في الرواة عنه اثنين، وذكره ابن حبان في الثقات ونسبه تغلبيا! وباقي رجاله ثقات، ثم إن في متنه نكارة بيَّنها السندي، وجود الحافظ ابن حجر إسناده (16/57)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله ثقات (6/335).
[24] الضِئْضِئ: الأصل، أو كثرة النسل.
[25] متفق عليه عن أبي سعيد وقد سبق تخريجه ص 240
[26] رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (23/412).
[27] رواه البخاري في التوحيد (7562)، وسعيد بن منصور في الشهادة (2/324)، عن أبي سعيد.
[28] رواه ابن أبي شيبة في الجَمَل (39085)، وقال عوَّامة: إسناده حسن، والطبراني في الأوسط (7/376)، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/184) عن علي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن كثير الكوفي وهو ضعيف (6/364)، وضعَّفه الألباني في مختصر إرواء الغليل (2467)، وانظر: تاريخ الطبري حوادث سنة سبع وثلاثين من الهجرة (6/41).
[29] رواه البيهقي في الكبرى جماع أبواب الصلاة (2/245)، وابن الجعد في المسند (2371)، والطبري في التفسير (10/200).
[30] ذكره ابن عبد البر في التمهيد (23/338).
[31] متفق عليه: رواه البخاري في المغازي (4351)، ومسلم في الزكاة (1064)، كما رواه أحمد في المسند (11007)، عن أبي سعيد.
[32] رواه ابن أبي شيبة في السير (33400)، والطبراني في الأوسط (2/270)، والبيهقي في الكبرى كتاب الأشربة والحد فيها (8/335)، عن طارق بن شهاب.
[33] انظر: بدائع الصنائع (7/141)، وتبيين الحقائق (3/296)، وحاشية الدسوقي (4/299)، والتاج والإكليل (6/278، 279)، ونهاية المحتاج (7/385).
[34] تكملة الحديث السابق.
[35] انظر: الكامل لابن الأثير (2/347).
[36] سبق تخريجهما ص 1104
[37] انظر: بدائع الصنائع (7/140، 141)، ونهاية المحتاج (7/386).
[38] رواه عبد الرزاق في العقول (10/123)، وسعيد بن منصور في السنن باب جامع الشهادة (2/337)، وابن أبي شيبة في الجمل (38971)، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/181).
[39] رواه عبد الرزاق في العقول (10/124)، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/181).
[40] انظر: الشرح الكبير (10/57)، والعدة شرح العمدة صـ558.
[41] رواه ابن أبي شيبة في السير (33953)، والحاكم (2/167)، وصحَّح إسناده، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الكبرى (8/182)، كلاهما في قتال أهل البغي.
[42] رواه الحاكم (2/168)، والبيهقي في الكبرى (8/182)، كلاهما في قتال أهل البغي، وقال: تفرد به كوثر بن حكيم وهو ضعيف، عن ابن عمر، وقال الزيلعي في نصب الراية: سكت الحاكم عنه وذكره عبد الحق في (أحكامه) من جهة البزار وأعلَّه بكوثر بن حكيم وقال: إنه متروك، وكذلك قال الذهبي في (مختصره) متعقبا على الحاكم (3/458).
[43] انظر: المهذب (2/220).
----------( يُتبع )----------
الفصل الثاني : قتال الفئة الباغية أو الخارجين على الدولة (2 من 3)
• السبيل الذي يُسلك مع مَن خرج على الإمام:
قال أبو القاسم الخِرَقِي، رحمه الله: (وإذا اتَّفق المسلمون على إمام، فمَن خرج عليه من المسلمين يطلب موضعه، حوربوا، ودفعوا بأسهل ما يندفعون به).
قال العلاَّمة ابن قدامة في شرحه: (وجملة الأمر: أن مَن اتَّفق المسلمون على إمامته وبيعته، ثبتت إمامته، ووجبت معونته؛ لما ذكرنا من الحديث والإجماع، فإن أبا بكر ثبتت إمامته بإجماع الصحابة على بيعته، وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه، وأجمع الصحابة على قَبوله.
ولو خرج رجل على الإمام، فقهره، وغلب الناس بسيفه حتى أقرُّوا له، وأذعنوا بطاعته، وبايعوه، صار إمامًا يحرم قتاله، والخروج عليه[1] . فإن عبد الملك بن مروان، خرج على ابن الزبير، فقتله، واستولى على البلاد وأهلها، حتى بايعوه طوعًا وكرهًا، فصار إمامًا يحرم الخروج عليه؛ وذلك لما في الخروج عليه من شقِّ عصا المسلمين، وإراقة دمائهم، وذهاب أموالهم، ويدخل الخارج عليه في عموم قوله عليه السلام: "مَن خرج على أمتي، وهم جميع، فاضربوا عنقه بالسيف، كائنًا مََن كان"[2] . فمَن خرج على مَن ثبتت إمامته بأحد هذه الوجوه باغيًا، وجب قتاله.
• إزالة المظالم وإزاحة الشبهات قبل القتال:
ولا يجوز قتالهم حتى يبعث إليهم مَن يسألهم، ويكشف لهم الصواب، إلا أن يخاف كَلَبَهم (شدَّتهم)؛ فلا يمكن ذلك في حقِّهم. فأما إن أمكن تعريفهم، عرَّفهم ذلك، وأزال ما يذكرونه من المظالم، وأزاح حججهم[3] . فإن لجُّوا، قاتلهم حينئذ؛ لأن الله تعالى بدأ بالأمر بالإصلاح قبل القتال، فقال سبحانه: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9].
ورُوي أن عليًّا، رضي الله عنه، راسل أهل البصرة قبل وقعة الجمل، ثم أمر أصحابه ألا يبدؤوهم بالقتال، ثم قال: إن هذا يوم مَن فلج فيه فلج يوم القيامة. ثم سمعهم يقولون: الله أكبر، يا لثارات عثمان. فقال: اللهم أكبَّ قتلة عثمان لوجوههم[4] .
وروى عبد الله بن شدَّاد بن الهَاد: أن عليًّا لما اعتزلته الحرورية[5] ، بعث إليهم عبد الله بن عباس، فواضعوه كتاب الله ثلاثة أيام، أي جادلهم بالقرآن فرجع منهم أربعة آلاف[6] .
فإن أبَوا الرجوع، وعظهم، وخوَّفهم القتال؛ وإنما كان كذلك، لأن المقصود كفُّهم، ودفع شرِّهم، لا قتلهم، فإذا أمكن بمجرَّد القول، كان أولى من القتال؛ لما فيه من الضرر بالفريقين.
• إذا طلب البغاة المهلة:
فإن سألوا الإنظار، نظر في حالهم، وبحث عن أمرهم:
فإن بان له أن قصدهم الرجوع إلى الطاعة، ومعرفة الحقِّ، أمهلهم. قال ابن المنذر: أجمع على هذا كلُّ مَن أحفظ عنه من أهل العلم.
وإن كان قصدهم الاجتماع على قتاله، وانتظار مَدَد يقوون به، أو خديعة الإمام، ليأخذوه على غِرة، ويفترق عسكره: لم يُنظِرهم، وعاجلهم؛ لأنه لا يأمن أن يصير هذا طرقًا إلى قهر أهل العدل، ولا يجوز هذا[7] . وإن أعطوه عليه مالاً؛ لأنه لا يجوز أن يأخذ المال على إقرارهم على ما لا يجوز إقرارهم عليه[8] .
• هل يجوز أخذ رهائن منهم؟
وإن بذل له رهائن على إنظارهم، لم يجُز أخذها لذلك؛ ولأن الرهائن لا يجوز قتلهم لغدر أهلهم، فلا يفيد شيئًا.
وإن كان في أيديهم أسرى من أهل العدل، وأعطوا بذلك رهائن منهم، قَبِلَهم الإمام، واستظهر للمسلمين؛ فإن أطلقوا أسرى المسلمين الذين عندهم، أُطلقت رهائنهم، وإن قتلوا مَن عندهم، لم يجز قتل رهائنهم؛ لأنهم لا يُقتلون بقتل غيرهم، فإذا انقضت الحرب، خلَّى الرهائن، كما الأُسارى منهم[9] .
• هل يجوز تأخير قتالهم؟ :
وإن خاف الإمام على الفئة العادلة الضعف عنهم، أخَّر قتالهم إلى أن تمكِّنه القوة عليهم؛ لأنه لا يؤمَن الاصطلام والاستئصال، فيؤخِّرهم حتى تقوى شوكة أهل العدل، ثم يقاتلهم.
وإن سألوه أن يُنظِرَهم أبدا، ويَدَعَهم وما هم عليه، ويكفُّوا عن المسلمين، نظر: فإن لم يعلم قوته عليهم، وخاف قهرهم له إن قاتلهم، تركهم. وإن قوي عليهم، لم يجُز إقرارهم على ذلك؛ لأنه لا يجوز أن يترك بعض المسلمين طاعة الإمام، ولا تؤمَن قوة شوكتهم، بحيث يفضي إلى قهر الإمام العادل ومن معه.
• وجوب دفعهم بالأسهل من الوسائل:
ثم إن أمكن دفعهم بدون القتل، لم يجُز قتلهم؛ لأن المقصود دفعهم لا قتلهم؛ ولأن المقصود إذا حصل بدون القتل، لم يجُز القتل؛ من غير حاجة[10] .
• لا يُقتل مَن لا يُقاتل:
وإن حضر معهم مَن لا يقاتل؛ لم يجُز قتله. وقال أصحاب الشافعي: فيه وجه آخر: يجوز[11] ؛ لأن عليًّا، رضي الله عنه، نهى أصحابه عن قتل محمد بن طلحة السجَّاد، وقال: إياكم وصاحبَ البُرْنُس. فقتله رجل، وأنشأ يقول:
وأشـعـثَ قـوَّامٍ بآيـات ربـه * قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هـتكتُ له بالرمـح جيب قميصه * فخرَّ صريعـًا لليديـن وللـفـم
على غير شيء غير أن ليس * تابعًا علـيًّا ومَن لم يتبعِ الحـقَّ يظلـم
يناشدني (حم) والرمـح شـاجـر * فهلاَّ تـلا (حـم) قـبل التقـدُّم[12] ؟
وكان السجَّاد حامل راية أبيه، ولم يكن يقاتل، فلم ينكر عليٌّ قتله، ولأنه صار ردءًا لهم.
• الدليل على عدم جواز قتل من حضر القتال ولم يقاتل :
قال ابن قدامة: ولنا: قول الله تعالى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيْهَا} [النساء:93]. والأخبار الواردة في تحريم قتل المسلم، والإجماع على تحريمه. وإنما خُصَّ من ذلك ما حصل ضرورة دفع الباغي والصائل، ففيما عداه يبقى على العموم والإجماع فيه؛ ولهذا حرُم قتل مدبرهم وأسيرهم، والإجهاز على جريحهم، مع أنهم إنما تركوا القتال عجزًا عنه، ومتى ما قدروا عليه، عادوا إليه. فمَن لا يقاتل تورُّعًا عنه، مع قدرته عليه ولا يخاف منه القتال بعد ذلك: أولى، ولأنه مسلم، لم يحتج إلى دفعه، ولا صدر منه أحد الثلاثة، فلم يحلَّ دمه؛ لقوله عليه السلام: "لا يحلُّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث"[13] .
• الجواب عن الاستدلال بقتل محمد بن طلحة السجاد :
فأما حديث عليٍّ، في نهيه عن قتل السجَّاد، فهو حُجَّة عليهم، فإن نهي عليٍّ أولى من فعل مَن خالفه، ولا يمتثل قول الله تعالى، ولا قول رسوله، ولا قول إمامه. وقولهم: لم يُنكِر قتله؛ قلنا: لم ينقل إلينا أن عليًّا علم حقيقة الحال في قتله، ولا حضر قتله فينكره.
وقد جاء أن عليًّا، رضي الله عنه، حين طاف في القتلى رآه، فقال: السجَّاد، وربِّ الكعبة، هذا الذي قتله برُّه بأبيه! وهذا يدلُّ على أنه لم يشعر بقتله. ورأى كعب بن سُور، فقال: يزعمون إنما خرج إلينا الرعاع، وهذا الحَبْر بين أظهرهم[14] ! ويجوز أن يكون تركه الإنكار عليهم اجتزاء بالنهي المتقدِّم؛ ولأن القصد من قتالهم كفُّهم، وهذا كافٌّ لنفسه؛ فلم يجُز قتله كالمنهزم.
وإذا قاتل معهم عبيد ونساء وصبيان، فهم كالرجل البالغ الحرِّ، يقاتلون مقبلين، ويتركون مدبرين؛ لأن قتالهم للدفع. ولو أراد أحد هؤلاء قتل إنسان، جاز دفعه وقتاله، وإن أتى على نفسه؛ ولذلك قلنا في أهل الحرب: إذا كان معهم النساء والصبيان، يُقاتِلون: قوتلوا، وقُتلوا[15] .
