بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 5 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 5 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
اخذ المضحي من شعره،، دراسه
صفحة 1 من اصل 1
اخذ المضحي من شعره،، دراسه
" سواغية الخلاف في مسألة الأخذ من الشعر والظفر في العشر الأول من ذي الحجة ولا إنكار في المختلف فيه "
أولا :
أخذ المضحي من شعره وظفره
نظرة فقهية في السياق التاريخي
تحرير محل النزاع
- ذهب عامة أهل العلم: إلى أن أخذ الشعر والظفر محظور على المحرم، وخالف أهل الظاهر في شعر غير الرأس، وفي الظفر.
- اتفق الفقهاء: على جواز أخذ الشعر والظفر لمن كان حلالا ولم يرد أن يضحي.
- اختلفوا: في حكم أخذ الشعر والظفر لمن كان حلالاً، وأراد أن يضحي، وأهلَّ عليه هلال ذي الحجة، وهنا موضع البحث.
الأقوال في المسألة :
القول الأول: الإباحة المطلقة، وهذا مذهب الحنفية.
القول الثاني: الكراهة، وهذا مذهب المالكية، والشافعية.
القول الثالث: التحريم، وهذا مذهب الحنابلة، والظاهرية.
السياق التاريخي للمسألة
كان القول الذائع المنتشر في زمن التابعين هو القول بالجواز، وعلى هذا سائر فقهاء المدينة والكوفة، وهما المصران اللذان يدور عليهما فقه الصحابة رضي الله عنهم.
غير أنه جاءت بعض الآثار المفيدة لمنع المضحي من أخذ شعره وظفره إذا أراد أن يضحي، أشهرها حديث أم سلمة رضي الله عنها، وجاء أيضاً عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن عمر رضي الله عنهما، وحُكي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى أثرَ أم سلمة رضي الله عنها: سعيدُ بن المسيب رضي الله عنه، وقد أخذه بحقه، فكان يفتي بموجبه، وينتصر له، وعنه أخذ الناس.
وبهذا ندرك: أن الذي يبحث في مسألة حكم الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي لا يمكنه بحال أن يتجاوز فقيه المدينة: "سعيد بن المسيب"، سيد التابعين، فمدار حديث أم سلمة بكل رواياته الموقوفة والمرفوعة عليه وحده حتى روي عنه موقوفاً عليه.
وقد حدث في عصر التابعين ثلاثة أحداث مهمة في تناول المسألة:
الحدث الأول: الطلاء بالنورة، وتَرْكُ الناس للحديث
فعن عمرو بن مسلم بن عمار الليثي قال: (كنا في الحمام قبيل الأضحى، فاطلى فيه ناس، فقال بعضُ أهل الحمام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا أو ينهى عنه، فلقيت سعيد بن المسيب، فذكرت ذلك له، فقال: يا ابن أخي، هذا حديث قد نسي وترك، حدثتني أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث).
قلت: هذه الجملة فهم منها بعضهم، أن سعيد بن المسيب يحكي ترك العمل بحديث أم سلمة، فَهِمَ هذا الإمامان: ابنُ عبد البر المالكي، وتلميذه ابنُ حزم الظاهرري، فاحتج به الشيخ على ترك العمل به، ورده التلميذ لأصله في خطأ إعلال النصوص بترك العمل.
لكن الأظهر: أن سعيد بن المسيب لا يريد الاحتجاج بترك العمل بالحديث، وإنما أراد أن الناس قد فرطوا في الأخذ به لنسيانه، أو أنه لم يشتهر فلم يعلموا به، ويدل على ذلك الروايات الكثيرة عنه بفتواه بمقتضى الحديث، وتحسينه لفتوى من أفتى بموجبه.
إذن هناك ترك للحديث: ثم هناك اتجاهان في تفسير هذا الترك؛ فمن الناس مَنْ فسره بأنه ترك أهل العلم للعمل بالحديث، والأدق أن المراد أن الناس تركوه جهلاً منهم أو نسياناً، فالأول تركٌ للحديث بمعنى إسقاط الاحتجاج به، والآخر تركٌ فيه تأسف على عدم عمل الناس به.
ويبدو أن تفسير الترك بمنى ترك العمل بالحديث: هو سبب ما أضيف إلى سعيد بن المسيب أنه لا بأس بالاطلاء بالنورة في عشر ذي الحجة.
الحَدَث الثاني: تأييد سعيد لفتوى الخرساني
فعن قتادة: (أن كثير بن أبي كثير سأل سعيد بن المسيب أن يحيى بن يعمر يفتي بخراسان، يعني كان يقول: إذا دخل عشر ذي الحجة واشترى الرجل أضحيته فسماها لا يأخذ من شعره وأظفاره، فقال سعيد: قد أحسن، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك أو يقولون ذلك).
وفي رواية، قال قتادة: (فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: نعم، قلت: عمن يا أبا محمد، قال: عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم).
قيل لأحمد: إن قتادة يروي عن سعيد بن المسيب: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا اشتروا ضحاياهم أمسكوا عن شعورهم وأظفارهم إلى يوم النحر)، فقال: هذا يقوي هذا، ولم يره خلافا ولا ضعفه.
قلت: في هذه القصة فوائد:
1. وقوع الفتوى في زمن التابعين بمقتضى الحديث.
2. يبدو أن هذا الأمر لم يكن مشهورا، بدليل أن سعيداً يحدَّث بفتوى في خراسان، ثم يسأل عن حكم المسألة ودليلها.
3. فيه تصريح سعيد بن المسيب بموافقته لهذا الفتوى.
4. فيه بيان مأخذ الفتوى به، وهو أنه قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يعزز وقف الحديث وعدم رفعه، إذ لو كان عنده ثابتا مرفوعا لما احتاج إلى الاحتجاج بأقوال الصحابة.
ومما ورد في الباب من فتوى الصحابة به: ما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «إذا دخل العشر واشترى أضحيته أمسك عن شعره وأظفاره»، قال قتادة: فأخبرت بذلك سعيد بن المسيب، فقال: كذلك كانوا يقولون.
الحدث الثالث: عكرمة والنقد القياسي للحديث
أخرج النسائي حديث أم سلمة من رواية شريك عن عثمان الأحلافي، عن سعيد بن المسيب قال: «من أراد أن يضحى, فدخلت أيام العشر , فلا يأخذ من شعره , ولا أظفاره، قال عثمان: فذكرته لعكرمة, فقال: ألا يعتزل النساء والطيب!!».
قلت: هاهنا ينتقد عكرمة تلميذ ابن عباس: فتوى سعيد بن المسيب من عدم الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي، واستعمل في نقده لهذه الفتوى الأدوات القياسية، فقال: إن كان هذا الحكم تشبها بالمحرم؛ أفلا يعتزل النساء ويجتنب الطيب كما يصنع المحرم؟! فإن هذا مقتضى القياس، أما وقد تركوه فإنه يدل على فساده، فتبعيض القياس من غير معنىً يلوح أو يتخيل إشارة بيِّنة على وهنه.
وقد أجمع العلماء – كما يقول الطحاوي وابن عبد البر: على أن الجماع مباح في أيام العشر لمن أراد أن يضحي، فما دونه أحرى أن يكون مباحا.
مرحلة ما بعد سعيد بن المسيب
يمكن تلخيصها في حدثين هامين:
الحدث الأول: الاختلاف في رفع الحديث ووقفه
هذه المرحلة وقع فيها الاختلاف: هل الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو أنه موقوفٌ على أم سلمة؟ أو أنه من فتوى سعيد بن المسيب من قوله؟
وقد أشار الإمام مسلم إلى شيء من هذا الاضطراب الواقع في رواية الحديث، فنقل عن سفيان أنه قيل له - وهو أحد رواة الحديث -إن بعضهم لا يرفعه؟ فقال: لكني أرفعه.
وقد ساق الإمام مسلم والإمام النسائي جملة من هذه الآثار، وقد صحح أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن حبان، وابن حزم: الحديث مرفوعا.
بينما جزم بوقفه: الدارقطني في العلل، وابن عبد البر في التمهيد، وقبلهم الطحاوي في شرح معاني الآثار في قوله القديم الآثار لما كان يقول بقول الجمهور.
الحدث الثاني: ترك أكثر فقهاء الأمصار العمل به:
فأهل الكوفة على الجواز، ولم يقولوا حتى بكراهة الأخذ.
عن الليث بن سعد، وهو فقيه أهل مصر، حين ذُكر له حديث أم سلمة قال: قد رُوي هذا, والناس على غيره.
وقد ذكر عمران بن أنس: أنه سأل مالكا عن حديث أم سلمة هذا، فقال: ليس من حديثي، قال: فقلت لجلسائه: قد رواه عنه شعبة وحدث به عنه وهو يقول: ليس من حديثي فقالوا لي: إنه إذا لم يأخذ بالحديث قال: فيه ليس من حديثي.
ومن هنا ندرك صدق مقولة ابن عبد البر رحمه الله أن سائر فقهاء المدينة والكوفة على الجواز.
ولادة القول بالكراهة
جاء الإمام الشافعي، فحاول الجمع بين ما جاء في الأثر وبين الأخذ بالقياس وما عليه عمل الناس، وما يعضده من عموم حديث عائشة رضي الله عنها، فصار إلى القول بالكراهة، فهو يقف موقفا متوسطا بين القائلين بالجواز والقائلين بالتحريم.
ولعل هذا هو قول ابن عمر رضي الله عنهما، فإنه: (مر بامرأة تأخذ من شعر ابنها في الأيام العشر، فقال: لو أخرتيه إلى يوم النحر كان أحسن) ، مع ما فيه من ملاحظة أن المنع إنما يلحق المضحي لا غيره، بينما أشار هنا إلى تأخير حلق شعر الصبي، والصبي لا يقع منه التضحية عادة.
ثم تبع الإمامَ الشافعي: على الكراهة أصحابُه، وكذا: المتأخرون من أصحاب الإمام مالك، فاستقر مذهبهما على كراهة ذلك.
مرحلة إعادة إحياء القول بالتحريم:
جاء الإمام أحمد، فأخذ بظاهر حديث أم سلمة رضي الله عنها، وهو مَنْ تحمل عبء إظهار هذا القول، والفتوى بموجبه بعد سعيد بن المسيب، ووافقه على ذلك إسحاق بن راهويه.
قال أحمد: ذكرت لعبد الرحمن بن مهدي حديث عائشة، وحديث أم سلمة، ولم يأت بجواب، فذكرته ليحيى بن سعيد، فقال يحيى: ذاك له وجه، وهذا له وجه، حديث عائشة إذا بعث بالهدي، وأقام وحديث أم سلمة إذا أراد أن يضحي بالمصر.
قال أحمد: وهكذا أقول، قيل له: فيمسك عن شعره وأظفاره؟ قال: نعم، كل من أراد أن يضحي، فقيل له: هذا على الذي بمكة؟ فقال: لا، بل على المقيم.
قيل له: إن قتادة يروي عن سعيد بن المسيب: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا اشتروا ضحاياهم أمسكوا عن شعورهم وأظفارهم إلى يوم النحر)، فقال: هذا يقوي هذا، ولم يره خلافا ولا ضعفه.
والقول بتحريم الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي: من مفردات الإمام أحمد.
ثم أخذ بهذا القول بعد ذلك: أبو جعفر الطحاوي في آخر قوليه، وأهل الظاهر متمثلين بداود وابن حزم.
وخلاصة تاريخ هذه المسألة:
يمكن اعتباره بسعيد بن المسيب الذي روى حديث الباب، وأفتى بموجبه، وكان مشهورا عنه دون غيره، ثم خمل هذا القول، ولا يكاد يضاف إلى أحد بعده إلا ما قيل عن ربيعة الرأي، أما فقهاء المدينة ومكة والكوفة ومصر فلم يقولوا بمقتضاه من الحظر، وينبغي أن يشار هاهنا أن القول بالكراهة يندرج في الجواز، ثم اشتهر القول بالحظر عن أحمد وإسحاق به، ثم أهل الظاهر، ووافقهم عليه الطحاوي في آخر قوليه.
حديث عائشة رضي الله عنها؛ هل يعارض حديث أم سلمة؟
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فتَلْتُ قلائدَ بُدْن النبي صلى الله عليه وسلم بيديَّ, ثم قلَّدها, وأشعرها, وأهداها, فما حَرُم عليه شيءٌ كان أُحِلَّ له»، وفي رواية: «ثم لا يجتنب شيئاً مما يجتنبه المُحْرِم».
قال ابن عبد البر: في حديث عائشة أيضا من الفقه ما يرد حديث أم سلمة ويدفعه.
وبيَّن ذلك الشافعي فقال: البعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية, فدلَّ على أنه لا يحرم ذلك.
وقال الماوردي: لما أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرم هدياً, ولم يحرِّم على نفسه شيئاً: كان غيره أولى إذا ضحى في غير الحرم.
وذكر الطحاوي: أن مجيء حديث عائشة رضي الله عنها أحسنُ من مجيء حديث أم سلمة رضي الله عنها, لأنه قد جاء متواتراً، وحديث أم سلمة رضي الله عنها لم يجئ كذلك, بل قد طُعن في إسناده, فقيل: إنه موقوف على أم سلمة رضي الله عنها.
لكن أجاب الحنابلة والظاهرية والطحاوي عن حديث عائشة رضي الله عنها:
1. بأنه عام، وحديث عائشة خاص في محل النزاع، فيقدم في موضعه، ويحمل حديث عائشة على ما لا يتناوله حديث أم سلمة من الجماع والطيب ونحو ذلك.
2. أن عائشة رضي الله عنها تخبر عن فعله صلى الله عليه وسلم، وأم سلمة رضي الله عنها تخبر عن قوله صلى الله عليه وسلم، والقول يُقدَّم على الفعل, لاحتمال أن يكون فعله خاصاً به.
3. أن عائشة رضي الله عنها تعلم ظاهراً ما يباشرها به صلى الله عليه وسلم من المباشرة, أو ما يفعله صلى الله عليه وسلم دائماً, كاللباس والطيب, فأما ما يفعله نادراً, كقص الشعر وقَلْم الأظافر مما لا يفعله في الأيام إلا مرة, فالظاهر أنها لم تُرِدْه بخبرها. وإن احتمل إرادتَها إياه: فهو احتمالٌ بعيد, وما كان هكذا: فاحتمال تخصيصه قريب, فيكفي فيه أدنى دليل, وخبرُنا دليلٌ قوي, فكان أولى بالتخصيص.
4. حمل حديث عائشة رضي الله عنها على أمر خاص, وهو مَن بَعَثَ بهديه, وأقام في أهله: فلا يكون مُحْرماً, ولا يحرم عليه, وقالوا: إن حديث عائشة رضي الله عنها ردٌّ على من يقول بأنه يكون بذلك الإرسال مُحْرماً.
5. أن خبر أم سلمة صريحٌ في النهي, فلا يجوز تعطيله أيضاً, فأم سلمة تخبر عن قوله وشَرْعه لأمته, فيجب امتثاله, وعائشة تخبر عن نفيٍ مستنِد إلى رؤيتها, وهي إنما رأت أنه لا يَصير بذلك مُحْرِماً, يَحرم عليه ما يَحرم على المُحْرِم, ولم تخبر عن قوله: إنه لا يَحْرُم على أحدكم بذلك شيء, وهذا لا يعارض صريح لفظه.
6. أنه يجب حمل حديث عائشة رضي الله عنها على غير محل النزاع, وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليفعل ما نهى عنه وإن كان مكروهاً.
قلت: أما حديث أم سلمة إذا ثبت مرفوعاً فلا شك بأنه خاص بصورة محل النزاع، فتقديمه أولى، ويبقى الكلام بعد ذلك في درجة النهي في التحريم أو الكراهة.
ولذا فأهم نقطة في المسألة هي: الفراغ من الموقف من حديث أم سلمة هل هو مرفوع أو موقوف؟
الترجيح:
الذي يظهر لي والعلم عند الله هو أن الحديث موقوف على أم سلمة رضي الله عنها للأسباب التالية:
- أن القول بالوقف معتضد بتصريح سعيد بن المسيب الذي عليه مدار الحديث: أن معتمده في الفتوى هو قول الصحابة، ولو كان عنده شيء مرفوع لما كان لاحتجاجه بأقوال الصحابة معنىً، فصاحب الدليل الأقوى لا يستدل بالأدنى.
- أنه مخالف للقياس، وقد فطن لهذا عكرمة لما أُخبِر بفتوى سعيد بن المسيب، فقال: ألا يجتنب النساء والطيب؟! ولم يفسِّر القائلون بالتحريم وجه الحظر في الحديث بمعنى من النظر، أما التشبه بالمحرم فهو منقوض بإجماعهم على عدم اجتنابه للنساء والطيب.
قال الإمام ابن عبد البر: قد أجمع العلماء على أن الجماع مباح في أيام العشر لمن أراد أن يضحي, فما دونه أحرى أن يكون مباحاً.
وقال الخطابي: في حديث عائشة دليل على أن ذلك ليس على الوجوب ...وأجمعوا أنه لا يحرم عليه اللباس والطيب كما يحرمان على المحرم فدل ذلك على سبيل الندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب.
- أنه مخالف لإطلاق حديث عائشة رضي الله عنها؛ فإن البعث بالهدي هو أكثر من مجرد التضحية؛ حتى وقع خلاف قديم في كونه يجتنب ما يجتنب منه المحرم.
- أن حديث أم سلمة لم يجيء مجيء حديث عائشة الذي تواتر عنها.
- حديث أم سلمة وإن كان أخص في محل النزاع إلا أنه مختلف في رفعه ووقفه، فيكون عموم حديث عائشة قرينة على عدم صحة رفع حديث أم سلمة، لاسيما مع قوة الورود في الحديث فبعث الهدي أكثر من إرادة التضحية، إضافة إلى تأخره زمنا، فقد كان في السنة التاسعة قبل حجة الوداع بسنة واحدة، ولا يصح حمله على أنه لم يضح في تلك السنة لأنه عليه الصلاة والسلام لم يترك التضحية أصلاً.
- يعضد القول بمقتضى حديث عائشة أن فقهاء الأمصار على ذلك، حتى حكى الليث بن سعد أن هذا الحديث وإن رُوي إلا أن الناس على غيره.
- حاول الشافعي بعد ذلك أن يجمع بين الحديثين بالقول بالكراهة، ثم جاء بعده أحمد فجزم بالحظر، ووافقه إسحاق، ثم أهل الظاهر.
- الدراسة التاريخية للمسألة تفيد في تحديد تطور الأقوال، وانقساماتها، وتكشف عن أسباب حدوث ذلك.
خلاصة الخلاصة:
حديث عائشة أرجح من حديث أم سلمة سندا ومعنى وعملاً
مستفاد ومنقول للأهمية والإفادة وبيان أن المسألة خلافية والخلاف فيها سائغ ولا إنكار في المختلف فيه
ثانيا :
هذا بحث نفيس ماتع للمحدث الدكتور حاتم العوني يفصل فيه المسألة تفصيلا ماتعا :
مقتطفات مهمة حول موضوع الأخذ من الشعر والظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي
المقصود من هذه المقالة بيان أمور :
1-كيف يُشاع بين عوام المسلمين القول المخالف لقول جماهير أهل العلم وكيف يُنشر القول المخالف للدليل الأرجح ، حتى كأنه لا وجود لقول الجمهور والأقوى فقها ودليلا !
2-وكيف يُشاع دليل القول المرجوح دون أدلة القول الراجح الذي عليه الجماهير .
3-وكيف تُشاع سطحية التفقه بمثل هذا المنهج الذي يستغل الظواهر أو تستغله الظواهر ؛ لأنه لا يحترم القول المخالف ، ولو احترم القول المخالف ، لما أعان على نشر السطحية ، حتى لو أخذ بالقول المرجوح .
4-وكيف يجب التعمق في تناول الأدلة ، عدم الاكتفاء بظاهر أحد الأدلة .
حيث ورد في هذه المسألة حديثان متعارضان :
الحديث الأول: هو حديث أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: « «إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي، فلا يأخذن شعرا، ولا يقلمن ظفرا». وفي لفظ: «إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئا». وفي لفظ: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره» . أخرجه الإمام مسلم في صحيحه [1977].
والحديث الثاني: أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه، ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم» [البخاري [1698] ومسلم [1321] ]. وفي أحد ألفاظه عندهما: عن عَمْرَةَ بنت عبد الرحمن: « أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها إن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه، قالت عمرة: فقالت عائشة رضي الله عنها: ليس كما قال ابن عباس، «أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي» .
فاختلف العلماء في الموقف من الحديث الأول (حديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي) ؛ لأسباب :
الأول : معارضة ظاهره لحديث عائشة (رضي الله عنها) .
الثاني : انفراده بحكم فقهي يعارض فقه الباب من خمس جهات :
1-وهو أن غير المحرم لا علاقة له بأحكام المحرم ؛ فقد أجمعوا مثلا على أنه لا بأس بالجماع في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي ، وأن ذلك مباح له ، فحلق الشعر والأظفار أحرى أن يكون مباحا . وكذلك التطيب ، لا يحرم على غير المحرم . وقد اعترض ابن حزم على هذا الإشكال بكلام فاسد ، مبني على عدم قوله بالتعليل وعلى جمود الأخذ بالظاهر ، ولذلك لم يأبه له الفقهاء ، حتى قال العيني عن كلام ابن حزم : «وهذا كلام ساقط ، ظاهر سقوطه ، لا يُـحتاج إلى بيانه ؛ لوضوحه» .
2-وأن الضحية ليست مختصة بالمحرم أصلا ، فالضحية مشروعة لكل قادر ، فلا علاقة بينها وبين أحكام الإحرام .
3-وأن من أراد الإحرام يُستحب له أن يتنظف بالأخذ من شاربه ونتف إبطه وحلق عانته وتقليم أظافره قبل إحرامه ، حتى في مذهب من أخذ بحديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي ، وقد يُحرم بعد دخول العشر ، وهو يريد أن يضحي . فهنا يتناقض أمران : أمر من مستحبات الإحرام ، وأمر لا علاقة له بالإحرام وهو الضحية .
4-أن العيد يُستحب له التنظف والتزين قبل صلاة العيد ، ومن سنن الفطرة في الزينة الأخذ من الشعر والظفر ، والضحية لا تُذبح إلا بعد صلاة العيد .
5-أن الضحية مستحبة على الراجح ، وهو قول عامة أهل العلم ، ولا يمكن أن يكون أمر مستحبا ويكون أمرٌ ليس من شروطه ولا من أجزائه (ليس ركنا ولا واجبا من واجباته) واجبا . وسيأتي شرح هذا الأمر بتفصيل أكبر .
ولهذا الإشكال في حديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي (حديث أم سلمة رضي الله عنها) تعددت مواقف العلماء منه :
الموقف الأول : من العلماء من مال إلى تضعيف الحديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي ، وهو حديث أم سلمة رضي الله عنها ، بأنه حديثٌ وقع فيه اختلافٌ في رفعه إلى النبي ﷺ، حيث وَقَفَهُ بعضُ الرواة على أم سلمة رضي الله عنها، فجعل الحديثَ من كلامها لا من كلام النبي ﷺ.
والحقُّ أن الاختلاف في تضعيف حديث أم سلمة رضي الله عنها اختلافٌ قويٌّ، مع كونه حديثًا في صحيح مسلم !
فقد مال إلى تضعيفه أحد كبار نقاد الحديث، ألا وهو الإمام الدارقطني .
ومع هذا الاختلاف القويّ، إلا أن الأرجح عندي فيه هو صحة الرفع. وتصحيحه هو ما كان عليه أكثر النقاد، حسب ما وصلنا من أحكامهم: كالإمام أحمد، والترمذي والطحاوي وابن حبان والبيهقي وأبي مسعود الدمشقي، وغيرهم، فكلهم على تصحيحه.
ومع ذلك فيبقى التضعيف قولا وجيهًا، حتى إن الإمام الطحاوي مع ترجيحه قبولَ الحديث المرفوع، لم يستطع إغفالَ الفرق الكبير في درجة الصحة بين حديث أم سلمة وحديث عائشة المعارِض له، حيث قال في كتابه (شرح معاني الآثار): « ففي ذلك دليل على إباحة ما قد حظره الحديث الأول. ومجيء حديث عائشة رضي الله عنها أحسن من مجيء حديث أم سلمة رضي الله عنها , لأنه جاء مجيئا متواترا. وحديث أم سلمة رضي الله عنها , لم يجئ كذلك , بل قد طعن في إسناد حديث مالك , فقيل: إنه موقوف على أم سلمة رضي الله عنها ».
بل لقد نقل ابن عبد البر عن أكثر أهل العلم تضعيفَ حديث أم سلمة رضي الله عنها، وهو نقلٌ بخلاف ما نجده اليوم في المصادر؛ إلا إن أراد أن عدم أخذ عامة الفقهاء بحديث أم سلمة رضي الله عنها يدل على تضعيفهم له، فقوله حينئذ له وجهُهُ الذي تؤيده المصادر حتى اليوم ؛ إلا أن عدم الأخذ بظاهر الحديث لا يلزم منه التضعيف، إذ قد يكون مبنيًّا على تأويله (كما سيأتي) .
الموقف الثاني : موقف من قبل الحديثين وصحح الاحتجاج بهما ، فلجأ إلى الجمع بينهما . ولكنهم اختلفوا في أوجه الجمع ، فاختلف الحكم الفقهي بحسب جمعهم :
الوجه الأول في الجمع بين الحديثين : من مال إلى تحريم الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي .
وهو الجمع الذي اختاره الإمام أحمد ، واستفاده من شيخه يحيى بن سعيد القطان . فقد قال الإمام أحمد : «ذكرتُ لعبدالرحمن بن مهدي حديثَ أمِّ سلمة وحديثَ عائشةَ: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث الهدي لم يحرم عليه شيء" ؟ فبقي ساكتا، ولم يجب. (قال الإمام أحمد : ) وذكرتُه ليحيى بن سعيد؟ فقال: ذاك له وجهٌ ، وهذا له وجه : وحديث أم سلمة لمن أراد أن يضحي بالمصر ، وحديث عائشة لمن بعث بهديه وأقام . (قال الإمام أحمد وهكذا أقول : حديث عائشة هو على المقيم الذي يُرسل بهديه ، ولا يريد أن يضحي بعد ذلك الهدي الذي بعث به ، فإن أراد أن يضحي لم يأخذ من شعره شيئا ولا من أظفاره ، على أن حديث أم سلمة هو عندي على كل من أراد أن يضحي في مصره».
وقد ردّ هذا الجمعَ ابنُ عبد البر، بقوله: « قد صحَّ أن النبي ﷺإذْ بعث بهديه لم يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم، وصحَّ أنه كان يُضَحِّي ﷺ، ويحضُّ على الضحية، ولم يصحَّ عندنا أنه ﷺفي العام الذي بعث فيه بهديه (ولم يبعث بهديه لِيُـنْـحَرَ عنه بمكة؛ إلا سنةَ تسعٍ، مع أبي بكر)، ولا يُوجَد = أنه لم يُضَحِّ في ذلك العام».
والذي يُقوِّي جوابَ أبي عمر ابن عبد البرّ: أن النبي ﷺ لم يترك الضحية ، حتى في حجة الوداع ، لما حجَّ ، كما يدل عليه حديث ثوبان رضي الله عنه، قال: ضَحَّى رسول الله ﷺ، ثُمَّ قال: «يا ثَوْبَانُ، أَصْلِحْ لنا لَـحْمَ هذه الشَّاةِ» ، قال: فما زِلْتُ أُطْعِمُهُ منها، حتى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. أخرجه مسلم وأبو داود واللفظ له.
فإذا كان النبي ﷺ لم يترك الضحيةَ في حَجِّة الوداع، مع كونه ﷺ قد ساق معه من الهدي مائةً من الإبل نُحرت كلها بمنى يوم النحر ، مع ذلك فهو لم يترك الضحية حتى في هذا اليوم الذي أهدى فيه بمائة من الإبل ، وهو حاجٌّ مسافر = فَـلَأن لا يترك الضحية إذا أرسل هَدْيَه ليُنحر بعيدًا عنه بمكة، وهو مقيمٌ في المدينة = أَوْلى وأَحْرى !!
قلتُ وهناك جوابٌ آخر على جمع الإمام أحمد: أن مَن بعث بهديه إلى مكة أولى بأن يشابه حالُه حال المحرِم ممن اكتفى بالتضحية في بلده ؛ لأن من بعث بالهدي أشبهُ حالاً بالمحرِمِ في نسيكته ممن اكتفى بالتضحية في بلده .
ويدل على قوة هذه الأشبهيّة وعلى أثرها في فقه هذا الباب:
1-أن هذا الشَّبَهَ القوي بين الحاجّ والذي يُرسلُ الهدي من غير الحجاج هو الذي جعل ابن عباس رضي الله عنهما يقيس الحلالَ غير الحاجّ على المحرم في ترك محظورات الإحرام ، كما في قصة ردِّ عائشة لاجتهاده هذا ، التي سبق ذِكْرُها من الصحيحين .
2-كما أن هذا الاجتهاد هو اجتهاد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أيضا: فقد صحَّ عنه أنه «كان إذا بعث بالهدي، يُمسك عما يمسك عنه المحرم، غير أن لا يلبي»، وصحّ عنه أيضًا: أنه سُئل عن الرجل يبعث بالهدى وهو مقيم ؟ فقال: «يُواعده يومًا، فإذا بلغ، أمسك هو عما يمسك عنه الحرام». بل هذا الاجتهاد هو اجتهادُ جماعة من السلف، ويخالفهم فيه آخرون منهم.
وعلى هذا: فإنه إن كان على من أراد أن يُضحي أن يمسك عن شعره وظفره ، فمن بعث بهديه أولى بأن يمسك عنهما . وهذا مما يدل على ضعف الجمع الذي رضيه الإمام أحمد من جهة الفقه والقياس !
وقد أشار الإمام الشافعي إلى هذا المعنى عندما قال عقب حديث عائشة: « في هذا دلالةٌ على ما وصفتُ، من أن المرء لا يُـحْرِمُ بالبَعْـثَةِ بهديه. يقول: البعثةُ بالهدي أكبر من إرادة الضحية».
أي : إذا كان المقيم ببعثه للهدي إلى مكة لم يحرم عليه الأخذ من الشعر والظفر ، فأولى منه من أراد أن يضحي .
بل ذهب الإمام الماوردي (ت450ﻫ) إلى أبعد من هذا الاستدلال، وبما يردّ على جمع الإمام أحمد أيضًا من وجهٍ آخر، حيث عدَّ هَدْيَ النبي ﷺ الذي بعثه مع أبي بكر رضي الله عنها = هو نفسه ضحايا النبي ﷺ، ومع ذلك لم يُـحَـرِّم النبي ﷺ على نفسه شيئًا مما يَـحْرُمُ على المحْرِم. فقال (رحمه الله): «فكان هَدْيَ رسولِ الله ﷺ، وضحاياه؛ لأنه كان بالمدينة، وأنفذها مع أبي بكر سنةَ تسعٍ. وحُكْـمُها أغلظُ؛ لِسَوْقِها إلى الحرم. فلما لم يُـحَـرِّمْ على نفسه شيئًا، كان غيره أولى إذا ضَحَّى في غير الـحَرَمِ».
وبهذين الجوابين يتبيّنُ أن هذا الجمع الذي ذهب إليه الإمام أحمد ليس هو الجمع القوي الذي يمكن أن يحلّ إشكالَ التعارض بين الحديثين ، فضلا عن بقية الإشكالات الفقهية التي سقناها آنفا .
وأما الوجه الثاني للجمع بين الحديثين: فهو جمعُ الإمام الطحاوي، وهو أنه ذكر من روايات حديث عائشة رضي الله عنها هذا اللفظ: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله ﷺ، ثم يبعث بالهدي، ويقيم عندنا، لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم من أهله، حتى يرجع الناس»، ثم جعل الإمامُ الطحاويُّ حديثَ عائشةَ خاصًّا بالجماع، فهو الأمر الذي كان النبي ﷺلا يدعه، حتى عند عَزْمِه على الضحية، وهو بتخصيصه في عدم ترك الجماع لا يعارض أنه ﷺكان يُمسك عما سوى الجماع، وهو الأخذ من الشعر والظفر، الوارد في حديث أم سلمة. فجعل حديثَ عائشةَ في عدم الامتناع عن الجماع خاصة، وحديثَ أمِّ سلمةَ في الإمساك عن الشعر والظفر.
وهذا الجمع أيضًا ضعيف ، بل هو أضعف من الأول :
أولا: لأن الإمام الطحاوي إنما استدلّ بأحد ألفاظ الحديث، وترك الألفاظَ الأخرى الصريحة في التعميم، ومنها ما جاء في الصحيحين: كقولها رضي الله عنها عن النبي ﷺ: «ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شيئا مِمَّا يَـجْـتَـنِـبُه الـمُحرِمُ»، وفي الرواية الأخرى: «فلم يَحْرُمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَحَلَّهُ الله، حتى نُحِرَ الْهَدْيُ».
وثانيًا: أن ابن عباس (رضي الله عنهما) لم يكن يمتنع عن الجماع فقط ، حين ردّت عليه عائشة (رضي الله عنها) بفعل النبي ﷺ . بل لقد كان ابن عباس يترك كلَّ شيءٍ يتركه المحرم، حتى إنه كان يتجرّد من ملابسه ! فعن رَبِيعَةَ بن عبد الله بن الـهُدير انه رَأَى عبد الله بن عباس وهو أميرٌ على البصرة ، في زمن علي بن أبي طالب ، مُتَجَرِّدًا على منبر البصرة ، فَسَأَل الناس عنه ؟ فَقَالُوا: إنه أَمَرَ بِهَدْيِهِ أن يُقَلَّدَ؛ فَلِذَلِكَ تَـجَرَّدَ. (قال رَبِيعَةُ فَلَقِيتُ عَبْدَ الله بن الزُّبَير، فَذَكَرْتُ لَه ذلك ؟ فقال: بِدْعَةٌ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ». فلم يكن الاجتهادُ الذي تَـرُدُّ عليه عائشةُ اجتهادَ مَن يرى الامتناعَ عن النساء فقط ، بل كان يمتنع عن كل شيءٍ يمتنع منه المحرم ، ومنه النساء . وعلى هذا كان ابن عمر (رضي الله عنه) أيضا ، كما سبق نقل كلامه . فلا يصح حَـمْلُ كلام عائشة (رضي الله عنها) وحديثُها على أنها إنما تخالف اجتهادَ من كان يرى الامتناعَ عن النساء فقط ؛ لأن الذين كانت تردُّ عليهم لم يكن هذا هو اجتهادهم أصلا .
والوجه الثالث في الجمع بين الحديثين : وهو جمع من مال من العلماء إلى حمل حديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر على أنه نهي للكراهة ، وليس للتحريم . وبذلك جمعوا بين الحديثين، وهم الجمهور: وهذا هو ما ذهب إليه المالكية، والشافعي والشافعية، وبعض الحنفية (ونسبوه إلى الإمام أبي حنيفة)، وبعض الحنابلة . ونُقلَ القولُ به عن: عبدالله بن المبارك. بل نقل بعضُ الحنفيةِ الإجماعَ على هذا القول، فقد جاء في حاشية ابن عابدين: « ومما ورد في صحيح مسلم: قال رسول الله ﷺ: «إذا دخل العشر، وأراد بعضكم أن يضحي، فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفرا»، فهذا محمولٌ على الندب، دون الوجوب، بالإجماع».
وهذا الجمع هو أقوى وجوه الجمع ، على ثبوت صحة حديث أم سلمة (رضي الله عنها) .
فبغض النظر عن الاختلاف الذي ذكرناه للعلماء، ومالهم فيه من استدلالات لم أحصها كلها. وبغض النظر عن هذا الاجتهاد العميق الذي بذله العلماء في توجيه الحديثين المتعارضين؛ إلا أن ذلك كله لا يؤثر عندي في فهم النهي النبوي عن الأخذ من الشعر والظفر الوارد في حديث أم سلمة؛ فلو لم يرد حديث عائشة، بل لو لم يأت أيُّ حديثٍ يعارض حديث أم سلمة، ما كان حديثها عندي ليدلّ على تحريم الأخذ من الشعر والظفر ! وسيبقى عندي دالاًّ على الكراهة فقط !!
ذلك أن الضحية نفسها سنة (على الراجح)، وهو قول عامة أهل العلم . وقد دلَّ استقراء أحكام الشريعة واطّرادُ أصولها : أنه لا يمكن أن تستحبَّ الشريعةُ شيئًا، ثم هي مع استحبابها له تُوجب له أمرًا ليس هذا الأمرُ من شروط ذلك المستحب ولا جزءًا من أجزائه الواجبة؛ حيث إن هذا لو وقع لكان تناقضًا لا يقبله ترتيبُ الأحكام الشرعية بعضها على بعض؛ بل لا تقبله الأوامر المعقولة من العقلاء ! إذ كيف يكون الأصل مستحبًّا وفَرْعُه (الذي ليس من شروطه ولا من واجباته) واجبًا؟!
أرأيت لو قال الرئيس للمرؤوس : "لو أيقظتني الساعة الفلانية فهو حسن ، ولن ألومك ولن أعتب عليك إن لم تفعل . لكن إذا نويت إيقاظي فلا بد أن تجني ثمر شجر المزرعة ، وإلا سأكون غاضبا عليك " ، ولا علاقة بين استيقاظه في ذلك الوقت وجني الثمار ! مثل هذا الأمر لا يصدر من عاقل ، فضلا عن حكيم !!
ونحن قد عرفنا عدم وجود هذه العلاقة بين الضحية والأخذ من الشعر والظفر من أن الضحية تصح وتُتقبل حتى ولو أخذ المضحي من شعره وظفره عند من يرى حرمة الأخذ ، ولا ادعى أحد من العلماء أن أجر الضحية ينقص بالأخذ من الشعر أو الظفر ، فضلا عن أن يقول أحد ببطلان الضحية ! فضلا عن عدم التلازم الظاهر والتباين التام بين أحكام الضحية وحكم الأخذ من الشعر والظفر .
وبذلك يتبين أن من يُحرّم الأخذَ من الشعر والظفر، مع قوله باستحباب الضحية، فهو في تناقُضِ ترتيبِ أحكامِه بعضِها على بعض: كمن يُوجِبُ التسوُّكَ لصلاة النافلة، مع أن التسوُّكَ عنده ليس شرطا لها ولا جزءًا من أجزائها (أي: ليس ركنًا من أركانها، ولا واجبًا من واجباتها). وكمن يُوجب أَكْلَةَ السَّحَر لصيام النافلة، مع أنها عنده ليست شرطًا له ولا جزءًا من أجزائه. وكمن يُوجِبُ في صيام عاشوراء المستحبِّ صيامَ يومٍ قبلَه أو بعدَه، مع أن صيامَ يومٍ قبلَه أو بعده (لمخالفة اليهود) ليس شرطا لصحة صيام عاشوراء ولا ركنا من أركانه.
وهذا بخلاف ما لو كان الأمرُ شرطا من شروط الصحة للنافلة، أو واجبًا من واجباتها، كالطهارة التي هي شرطٌ لصلاة النافلة، وكأداء أركان حج النافلة أو أركان صلاة النافلة وواجباتهما؛ فإن أداء هذه الشروط والأركان كله واجبٌ على من أراد الدخول في تلك النوافل أو شرع في أدائها، مع أن أصل تلك الأعمال (وهو حج النافلة أو صلاة النافلة) ليس واجبًا ابتداءً، لكن بعزم الدخول فيهما وجب تحقيقُ شروطهما، وبالشُّرُوع في أدائهما وجب أداء واجباتهما وأركانهما.
وبهذا نرد على اعتراض ابن حزم ، عندما رد على من بين دلالة هذا الخلل في ترتيب الوجوب على المستحب ، بمثل تلك الصور التي يكون فيها المستحب لا يصح إلا بشروط وواجبات ؛ لأننا نقول لابن حزم : لكن الأخذ من الشعر والظفر ليس من شروط الضحية ولا من واجباتها ، فلا يستويان . خاصة أن ابن حزم يرى استحباب الضحية ، بل يستدل للاستحباب بحديث : « «من كان له ذبح يذبحه فأهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره، ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي» ، حيث قال ابن حزم : « فقوله - عليه السلام -: " فأراد أن يضحي"برهان بأن الأضحية مردودة إلى إرادة المسلم ، وما كان هكذا فليس فرضا» .
وبذلك يكون الراجح في الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد الضحية هو عدم التحريم، كما هو قول جمهور الأئمة . وأن أقصى ما يصل إليه الحكم هو أنه مكروه كراهة تنزيه ، وليس محرما ، كما هو مذهب المالكية والشافعية وبعض الحنفية والحنابلة.
والله أعلم.
أولا :
أخذ المضحي من شعره وظفره
نظرة فقهية في السياق التاريخي
تحرير محل النزاع
- ذهب عامة أهل العلم: إلى أن أخذ الشعر والظفر محظور على المحرم، وخالف أهل الظاهر في شعر غير الرأس، وفي الظفر.
- اتفق الفقهاء: على جواز أخذ الشعر والظفر لمن كان حلالا ولم يرد أن يضحي.
- اختلفوا: في حكم أخذ الشعر والظفر لمن كان حلالاً، وأراد أن يضحي، وأهلَّ عليه هلال ذي الحجة، وهنا موضع البحث.
الأقوال في المسألة :
القول الأول: الإباحة المطلقة، وهذا مذهب الحنفية.
القول الثاني: الكراهة، وهذا مذهب المالكية، والشافعية.
القول الثالث: التحريم، وهذا مذهب الحنابلة، والظاهرية.
السياق التاريخي للمسألة
كان القول الذائع المنتشر في زمن التابعين هو القول بالجواز، وعلى هذا سائر فقهاء المدينة والكوفة، وهما المصران اللذان يدور عليهما فقه الصحابة رضي الله عنهم.
غير أنه جاءت بعض الآثار المفيدة لمنع المضحي من أخذ شعره وظفره إذا أراد أن يضحي، أشهرها حديث أم سلمة رضي الله عنها، وجاء أيضاً عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وابن عمر رضي الله عنهما، وحُكي عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وقد روى أثرَ أم سلمة رضي الله عنها: سعيدُ بن المسيب رضي الله عنه، وقد أخذه بحقه، فكان يفتي بموجبه، وينتصر له، وعنه أخذ الناس.
وبهذا ندرك: أن الذي يبحث في مسألة حكم الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي لا يمكنه بحال أن يتجاوز فقيه المدينة: "سعيد بن المسيب"، سيد التابعين، فمدار حديث أم سلمة بكل رواياته الموقوفة والمرفوعة عليه وحده حتى روي عنه موقوفاً عليه.
وقد حدث في عصر التابعين ثلاثة أحداث مهمة في تناول المسألة:
الحدث الأول: الطلاء بالنورة، وتَرْكُ الناس للحديث
فعن عمرو بن مسلم بن عمار الليثي قال: (كنا في الحمام قبيل الأضحى، فاطلى فيه ناس، فقال بعضُ أهل الحمام: إن سعيد بن المسيب يكره هذا أو ينهى عنه، فلقيت سعيد بن المسيب، فذكرت ذلك له، فقال: يا ابن أخي، هذا حديث قد نسي وترك، حدثتني أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكر الحديث).
قلت: هذه الجملة فهم منها بعضهم، أن سعيد بن المسيب يحكي ترك العمل بحديث أم سلمة، فَهِمَ هذا الإمامان: ابنُ عبد البر المالكي، وتلميذه ابنُ حزم الظاهرري، فاحتج به الشيخ على ترك العمل به، ورده التلميذ لأصله في خطأ إعلال النصوص بترك العمل.
لكن الأظهر: أن سعيد بن المسيب لا يريد الاحتجاج بترك العمل بالحديث، وإنما أراد أن الناس قد فرطوا في الأخذ به لنسيانه، أو أنه لم يشتهر فلم يعلموا به، ويدل على ذلك الروايات الكثيرة عنه بفتواه بمقتضى الحديث، وتحسينه لفتوى من أفتى بموجبه.
إذن هناك ترك للحديث: ثم هناك اتجاهان في تفسير هذا الترك؛ فمن الناس مَنْ فسره بأنه ترك أهل العلم للعمل بالحديث، والأدق أن المراد أن الناس تركوه جهلاً منهم أو نسياناً، فالأول تركٌ للحديث بمعنى إسقاط الاحتجاج به، والآخر تركٌ فيه تأسف على عدم عمل الناس به.
ويبدو أن تفسير الترك بمنى ترك العمل بالحديث: هو سبب ما أضيف إلى سعيد بن المسيب أنه لا بأس بالاطلاء بالنورة في عشر ذي الحجة.
الحَدَث الثاني: تأييد سعيد لفتوى الخرساني
فعن قتادة: (أن كثير بن أبي كثير سأل سعيد بن المسيب أن يحيى بن يعمر يفتي بخراسان، يعني كان يقول: إذا دخل عشر ذي الحجة واشترى الرجل أضحيته فسماها لا يأخذ من شعره وأظفاره، فقال سعيد: قد أحسن، كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعلون ذلك أو يقولون ذلك).
وفي رواية، قال قتادة: (فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب، فقال: نعم، قلت: عمن يا أبا محمد، قال: عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم).
قيل لأحمد: إن قتادة يروي عن سعيد بن المسيب: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا اشتروا ضحاياهم أمسكوا عن شعورهم وأظفارهم إلى يوم النحر)، فقال: هذا يقوي هذا، ولم يره خلافا ولا ضعفه.
قلت: في هذه القصة فوائد:
1. وقوع الفتوى في زمن التابعين بمقتضى الحديث.
2. يبدو أن هذا الأمر لم يكن مشهورا، بدليل أن سعيداً يحدَّث بفتوى في خراسان، ثم يسأل عن حكم المسألة ودليلها.
3. فيه تصريح سعيد بن المسيب بموافقته لهذا الفتوى.
4. فيه بيان مأخذ الفتوى به، وهو أنه قول أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مما يعزز وقف الحديث وعدم رفعه، إذ لو كان عنده ثابتا مرفوعا لما احتاج إلى الاحتجاج بأقوال الصحابة.
ومما ورد في الباب من فتوى الصحابة به: ما جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: «إذا دخل العشر واشترى أضحيته أمسك عن شعره وأظفاره»، قال قتادة: فأخبرت بذلك سعيد بن المسيب، فقال: كذلك كانوا يقولون.
الحدث الثالث: عكرمة والنقد القياسي للحديث
أخرج النسائي حديث أم سلمة من رواية شريك عن عثمان الأحلافي، عن سعيد بن المسيب قال: «من أراد أن يضحى, فدخلت أيام العشر , فلا يأخذ من شعره , ولا أظفاره، قال عثمان: فذكرته لعكرمة, فقال: ألا يعتزل النساء والطيب!!».
قلت: هاهنا ينتقد عكرمة تلميذ ابن عباس: فتوى سعيد بن المسيب من عدم الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي، واستعمل في نقده لهذه الفتوى الأدوات القياسية، فقال: إن كان هذا الحكم تشبها بالمحرم؛ أفلا يعتزل النساء ويجتنب الطيب كما يصنع المحرم؟! فإن هذا مقتضى القياس، أما وقد تركوه فإنه يدل على فساده، فتبعيض القياس من غير معنىً يلوح أو يتخيل إشارة بيِّنة على وهنه.
وقد أجمع العلماء – كما يقول الطحاوي وابن عبد البر: على أن الجماع مباح في أيام العشر لمن أراد أن يضحي، فما دونه أحرى أن يكون مباحا.
مرحلة ما بعد سعيد بن المسيب
يمكن تلخيصها في حدثين هامين:
الحدث الأول: الاختلاف في رفع الحديث ووقفه
هذه المرحلة وقع فيها الاختلاف: هل الحديث مرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم؟ أو أنه موقوفٌ على أم سلمة؟ أو أنه من فتوى سعيد بن المسيب من قوله؟
وقد أشار الإمام مسلم إلى شيء من هذا الاضطراب الواقع في رواية الحديث، فنقل عن سفيان أنه قيل له - وهو أحد رواة الحديث -إن بعضهم لا يرفعه؟ فقال: لكني أرفعه.
وقد ساق الإمام مسلم والإمام النسائي جملة من هذه الآثار، وقد صحح أحمد، ومسلم، والترمذي، وابن حبان، وابن حزم: الحديث مرفوعا.
بينما جزم بوقفه: الدارقطني في العلل، وابن عبد البر في التمهيد، وقبلهم الطحاوي في شرح معاني الآثار في قوله القديم الآثار لما كان يقول بقول الجمهور.
الحدث الثاني: ترك أكثر فقهاء الأمصار العمل به:
فأهل الكوفة على الجواز، ولم يقولوا حتى بكراهة الأخذ.
عن الليث بن سعد، وهو فقيه أهل مصر، حين ذُكر له حديث أم سلمة قال: قد رُوي هذا, والناس على غيره.
وقد ذكر عمران بن أنس: أنه سأل مالكا عن حديث أم سلمة هذا، فقال: ليس من حديثي، قال: فقلت لجلسائه: قد رواه عنه شعبة وحدث به عنه وهو يقول: ليس من حديثي فقالوا لي: إنه إذا لم يأخذ بالحديث قال: فيه ليس من حديثي.
ومن هنا ندرك صدق مقولة ابن عبد البر رحمه الله أن سائر فقهاء المدينة والكوفة على الجواز.
ولادة القول بالكراهة
جاء الإمام الشافعي، فحاول الجمع بين ما جاء في الأثر وبين الأخذ بالقياس وما عليه عمل الناس، وما يعضده من عموم حديث عائشة رضي الله عنها، فصار إلى القول بالكراهة، فهو يقف موقفا متوسطا بين القائلين بالجواز والقائلين بالتحريم.
ولعل هذا هو قول ابن عمر رضي الله عنهما، فإنه: (مر بامرأة تأخذ من شعر ابنها في الأيام العشر، فقال: لو أخرتيه إلى يوم النحر كان أحسن) ، مع ما فيه من ملاحظة أن المنع إنما يلحق المضحي لا غيره، بينما أشار هنا إلى تأخير حلق شعر الصبي، والصبي لا يقع منه التضحية عادة.
ثم تبع الإمامَ الشافعي: على الكراهة أصحابُه، وكذا: المتأخرون من أصحاب الإمام مالك، فاستقر مذهبهما على كراهة ذلك.
مرحلة إعادة إحياء القول بالتحريم:
جاء الإمام أحمد، فأخذ بظاهر حديث أم سلمة رضي الله عنها، وهو مَنْ تحمل عبء إظهار هذا القول، والفتوى بموجبه بعد سعيد بن المسيب، ووافقه على ذلك إسحاق بن راهويه.
قال أحمد: ذكرت لعبد الرحمن بن مهدي حديث عائشة، وحديث أم سلمة، ولم يأت بجواب، فذكرته ليحيى بن سعيد، فقال يحيى: ذاك له وجه، وهذا له وجه، حديث عائشة إذا بعث بالهدي، وأقام وحديث أم سلمة إذا أراد أن يضحي بالمصر.
قال أحمد: وهكذا أقول، قيل له: فيمسك عن شعره وأظفاره؟ قال: نعم، كل من أراد أن يضحي، فقيل له: هذا على الذي بمكة؟ فقال: لا، بل على المقيم.
قيل له: إن قتادة يروي عن سعيد بن المسيب: (أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا إذا اشتروا ضحاياهم أمسكوا عن شعورهم وأظفارهم إلى يوم النحر)، فقال: هذا يقوي هذا، ولم يره خلافا ولا ضعفه.
والقول بتحريم الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي: من مفردات الإمام أحمد.
ثم أخذ بهذا القول بعد ذلك: أبو جعفر الطحاوي في آخر قوليه، وأهل الظاهر متمثلين بداود وابن حزم.
وخلاصة تاريخ هذه المسألة:
يمكن اعتباره بسعيد بن المسيب الذي روى حديث الباب، وأفتى بموجبه، وكان مشهورا عنه دون غيره، ثم خمل هذا القول، ولا يكاد يضاف إلى أحد بعده إلا ما قيل عن ربيعة الرأي، أما فقهاء المدينة ومكة والكوفة ومصر فلم يقولوا بمقتضاه من الحظر، وينبغي أن يشار هاهنا أن القول بالكراهة يندرج في الجواز، ثم اشتهر القول بالحظر عن أحمد وإسحاق به، ثم أهل الظاهر، ووافقهم عليه الطحاوي في آخر قوليه.
حديث عائشة رضي الله عنها؛ هل يعارض حديث أم سلمة؟
عن عائشة رضي الله عنها قالت: «فتَلْتُ قلائدَ بُدْن النبي صلى الله عليه وسلم بيديَّ, ثم قلَّدها, وأشعرها, وأهداها, فما حَرُم عليه شيءٌ كان أُحِلَّ له»، وفي رواية: «ثم لا يجتنب شيئاً مما يجتنبه المُحْرِم».
قال ابن عبد البر: في حديث عائشة أيضا من الفقه ما يرد حديث أم سلمة ويدفعه.
وبيَّن ذلك الشافعي فقال: البعث بالهدي أكثر من إرادة التضحية, فدلَّ على أنه لا يحرم ذلك.
وقال الماوردي: لما أهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرم هدياً, ولم يحرِّم على نفسه شيئاً: كان غيره أولى إذا ضحى في غير الحرم.
وذكر الطحاوي: أن مجيء حديث عائشة رضي الله عنها أحسنُ من مجيء حديث أم سلمة رضي الله عنها, لأنه قد جاء متواتراً، وحديث أم سلمة رضي الله عنها لم يجئ كذلك, بل قد طُعن في إسناده, فقيل: إنه موقوف على أم سلمة رضي الله عنها.
لكن أجاب الحنابلة والظاهرية والطحاوي عن حديث عائشة رضي الله عنها:
1. بأنه عام، وحديث عائشة خاص في محل النزاع، فيقدم في موضعه، ويحمل حديث عائشة على ما لا يتناوله حديث أم سلمة من الجماع والطيب ونحو ذلك.
2. أن عائشة رضي الله عنها تخبر عن فعله صلى الله عليه وسلم، وأم سلمة رضي الله عنها تخبر عن قوله صلى الله عليه وسلم، والقول يُقدَّم على الفعل, لاحتمال أن يكون فعله خاصاً به.
3. أن عائشة رضي الله عنها تعلم ظاهراً ما يباشرها به صلى الله عليه وسلم من المباشرة, أو ما يفعله صلى الله عليه وسلم دائماً, كاللباس والطيب, فأما ما يفعله نادراً, كقص الشعر وقَلْم الأظافر مما لا يفعله في الأيام إلا مرة, فالظاهر أنها لم تُرِدْه بخبرها. وإن احتمل إرادتَها إياه: فهو احتمالٌ بعيد, وما كان هكذا: فاحتمال تخصيصه قريب, فيكفي فيه أدنى دليل, وخبرُنا دليلٌ قوي, فكان أولى بالتخصيص.
4. حمل حديث عائشة رضي الله عنها على أمر خاص, وهو مَن بَعَثَ بهديه, وأقام في أهله: فلا يكون مُحْرماً, ولا يحرم عليه, وقالوا: إن حديث عائشة رضي الله عنها ردٌّ على من يقول بأنه يكون بذلك الإرسال مُحْرماً.
5. أن خبر أم سلمة صريحٌ في النهي, فلا يجوز تعطيله أيضاً, فأم سلمة تخبر عن قوله وشَرْعه لأمته, فيجب امتثاله, وعائشة تخبر عن نفيٍ مستنِد إلى رؤيتها, وهي إنما رأت أنه لا يَصير بذلك مُحْرِماً, يَحرم عليه ما يَحرم على المُحْرِم, ولم تخبر عن قوله: إنه لا يَحْرُم على أحدكم بذلك شيء, وهذا لا يعارض صريح لفظه.
6. أنه يجب حمل حديث عائشة رضي الله عنها على غير محل النزاع, وذلك لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن ليفعل ما نهى عنه وإن كان مكروهاً.
قلت: أما حديث أم سلمة إذا ثبت مرفوعاً فلا شك بأنه خاص بصورة محل النزاع، فتقديمه أولى، ويبقى الكلام بعد ذلك في درجة النهي في التحريم أو الكراهة.
ولذا فأهم نقطة في المسألة هي: الفراغ من الموقف من حديث أم سلمة هل هو مرفوع أو موقوف؟
الترجيح:
الذي يظهر لي والعلم عند الله هو أن الحديث موقوف على أم سلمة رضي الله عنها للأسباب التالية:
- أن القول بالوقف معتضد بتصريح سعيد بن المسيب الذي عليه مدار الحديث: أن معتمده في الفتوى هو قول الصحابة، ولو كان عنده شيء مرفوع لما كان لاحتجاجه بأقوال الصحابة معنىً، فصاحب الدليل الأقوى لا يستدل بالأدنى.
- أنه مخالف للقياس، وقد فطن لهذا عكرمة لما أُخبِر بفتوى سعيد بن المسيب، فقال: ألا يجتنب النساء والطيب؟! ولم يفسِّر القائلون بالتحريم وجه الحظر في الحديث بمعنى من النظر، أما التشبه بالمحرم فهو منقوض بإجماعهم على عدم اجتنابه للنساء والطيب.
قال الإمام ابن عبد البر: قد أجمع العلماء على أن الجماع مباح في أيام العشر لمن أراد أن يضحي, فما دونه أحرى أن يكون مباحاً.
وقال الخطابي: في حديث عائشة دليل على أن ذلك ليس على الوجوب ...وأجمعوا أنه لا يحرم عليه اللباس والطيب كما يحرمان على المحرم فدل ذلك على سبيل الندب والاستحباب دون الحتم والإيجاب.
- أنه مخالف لإطلاق حديث عائشة رضي الله عنها؛ فإن البعث بالهدي هو أكثر من مجرد التضحية؛ حتى وقع خلاف قديم في كونه يجتنب ما يجتنب منه المحرم.
- أن حديث أم سلمة لم يجيء مجيء حديث عائشة الذي تواتر عنها.
- حديث أم سلمة وإن كان أخص في محل النزاع إلا أنه مختلف في رفعه ووقفه، فيكون عموم حديث عائشة قرينة على عدم صحة رفع حديث أم سلمة، لاسيما مع قوة الورود في الحديث فبعث الهدي أكثر من إرادة التضحية، إضافة إلى تأخره زمنا، فقد كان في السنة التاسعة قبل حجة الوداع بسنة واحدة، ولا يصح حمله على أنه لم يضح في تلك السنة لأنه عليه الصلاة والسلام لم يترك التضحية أصلاً.
- يعضد القول بمقتضى حديث عائشة أن فقهاء الأمصار على ذلك، حتى حكى الليث بن سعد أن هذا الحديث وإن رُوي إلا أن الناس على غيره.
- حاول الشافعي بعد ذلك أن يجمع بين الحديثين بالقول بالكراهة، ثم جاء بعده أحمد فجزم بالحظر، ووافقه إسحاق، ثم أهل الظاهر.
- الدراسة التاريخية للمسألة تفيد في تحديد تطور الأقوال، وانقساماتها، وتكشف عن أسباب حدوث ذلك.
خلاصة الخلاصة:
حديث عائشة أرجح من حديث أم سلمة سندا ومعنى وعملاً
مستفاد ومنقول للأهمية والإفادة وبيان أن المسألة خلافية والخلاف فيها سائغ ولا إنكار في المختلف فيه
ثانيا :
هذا بحث نفيس ماتع للمحدث الدكتور حاتم العوني يفصل فيه المسألة تفصيلا ماتعا :
مقتطفات مهمة حول موضوع الأخذ من الشعر والظفر في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي
المقصود من هذه المقالة بيان أمور :
1-كيف يُشاع بين عوام المسلمين القول المخالف لقول جماهير أهل العلم وكيف يُنشر القول المخالف للدليل الأرجح ، حتى كأنه لا وجود لقول الجمهور والأقوى فقها ودليلا !
2-وكيف يُشاع دليل القول المرجوح دون أدلة القول الراجح الذي عليه الجماهير .
3-وكيف تُشاع سطحية التفقه بمثل هذا المنهج الذي يستغل الظواهر أو تستغله الظواهر ؛ لأنه لا يحترم القول المخالف ، ولو احترم القول المخالف ، لما أعان على نشر السطحية ، حتى لو أخذ بالقول المرجوح .
4-وكيف يجب التعمق في تناول الأدلة ، عدم الاكتفاء بظاهر أحد الأدلة .
حيث ورد في هذه المسألة حديثان متعارضان :
الحديث الأول: هو حديث أُمِّ سَلَمَةَ أَنَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) قال: « «إذا دخل العشر وعنده أضحية يريد أن يضحي، فلا يأخذن شعرا، ولا يقلمن ظفرا». وفي لفظ: «إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئا». وفي لفظ: «إذا رأيتم هلال ذي الحجة، وأراد أحدكم أن يضحي، فليمسك عن شعره وأظفاره» . أخرجه الإمام مسلم في صحيحه [1977].
والحديث الثاني: أَنَّ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قالت: «كان رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يهدي من المدينة، فأفتل قلائد هديه، ثم لا يجتنب شيئا مما يجتنبه المحرم» [البخاري [1698] ومسلم [1321] ]. وفي أحد ألفاظه عندهما: عن عَمْرَةَ بنت عبد الرحمن: « أن زياد بن أبي سفيان كتب إلى عائشة رضي الله عنها إن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: من أهدى هديا حرم عليه ما يحرم على الحاج حتى ينحر هديه، قالت عمرة: فقالت عائشة رضي الله عنها: ليس كما قال ابن عباس، «أنا فتلت قلائد هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي، ثم قلدها رسول الله صلى الله عليه وسلم بيديه، ثم بعث بها مع أبي، فلم يحرم على رسول الله صلى الله عليه وسلم شيء أحله الله له حتى نحر الهدي» .
فاختلف العلماء في الموقف من الحديث الأول (حديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي) ؛ لأسباب :
الأول : معارضة ظاهره لحديث عائشة (رضي الله عنها) .
الثاني : انفراده بحكم فقهي يعارض فقه الباب من خمس جهات :
1-وهو أن غير المحرم لا علاقة له بأحكام المحرم ؛ فقد أجمعوا مثلا على أنه لا بأس بالجماع في عشر ذي الحجة لمن أراد أن يضحي ، وأن ذلك مباح له ، فحلق الشعر والأظفار أحرى أن يكون مباحا . وكذلك التطيب ، لا يحرم على غير المحرم . وقد اعترض ابن حزم على هذا الإشكال بكلام فاسد ، مبني على عدم قوله بالتعليل وعلى جمود الأخذ بالظاهر ، ولذلك لم يأبه له الفقهاء ، حتى قال العيني عن كلام ابن حزم : «وهذا كلام ساقط ، ظاهر سقوطه ، لا يُـحتاج إلى بيانه ؛ لوضوحه» .
2-وأن الضحية ليست مختصة بالمحرم أصلا ، فالضحية مشروعة لكل قادر ، فلا علاقة بينها وبين أحكام الإحرام .
3-وأن من أراد الإحرام يُستحب له أن يتنظف بالأخذ من شاربه ونتف إبطه وحلق عانته وتقليم أظافره قبل إحرامه ، حتى في مذهب من أخذ بحديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي ، وقد يُحرم بعد دخول العشر ، وهو يريد أن يضحي . فهنا يتناقض أمران : أمر من مستحبات الإحرام ، وأمر لا علاقة له بالإحرام وهو الضحية .
4-أن العيد يُستحب له التنظف والتزين قبل صلاة العيد ، ومن سنن الفطرة في الزينة الأخذ من الشعر والظفر ، والضحية لا تُذبح إلا بعد صلاة العيد .
5-أن الضحية مستحبة على الراجح ، وهو قول عامة أهل العلم ، ولا يمكن أن يكون أمر مستحبا ويكون أمرٌ ليس من شروطه ولا من أجزائه (ليس ركنا ولا واجبا من واجباته) واجبا . وسيأتي شرح هذا الأمر بتفصيل أكبر .
ولهذا الإشكال في حديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي (حديث أم سلمة رضي الله عنها) تعددت مواقف العلماء منه :
الموقف الأول : من العلماء من مال إلى تضعيف الحديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي ، وهو حديث أم سلمة رضي الله عنها ، بأنه حديثٌ وقع فيه اختلافٌ في رفعه إلى النبي ﷺ، حيث وَقَفَهُ بعضُ الرواة على أم سلمة رضي الله عنها، فجعل الحديثَ من كلامها لا من كلام النبي ﷺ.
والحقُّ أن الاختلاف في تضعيف حديث أم سلمة رضي الله عنها اختلافٌ قويٌّ، مع كونه حديثًا في صحيح مسلم !
فقد مال إلى تضعيفه أحد كبار نقاد الحديث، ألا وهو الإمام الدارقطني .
ومع هذا الاختلاف القويّ، إلا أن الأرجح عندي فيه هو صحة الرفع. وتصحيحه هو ما كان عليه أكثر النقاد، حسب ما وصلنا من أحكامهم: كالإمام أحمد، والترمذي والطحاوي وابن حبان والبيهقي وأبي مسعود الدمشقي، وغيرهم، فكلهم على تصحيحه.
ومع ذلك فيبقى التضعيف قولا وجيهًا، حتى إن الإمام الطحاوي مع ترجيحه قبولَ الحديث المرفوع، لم يستطع إغفالَ الفرق الكبير في درجة الصحة بين حديث أم سلمة وحديث عائشة المعارِض له، حيث قال في كتابه (شرح معاني الآثار): « ففي ذلك دليل على إباحة ما قد حظره الحديث الأول. ومجيء حديث عائشة رضي الله عنها أحسن من مجيء حديث أم سلمة رضي الله عنها , لأنه جاء مجيئا متواترا. وحديث أم سلمة رضي الله عنها , لم يجئ كذلك , بل قد طعن في إسناد حديث مالك , فقيل: إنه موقوف على أم سلمة رضي الله عنها ».
بل لقد نقل ابن عبد البر عن أكثر أهل العلم تضعيفَ حديث أم سلمة رضي الله عنها، وهو نقلٌ بخلاف ما نجده اليوم في المصادر؛ إلا إن أراد أن عدم أخذ عامة الفقهاء بحديث أم سلمة رضي الله عنها يدل على تضعيفهم له، فقوله حينئذ له وجهُهُ الذي تؤيده المصادر حتى اليوم ؛ إلا أن عدم الأخذ بظاهر الحديث لا يلزم منه التضعيف، إذ قد يكون مبنيًّا على تأويله (كما سيأتي) .
الموقف الثاني : موقف من قبل الحديثين وصحح الاحتجاج بهما ، فلجأ إلى الجمع بينهما . ولكنهم اختلفوا في أوجه الجمع ، فاختلف الحكم الفقهي بحسب جمعهم :
الوجه الأول في الجمع بين الحديثين : من مال إلى تحريم الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد أن يضحي .
وهو الجمع الذي اختاره الإمام أحمد ، واستفاده من شيخه يحيى بن سعيد القطان . فقد قال الإمام أحمد : «ذكرتُ لعبدالرحمن بن مهدي حديثَ أمِّ سلمة وحديثَ عائشةَ: "كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا بعث الهدي لم يحرم عليه شيء" ؟ فبقي ساكتا، ولم يجب. (قال الإمام أحمد : ) وذكرتُه ليحيى بن سعيد؟ فقال: ذاك له وجهٌ ، وهذا له وجه : وحديث أم سلمة لمن أراد أن يضحي بالمصر ، وحديث عائشة لمن بعث بهديه وأقام . (قال الإمام أحمد وهكذا أقول : حديث عائشة هو على المقيم الذي يُرسل بهديه ، ولا يريد أن يضحي بعد ذلك الهدي الذي بعث به ، فإن أراد أن يضحي لم يأخذ من شعره شيئا ولا من أظفاره ، على أن حديث أم سلمة هو عندي على كل من أراد أن يضحي في مصره».
وقد ردّ هذا الجمعَ ابنُ عبد البر، بقوله: « قد صحَّ أن النبي ﷺإذْ بعث بهديه لم يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم، وصحَّ أنه كان يُضَحِّي ﷺ، ويحضُّ على الضحية، ولم يصحَّ عندنا أنه ﷺفي العام الذي بعث فيه بهديه (ولم يبعث بهديه لِيُـنْـحَرَ عنه بمكة؛ إلا سنةَ تسعٍ، مع أبي بكر)، ولا يُوجَد = أنه لم يُضَحِّ في ذلك العام».
والذي يُقوِّي جوابَ أبي عمر ابن عبد البرّ: أن النبي ﷺ لم يترك الضحية ، حتى في حجة الوداع ، لما حجَّ ، كما يدل عليه حديث ثوبان رضي الله عنه، قال: ضَحَّى رسول الله ﷺ، ثُمَّ قال: «يا ثَوْبَانُ، أَصْلِحْ لنا لَـحْمَ هذه الشَّاةِ» ، قال: فما زِلْتُ أُطْعِمُهُ منها، حتى قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ. أخرجه مسلم وأبو داود واللفظ له.
فإذا كان النبي ﷺ لم يترك الضحيةَ في حَجِّة الوداع، مع كونه ﷺ قد ساق معه من الهدي مائةً من الإبل نُحرت كلها بمنى يوم النحر ، مع ذلك فهو لم يترك الضحية حتى في هذا اليوم الذي أهدى فيه بمائة من الإبل ، وهو حاجٌّ مسافر = فَـلَأن لا يترك الضحية إذا أرسل هَدْيَه ليُنحر بعيدًا عنه بمكة، وهو مقيمٌ في المدينة = أَوْلى وأَحْرى !!
قلتُ وهناك جوابٌ آخر على جمع الإمام أحمد: أن مَن بعث بهديه إلى مكة أولى بأن يشابه حالُه حال المحرِم ممن اكتفى بالتضحية في بلده ؛ لأن من بعث بالهدي أشبهُ حالاً بالمحرِمِ في نسيكته ممن اكتفى بالتضحية في بلده .
ويدل على قوة هذه الأشبهيّة وعلى أثرها في فقه هذا الباب:
1-أن هذا الشَّبَهَ القوي بين الحاجّ والذي يُرسلُ الهدي من غير الحجاج هو الذي جعل ابن عباس رضي الله عنهما يقيس الحلالَ غير الحاجّ على المحرم في ترك محظورات الإحرام ، كما في قصة ردِّ عائشة لاجتهاده هذا ، التي سبق ذِكْرُها من الصحيحين .
2-كما أن هذا الاجتهاد هو اجتهاد عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أيضا: فقد صحَّ عنه أنه «كان إذا بعث بالهدي، يُمسك عما يمسك عنه المحرم، غير أن لا يلبي»، وصحّ عنه أيضًا: أنه سُئل عن الرجل يبعث بالهدى وهو مقيم ؟ فقال: «يُواعده يومًا، فإذا بلغ، أمسك هو عما يمسك عنه الحرام». بل هذا الاجتهاد هو اجتهادُ جماعة من السلف، ويخالفهم فيه آخرون منهم.
وعلى هذا: فإنه إن كان على من أراد أن يُضحي أن يمسك عن شعره وظفره ، فمن بعث بهديه أولى بأن يمسك عنهما . وهذا مما يدل على ضعف الجمع الذي رضيه الإمام أحمد من جهة الفقه والقياس !
وقد أشار الإمام الشافعي إلى هذا المعنى عندما قال عقب حديث عائشة: « في هذا دلالةٌ على ما وصفتُ، من أن المرء لا يُـحْرِمُ بالبَعْـثَةِ بهديه. يقول: البعثةُ بالهدي أكبر من إرادة الضحية».
أي : إذا كان المقيم ببعثه للهدي إلى مكة لم يحرم عليه الأخذ من الشعر والظفر ، فأولى منه من أراد أن يضحي .
بل ذهب الإمام الماوردي (ت450ﻫ) إلى أبعد من هذا الاستدلال، وبما يردّ على جمع الإمام أحمد أيضًا من وجهٍ آخر، حيث عدَّ هَدْيَ النبي ﷺ الذي بعثه مع أبي بكر رضي الله عنها = هو نفسه ضحايا النبي ﷺ، ومع ذلك لم يُـحَـرِّم النبي ﷺ على نفسه شيئًا مما يَـحْرُمُ على المحْرِم. فقال (رحمه الله): «فكان هَدْيَ رسولِ الله ﷺ، وضحاياه؛ لأنه كان بالمدينة، وأنفذها مع أبي بكر سنةَ تسعٍ. وحُكْـمُها أغلظُ؛ لِسَوْقِها إلى الحرم. فلما لم يُـحَـرِّمْ على نفسه شيئًا، كان غيره أولى إذا ضَحَّى في غير الـحَرَمِ».
وبهذين الجوابين يتبيّنُ أن هذا الجمع الذي ذهب إليه الإمام أحمد ليس هو الجمع القوي الذي يمكن أن يحلّ إشكالَ التعارض بين الحديثين ، فضلا عن بقية الإشكالات الفقهية التي سقناها آنفا .
وأما الوجه الثاني للجمع بين الحديثين: فهو جمعُ الإمام الطحاوي، وهو أنه ذكر من روايات حديث عائشة رضي الله عنها هذا اللفظ: «كنت أفتل قلائد هدي رسول الله ﷺ، ثم يبعث بالهدي، ويقيم عندنا، لا يجتنب شيئًا مما يجتنبه المحرم من أهله، حتى يرجع الناس»، ثم جعل الإمامُ الطحاويُّ حديثَ عائشةَ خاصًّا بالجماع، فهو الأمر الذي كان النبي ﷺلا يدعه، حتى عند عَزْمِه على الضحية، وهو بتخصيصه في عدم ترك الجماع لا يعارض أنه ﷺكان يُمسك عما سوى الجماع، وهو الأخذ من الشعر والظفر، الوارد في حديث أم سلمة. فجعل حديثَ عائشةَ في عدم الامتناع عن الجماع خاصة، وحديثَ أمِّ سلمةَ في الإمساك عن الشعر والظفر.
وهذا الجمع أيضًا ضعيف ، بل هو أضعف من الأول :
أولا: لأن الإمام الطحاوي إنما استدلّ بأحد ألفاظ الحديث، وترك الألفاظَ الأخرى الصريحة في التعميم، ومنها ما جاء في الصحيحين: كقولها رضي الله عنها عن النبي ﷺ: «ثُمَّ لَا يَجْتَنِبُ شيئا مِمَّا يَـجْـتَـنِـبُه الـمُحرِمُ»، وفي الرواية الأخرى: «فلم يَحْرُمْ على رسول الله صلى الله عليه وسلم شَيْءٌ أَحَلَّهُ الله، حتى نُحِرَ الْهَدْيُ».
وثانيًا: أن ابن عباس (رضي الله عنهما) لم يكن يمتنع عن الجماع فقط ، حين ردّت عليه عائشة (رضي الله عنها) بفعل النبي ﷺ . بل لقد كان ابن عباس يترك كلَّ شيءٍ يتركه المحرم، حتى إنه كان يتجرّد من ملابسه ! فعن رَبِيعَةَ بن عبد الله بن الـهُدير انه رَأَى عبد الله بن عباس وهو أميرٌ على البصرة ، في زمن علي بن أبي طالب ، مُتَجَرِّدًا على منبر البصرة ، فَسَأَل الناس عنه ؟ فَقَالُوا: إنه أَمَرَ بِهَدْيِهِ أن يُقَلَّدَ؛ فَلِذَلِكَ تَـجَرَّدَ. (قال رَبِيعَةُ فَلَقِيتُ عَبْدَ الله بن الزُّبَير، فَذَكَرْتُ لَه ذلك ؟ فقال: بِدْعَةٌ، وَرَبِّ الكَعْبَةِ». فلم يكن الاجتهادُ الذي تَـرُدُّ عليه عائشةُ اجتهادَ مَن يرى الامتناعَ عن النساء فقط ، بل كان يمتنع عن كل شيءٍ يمتنع منه المحرم ، ومنه النساء . وعلى هذا كان ابن عمر (رضي الله عنه) أيضا ، كما سبق نقل كلامه . فلا يصح حَـمْلُ كلام عائشة (رضي الله عنها) وحديثُها على أنها إنما تخالف اجتهادَ من كان يرى الامتناعَ عن النساء فقط ؛ لأن الذين كانت تردُّ عليهم لم يكن هذا هو اجتهادهم أصلا .
والوجه الثالث في الجمع بين الحديثين : وهو جمع من مال من العلماء إلى حمل حديث النهي عن الأخذ من الشعر والظفر على أنه نهي للكراهة ، وليس للتحريم . وبذلك جمعوا بين الحديثين، وهم الجمهور: وهذا هو ما ذهب إليه المالكية، والشافعي والشافعية، وبعض الحنفية (ونسبوه إلى الإمام أبي حنيفة)، وبعض الحنابلة . ونُقلَ القولُ به عن: عبدالله بن المبارك. بل نقل بعضُ الحنفيةِ الإجماعَ على هذا القول، فقد جاء في حاشية ابن عابدين: « ومما ورد في صحيح مسلم: قال رسول الله ﷺ: «إذا دخل العشر، وأراد بعضكم أن يضحي، فلا يأخذن شعرا ولا يقلمن ظفرا»، فهذا محمولٌ على الندب، دون الوجوب، بالإجماع».
وهذا الجمع هو أقوى وجوه الجمع ، على ثبوت صحة حديث أم سلمة (رضي الله عنها) .
فبغض النظر عن الاختلاف الذي ذكرناه للعلماء، ومالهم فيه من استدلالات لم أحصها كلها. وبغض النظر عن هذا الاجتهاد العميق الذي بذله العلماء في توجيه الحديثين المتعارضين؛ إلا أن ذلك كله لا يؤثر عندي في فهم النهي النبوي عن الأخذ من الشعر والظفر الوارد في حديث أم سلمة؛ فلو لم يرد حديث عائشة، بل لو لم يأت أيُّ حديثٍ يعارض حديث أم سلمة، ما كان حديثها عندي ليدلّ على تحريم الأخذ من الشعر والظفر ! وسيبقى عندي دالاًّ على الكراهة فقط !!
ذلك أن الضحية نفسها سنة (على الراجح)، وهو قول عامة أهل العلم . وقد دلَّ استقراء أحكام الشريعة واطّرادُ أصولها : أنه لا يمكن أن تستحبَّ الشريعةُ شيئًا، ثم هي مع استحبابها له تُوجب له أمرًا ليس هذا الأمرُ من شروط ذلك المستحب ولا جزءًا من أجزائه الواجبة؛ حيث إن هذا لو وقع لكان تناقضًا لا يقبله ترتيبُ الأحكام الشرعية بعضها على بعض؛ بل لا تقبله الأوامر المعقولة من العقلاء ! إذ كيف يكون الأصل مستحبًّا وفَرْعُه (الذي ليس من شروطه ولا من واجباته) واجبًا؟!
أرأيت لو قال الرئيس للمرؤوس : "لو أيقظتني الساعة الفلانية فهو حسن ، ولن ألومك ولن أعتب عليك إن لم تفعل . لكن إذا نويت إيقاظي فلا بد أن تجني ثمر شجر المزرعة ، وإلا سأكون غاضبا عليك " ، ولا علاقة بين استيقاظه في ذلك الوقت وجني الثمار ! مثل هذا الأمر لا يصدر من عاقل ، فضلا عن حكيم !!
ونحن قد عرفنا عدم وجود هذه العلاقة بين الضحية والأخذ من الشعر والظفر من أن الضحية تصح وتُتقبل حتى ولو أخذ المضحي من شعره وظفره عند من يرى حرمة الأخذ ، ولا ادعى أحد من العلماء أن أجر الضحية ينقص بالأخذ من الشعر أو الظفر ، فضلا عن أن يقول أحد ببطلان الضحية ! فضلا عن عدم التلازم الظاهر والتباين التام بين أحكام الضحية وحكم الأخذ من الشعر والظفر .
وبذلك يتبين أن من يُحرّم الأخذَ من الشعر والظفر، مع قوله باستحباب الضحية، فهو في تناقُضِ ترتيبِ أحكامِه بعضِها على بعض: كمن يُوجِبُ التسوُّكَ لصلاة النافلة، مع أن التسوُّكَ عنده ليس شرطا لها ولا جزءًا من أجزائها (أي: ليس ركنًا من أركانها، ولا واجبًا من واجباتها). وكمن يُوجب أَكْلَةَ السَّحَر لصيام النافلة، مع أنها عنده ليست شرطًا له ولا جزءًا من أجزائه. وكمن يُوجِبُ في صيام عاشوراء المستحبِّ صيامَ يومٍ قبلَه أو بعدَه، مع أن صيامَ يومٍ قبلَه أو بعده (لمخالفة اليهود) ليس شرطا لصحة صيام عاشوراء ولا ركنا من أركانه.
وهذا بخلاف ما لو كان الأمرُ شرطا من شروط الصحة للنافلة، أو واجبًا من واجباتها، كالطهارة التي هي شرطٌ لصلاة النافلة، وكأداء أركان حج النافلة أو أركان صلاة النافلة وواجباتهما؛ فإن أداء هذه الشروط والأركان كله واجبٌ على من أراد الدخول في تلك النوافل أو شرع في أدائها، مع أن أصل تلك الأعمال (وهو حج النافلة أو صلاة النافلة) ليس واجبًا ابتداءً، لكن بعزم الدخول فيهما وجب تحقيقُ شروطهما، وبالشُّرُوع في أدائهما وجب أداء واجباتهما وأركانهما.
وبهذا نرد على اعتراض ابن حزم ، عندما رد على من بين دلالة هذا الخلل في ترتيب الوجوب على المستحب ، بمثل تلك الصور التي يكون فيها المستحب لا يصح إلا بشروط وواجبات ؛ لأننا نقول لابن حزم : لكن الأخذ من الشعر والظفر ليس من شروط الضحية ولا من واجباتها ، فلا يستويان . خاصة أن ابن حزم يرى استحباب الضحية ، بل يستدل للاستحباب بحديث : « «من كان له ذبح يذبحه فأهل هلال ذي الحجة فلا يأخذن من شعره، ولا من أظفاره شيئا حتى يضحي» ، حيث قال ابن حزم : « فقوله - عليه السلام -: " فأراد أن يضحي"برهان بأن الأضحية مردودة إلى إرادة المسلم ، وما كان هكذا فليس فرضا» .
وبذلك يكون الراجح في الأخذ من الشعر والظفر لمن أراد الضحية هو عدم التحريم، كما هو قول جمهور الأئمة . وأن أقصى ما يصل إليه الحكم هو أنه مكروه كراهة تنزيه ، وليس محرما ، كما هو مذهب المالكية والشافعية وبعض الحنفية والحنابلة.
والله أعلم.
مواضيع مماثلة
» القصاص دراسه مقارنه
» كيف يتحلل من نسي الأخذ من شعره
» لبس المخيط ناسيا قبل ان يقصر شعره متحللا من عمرته
» كيف يتحلل من نسي الأخذ من شعره
» لبس المخيط ناسيا قبل ان يقصر شعره متحللا من عمرته
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin