(لا اجتهاد مع النص) فهذه القاعدة تفيد تحريم الاجتهاد في حكم مسألة ورد فيها نص من الكتاب أو السنة أو الإجماع لأنه إنما يحتاج للاجتهاد عند عدم وجود النص، أما عند وجوده فلا اجتهاد إلا في فهم النص ودلالته.”
فرض رسول الله ﷺ زكاة الفطر طعامًا، فعن ابن عباسٍ قال: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ الْفِطْرِ طُهْرَةً لِلصِّيَامِ مِنَ اللَّغْوِ، وَالرَّفَثِ، وَطُعْمَةً لِلْمَسَاكِينِ) رواه أبو داود (1609)، والحاكم (1488) وصححه الذهبي.
فكيف تكون طُعمة للمسكين إذا كانت مالًا قد يشتري به الفقيرُ قميصًا أو سروالًا! حينها لا تكون طُعمةً للمسكين إلا إذا أكل المسكين القميص!
عَنْ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: (فَرَضَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زَكَاةَ رَمَضَانَ عَلَى كُلِّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ، حُرٍّ وَعَبْدٍ، ذَكَرٍ وَأُنْثَى صَاعًا مِنْ تَمْرٍ أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ) رواه النسائي (2502)، ومالك (316)
ووضّح أبو سعيدٍ الخدري جواز إخراج الطّعام عمومًا مما يُكال فقال: (كُنَّا نُخْرِجُ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِنْ طَعَامٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ شَعِيرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ تَمْرٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ أَقِطٍ، أَوْ صَاعًا مِنْ زَبِيبٍ) رواه البخاري (1506) ومسلم (9805) وكما هو معروف في أصول الفقه أنّ عمل الصّحابة في زمن رسول الله ﷺ إذا لم يُنكره الرسول ﷺ فهو سُنّة مرفوعة.
زكاة الفطر هي طعامٌ مكيلٌ ليأكله الفقير ويملأ به بطنه
فكيف حوّلوا شرع الله وبدّلوه وقالوا بإخراجِ ذلك مالًا ؟
ليس لهُم حجّة في الحقيقة إلا أنّهم قالوا أن المال أحسن للفقير مما شرعهُ الله له، ولا أعلم لماذا يبخلون فلا يعطون الفقراء من أموالهم، إذا رأوا أن الفقراء بحاجةٍ للمال،فإذا كانوا رُحماء بالفقير فليعطوه شيئًا من المال مع المال زكاة الفطر، وهذا خير، ويرحموا أنفسهم ويؤدوا زكاة الفطر كما شرعها الله.
وإذا سألتهم عن الدّليل فلا تجد إلا أنّهم قدّسوا آراء بعض الفقهاء وقدّموها على قول النّبي، وادّعوا أنها أفضل من قول النّبي، والله تعالى يقول ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ فما بالهم لا يتّقون الله!
وقال الله ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا﴾ فما لهم يختارون ويأخذون بآراء النّاس عوضًا عمّا شرعه الله على لسان الرّسول ﷺ ؟ والله قال تعالى منعم من الاختيار.
فلمّا طالبناهم بالبيّنةِ مِن الكِتابِ والسُنَّةِ على تبديلهم ما شرعه الله على لسان رسوله وعجزوا عن الإتيان به، شنّعوا علينا مخالفة بضعةِ فقهاء، ولم يشنّعوا على أنفسهم مخالفة الرسول ﷺ. كما أنهم بأنفسهم خالفوا أولئك الفقهاء في مسائل عديدة سأذكر بعضها.
واتهمونا بالجمود،
ثم استدلوا بما يلي
1) نسبوا هذا القول لمعاذ بن جبل رضي الله عنه.
واستدلوا بما في صحيح البخاري معلَّقا [والمعلقات تختلف عن الاحاديث المسندة التي في صحيح البخاري، فالبخاري صحح الأحاديث المسندة، أما المعلقات فلم يشترط صحّتها] قال فيه: وَقَالَ طَاوُسٌ: قَالَ مُعَاذٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لِأَهْلِ اليَمَنِ: «ائْتُونِي بِعَرْضٍ ثِيَابٍ خَمِيصٍ – أَوْ لَبِيسٍ – فِي الصَّدَقَةِ مَكَانَ الشَّعِيرِ وَالذُّرَةِ أَهْوَنُ عَلَيْكُمْ وَخَيْرٌ لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْمَدِينَةِ»
قلت: طاووس هو ابن كسان المتوفى عام 106هـ، وهذا الرجل لم يُدرك معاذ بن جبل (المتوفى عام 18هـ)، فالحديث مرسل كما قال الدارقطني في سننه برقم (1930)
أي أن طاووس سمع هذا الكلام مِن شخصٍ مجهول نقل له ذلك عن معاذ رضي الله عنه، وما نقله المجاهيل لا يصلح كحُجّة
فهذا الأثر ضعيف لا يُحتجُّ به. ولهذا قال الْإِسْمَاعِيلِيّ: “حَدِيث طَاوُوس لَو كَانَ صَحِيحا لوَجَبَ ذكره لينتهي إِلَيْهِ وَإِن كَانَ مُرْسلا فَلَا حجَّة فِيهِ”. وقال القسطلاني: “وهذا التعليق وإن كان صحيحًا إلى طاوس لكن طاوس لم يسمع من معاذ فهو منقطع” [ارشاد الساري ج3 ص41].
وهُو فوق انقطاعِ سنده، فمتنه مضطربٌ، روي مرّة انها الصّدقة ومرّةً أنها الجزية.
قال البيهقي في الكبرى (7373): قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْإِسْمَاعِيلِيُّ فِيمَا أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرٍو الْأَدِيبُ عَنْهُ حَدِيثَ طَاوُسٍ عَنِ مُعَاذٍ إِذَا كَانَ مُرْسَلًا فَلَا حُجَّةَ فِيهِ، وَقَدْ قَالَ فِيهِ بَعْضُهُمْ مِنَ الْجِزْيَةِ بَدَلَ الصَّدَقَةِ. قَالَ الشَّيْخُ: هَذَا هُوَ الْأَلْيَقُ بِمُعَاذٍ وَالْأَشْبَهُ بِمَا أَمَرَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِ مِنْ أَخْذِ الْجِنْسِ فِي الصَّدَقَاتِ وَأَخْذِ الدِّينَارِ أَوْ عَدَّ لَهُ مَعَافِرَ ثِيَابٍ بِالْيَمَنِ فِي الْجِزْيَةِ , وَأَنْ تُرَدَّ الصَّدَقَاتُ عَلَى فُقَرَائِهِمْ لَا أَنْ يَنْقُلَهَا إِلَى الْمُهَاجِرِينَ بِالْمَدِينَةِ الَّذِينَ أَكْثَرُهُمْ أَهْلُ فَيْءٍ لَا أَهْلُ صَدَقَةٍ وَاللهُ أَعْلَمُ
فمعاذ رضي الله عنه بريئ من نسبة هذا القول إليه.
والواجب عند اختلاف الصحابة ردُّ الأمر إلى الله والرسول.