• لا يقاتل البغاة بما يعم إتلافه:
ولا يُقاتَل البغاة بما يعمُّ إتلافه، كالنار، والمنجنيق، والتغريق، من غير ضرورة[16] ؛ لأنه لا يجوز قتل مَن لا يُقاتِل، وما يعمُّ إتلافه يقع على مَن يُقاتِل ومَن لا يُقاتِل. فإن دعت إلى ذلك ضرورة، مثل أن يحتاط بهم البغاة، ولا يمكنهم التخلُّص إلا برميهم بما يعمَّ إتلافه، جاز ذلك. وهذا قول الشافعي. وقال أبو حنيفة: إذا تحصَّن الخوارج، فاحتاج الإمام إلى رميهم بالمنجنيق، فعل ذلك بهم ما كان لهم عسكر، وما لم ينهزموا، وإن رماهم البغاة بالمنجنيق والنار، جاز رميهم بمثله[17] .
قال في (المغني): قال أبو بكر: وإذا اقتتلت طائفتان من أهل البغي، فقدر الإمام على قهرهم، لم يُعِن واحدة منهما؛ لأنهما جميعًا على الخطأ، وإن عجز عن ذلك، وخاف اجتماعهما على حربه، ضمَّ إليه أقربهما إلى الحقِّ، فإن استويا، اجتهد برأيه في ضمَّ إحداهما، ولا يقصد بذلك معونة إحداهما، بل الاستعانة على الأخرى، فإذا هزمها، لم يُقاتِل مَن معه حتى يدعوهم إلى الطاعة؛ لأنهم قد حصلوا في أمانه. وهذا مذهب الشافعي[18] .
• هل يستعان بالكفار على البغاة؟
ولا يستعين على قتالهم بالكفار بحال، ولا بمَن يرى قتلهم مدبرين. وبهذا قال الشافعي. وقال أصحاب الرأي: لا بأس أن يستعين عليهم بأهل الذمَّة والمستأمنين وصنف آخر منهم، إذا كان أهل العدل هم الظاهرين على مَن يستعينون به.
ولنا، أن القصد كفُّهم، وردُّهم إلى الطاعة، دون قتلهم، وإن دعت الحاجة إلى الاستعانة بهم، فإن كان يقدر على كفِّهم، استعان بهم، وإن لم يقدر، لم يجُز [19].
وهذا ترجيح مقبول: ألا ندخل غير المسلمين في القتال بين المسلمين بعضهم وبعض، فإنهم لا يلتزمون في قتالهم بما نلتزم به، وقد يجدونها فرصة لينفِّسوا عن أحقادهم المكتومة.
• لا يقاتل قوم على مجرد رأيهم ما لم يَشهروا السلاح:
وإذا أظهر قوم رأي الخوارج، مثل: تكفير مَن ارتكب كبيرة، وترك الجماعة، واستحلال دماء المسلمين وأموالهم، إلا أنهم لم يخرجوا عن قبضة الإمام، ولم يسفكوا الدم الحرام، فحكى القاضي عن أبي بكر: أنه لا يحلُّ بذلك قتلهم ولا قتالهم. وهذا قول أبي حنيفة، والشافعي، وجمهور أهل الفقه. ورُوي ذلك عن عمر بن عبد العزيز. فعلى هذا، حكمهم في ضمان النفس والمال حكم المسلمين[20] .
وإن سَبُّوا الإمام أو غيره من أهل العدل، عُزِّروا؛ لأنهم ارتكبوا محرَّمًا لا حدَّ فيه. وإن عَرَّضُوا بالسب، فهل يُعزَّرون؟ على وجهين.
• مذهب مالك في استتابة الخوارج وقتلهم بسبب إفسادهم :
ونقل ابن قدامة رأي مالك في هؤلاء وأمثالهم: أنهم يستتابون، فإن تابوا، وإلا ضُربت أعناقهم. قال إسماعيل بن إسحاق: رأى مالك قتل الخوارج وأهل القدر، من أجل الفساد الداخل في الدِّين، كقطَّاع الطريق، فإن تابوا، وإلا قتلوا على إفسادهم، لا على كفرهم.
وأما مَن رأى تكفيرهم، فمقتضى قوله: أنهم يُستتابون، فإن تابوا، وإلا قُتلوا لكفرهم. كما يُقتل المرتدُّ. وحجَّتهم قول النبي صلى الله عليه وسلم: "فأينما لقيتموهم فاقتلوهم"[21] .
وقوله عليه السلام: "لئن أدركتُهم، لأقتلنَّهم قتل عاد"[22] .
وقوله صلى الله عليه وسلم - في الذي أنكر عليه، وقال: إنها لقسمة ما أريد بها وجه الله - لأبي بكر: "اذهب فاقتله". ثم قال لعمر مثل ذلك[23] ، فأمر بقتله قبل قتاله. وهو الذي قال: "يخرج من ضئضئ[24] هذا قوم"[25] . يعني الخوارج. وقول عمر لصَبِيغ: لو وجدتُك محلوقًا، لضربتُ الذي فيه عيناك بالسيف[26] . يعني لقتلتُك. وإنما يقتله لكونه من الخوارج؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "سيماهم التسبيد"[27] . يعني حلق رؤوسهم.
واحتجَّ الأولون بفعل علي، رضي الله عنه، فإنه رُوي عنه: أنه كان يخطب يومًا، فقال رجل بباب المسجد: لا حُكم إلا لله. فقال عليٌّ: كلمة حقٍّ أُريد بها باطل. ثم قال: لكم علينا ثلاث؛ ألا نمنعكم مساجد الله أن تذكروا فيها اسم الله تعالى، ولا نمنعكم الفيء ما دامت أيديكم معنا، ولا نبدأكم بقتال[28] .
وروى أبو تِحْيى، قال: صلَّى علي رضي الله عنه، صلاة، فناداه رجل من الخوارج: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الزمر:65]. فأجابه علي رضي الله عنه: {فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم:60] [29].
وكتب عدي بن أرطاة إلى عمر بن عبد العزيز: إن الخوارج يسبُّونك. فكتب إليه: إن سبوني فسبُّوهم، أو اعفوا عنهم، وإن شهروا السلاح فاشهروا عليهم، وإن ضربوا فاضربوا[30] . ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتعرَّض للمنافقين الذين معه في المدينة، فلأن لا يُتعرَّض لغيرهم أولى. وقد روى في خبر الخارجي الذي أنكر عليه، أن خالدًا قال: يا رسول الله، ألا أضرب عنقه؟ قال: "لا، لعله يصلي". قال: رُبَّ مصلٍّ لا خير فيه. قال: "إني لم أومر أن أنقِّب عن قلوب الناس"[31] .
• تأييد قول الجمهور :
ونحن هنا نؤيِّد ما نقله ابن قدامة عن الحنابلة والشافعية والحنفية والجمهور: أنهم إذا اكتفوا بالوقوف عند التمسك برأيهم دون خروج على الجماعة بالسيف، فلا يجوز قتلهم ولا قتالهم، وإنما هم جزء من الأمة لهم رأي مخالف، ولا يُقاتَل الإنسان ويقتل على مجرَّد رأيه، وما جاء عن علي رضي الله عنه، وعن عمر بن عبد العزيز يؤيِّد ذلك بوضوح. وقد استدللنا بذلك في موضع آخر على مشروعية تكوين الأحزاب المعارضة ما دامت لا تستخدم السيف في تأييد رأيها.
• لا ضمان على أحد في حرب أهل البغي:
قال الخِرَقي: (فإن آل ما دفعوا به إلى نفوسهم، فلا شيء على الدافع، وإن قُتِل الدافع فهو شهيد).
قال ابن قدامة في شرحه: (وجملته أنه إذا لم يمكن دفع أهل البغي إلا بقتلهم، جاز قتلهم، ولا شيء على مَن قتلهم؛ من إثم ولا ضمان ولا كفارة؛ لأنه فعل ما أُمر به، وقتل مَن أَحلَّ الله قتله، وأمر بمقاتلته. وكذلك ما أتلفه أهل العدل على أهل البغي حال الحرب، من المال، لا ضمان فيه؛ لأنهم إذا لم يضمنوا الأنفس، فالأموال أولى. وإن قُتل العادل، كان شهيدًا؛ لأنه قتل في قتال أمر الله تعالى به بقوله: {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي} [الحجرات:9].
وقال في (المغني): وليس على أهل البغي أيضًا ضمان ما أتلفوه حال الحرب، من نفس ولا مال. وبه قال أبو حنيفة، والشافعي، في أحد قوليه. وفي الآخر، يضمنون ذلك؛ لقول أبي بكر لأهل الردَّة: تَدُون قتلانا، ولا نَدِي قتلاكم[32] . ولأنها نفوس وأموال معصومة، أُتلفت بغير حقٍّ ولا ضرورة دفع مباح؛ فوجب ضمانه، كالذي تلف في غير حال الحرب[33] .
قال ابن قدامة: ولنا: ما روى الزُّهرِي، أنه قال: كانت الفتنة العظمى بين الناس، وفيهم البدريون، فأجمعوا على ألا يقام حدٌّ على رجل ارتكب فرجًا حرامًا بتأويل القرآن، ولا يغرم مالاً أتلفه بتأويل القرآن. ولأنها طائفة ممتنعة بالحرب، بتأويل سائغ، فلم تضمن ما أتلفت على الأخرى، كأهل العدل، ولأن تضمينهم يفضى إلى تنفيرهم عن الرجوع إلى الطاعة، فلا يشرع، كتضمين أهل الحرب. فأما قول أبي بكر، رضى الله عنه، فقد رجع عنه، ولم يُمضِه، فإن عمر قال له: أما أن يَدُوا قتلانا فلا؛ فإن قتلانا قتلوا في سبيل الله تعالى، على ما أمر الله[34] . فوافقه أبو بكر، ورجع إلى قوله، فصار أيضًا إجماعًا حُجَّة لنا، ولم ينقل أنه غرَّم أحدا شيئًا[35] ، وقد قَتل طليحةُ عكاشةَ بنَ مِحصَن وثابتَ بنَ أَقرَم ثم أسلم فلم يغرم شيئا. ثم لو وجب التغريم في حقِّ المرتدين، لم يلزم مثله ها هنا، فإن أولئك كفار لا تأويل لهم، وهؤلاء طائفة من المسلمين لهم تأويل سائغ، فكيف يصحُّ إلحاقهم بهم؟!
فأما ما أتلفه بعضهم على بعض، في غير حال الحرب، قبله أو بعده، فعلى متلفه ضمانه. وبهذا قال الشافعي، ولذلك لما قتل الخوارج عبد الله بن خبَّاب، أرسل إليهم عليٌّ: أقيدونا عبد الله بن خبَّاب. ولما قتل ابن مُلجم عليًّا في غير المعركة، أقيد به[36] .
• لا اتباع لمدبر ولا إجهاز على جريح ولا قتل لأسير:
قال الخِرَقي في مختصره: (وإذا دفعوا لم يتبع لهم مدبر، ولا يجاز على جريحهم، ولم يقتل لهم أسير، ولم يغنم لهم مال، ولم تسب لهم ذرية)
وشرح ذلك ابن قدامة في (المغني) قائلا: (وجملة الأمر أن أهل البغي إذا تركوا القتال؛ إما بالرجوع إلى الطاعة، وإما بإلقاء السلاح، وإما بالهزيمة إلى فئة أو إلى غير فئة، وإما بالعجز؛ لجراح أو مرض أو أسر، فإنه يحرُم قتلهم، واتباع مدبرهم. وبهذا قال الشافعي.
وقال أبو حنيفة، إذا هزموا ولا فئة لهم كقولنا، وإن كانت لهم فئة يلجأون إليها، جاز قتل مدبرهم وأسيرهم، والإجازة على جريحهم، وإن لم يكن لهم فئة، لم يقتلوا، لكن يضربون ضربًا وجيعًا، ويحبسون حتى يُقلعوا عما هم عليه، ويُحدثوا توبة. ذكروا هذا في الخوارج. ويروى عن ابن عباس نحو هذا. واختاره بعض أصحاب الشافعي؛ لأنه متى لم يقتلهم، اجتمعوا ثم عادوا إلى المحاربة[37] .
قال ابن قدامة: ولنا: ما رُوي عن عليٍّ رضي الله عنه، أنه قال يوم الجمل: لا يذفَّف (لا يجهز) على جريح، ولا يهتك ستر، ولا يفتح باب، ومن أغلق بابًا أو بابه فهو آمن، ولا يتبع مدبر[38] . وقد روى نحو ذلك عن عمار[39] .
وعن عليٍّ رضي الله عنه: أنه ودى قومًا من بيت مال المسلمين، قُتلوا مدبرين[40] . وعن أبي أُمامة، أنه قال: شهدتُ صِفِّين، فكانوا لا يجيزون على جريح، ولا يقتلون مولِّيًا، ولا يسلبون قتيلا [41].
وقد ذكر القاضي، في (شرحه)، عن عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "يا ابن أم عبد، ما حكم مَن بغى على أمتي؟". فقلتُ: الله ورسوله أعلم. فقال: "لا يُتبع مدبرهم، ولا يُجاز على جريحهم، ولا يُقتل أسيرهم، ولا يُقسم فيئهم"[42] . ولأن المقصود دفعهم وكفُّهم، وقد حصل، فلم يجُز قتلهم، كالصائل. ولا يقتلون لما يخاف في الثاني، كما لو لم تكن لهم فئة.
إذا ثبت هذا، فإنْ قَتَلَ إنسانٌ مَن مُنع من قتله، ضمنه؛ لأنه قتل معصومًا، لم يؤمر بقتله. وفي القصاص وجهان؛ أحدهما: يجب؛ لأنه مكافئ معصوم. والثاني: لا يجب؛ لأن في قتلهم اختلافًا بين الأئمة، فإن ذلك شبهة دارئة للقصاص؛ لأنه مما يندرئ بالشبهات[43] .
---------
هوامش :
[1] انظر: حاشية ابن عابدين (3/310)، والتاج والإكليل (6/277)، ومنهاج الطالبين وحاشية قليوبي (4/173، 174).
[2] رواه مسلم عن عرفجة ، وقد سبق تخريجه ص1101
[3] انظر: تبيين الحقائق (3/294)، وحاشية ابن عابدين (3/311)، وفتح القدير (4/410)، وبدائع الصنائع (7/140)، والشرح الكبير (4/299)، والمهذب (2/219)، وكشاف القناع (6/162).
[4] رواه الحاكم في معرفة الصحابة (3/418)، وسكت عنه هو والذهبي، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/180).
[5] الحَرُورِيَّةُ: هم الخوارج، ينسبون إلى حَرُورَاء، موضع على ميلين من الكوفة، كان أول اجتماع الخوارج به، فنسبوا إليه، ثم أصبح لقبا لفرقة منهم. الأنساب وحاشيته (4/118).
[6] رواه أحمد في المسند وقد سبق تخريجه ص 1071
[7] انظر: حاشية ابن عابدين (3/311)، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي (4/299)، والتاج والإكليل (6/278)، والمهذب (2/219).
[8] انظر: الأحكام السلطانية لأبي يعلى صـ40.
[9] انظر: بدائع الصنائع (7/141)، والمهذب (219).
[10] انظر: حاشية ابن عابدين (3/310).
[11] انظر: المهذب (2/219، 220).
[12] رواه الحاكم في معرفة الصحابة (3/423)، وسكت عنه هو والذهبي، عن علي، وانظر: تاريخ الطبري (3/214، 215)، وتاريخ المسعودي (2/365، 366).
[13] متفق عليه عن ابن مسعود ، وقد سبق تخريجه ص 200
[14] انظر: الشرح الكبير (10/52).
[15] انظر: بدائع الصنائع (7/141)، وحاشية الدسوقي (4/299)، والمهذب (2/200).
[16] سبق ترجيحنا التضييق في القتال بما يعمُّ اتلافه، مثل أسلحة الدمار الشامل، حتى مع الكفار. فليراجع (الباب التاسع، الفصل الأول).
[17] انظر: بدائع الصنائع (7/141)، والشرح الكبير وحاشية الدسوقي (4/299)، والتاج والإكليل (6/278)، ونهاية المحتاج (7/378، 388)، والمهذب (2/220)، وكشاف القناع (6/163).
[18] انظر: المهذب (2/220).
[19] انظر: حاشية الدسوقي (4/299)، والتاج والإكليل (6/278)، والمهذب (2/220)، ونهاية المحتاج (7/387)، وكشاف القناع (6/164).
[20] انظر: نهاية المحتاج (7/383)، وكشاف القناع (6/166).
[21] رواه البخاري عن علي، وقد سبق تخريجه وقد سبق تخريجه ص 1103
[22] متفق عليه عن أبي سعيد، وقد سبق تخريجه وقد سبق تخريجه ص 1104
[23] عن أبي سعيد الخدري، أن أبا بكر جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إني مررت بوادي كذا وكذا فإذا رجل متخشع حسن الهيئة يصلي. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "اذهب إليه فاقتله". قال فذهب إليه أبو بكر فلما رآه على تلك الحال كره أن يقتله، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. قال: فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمر: "اذهب فاقتله". فذهب عمر فرآه على تلك الحال التي رآه أبو بكر، قال: فكره أن يقتله، قال: فرجع فقال: يا رسول الله إني رأيته يصلي متخشعا فكرهت أن أقتله. قال: "يا علي، اذهب فاقتله". قال: فذهب علي فلم يره فرجع علي فقال: يا رسول الله، إنه لم يره. قال فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن هذا وأصحابه يقرؤون القرآن ...". رواه أحمد في المسند (11118)، وقال مخرِّجوه: إسناده ضعيف، أبو رؤبة شداد بن عمران القيسي مجهول الحال ترجم له البخاري في التاريخ الكبير والكنى، وابن أبي حاتم في الجرح والتعديل ونسباه قشيريا، وقال البخاري: القشيري من قيس، والحافظ في تعجيل المنفعة ونسبه ثعلبيا! وذكر في الرواة عنه اثنين، وذكره ابن حبان في الثقات ونسبه تغلبيا! وباقي رجاله ثقات، ثم إن في متنه نكارة بيَّنها السندي، وجود الحافظ ابن حجر إسناده (16/57)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه أحمد ورجاله ثقات (6/335).
[24] الضِئْضِئ: الأصل، أو كثرة النسل.
[25] متفق عليه عن أبي سعيد وقد سبق تخريجه ص 240
[26] رواه ابن عساكر في تاريخ دمشق (23/412).
[27] رواه البخاري في التوحيد (7562)، وسعيد بن منصور في الشهادة (2/324)، عن أبي سعيد.
[28] رواه ابن أبي شيبة في الجَمَل (39085)، وقال عوَّامة: إسناده حسن، والطبراني في الأوسط (7/376)، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/184) عن علي، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رواه الطبراني في الأوسط وفيه محمد بن كثير الكوفي وهو ضعيف (6/364)، وضعَّفه الألباني في مختصر إرواء الغليل (2467)، وانظر: تاريخ الطبري حوادث سنة سبع وثلاثين من الهجرة (6/41).
[29] رواه البيهقي في الكبرى جماع أبواب الصلاة (2/245)، وابن الجعد في المسند (2371)، والطبري في التفسير (10/200).
[30] ذكره ابن عبد البر في التمهيد (23/338).
[31] متفق عليه: رواه البخاري في المغازي (4351)، ومسلم في الزكاة (1064)، كما رواه أحمد في المسند (11007)، عن أبي سعيد.
[32] رواه ابن أبي شيبة في السير (33400)، والطبراني في الأوسط (2/270)، والبيهقي في الكبرى كتاب الأشربة والحد فيها (8/335)، عن طارق بن شهاب.
[33] انظر: بدائع الصنائع (7/141)، وتبيين الحقائق (3/296)، وحاشية الدسوقي (4/299)، والتاج والإكليل (6/278، 279)، ونهاية المحتاج (7/385).
[34] تكملة الحديث السابق.
[35] انظر: الكامل لابن الأثير (2/347).
[36] سبق تخريجهما ص 1104
[37] انظر: بدائع الصنائع (7/140، 141)، ونهاية المحتاج (7/386).
[38] رواه عبد الرزاق في العقول (10/123)، وسعيد بن منصور في السنن باب جامع الشهادة (2/337)، وابن أبي شيبة في الجمل (38971)، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/181).
[39] رواه عبد الرزاق في العقول (10/124)، والبيهقي في الكبرى كتاب قتال أهل البغي (8/181).
[40] انظر: الشرح الكبير (10/57)، والعدة شرح العمدة صـ558.
[41] رواه ابن أبي شيبة في السير (33953)، والحاكم (2/167)، وصحَّح إسناده، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الكبرى (8/182)، كلاهما في قتال أهل البغي.
[42] رواه الحاكم (2/168)، والبيهقي في الكبرى (8/182)، كلاهما في قتال أهل البغي، وقال: تفرد به كوثر بن حكيم وهو ضعيف، عن ابن عمر، وقال الزيلعي في نصب الراية: سكت الحاكم عنه وذكره عبد الحق في (أحكامه) من جهة البزار وأعلَّه بكوثر بن حكيم وقال: إنه متروك، وكذلك قال الذهبي في (مختصره) متعقبا على الحاكم (3/458).
[43] انظر: المهذب (2/220).
----------( يُتبع )----------
مواضيع مماثلة
» قتال الإمام للبغاة (الخارجين على الدولة)
» { ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار }.الشبهه والرد
» الشيعة وتأسيس الدولة العراقية الحديثة
» لابد أن يعرفوا ماهي الدولة الصفوية الشيعية ،د احمدسليمان
» الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط حمل الان
» { ويح عمار تقتله الفئة الباغية، يدعوهم إلى الجنة ويدعونه إلى النار }.الشبهه والرد
» الشيعة وتأسيس الدولة العراقية الحديثة
» لابد أن يعرفوا ماهي الدولة الصفوية الشيعية ،د احمدسليمان
» الدولة العثمانية عوامل النهوض وأسباب السقوط حمل الان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin