بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 32 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 32 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
من حديث : "أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ" وجه الاعجاز اللغوى
صفحة 1 من اصل 1
من حديث : "أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ" وجه الاعجاز اللغوى
ومن قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم :
أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ قَالَ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ :
فصدر السياق بالاستفهام على حد التشويق ، وهو استفهام بــ : "أي" التي ترد للاستفهام فتفيد كما يقول صاحب "الجواهر" رحمه الله : تمييز أحد المشتركين في أمر يعمهم ، فالفضل حاصل في كل صور الجهاد بداهة ، فهو من أشرف أعمال الديانة ، فــ : "أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ" ، فجاء الاستفهام على حد التشويق أيضا ، ففي "ألا" معنى العرض الذي يغري السامع بالقبول ، فأجاب معاذ ، رضي الله عنه ، بالنفي ، فالاستفهام في صدر الكلام ينزل منزلته ، فإذا أجاب المخاطب بالنفي فقد أبطله ، ففحوى جوابه : الإيجاب بنفي النفي أو نفي ما ينزل منزلته ، ثم جاء الجواب على حد اللف والنشر المرتب ، فترتيب الإجابات تبع لترتيب المذكورات في السؤال ، فقدم المسند إليه في كلٍ على حد التشويق ، أيضا ، إلى المسند فهو الحكم الذي تتشوف النفس إليه ، وقد يقال بأن المسند هو الذي قدم ، فمعنى الخبرية فيه ظاهر ، فهو حكم على المسئول عنه ، والسياق يحتمل كلا الوجهين ، فيجوز تصدير السياق بأيهما على حد الابتداء ، فيقال : رأس الأمر الإسلام ، أو : الإسلام رأس الأمر ، فالصناعة النحوية تجوز كليهما ، والصناعة البلاغية وفيها قدر زائد على قانون اللسان ، ترجح بينهما مع صحة التركيب في كليهما ، فقد يقال بأن المقدم هو المسند إليه فذلك الأصل المعهود في لسان العرب فلا يخرج عنه إلا بدليل ، فعلى الناقل عن الأصل الدليل ، فضلا عن مطابقة ذلك لسياق المذكورات في السؤال ، فجاء الاستفهام عن ثلاثتها ، وفيه نوع إجمال ، ثم جاء البيان ، فأسند إلى المجمل المسئول عنه فزال إجماله ، فذلك وجه تقديم المسئول عنه ، فــ : رأس الأمر المسئول عنه فهو المجمل : الإسلام فهو بيانه ، فأسند المبين إلى المجمل فأزال إجماله ، كما تقدم ، فيكون المقدم في اللفظ هو المسند إليه المحكوم عليه ، ويكون المؤخر هو المسند المحكوم به ، وقد يقال من وجه آخر بأن المقدم هو المسند ، فهو حكم بوصف الرأس والعماد وذروة السنام ، والمحكوم عليه هو الموصوف بذلك ، فالخبر وصف في المعنى ، فيكون السؤال عن المسند إليه ، فقد أسند وصف الرأس للإسلام ، ووصف العماد للصلاة ، ووصف ذروة السنام للجهاد ، ثم جاء الجواب : رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ : فاستعير المعنى المحسوس للمعنى المعقول في الأخبار الثلاثة ، فالرأس أشرف عضو فلا قيام للجسد إلا به فتلك استعارة تصريحية فقد استعير الرأس لأعلى الأمر ، فرأس كل شيء أعلاه بداهة ، فرأس القوم أميرهم ومقدمهم ، ورأس المقالة محدثها ، فيقال فلان رأس في البدعة ، فلا يروى عنه ، فليس كالعامي الذي لا يدعو إلى مقالته ، فلا يروى عن الرأس الداعي تعزيرا على قول ، ويروى عنه إن كان صادقا إلا ما يقوي بدعته ، ويروى عنه مطلقا إن كان صادقا على قول المحققين فالعبرة بصدقه ، وهي أصلية إذ قد جرت في الاسم الجامد : "رأس" ، وقل مثل ذلك في العمود ، فالاستعارة فيه قد تجري مجرى الاستعارة المكنية ، فقد شبه بالخيمة ، فلها عمود لا تقوم إلا بقيامه ، فإذا سقط سقطت ، فشبه بالخيمة وحذف المشبه به وهو الخيمة ، وكني عنه بجزء من أجزائه وهو العمود الذي تقوم عليه ، وهي ، أيضا ، أصلية ، إذ قد جرت في اسم جامد آخر هو : "العمود" ، وقد يستأنس به من يقول بكفر تارك الصلاة ، فإن العمود من اسمه : عماد الأمر الذي لا يقوم إلا بقيامه ، فينهار البنيان بانهيار عماده ، فلا يبقى من الأمر شيء بعد زوال عماده الذي يستند إليه ، وقد ورد ذلك في حديث ضعيف : "الصَّلاةُ عِمادُ الدِّينِ ، مَنْ أقَامَها فَقدْ أقَامَ الدِّينَ ، وَمنْ هَدمَها فَقَد هَدَمَ الدِّينَ" ، وأوله ، كما يذكر صاحب "النافلة" ، حفظه الله وسدده ، قد ثبت عند البيهقي ، رحمه الله ، في "الشعب" بلفظ : "أي شيء أحب عند الله في الإسلام قال : الصلاة لوقتها ومن ترك الصلاة فلا دين له والصلاة عماد الدين" ، وهو مرسل بالمعنى العام قد انقطع إسناده بين عكرمة وعمر ، رضي الله عنه ، كما نوه بذلك صاحب "الشعب" ، رحمه الله ، بقوله : "قال أبو عبد الله ، (وهو : الحاكم صاحب المستدرك رحمه الله) : عكرمة لم يسمع من عمر وأظنه أراد عن ابن عمر" ، فجاء الاستفهام ، أيضا ، بــ : "أي" ، فأي شيء ، قد آل معناه إلى أي فعل ، أو أي عمل ، سواء أكان بالقلب أو باللسان أو بالجارحة ، وجاء الإسلام منفردا ، فدخل فيه معنى الإيمان فقد صار حال انفراده علما على عموم الديانة ، فيدخل فيه الباطن والظاهر ، وإن كان علما على الظاهر حال الاقتران ، كما في حديث جبريل ، عليه السلام ، كما أن الإيمان إذا انفرد دخلت فيه أعمال الإسلام الظاهرة ، فصار مئنة من عموم الديانة ، أيضا ، كما في حديث وفد عبد القيس : "أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا الْخُمْسَ مِنْ الْمَغْنَمِ" ، فأجاب بجملة من المأمورات الظاهرة ، فدل ذلك على دخول الأعمال في مسمى الإيمان حقيقة ، فالإيمان حقيقة مركبة من اعتقاد وقول وعمل ، فدلالته عليها جميعا دلالة مطابقة ، ودلالته على أحدها : دلالة تضمن ، فهي أجزاؤه ، وهو مجموعها حقيقة ، فينقص بنقصانها بل قد ينقض بزوال بعضها ، فينقض بزوال عمل القلب ، فعليه مدار الأمر ، كما أشار إلى ذلك ابن القيم ، رحمه الله ، في معرض المفاضلة بين العلم والعمل ، فأيهما يراد لذاته فيكون الأشرف فهو الغاية ، وأيهما يراد لغيره فيكون دونه في الشرف فهو الوسيلة ، والوسيلة تابعة للمقصد ، فتلتحق به في الحكم التحاق الفرع بالأصل ، فالتابع تبع لمتبوعه في الحكم بداهة ، فقال ، رحمه الله ، في معرض تلك المفاضلة بين جنس العلم وجنس العمل ، فهما أشرف أوصاف البشر ، فالتصور والإرادة قد كملا في الإنسان المكلف ، فبهما يصدق ، فيصدق بتصوره جزما ويصدق بعمله ظاهرا وباطنا ، فعلا وتركا ، فيصدق بقلبه تصورا جازما فذلك علمه ، ويصدق بقلبه إرادة جازمة فذلك عمله ، ويصدق بلسانه شهادة فذلك علمه ، ويصدق به ذكرا فهذا عمله ، ويصدق بأركانه ، فذلك عملها وليست لها نسبة مباشرة إلى العلم كنسبة التصور والشهادة ، فنسبة العمل إلى العلم نسبة فرع إلى أصل يتولد منه لزوما ، وكلاهما ، كما تقدم ، في حد الإيمان داخل ، بل الإيمان على هذا الوجه قد اقتصر عليهما ، فهو قول بجميع أجناسه باطنا بالتصور ، وظاهرا بالشهادة ، وعمل بكل قوى الإنسان الحساس المتحرك بالإرادة ، فيتحرك القلب بالإرادات ، ويتحرك اللسان بالتلاوات ، وتتحرك الأركان بالعبادات ، فقال ، رحمه الله ، في معرض هذه المفاضلة :
"وقولكم : أن العمل غاية إما أن تريدوا به العمل الذي يدخل فيه عمل القلب والجوارح أو العمل المختص بالجوارح فقط :
فإن أريد الأول : فهو حق وهو يدل على أن العلم غاية مطلوبة لأنه من أعمال القلب .
وإن أريد به الثاني : وهو عمل الجوارح فقط فليس بصحيح فإن أعمال القلوب مقصودة ومراده لذاتها بل في الحقيقة أعمال الجوارح وسيلة مرادة لغيرها فإن الثواب والعقاب والمدح والذم وتوابعها هو للقلب أصلا وللجوارح تبعا وكذلك الأعمال المقصودة بها أولا صلاح القلب واستقامته وعبوديته لربه ومليكه وجعلت أعمال الجوارح تابعة لهذا المقصود مرادة وإن كان كثير منها مرادا لأجل المصلحة المترتبة عليه فمن أجلها صلاح القلب وزكاه وطهارته واستقامته فعلم أن الأعمال منها غاية ومنها وسيلة وأن العلم كذلك وأيضا فالعلم الذي هو وسيلة إلى العمل فقط إذا تجرد عن العمل لم ينتفع به صاحبه فالعمل أشرف منه وأما العلم المقصود الذي تنشأ ثمرته المطلوبة منه من نفسه فهذا لا يقال : إن العمل المجرد أشرف منه فكيف يكون مجرد العبادة البدنية أفضل من العلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه في خلقه وأمره ومن العلم بأعمال القلوب وآفات النفوس والطرق التي تفسد الأعمال وتمنع وصولها من القلب إلى الله والمسافات التي بين الأعمال والقلب وبين القلب والرب تعالى وبما تقطع تلك المسافات إلى غير ذلك من علم الإيمان وما يقويه وما يضعفه فكيف يقال : إن مجرد التعبد الظاهر بالجوارح أفضل من هذا العلم بل من قام بالأمرين فهو أكمل وإذا كان في أحدهما فضل ففضل هذا العلم خير من فضل العبادة فإذا كان في العبد فضلة عن الواجب كان صرفها إلى العلم الموروث عن الأنبياء أفضل من صرفها إلى مجرد العبادة فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة والله أعلم" . اهــ
"مفتاح دار السعادة" ، (1/221 ، 222) .
ولذلك قدم من قدم من أهل العلم نافلة العلم على نافلة العمل ، فطلب العلم أشرف من أداء النوافل المطلقة كقيام الليل ونحوه ، ولذلك يعطى المتفرغ لطلب العلم من الزكاة إن كان محتاجا فنفعه متعد إلى غيره ، ولا يعطى المتفرغ للعبادة ، وإن كان صادقا في تخليه عن أمر الدنيا ، فلا يعطى منها فنفعه لازم لنفسه ، فكيف إن كان من رواد التكايا برسم التواكل ؟! ، وقد يقال ، والله أعلم ، بأن الأمر يختلف من مكلف إلى آخر فمنهم من يجد قلبه في العلم فينتفع به أكثر من نافلة العمل ، ومنهم من قد يفسده دقيق العلم فلا يقوى على تحصيله ولا يجد قلبه فيه ، بل قد يقسو ، فتكون قوته الإرادية أقوى من قوته العلمية ، فصرفها في وجوه العمل النافع لازما كالصلاة أو متعديا إلى غيره كالإحسان إلى عموم المسلمين ، أفضل في حقه خاصة ، فلكلٍ ملكات لها ما يلائمها من أعمال التكليف فذلك من رحمة الرب الرحيم الحكيم ، جل وعلا ، أن نوع في أجناس العبوديات لينال كل حظه منها ، فذلك من قبيل تنوع الأغذية الطيبة النافعة ، فلا يصلح كل غذاء لكل بدن ، بل إن من الأغذية ما يفسد بعض الأبدان ، ومنها ما يصلحه ، مع أنها كلها طيبة نافعة ، ولكن قد قام ببعض الأبدان من الأسقام أو نحوه ما يمنع الانتفاع بها فتغير الحكم في حقها خصوصا دون بقية الأبدان السليمة ، فحكمة الرب ، جل وعلا ، قد عمت التقدير الكوني بأغذية الأبدان والتقدير الشرعي بأغذية القلوب ، فلكل بدن ما يلائمه من الغذاء الكوني ، ولكل قلب ما يلائمه من الغذاء الشرعي .
والشاهد أن السؤال في : "أي شيء أحب عند الله في الإسلام قال : الصلاة لوقتها ومن ترك الصلاة فلا دين له والصلاة عماد الدين" ، من قبيل السؤال عن أشرف أنواع الجهاد ، وإن كان كلها في جنسه قد اندرج ، فكذلك الأعمال المشروعة ، فكلها في حد الإسلام قد ضمنت ، وإنما يقع التفاوت بينها في الفضل بتفاوتها في الوصف ، فلا يستوي عمل عظيم في القدر والأجر وآخر دونه ، ولا يستوي فرض كالصلاة وقع الخلاف في كفر تاركه ، وفرض آخر لا يكفر تاركه ما لم يكن مستحلا بعد بلوغ الحجة وإقامتها على وجه تزول به الشبهة فينقطع العذر بالجهل ، فهو في حق التارك قد صار علما ضروريا ، وإن لم يكن في حق غيره كذلك ، فالنفوس تتفاوت في علومها فيبلغ بعضها من العلم ما لم يبلغ الآخر ، فتقام الحجة على الأول دون الثاني ، فذلك من جنس التواتر الخاص ، فيتواتر عند أقوام ما لم يتواتر عند غيرهم ، فيكون العلم ضروريا في حقهم لا يفتقر إلى نظر بعد ثبوته جزما ، ويكون نظريا يفتقر إلى الاستدلال بمقدمات ضرورية عند غيرهم ، فحكم الأولين غير حكم الآخرين بداهة ، فلا يسوى بينهما في الحكم إذ لم يستويا في الوصف .
و : "أل" في "الإسلام" : جنسية لبيان الماهية ، ولا تخلو من العهد ، فهو الإسلام الخاص الذي أرسل به النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولا تخلو مع ذلك ، أيضا ، من دلالة العموم الجنسي الاستغراقي ، فالإسلام حال انفراده يعم سائر الأقوال والأعمال ، كما تقدم ، فجاء السؤال عن أحب خصاله إلى الرب ، جل وعلا ، وجاء الجواب بقيد : "لوقتها" ، فهو مؤول بأوله ، كما قد جاء النص على ذلك في حديث ابن مسعود ، رضي الله عنه ، مرفوعا : "أي الأعمال أفضل قال : الصلاة في أول وقتها" ، وقد ترجم لذلك ابن حبان ، رحمه الله ، بقوله : "ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه وسلم الصلاة لميقاتها أراد به في أول الوقت" ، فهو من شعار أهل الحديث ، كما قد نص على ذلك صاحب "الحجة في بيان المحجة" ، فــ : "أداء الصلاة في أول الوقت أفضل الأعمال إلا الظهر في شدة الحر والعشاء إذا لم يخف الإمام ضعف الضعيف . قال بعض العلماء : ومن علامة أصحاب الحديث أداء الصلاة في أول وقت ، وصدق اللهجة ، والتهجد بالليل ، وكتابة الحديث والرحلة فيه والنفقة فيه" ، ثم جاء التذييل في معرض التحذير : "ومن ترك الصلاة فلا دين له والصلاة عماد الدين" ، فنفى حقيقة الدين وتسلط النفي على الحقيقة مئنة من زوالها ، فإن تعذر حمله على زوالها ، انصرف النفي إلى أقرب المجازين : الصحة أو الكمال ، فــ : "من ترك الصلاة" ، تحتمل ترك الجنس ، فينصرف النفي إلى الصحة ، على قول المحققين من أهل العلم فلا يكفر تارك الصلاة بمطلق الترك وإنما يكفر بالترك المطلق فهو مئنة من زوال عمل القلب جزما ، فلا يتصور أن تكتمل شروط الاستطاعة الشرعية من صحة آلة ووجود مقتض وانتفاء مانع شرعي من حيض أو نحوه ، وآخر كوني من إكراه ملجئ ونحوه ، ويتخلف مع ذلك الفعل إلا لفساد في القلب ، فقد زال عمله خشية من العقاب ورجاء للثواب فانتقض أصل الإيمان وإن لم ينتف العرفان والتصديق فلا يصير بهما المكلف مؤمنا وإلا صح إيمان إبليس فهو من جملة العارفين المصدقين ، وإيمان فرعون فــ : (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) .
يقول ابن تيمية ، رحمه الله ، في "الصارم المسلول" في معرض بيان حال من سب صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسابه :
"مرتد بمعنى أنه تكلم بكلمة صار بها كافرا حلال الدم مع جواز أن يكون مصدقا للرسول معترفا له بنبوته لكن موجب التصديق توقيره في الكلام فإذا انتقصه في كلامه ارتفع حكم التصديق وصار بمنزلة اعتراف إبليس لله بالربوبية فإنه موجب للخضوع له فلما استكبر عن أمره بطل حكم ذلك الاعتراف فالإيمان بالله ورسوله قول وعمل ـ أعني بالعمل ما ينبعث عن القول والاعتقاد من التعظيم و الإجلال ، فإذا عمل ضد ذلك من الاستكبار والاستخفاف صار كافرا وكذلك كان قتل النبي باتفاق العلماء فالمرتد : كل من أتى بعد الإسلام من القول أو الفعل بما يناقض الإسلام بحيث لا يجتمع معه" . اهــ
"الصارم المسلول" ، ص315 ، 316 .
فنواقض الإيمان لا تقتصر على النواقض القلبية كما ذهب إلى ذلك المتكلمون الذين قصروا ناقض الإيمان على الناقض القلبي الباطن ، بل منها القولي والفعلي الذي يدل ضرورة على انتقاض عقد القلب الباطن ، فالتلازم بين الباطن والظاهر ، كما تقدم مرارا ، تلازم وثيق ، وهو أصل جليل في مسائل الإيمان .
وفي "مجموع الفتاوى" : "وَعِمَادُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَقُومُ إلَّا بِهِ هُوَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَكْتُوبَاتُ وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الِاعْتِنَاءِ بِهَا مَا لَا يَجِبُ مِنْ الِاعْتِنَاءِ بِغَيْرِهَا . كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ : إنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ عَمَلِهِ أَشَدَّ إضَاعَةً .
وَهِيَ أَوَّلُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ تَوَلَّى اللَّهُ إيجَابَهَا بِمُخَاطَبَةِ رَسُولِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَهِيَ آخِرُ مَا وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ وَقْتَ فِرَاقِ الدُّنْيَا جَعَلَ يَقُولُ : { الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَهِيَ أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ ؛ وَآخِرُ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ . فَإِذَا ذَهَبَتْ ذَهَبَ الدِّينُ كُلُّهُ ؛ وَهِيَ عَمُودُ الدِّينِ فَمَتَى ذَهَبَتْ سَقَطَ الدِّينُ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ : إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا ؛ وَلَوْ تَرَكُوهَا كَانُوا كُفَّارًا" . اهــ
وتحتمل ترك الآحاد ، فينصرف النفي إلى الكمال الواجب ، فلا يكفر تارك بعض الصلوات ، وإن كان متوعدا ، فقد أتى بما ينقض كمال الإيمان الواجب دون أصله ، إن لم يكن تركه استحلالا أو استهزاء ، فيكفر من هذا الوجه ، ثم جاء التذييل ، وهو محل الشاهد فــ : "الصلاة عماد الدين" ، وفي رواية ثالثة أشار إليها صاحب "النافلة" حفظه الله وسدده : "الصلاة عمود الدين" ، وهي عند المروزي ، رحمه الله ، في "تعظيم قدر الصلاة" بلفظ : "ألا أخبرك برأس الأمر وعموده أما رأس الأمر فالإسلام وأما عموده فالصلاة" ، وإلى تخريجها أشار في "التلخيص الحبير" بقوله : "الصلاة عمود الدين ، وهو مرسل رجاله ثقات" ، وفي "كنز العمال" ، بقوله : "الصلاة عمود الدين ، أبو نعيم الفضل بن دكين في الصلاة عن عمر" ، وهو مرسل عن بلال بن يحيى ، كما ذكر صاحب "ضعيف الجامع" ، رحمه الله .
ولا تعارض بين هذا الحديث وأحاديث أخرى ورد النص فيها على أفضل الأعمال سوى الصلاة ، فلكل سائل حال ، ولكل حال حكم يلائمها ، فيقدم بر الوالدين في حق من له أبوان ، ويقدم العلم في حق الضعيف النابه ، ويقدم الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق القوي الفاعل ....... إلخ ، فلكل حاله ، كما تقدم ، ولكل حال ما يلائمها من الأحكام وجوبا أو استحبابا ، فذلك مقتضى العقل الصريح فلا يسوي الشرع الصحيح بين جميع المكلفين إلا في الفرائض الملزمة ، بل قد تسقط عن بعضهم فله رخصة إسقاط يتغير فيها الحكم من تحريم إلى إباحة ، بل إلى وجوب ملزم ، كالمضطر لا يجد إلا ميتة ، وقد شارف على الهلاك فيجب عليه الأكل وإلا أثم ، ولا تسقط عن غيرهم فهي في حقهم عزيمة ، وقد يسقط الكل ، وقد يسقط الجزء ، كما في رخصة القصر ، فهي رخصة ترفيه من الرب الرءوف الرحيم ، جل وعلا ، بل قد ورد النص في أحاديث أخرى على خصال أخرى من الدين هي عموده ، وذلك ، كما تقدم ، شاهد يستأنس به من يدخل الأعمال في حد الإيمان ، فالدين يكافئ الإيمان حال انفراده ، كما هي حال الإسلام إذا انفرد ، فــ : "خصلتان من أخلاق العرب . وهما من عمود الدين ، يوشك أن يدعوهما ، الحياء والأخلاق الكريمة" ، وهو عند أبي الشيخ ، رحمه الله ، عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، فذلك ، أيضا ، مما يحمل على التنوع في الفتوى فرعا على التنوع في حال المستفتي ، فالفتوى الخاصة غير الحكم العام ، فينظر فيها إلى القرائن المحتفة من حال المستفتي وعرف الزمان : عاما كان أو خاصا ما لم يعارض نصا ...... إلخ .
والشاهد أنه قد نص على المفهوم في الحديث المشهور الدارج : "مَنْ أقَامَها فَقدْ أقَامَ الدِّينَ ، وَمنْ هَدمَها فَقَد هَدَمَ الدِّينَ" طردا وعكسا ، على جهة المقابلة استيفاء لشطري القسمة العقلية : الإقامة والهدم ، واستعير المعنى المحسوس إقامة وهدما للمعنى المعقول فعلا وتركا ، وأما الجهاد فقد استعيرت له ذروة السنام ، على حد الاستعارة المكنية ، أيضا ، فشبه الأمر بالجمل وحذف المشبه به وكنى عنه بجزء منه ، هو أعلاه ، فمقابل علو السنام بل المراد ذروته ، مقابلها الجهاد فدرجته رفيعة ، ورتبته منيفة ، فحصل التشبيه على وجه مركب ، فقد شبه الجهاد بذروة السنام ، وشبه علو درجة الأول بذروة الثاني ، فذلك وجه الشبه الذي أجمل في الاستعارة فهو القيد المبين لإجمال التشبيه فبه عرف مراد المتكلم فقد أراد بيان علو مرتبة الجهاد ، فحصل في الذهن صورة مركبة من الحس والمعنى ، وبها أبان المتكلم عن مراده على وجه لا لبس فيه ولا إجمال .
وكذلك الشأن في الجهاد فهو ، كما تقدم ، من أفضل الأعمال ، وهو في نفسه يتفاوت فمنه الفاضل ومنه الأفضل ، فتتفاوت الأنواع ، وتتفاوت آحاد كل نوع ، فذلك مما يقضي به القياس الصريح ، وبه وبالكتاب الهادي تكتمل ثنائية الدين الخاتم فـــ :
"اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَأَكْمَلَ لِأُمَّتِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ، وَجَعَلَهُ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَهَا وَلَا يَتَّبِعَ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ، وَجَعَلَ كِتَابَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ ، وَمُصَدِّقًا لَهَا ، وَجَعَلَ لَهُ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَشَرَعَ لِأُمَّتِهِ سُنَنَ الْهُدَى ؛ وَلَنْ يَقُومَ الدِّينُ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَدِيدِ . كِتَابٌ يُهْدَى بِهِ، وَحَدِيدٌ يَنْصُرُهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فَالْكِتَابُ بِهِ يَقُومُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ . وَالْمِيزَانُ بِهِ تَقُومُ الْحُقُوقُ فِي الْعُقُودِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقُبُوضِ . وَالْحَدِيدُ بِهِ تَقُومُ الْحُدُودُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ . وَلِهَذَا كَانَ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْكِتَابُ لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ . وَالْمِيزَانُ لِلْوُزَرَاءِ وَالْكُتَّابِ ، وَأَهْلِ الدِّيوَانِ . وَالْحَدِيدُ لِلْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ . وَالْكِتَابُ لَهُ الصَّلَاةُ ؛ وَالْحَدِيدُ لَهُ الْجِهَادُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ .......... وَفِي الصَّحِيحِ : {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ فَقِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ} . مَعَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : لَمَّا سَأَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ : {أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . فَإِنَّ قَوْلَهُ "إيمَانٌ بِاَللَّهِ" دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ ؛ إذْ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالِدَانِ . فَالْأَوَّلُ مُطْلَقٌ وَالثَّانِي مُقَيَّدٌ بِمَنْ لَهُ وَالَدَانِ .
وَلِهَذَا كَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ - فِي الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ - أَنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ إمَامًا فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ جَمِيعًا : الصَّلَاةِ، وَالْجِهَادِ . فَاَلَّذِي يَؤُمُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ يَؤُمُّهُمْ فِي الْجِهَادِ ، وَأَمْرُ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ وَاحِدٌ فِي الْمُقَامِ وَالسَّفَرِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى بَلَدٍ : مِثْلِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَلَى الطَّائِفِ ، وَغَيْرِهِمَا : كَانَ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ ، وَيُقِيمُ الْحُدُودَ ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ غَزْوَةٍ ؛ كَاسْتِعْمَالِهِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ، وَابْنَهُ أُسَامَةَ ؛ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، وَغَيْرَهُمْ : كَانَ أَمِيرُ الْحَرْبِ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ ؛ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمُسْلِمُونَ بِتَقْدِيمِهِ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّهُ قَدَّمَهُ فِي الْإِمَامَةِ الْعَامَّةِ" . اهــ بتصرف من "مجموع الفتاوى"
فلم يعرف الحكم الإسلامي الراشد ذلك التباين الفاحش بين المدارك السياسية والمدارك الدينية لدى المتأخرين ، فإما سياسي محنك ، وعالم مبرز ، واقتصادي حاذق ، وهو مع ذلك ، إما علماني رقيق الديانة ، أو عدو لها يجاهر بذلك صراحة ، مع كفاية له ولو نسبية في أمور المعاش الدنيوية ، فجلد في أمر الدنيا مقرون بفجور في أمر الدين ! ، في مقابل ثقة في الديانة ضعيف النكاية ، فليس قويا وإن كان أمينا ليولى إمارة أو حربا ، فإما الأول ، فهو عليم بأمر الدنيا جهول بأمر الدين ، وإما الثاني فهو على الضد ، فأمانته لازمة لا تتعدى ولو بواسطة ! ، فكان الخلفاء في زمان العزة : أئمة في الدين والدنيا ، فأظهر الصديق ، رضي الله عنه ، كفاية في الإمامة الشرعية فهو الإمام المقدم في الصلاة ، فصار أهلا للإمامة الدنيوية ، فهو الإمام المقدم في السياسة والحرب ، فأظهر من الحنكة السياسية والعسكرية في حروب الردة ما صيرها مضرب المثل في حسم مادة الفتنة العامة في ظل حال عدم الاستقرار بقبض رئيس الدولة ، بل زعيم الملة صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو أعظم مصاب رزئت به الأمة ، بل والبشرية جميعا ، فــ : (مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، فهو الأمان الأول ، ومع ذلك قام الصديق ، رضي الله عنه ، برسم الجلال والشدة ، وهو من هو في الجمال والرقة ، فحفظ به الرب ، جل وعلا ، الدين من النقصان ، وقوم به الاعوجاج ، فلسان مقاله الخالد : "أينقص الدين وأنا حي ؟!" على كلام في ثبوت المقالة عنه رضي الله عنه ، فمثل هذا الأسد الكامن في زي الأسيف الزاهد ، كيف تكون بطانته ؟! ، فالأصل والفرع قد استجمعا معادن الكمال في الدين والدنيا ، فرأس فيهما ، وبطانة كعمر وعثمان وعلي ، لها من الكفاية الدينية والدنيوية ما لها ، وذلك فضل الله ، جل وعلا ، يؤتيه من يشاء ، ثم صار الأمر إلى كفاية في الملك والسياسة مع ضعف ولو نسبي في العلم بأمور الديانة ، ومع ذلك كان الدين معظما ، فإن لم يكن الخليفة أو الأمير عالما فهو معظم لأهل العلم مدن لهم برسم الاستشارة الفعلية ، لا الدعاية الصورية ، كما هي الحال في زماننا فالعالم إما غائب وإما حاضر كالغائب ، بل قد يكون الغائب أحسن حالا منه ، فليس له من الأمر شيء ، بل يقضى الأمر وهو حاضر فلا يستشار ، فكيف إذا غاب ؟! ، وإنما يكل إليه سلطان الجور تلفيق الحجة الشرعية لما يوقعه من المظالم الدينية والدنيوية ، فكان الأمر في أوله : إمام عدل يحكم ، وبطانة عدل تأمر وتنهى فترشد إلى الصواب إن أخطأ الإمام فليس له من العصمة المطلقة حظ بل عصمته إنما تكون بالاستمساك بعرى الديانة والاستيثاق من الشريعة بالنظر في نصوصها حفظا للمباني وفقها للمعاني واستنباطا لأحكام النوازل ، ونزولا على قول الجماعة ، فإجماعها معصوم ، وإن لم يعصم آحادها ، فما اجتمعت عليه فهو الحق جزما ، فترشد إليه أمرا ونهيا ، وتقوم ما قد يقع من اعوجاج ، ولو لم يتقصده الإمام ، فهو إمام هدى ، ثم صار في وسطه : إمام ملك وسياسة ليس له من العلم والفقه رياسة وإن كانت له مشاركة فاعلة ، وهو مع ذلك التقصير معظم لأهل العلم مستكمل بهم ما نقص من حاله وما قصر باعه عنه من علوم الديانة وأحكامها ، فهو ، كما تقدم ، معظم لها حقيقة لا مجازا ! ، ثم آل الأمر في آخره إلى : إمام جور فاسق مارق بطانته في الغالب على شاكلته فقد قيضت له برسم : (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) ، فتزين له سوء عمله فهو الحكيم الملهم ! ، وتحجب عنه الخير مع ما قد جبل عليه ابتداء من جبلة شر فهي محل قابل لأزهم ، فحاله وحالهم : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) ، فأرسل الرب ، جل وعلا ، عليه شياطين الجن بالوسواس الخفي وشياطين الإنس بالوسواس الظاهر ، فحجب عنه هاتف الملك ولمته فمحله غير قابل لآثار الخير ، فنازع نفسه الشر ، وهاتفها : وسواس شيطان جني ونفاق شيطان إنسي ، فكلاهما يغريه ويهيجه على الفجور والعصيان بل وربما المروق والكفران ، فأنى يفلح ويدوم ملكه ؟! ، وإن ظهر في بطانته من هو ذو كفاية في دين أو دنيا فمصيره الإقصاء ولو بعد حين .
فــ : أي الجهاد أفضل :
فهو ، كما تقدم ، مما تتفاوت آحاده ، فمراتبه تعم النفس والغير ، وإن كان مما ينصرف بداهة إلى الغير ، فمعنى المفاعلة فيه ظاهر ، والمفاعلة لا تكون إلا بين اثنين ، فــ : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ، فقبيل فيه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن سار على منهاج رسالته ، فالخطاب له مواجهة فهو الأصل ، ولهم تبعا فهم الفرع ، وقبيل فيه الكفار والمنافقون ، ولكل جهاده ، فشرع جهاد الكفار بالحجة والبرهان حال الجدال وإليه أشار ابن حزم ، رحمه الله ، بقوله : "ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصحيحة لا تغلب أبدا فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة وأفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد من المسلمين" . اهــ
وبالسيف والسنان حال النزال ، ويشرع جهاد المنافقين بالحجة والبرهان أصالة ، فقد عصمت دماؤهم بالشهادة ، ما لم يستعلنوا بنفاقهم فحدهم إذا ظهر منهم وتكرر : حد الزنديق فيقتل وإن أظهر التوبة لئلا يصير الدين لعبة ، ولا يستوفي ذلك ، على تفصيل ، إلا من له ولاية عامة بإمارة أو احتساب لئلا تشيع الفوضى وتقع الفتنة الكبرى .
كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ :
فتلك نكرة في سياق الإثبات فتفيد الإطلاق ، فأي كلمة حق عنده أمرا أو نهيا ، ترغيبا أو ترهيبا ، فهي أعظم الجهاد لما يلقاه القائل من عنته ، فقالها الكليم عليه السلام عند فرعون وقالها سعيد بن جبير عند الحجاج وقالها الأوزاعي عند عبد الله بن علي وقالها أبو حنيفة عند أبي جعفر المنصور وقالها أحمد عند المأمون والمعتصم ، والعندية تحتمل الحضور أو الغيبة ، فهي كناية عن تمكن ذلك الجائر من نيل القائل بالأذى فهو تحت سلطانه ، فلا يمتنع حملها على الحقيقة فيقولها بحضرته ، أو المجاز فيقولها في غيبته مع علمه يقينا ببلوغها إياه ، لا سيما في الأعصار والأمصار التي يكثر فيها الجواسيس فهم رسل الشر بما ينقلون ويتزيدون إرادة نيل الرضا بإظهار الإخلاص في حرب الله ورسوله وحزبه المؤمنين من القائمين بشريعة رب العالمين ! .
وقدم وصف الإمام ، فهو كما تقدم ، موطئ لما بعده ، فمادته تحتمل الإمامة في الخير فهي مئنة من المدح ، أو الإمامة في الشر فهي مئنة من الذم ، وجاء الوصف : "جائر" : فهو محط الحكم ، فيتعلق به فهو المعنى المؤثر في وجوده أو عدمه ، فوصفه الجور والتعدي في القول والفعل ، وذلك معنى يعم سائر أنواع الظلم ، فقد يظلم بالمروق من الديانة بالكلية ، فــ : (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، وإن لم يحسن في هذه المسألة وفي سائر مسائل الأسماء والأحكام : الحكم على المعين إلا من الراسخين في العلم فهم الذين يقيمون الحجج وينفون الشبه ، وقد يظلم ظلما عمليا لا ينقض أصل الإيمان وإن نقض كماله الواجب ، فيقتل النفوس بلا حق أو يفرض المكوس بلا سبب يلجئ ........ إلخ من صور الظلم العملي ، وقد تجتمع فيه السوأتان فهو مبدل للشرائع معطل للأحكام ، متعد مع ذلك في أمور الدماء والأعراض والأموال ! .
وقد ورد في حديث آخر النص على نوع آخر : "أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ قَالَ مَنْ عَقَرَ جَوَادَهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ" ، فذلك ، كما تقدم ، من التباين في الجواب تبعا للتباين في حال السائل ، فيحمل كلٌ على سياقه الذي ورد فيه لما احتف به من قرائن سياقية أو حالية ، أو يقيد كلٌ ببابه ، فأفضل جهاد الظالمين بالقول : كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ ، وأفضل جهاد الظالمين بالفعل : مَنْ عَقَرَ جَوَادَهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ .
والله أعلى وأعلم .
أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ قَالَ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ :
فصدر السياق بالاستفهام على حد التشويق ، وهو استفهام بــ : "أي" التي ترد للاستفهام فتفيد كما يقول صاحب "الجواهر" رحمه الله : تمييز أحد المشتركين في أمر يعمهم ، فالفضل حاصل في كل صور الجهاد بداهة ، فهو من أشرف أعمال الديانة ، فــ : "أَلَا أُخْبِرُكَ بِرَأْسِ الْأَمْرِ كُلِّهِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ قُلْتُ بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ" ، فجاء الاستفهام على حد التشويق أيضا ، ففي "ألا" معنى العرض الذي يغري السامع بالقبول ، فأجاب معاذ ، رضي الله عنه ، بالنفي ، فالاستفهام في صدر الكلام ينزل منزلته ، فإذا أجاب المخاطب بالنفي فقد أبطله ، ففحوى جوابه : الإيجاب بنفي النفي أو نفي ما ينزل منزلته ، ثم جاء الجواب على حد اللف والنشر المرتب ، فترتيب الإجابات تبع لترتيب المذكورات في السؤال ، فقدم المسند إليه في كلٍ على حد التشويق ، أيضا ، إلى المسند فهو الحكم الذي تتشوف النفس إليه ، وقد يقال بأن المسند هو الذي قدم ، فمعنى الخبرية فيه ظاهر ، فهو حكم على المسئول عنه ، والسياق يحتمل كلا الوجهين ، فيجوز تصدير السياق بأيهما على حد الابتداء ، فيقال : رأس الأمر الإسلام ، أو : الإسلام رأس الأمر ، فالصناعة النحوية تجوز كليهما ، والصناعة البلاغية وفيها قدر زائد على قانون اللسان ، ترجح بينهما مع صحة التركيب في كليهما ، فقد يقال بأن المقدم هو المسند إليه فذلك الأصل المعهود في لسان العرب فلا يخرج عنه إلا بدليل ، فعلى الناقل عن الأصل الدليل ، فضلا عن مطابقة ذلك لسياق المذكورات في السؤال ، فجاء الاستفهام عن ثلاثتها ، وفيه نوع إجمال ، ثم جاء البيان ، فأسند إلى المجمل المسئول عنه فزال إجماله ، فذلك وجه تقديم المسئول عنه ، فــ : رأس الأمر المسئول عنه فهو المجمل : الإسلام فهو بيانه ، فأسند المبين إلى المجمل فأزال إجماله ، كما تقدم ، فيكون المقدم في اللفظ هو المسند إليه المحكوم عليه ، ويكون المؤخر هو المسند المحكوم به ، وقد يقال من وجه آخر بأن المقدم هو المسند ، فهو حكم بوصف الرأس والعماد وذروة السنام ، والمحكوم عليه هو الموصوف بذلك ، فالخبر وصف في المعنى ، فيكون السؤال عن المسند إليه ، فقد أسند وصف الرأس للإسلام ، ووصف العماد للصلاة ، ووصف ذروة السنام للجهاد ، ثم جاء الجواب : رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ : فاستعير المعنى المحسوس للمعنى المعقول في الأخبار الثلاثة ، فالرأس أشرف عضو فلا قيام للجسد إلا به فتلك استعارة تصريحية فقد استعير الرأس لأعلى الأمر ، فرأس كل شيء أعلاه بداهة ، فرأس القوم أميرهم ومقدمهم ، ورأس المقالة محدثها ، فيقال فلان رأس في البدعة ، فلا يروى عنه ، فليس كالعامي الذي لا يدعو إلى مقالته ، فلا يروى عن الرأس الداعي تعزيرا على قول ، ويروى عنه إن كان صادقا إلا ما يقوي بدعته ، ويروى عنه مطلقا إن كان صادقا على قول المحققين فالعبرة بصدقه ، وهي أصلية إذ قد جرت في الاسم الجامد : "رأس" ، وقل مثل ذلك في العمود ، فالاستعارة فيه قد تجري مجرى الاستعارة المكنية ، فقد شبه بالخيمة ، فلها عمود لا تقوم إلا بقيامه ، فإذا سقط سقطت ، فشبه بالخيمة وحذف المشبه به وهو الخيمة ، وكني عنه بجزء من أجزائه وهو العمود الذي تقوم عليه ، وهي ، أيضا ، أصلية ، إذ قد جرت في اسم جامد آخر هو : "العمود" ، وقد يستأنس به من يقول بكفر تارك الصلاة ، فإن العمود من اسمه : عماد الأمر الذي لا يقوم إلا بقيامه ، فينهار البنيان بانهيار عماده ، فلا يبقى من الأمر شيء بعد زوال عماده الذي يستند إليه ، وقد ورد ذلك في حديث ضعيف : "الصَّلاةُ عِمادُ الدِّينِ ، مَنْ أقَامَها فَقدْ أقَامَ الدِّينَ ، وَمنْ هَدمَها فَقَد هَدَمَ الدِّينَ" ، وأوله ، كما يذكر صاحب "النافلة" ، حفظه الله وسدده ، قد ثبت عند البيهقي ، رحمه الله ، في "الشعب" بلفظ : "أي شيء أحب عند الله في الإسلام قال : الصلاة لوقتها ومن ترك الصلاة فلا دين له والصلاة عماد الدين" ، وهو مرسل بالمعنى العام قد انقطع إسناده بين عكرمة وعمر ، رضي الله عنه ، كما نوه بذلك صاحب "الشعب" ، رحمه الله ، بقوله : "قال أبو عبد الله ، (وهو : الحاكم صاحب المستدرك رحمه الله) : عكرمة لم يسمع من عمر وأظنه أراد عن ابن عمر" ، فجاء الاستفهام ، أيضا ، بــ : "أي" ، فأي شيء ، قد آل معناه إلى أي فعل ، أو أي عمل ، سواء أكان بالقلب أو باللسان أو بالجارحة ، وجاء الإسلام منفردا ، فدخل فيه معنى الإيمان فقد صار حال انفراده علما على عموم الديانة ، فيدخل فيه الباطن والظاهر ، وإن كان علما على الظاهر حال الاقتران ، كما في حديث جبريل ، عليه السلام ، كما أن الإيمان إذا انفرد دخلت فيه أعمال الإسلام الظاهرة ، فصار مئنة من عموم الديانة ، أيضا ، كما في حديث وفد عبد القيس : "أَتَدْرُونَ مَا الْإِيمَانُ بِاللَّهِ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ قَالَ شَهَادَةُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ وَإِقَامُ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءُ الزَّكَاةِ وَصَوْمُ رَمَضَانَ وَأَنْ تُعْطُوا الْخُمْسَ مِنْ الْمَغْنَمِ" ، فأجاب بجملة من المأمورات الظاهرة ، فدل ذلك على دخول الأعمال في مسمى الإيمان حقيقة ، فالإيمان حقيقة مركبة من اعتقاد وقول وعمل ، فدلالته عليها جميعا دلالة مطابقة ، ودلالته على أحدها : دلالة تضمن ، فهي أجزاؤه ، وهو مجموعها حقيقة ، فينقص بنقصانها بل قد ينقض بزوال بعضها ، فينقض بزوال عمل القلب ، فعليه مدار الأمر ، كما أشار إلى ذلك ابن القيم ، رحمه الله ، في معرض المفاضلة بين العلم والعمل ، فأيهما يراد لذاته فيكون الأشرف فهو الغاية ، وأيهما يراد لغيره فيكون دونه في الشرف فهو الوسيلة ، والوسيلة تابعة للمقصد ، فتلتحق به في الحكم التحاق الفرع بالأصل ، فالتابع تبع لمتبوعه في الحكم بداهة ، فقال ، رحمه الله ، في معرض تلك المفاضلة بين جنس العلم وجنس العمل ، فهما أشرف أوصاف البشر ، فالتصور والإرادة قد كملا في الإنسان المكلف ، فبهما يصدق ، فيصدق بتصوره جزما ويصدق بعمله ظاهرا وباطنا ، فعلا وتركا ، فيصدق بقلبه تصورا جازما فذلك علمه ، ويصدق بقلبه إرادة جازمة فذلك عمله ، ويصدق بلسانه شهادة فذلك علمه ، ويصدق به ذكرا فهذا عمله ، ويصدق بأركانه ، فذلك عملها وليست لها نسبة مباشرة إلى العلم كنسبة التصور والشهادة ، فنسبة العمل إلى العلم نسبة فرع إلى أصل يتولد منه لزوما ، وكلاهما ، كما تقدم ، في حد الإيمان داخل ، بل الإيمان على هذا الوجه قد اقتصر عليهما ، فهو قول بجميع أجناسه باطنا بالتصور ، وظاهرا بالشهادة ، وعمل بكل قوى الإنسان الحساس المتحرك بالإرادة ، فيتحرك القلب بالإرادات ، ويتحرك اللسان بالتلاوات ، وتتحرك الأركان بالعبادات ، فقال ، رحمه الله ، في معرض هذه المفاضلة :
"وقولكم : أن العمل غاية إما أن تريدوا به العمل الذي يدخل فيه عمل القلب والجوارح أو العمل المختص بالجوارح فقط :
فإن أريد الأول : فهو حق وهو يدل على أن العلم غاية مطلوبة لأنه من أعمال القلب .
وإن أريد به الثاني : وهو عمل الجوارح فقط فليس بصحيح فإن أعمال القلوب مقصودة ومراده لذاتها بل في الحقيقة أعمال الجوارح وسيلة مرادة لغيرها فإن الثواب والعقاب والمدح والذم وتوابعها هو للقلب أصلا وللجوارح تبعا وكذلك الأعمال المقصودة بها أولا صلاح القلب واستقامته وعبوديته لربه ومليكه وجعلت أعمال الجوارح تابعة لهذا المقصود مرادة وإن كان كثير منها مرادا لأجل المصلحة المترتبة عليه فمن أجلها صلاح القلب وزكاه وطهارته واستقامته فعلم أن الأعمال منها غاية ومنها وسيلة وأن العلم كذلك وأيضا فالعلم الذي هو وسيلة إلى العمل فقط إذا تجرد عن العمل لم ينتفع به صاحبه فالعمل أشرف منه وأما العلم المقصود الذي تنشأ ثمرته المطلوبة منه من نفسه فهذا لا يقال : إن العمل المجرد أشرف منه فكيف يكون مجرد العبادة البدنية أفضل من العلم بالله وأسمائه وصفاته وأحكامه في خلقه وأمره ومن العلم بأعمال القلوب وآفات النفوس والطرق التي تفسد الأعمال وتمنع وصولها من القلب إلى الله والمسافات التي بين الأعمال والقلب وبين القلب والرب تعالى وبما تقطع تلك المسافات إلى غير ذلك من علم الإيمان وما يقويه وما يضعفه فكيف يقال : إن مجرد التعبد الظاهر بالجوارح أفضل من هذا العلم بل من قام بالأمرين فهو أكمل وإذا كان في أحدهما فضل ففضل هذا العلم خير من فضل العبادة فإذا كان في العبد فضلة عن الواجب كان صرفها إلى العلم الموروث عن الأنبياء أفضل من صرفها إلى مجرد العبادة فهذا فصل الخطاب في هذه المسألة والله أعلم" . اهــ
"مفتاح دار السعادة" ، (1/221 ، 222) .
ولذلك قدم من قدم من أهل العلم نافلة العلم على نافلة العمل ، فطلب العلم أشرف من أداء النوافل المطلقة كقيام الليل ونحوه ، ولذلك يعطى المتفرغ لطلب العلم من الزكاة إن كان محتاجا فنفعه متعد إلى غيره ، ولا يعطى المتفرغ للعبادة ، وإن كان صادقا في تخليه عن أمر الدنيا ، فلا يعطى منها فنفعه لازم لنفسه ، فكيف إن كان من رواد التكايا برسم التواكل ؟! ، وقد يقال ، والله أعلم ، بأن الأمر يختلف من مكلف إلى آخر فمنهم من يجد قلبه في العلم فينتفع به أكثر من نافلة العمل ، ومنهم من قد يفسده دقيق العلم فلا يقوى على تحصيله ولا يجد قلبه فيه ، بل قد يقسو ، فتكون قوته الإرادية أقوى من قوته العلمية ، فصرفها في وجوه العمل النافع لازما كالصلاة أو متعديا إلى غيره كالإحسان إلى عموم المسلمين ، أفضل في حقه خاصة ، فلكلٍ ملكات لها ما يلائمها من أعمال التكليف فذلك من رحمة الرب الرحيم الحكيم ، جل وعلا ، أن نوع في أجناس العبوديات لينال كل حظه منها ، فذلك من قبيل تنوع الأغذية الطيبة النافعة ، فلا يصلح كل غذاء لكل بدن ، بل إن من الأغذية ما يفسد بعض الأبدان ، ومنها ما يصلحه ، مع أنها كلها طيبة نافعة ، ولكن قد قام ببعض الأبدان من الأسقام أو نحوه ما يمنع الانتفاع بها فتغير الحكم في حقها خصوصا دون بقية الأبدان السليمة ، فحكمة الرب ، جل وعلا ، قد عمت التقدير الكوني بأغذية الأبدان والتقدير الشرعي بأغذية القلوب ، فلكل بدن ما يلائمه من الغذاء الكوني ، ولكل قلب ما يلائمه من الغذاء الشرعي .
والشاهد أن السؤال في : "أي شيء أحب عند الله في الإسلام قال : الصلاة لوقتها ومن ترك الصلاة فلا دين له والصلاة عماد الدين" ، من قبيل السؤال عن أشرف أنواع الجهاد ، وإن كان كلها في جنسه قد اندرج ، فكذلك الأعمال المشروعة ، فكلها في حد الإسلام قد ضمنت ، وإنما يقع التفاوت بينها في الفضل بتفاوتها في الوصف ، فلا يستوي عمل عظيم في القدر والأجر وآخر دونه ، ولا يستوي فرض كالصلاة وقع الخلاف في كفر تاركه ، وفرض آخر لا يكفر تاركه ما لم يكن مستحلا بعد بلوغ الحجة وإقامتها على وجه تزول به الشبهة فينقطع العذر بالجهل ، فهو في حق التارك قد صار علما ضروريا ، وإن لم يكن في حق غيره كذلك ، فالنفوس تتفاوت في علومها فيبلغ بعضها من العلم ما لم يبلغ الآخر ، فتقام الحجة على الأول دون الثاني ، فذلك من جنس التواتر الخاص ، فيتواتر عند أقوام ما لم يتواتر عند غيرهم ، فيكون العلم ضروريا في حقهم لا يفتقر إلى نظر بعد ثبوته جزما ، ويكون نظريا يفتقر إلى الاستدلال بمقدمات ضرورية عند غيرهم ، فحكم الأولين غير حكم الآخرين بداهة ، فلا يسوى بينهما في الحكم إذ لم يستويا في الوصف .
و : "أل" في "الإسلام" : جنسية لبيان الماهية ، ولا تخلو من العهد ، فهو الإسلام الخاص الذي أرسل به النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وسلم ، ولا تخلو مع ذلك ، أيضا ، من دلالة العموم الجنسي الاستغراقي ، فالإسلام حال انفراده يعم سائر الأقوال والأعمال ، كما تقدم ، فجاء السؤال عن أحب خصاله إلى الرب ، جل وعلا ، وجاء الجواب بقيد : "لوقتها" ، فهو مؤول بأوله ، كما قد جاء النص على ذلك في حديث ابن مسعود ، رضي الله عنه ، مرفوعا : "أي الأعمال أفضل قال : الصلاة في أول وقتها" ، وقد ترجم لذلك ابن حبان ، رحمه الله ، بقوله : "ذكر البيان بأن قوله صلى الله عليه وسلم الصلاة لميقاتها أراد به في أول الوقت" ، فهو من شعار أهل الحديث ، كما قد نص على ذلك صاحب "الحجة في بيان المحجة" ، فــ : "أداء الصلاة في أول الوقت أفضل الأعمال إلا الظهر في شدة الحر والعشاء إذا لم يخف الإمام ضعف الضعيف . قال بعض العلماء : ومن علامة أصحاب الحديث أداء الصلاة في أول وقت ، وصدق اللهجة ، والتهجد بالليل ، وكتابة الحديث والرحلة فيه والنفقة فيه" ، ثم جاء التذييل في معرض التحذير : "ومن ترك الصلاة فلا دين له والصلاة عماد الدين" ، فنفى حقيقة الدين وتسلط النفي على الحقيقة مئنة من زوالها ، فإن تعذر حمله على زوالها ، انصرف النفي إلى أقرب المجازين : الصحة أو الكمال ، فــ : "من ترك الصلاة" ، تحتمل ترك الجنس ، فينصرف النفي إلى الصحة ، على قول المحققين من أهل العلم فلا يكفر تارك الصلاة بمطلق الترك وإنما يكفر بالترك المطلق فهو مئنة من زوال عمل القلب جزما ، فلا يتصور أن تكتمل شروط الاستطاعة الشرعية من صحة آلة ووجود مقتض وانتفاء مانع شرعي من حيض أو نحوه ، وآخر كوني من إكراه ملجئ ونحوه ، ويتخلف مع ذلك الفعل إلا لفساد في القلب ، فقد زال عمله خشية من العقاب ورجاء للثواب فانتقض أصل الإيمان وإن لم ينتف العرفان والتصديق فلا يصير بهما المكلف مؤمنا وإلا صح إيمان إبليس فهو من جملة العارفين المصدقين ، وإيمان فرعون فــ : (لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ) .
يقول ابن تيمية ، رحمه الله ، في "الصارم المسلول" في معرض بيان حال من سب صاحب الشريعة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فسابه :
"مرتد بمعنى أنه تكلم بكلمة صار بها كافرا حلال الدم مع جواز أن يكون مصدقا للرسول معترفا له بنبوته لكن موجب التصديق توقيره في الكلام فإذا انتقصه في كلامه ارتفع حكم التصديق وصار بمنزلة اعتراف إبليس لله بالربوبية فإنه موجب للخضوع له فلما استكبر عن أمره بطل حكم ذلك الاعتراف فالإيمان بالله ورسوله قول وعمل ـ أعني بالعمل ما ينبعث عن القول والاعتقاد من التعظيم و الإجلال ، فإذا عمل ضد ذلك من الاستكبار والاستخفاف صار كافرا وكذلك كان قتل النبي باتفاق العلماء فالمرتد : كل من أتى بعد الإسلام من القول أو الفعل بما يناقض الإسلام بحيث لا يجتمع معه" . اهــ
"الصارم المسلول" ، ص315 ، 316 .
فنواقض الإيمان لا تقتصر على النواقض القلبية كما ذهب إلى ذلك المتكلمون الذين قصروا ناقض الإيمان على الناقض القلبي الباطن ، بل منها القولي والفعلي الذي يدل ضرورة على انتقاض عقد القلب الباطن ، فالتلازم بين الباطن والظاهر ، كما تقدم مرارا ، تلازم وثيق ، وهو أصل جليل في مسائل الإيمان .
وفي "مجموع الفتاوى" : "وَعِمَادُ الدِّينِ الَّذِي لَا يَقُومُ إلَّا بِهِ هُوَ الصَّلَوَاتُ الْخَمْسُ الْمَكْتُوبَاتُ وَيَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ الِاعْتِنَاءِ بِهَا مَا لَا يَجِبُ مِنْ الِاعْتِنَاءِ بِغَيْرِهَا . كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَكْتُبُ إلَى عُمَّالِهِ : إنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُمْ عِنْدِي الصَّلَاةُ فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ وَمَنْ ضَيَّعَهَا كَانَ لِمَا سِوَاهَا مِنْ عَمَلِهِ أَشَدَّ إضَاعَةً .
وَهِيَ أَوَّلُ مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ مِنْ الْعِبَادَاتِ وَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ تَوَلَّى اللَّهُ إيجَابَهَا بِمُخَاطَبَةِ رَسُولِهِ لَيْلَةَ الْمِعْرَاجِ وَهِيَ آخِرُ مَا وَصَّى بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّتَهُ وَقْتَ فِرَاقِ الدُّنْيَا جَعَلَ يَقُولُ : { الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وَهِيَ أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ عَلَيْهِ الْعَبْدُ مِنْ عَمَلِهِ ؛ وَآخِرُ مَا يُفْقَدُ مِنْ الدِّينِ . فَإِذَا ذَهَبَتْ ذَهَبَ الدِّينُ كُلُّهُ ؛ وَهِيَ عَمُودُ الدِّينِ فَمَتَى ذَهَبَتْ سَقَطَ الدِّينُ . قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذُرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ } وَقَدْ قَالَ اللَّهُ فِي كِتَابِهِ : { فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا } . قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَغَيْرُهُ : إضَاعَتُهَا تَأْخِيرُهَا عَنْ وَقْتِهَا ؛ وَلَوْ تَرَكُوهَا كَانُوا كُفَّارًا" . اهــ
وتحتمل ترك الآحاد ، فينصرف النفي إلى الكمال الواجب ، فلا يكفر تارك بعض الصلوات ، وإن كان متوعدا ، فقد أتى بما ينقض كمال الإيمان الواجب دون أصله ، إن لم يكن تركه استحلالا أو استهزاء ، فيكفر من هذا الوجه ، ثم جاء التذييل ، وهو محل الشاهد فــ : "الصلاة عماد الدين" ، وفي رواية ثالثة أشار إليها صاحب "النافلة" حفظه الله وسدده : "الصلاة عمود الدين" ، وهي عند المروزي ، رحمه الله ، في "تعظيم قدر الصلاة" بلفظ : "ألا أخبرك برأس الأمر وعموده أما رأس الأمر فالإسلام وأما عموده فالصلاة" ، وإلى تخريجها أشار في "التلخيص الحبير" بقوله : "الصلاة عمود الدين ، وهو مرسل رجاله ثقات" ، وفي "كنز العمال" ، بقوله : "الصلاة عمود الدين ، أبو نعيم الفضل بن دكين في الصلاة عن عمر" ، وهو مرسل عن بلال بن يحيى ، كما ذكر صاحب "ضعيف الجامع" ، رحمه الله .
ولا تعارض بين هذا الحديث وأحاديث أخرى ورد النص فيها على أفضل الأعمال سوى الصلاة ، فلكل سائل حال ، ولكل حال حكم يلائمها ، فيقدم بر الوالدين في حق من له أبوان ، ويقدم العلم في حق الضعيف النابه ، ويقدم الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق القوي الفاعل ....... إلخ ، فلكل حاله ، كما تقدم ، ولكل حال ما يلائمها من الأحكام وجوبا أو استحبابا ، فذلك مقتضى العقل الصريح فلا يسوي الشرع الصحيح بين جميع المكلفين إلا في الفرائض الملزمة ، بل قد تسقط عن بعضهم فله رخصة إسقاط يتغير فيها الحكم من تحريم إلى إباحة ، بل إلى وجوب ملزم ، كالمضطر لا يجد إلا ميتة ، وقد شارف على الهلاك فيجب عليه الأكل وإلا أثم ، ولا تسقط عن غيرهم فهي في حقهم عزيمة ، وقد يسقط الكل ، وقد يسقط الجزء ، كما في رخصة القصر ، فهي رخصة ترفيه من الرب الرءوف الرحيم ، جل وعلا ، بل قد ورد النص في أحاديث أخرى على خصال أخرى من الدين هي عموده ، وذلك ، كما تقدم ، شاهد يستأنس به من يدخل الأعمال في حد الإيمان ، فالدين يكافئ الإيمان حال انفراده ، كما هي حال الإسلام إذا انفرد ، فــ : "خصلتان من أخلاق العرب . وهما من عمود الدين ، يوشك أن يدعوهما ، الحياء والأخلاق الكريمة" ، وهو عند أبي الشيخ ، رحمه الله ، عن ابن عمر ، رضي الله عنهما ، فذلك ، أيضا ، مما يحمل على التنوع في الفتوى فرعا على التنوع في حال المستفتي ، فالفتوى الخاصة غير الحكم العام ، فينظر فيها إلى القرائن المحتفة من حال المستفتي وعرف الزمان : عاما كان أو خاصا ما لم يعارض نصا ...... إلخ .
والشاهد أنه قد نص على المفهوم في الحديث المشهور الدارج : "مَنْ أقَامَها فَقدْ أقَامَ الدِّينَ ، وَمنْ هَدمَها فَقَد هَدَمَ الدِّينَ" طردا وعكسا ، على جهة المقابلة استيفاء لشطري القسمة العقلية : الإقامة والهدم ، واستعير المعنى المحسوس إقامة وهدما للمعنى المعقول فعلا وتركا ، وأما الجهاد فقد استعيرت له ذروة السنام ، على حد الاستعارة المكنية ، أيضا ، فشبه الأمر بالجمل وحذف المشبه به وكنى عنه بجزء منه ، هو أعلاه ، فمقابل علو السنام بل المراد ذروته ، مقابلها الجهاد فدرجته رفيعة ، ورتبته منيفة ، فحصل التشبيه على وجه مركب ، فقد شبه الجهاد بذروة السنام ، وشبه علو درجة الأول بذروة الثاني ، فذلك وجه الشبه الذي أجمل في الاستعارة فهو القيد المبين لإجمال التشبيه فبه عرف مراد المتكلم فقد أراد بيان علو مرتبة الجهاد ، فحصل في الذهن صورة مركبة من الحس والمعنى ، وبها أبان المتكلم عن مراده على وجه لا لبس فيه ولا إجمال .
وكذلك الشأن في الجهاد فهو ، كما تقدم ، من أفضل الأعمال ، وهو في نفسه يتفاوت فمنه الفاضل ومنه الأفضل ، فتتفاوت الأنواع ، وتتفاوت آحاد كل نوع ، فذلك مما يقضي به القياس الصريح ، وبه وبالكتاب الهادي تكتمل ثنائية الدين الخاتم فـــ :
"اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَأَكْمَلَ لِأُمَّتِهِ الدِّينَ، وَأَتَمَّ عَلَيْهِمْ النِّعْمَةَ، وَجَعَلَهُ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ الْأَمْرِ، وَأَمَرَهُ أَنْ يَتَّبِعَهَا وَلَا يَتَّبِعَ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ، وَجَعَلَ كِتَابَهُ مُهَيْمِنًا عَلَى مَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكُتُبِ ، وَمُصَدِّقًا لَهَا ، وَجَعَلَ لَهُ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا، وَشَرَعَ لِأُمَّتِهِ سُنَنَ الْهُدَى ؛ وَلَنْ يَقُومَ الدِّينُ إلَّا بِالْكِتَابِ وَالْمِيزَانِ وَالْحَدِيدِ . كِتَابٌ يُهْدَى بِهِ، وَحَدِيدٌ يَنْصُرُهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} فَالْكِتَابُ بِهِ يَقُومُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ . وَالْمِيزَانُ بِهِ تَقُومُ الْحُقُوقُ فِي الْعُقُودِ الْمَالِكِيَّةِ وَالْقُبُوضِ . وَالْحَدِيدُ بِهِ تَقُومُ الْحُدُودُ عَلَى الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ . وَلِهَذَا كَانَ فِي الْأَزْمَانِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْكِتَابُ لِلْعُلَمَاءِ وَالْعُبَّادِ . وَالْمِيزَانُ لِلْوُزَرَاءِ وَالْكُتَّابِ ، وَأَهْلِ الدِّيوَانِ . وَالْحَدِيدُ لِلْأُمَرَاءِ وَالْأَجْنَادِ . وَالْكِتَابُ لَهُ الصَّلَاةُ ؛ وَالْحَدِيدُ لَهُ الْجِهَادُ ؛ وَلِهَذَا كَانَ أَكْثَرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ فِي الصَّلَاةِ وَالْجِهَادِ .......... وَفِي الصَّحِيحِ : {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ : أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ : إيمَانٌ بِاَللَّهِ ، وَجِهَادٌ فِي سَبِيلِهِ فَقِيلَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : ثُمَّ حَجٌّ مَبْرُورٌ} . مَعَ قَوْلِهِ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : لَمَّا سَأَلَهُ ابْنُ مَسْعُودٍ : {أَيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ الصَّلَاةُ فِي وَقْتِهَا قَالَ ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : بِرُّ الْوَالِدَيْنِ قَالَ : ثُمَّ مَاذَا ؟ قَالَ : الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} . فَإِنَّ قَوْلَهُ "إيمَانٌ بِاَللَّهِ" دَخَلَ فِي الصَّلَاةِ ؛ وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ ؛ إذْ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ وَالِدَانِ . فَالْأَوَّلُ مُطْلَقٌ وَالثَّانِي مُقَيَّدٌ بِمَنْ لَهُ وَالَدَانِ .
وَلِهَذَا كَانَتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَائِرِ خُلَفَائِهِ الرَّاشِدِينَ وَمَنْ سَلَكَ سَبِيلَهُمْ مِنْ وُلَاةِ الْأُمُورِ - فِي الدَّوْلَةِ الْأُمَوِيَّةِ وَالْعَبَّاسِيَّةِ - أَنَّ الْإِمَامَ يَكُونُ إمَامًا فِي هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ جَمِيعًا : الصَّلَاةِ، وَالْجِهَادِ . فَاَلَّذِي يَؤُمُّهُمْ فِي الصَّلَاةِ يَؤُمُّهُمْ فِي الْجِهَادِ ، وَأَمْرُ الْجِهَادِ وَالصَّلَاةِ وَاحِدٌ فِي الْمُقَامِ وَالسَّفَرِ ، وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى بَلَدٍ : مِثْلِ عَتَّابِ بْنِ أَسِيدٍ عَلَى مَكَّةَ ، وَعُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ عَلَى الطَّائِفِ ، وَغَيْرِهِمَا : كَانَ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِهِمْ ، وَيُقِيمُ الْحُدُودَ ، وَكَذَلِكَ إذَا اسْتَعْمَلَ رَجُلًا عَلَى مِثْلِ غَزْوَةٍ ؛ كَاسْتِعْمَالِهِ زَيْدَ بْنَ حَارِثَةَ ، وَابْنَهُ أُسَامَةَ ؛ وَعَمْرَو بْنَ الْعَاصِ ، وَغَيْرَهُمْ : كَانَ أَمِيرُ الْحَرْبِ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي بِالنَّاسِ ؛ وَلِهَذَا اسْتَدَلَّ الْمُسْلِمُونَ بِتَقْدِيمِهِ أَبَا بَكْرٍ فِي الصَّلَاةِ عَلَى أَنَّهُ قَدَّمَهُ فِي الْإِمَامَةِ الْعَامَّةِ" . اهــ بتصرف من "مجموع الفتاوى"
فلم يعرف الحكم الإسلامي الراشد ذلك التباين الفاحش بين المدارك السياسية والمدارك الدينية لدى المتأخرين ، فإما سياسي محنك ، وعالم مبرز ، واقتصادي حاذق ، وهو مع ذلك ، إما علماني رقيق الديانة ، أو عدو لها يجاهر بذلك صراحة ، مع كفاية له ولو نسبية في أمور المعاش الدنيوية ، فجلد في أمر الدنيا مقرون بفجور في أمر الدين ! ، في مقابل ثقة في الديانة ضعيف النكاية ، فليس قويا وإن كان أمينا ليولى إمارة أو حربا ، فإما الأول ، فهو عليم بأمر الدنيا جهول بأمر الدين ، وإما الثاني فهو على الضد ، فأمانته لازمة لا تتعدى ولو بواسطة ! ، فكان الخلفاء في زمان العزة : أئمة في الدين والدنيا ، فأظهر الصديق ، رضي الله عنه ، كفاية في الإمامة الشرعية فهو الإمام المقدم في الصلاة ، فصار أهلا للإمامة الدنيوية ، فهو الإمام المقدم في السياسة والحرب ، فأظهر من الحنكة السياسية والعسكرية في حروب الردة ما صيرها مضرب المثل في حسم مادة الفتنة العامة في ظل حال عدم الاستقرار بقبض رئيس الدولة ، بل زعيم الملة صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وسلم فهو أعظم مصاب رزئت به الأمة ، بل والبشرية جميعا ، فــ : (مَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، فهو الأمان الأول ، ومع ذلك قام الصديق ، رضي الله عنه ، برسم الجلال والشدة ، وهو من هو في الجمال والرقة ، فحفظ به الرب ، جل وعلا ، الدين من النقصان ، وقوم به الاعوجاج ، فلسان مقاله الخالد : "أينقص الدين وأنا حي ؟!" على كلام في ثبوت المقالة عنه رضي الله عنه ، فمثل هذا الأسد الكامن في زي الأسيف الزاهد ، كيف تكون بطانته ؟! ، فالأصل والفرع قد استجمعا معادن الكمال في الدين والدنيا ، فرأس فيهما ، وبطانة كعمر وعثمان وعلي ، لها من الكفاية الدينية والدنيوية ما لها ، وذلك فضل الله ، جل وعلا ، يؤتيه من يشاء ، ثم صار الأمر إلى كفاية في الملك والسياسة مع ضعف ولو نسبي في العلم بأمور الديانة ، ومع ذلك كان الدين معظما ، فإن لم يكن الخليفة أو الأمير عالما فهو معظم لأهل العلم مدن لهم برسم الاستشارة الفعلية ، لا الدعاية الصورية ، كما هي الحال في زماننا فالعالم إما غائب وإما حاضر كالغائب ، بل قد يكون الغائب أحسن حالا منه ، فليس له من الأمر شيء ، بل يقضى الأمر وهو حاضر فلا يستشار ، فكيف إذا غاب ؟! ، وإنما يكل إليه سلطان الجور تلفيق الحجة الشرعية لما يوقعه من المظالم الدينية والدنيوية ، فكان الأمر في أوله : إمام عدل يحكم ، وبطانة عدل تأمر وتنهى فترشد إلى الصواب إن أخطأ الإمام فليس له من العصمة المطلقة حظ بل عصمته إنما تكون بالاستمساك بعرى الديانة والاستيثاق من الشريعة بالنظر في نصوصها حفظا للمباني وفقها للمعاني واستنباطا لأحكام النوازل ، ونزولا على قول الجماعة ، فإجماعها معصوم ، وإن لم يعصم آحادها ، فما اجتمعت عليه فهو الحق جزما ، فترشد إليه أمرا ونهيا ، وتقوم ما قد يقع من اعوجاج ، ولو لم يتقصده الإمام ، فهو إمام هدى ، ثم صار في وسطه : إمام ملك وسياسة ليس له من العلم والفقه رياسة وإن كانت له مشاركة فاعلة ، وهو مع ذلك التقصير معظم لأهل العلم مستكمل بهم ما نقص من حاله وما قصر باعه عنه من علوم الديانة وأحكامها ، فهو ، كما تقدم ، معظم لها حقيقة لا مجازا ! ، ثم آل الأمر في آخره إلى : إمام جور فاسق مارق بطانته في الغالب على شاكلته فقد قيضت له برسم : (وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ) ، فتزين له سوء عمله فهو الحكيم الملهم ! ، وتحجب عنه الخير مع ما قد جبل عليه ابتداء من جبلة شر فهي محل قابل لأزهم ، فحاله وحالهم : (أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا) ، فأرسل الرب ، جل وعلا ، عليه شياطين الجن بالوسواس الخفي وشياطين الإنس بالوسواس الظاهر ، فحجب عنه هاتف الملك ولمته فمحله غير قابل لآثار الخير ، فنازع نفسه الشر ، وهاتفها : وسواس شيطان جني ونفاق شيطان إنسي ، فكلاهما يغريه ويهيجه على الفجور والعصيان بل وربما المروق والكفران ، فأنى يفلح ويدوم ملكه ؟! ، وإن ظهر في بطانته من هو ذو كفاية في دين أو دنيا فمصيره الإقصاء ولو بعد حين .
فــ : أي الجهاد أفضل :
فهو ، كما تقدم ، مما تتفاوت آحاده ، فمراتبه تعم النفس والغير ، وإن كان مما ينصرف بداهة إلى الغير ، فمعنى المفاعلة فيه ظاهر ، والمفاعلة لا تكون إلا بين اثنين ، فــ : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) ، فقبيل فيه الرسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم ومن سار على منهاج رسالته ، فالخطاب له مواجهة فهو الأصل ، ولهم تبعا فهم الفرع ، وقبيل فيه الكفار والمنافقون ، ولكل جهاده ، فشرع جهاد الكفار بالحجة والبرهان حال الجدال وإليه أشار ابن حزم ، رحمه الله ، بقوله : "ولا غيظ أغيظ على الكفار والمبطلين من هتك أقوالهم بالحجة الصادعة وقد تهزم العساكر الكبار والحجة الصحيحة لا تغلب أبدا فهي أدعى إلى الحق وأنصر للدين من السلاح الشاكي والأعداد الجمة وأفاضل الصحابة الذين لا نظير لهم إنما أسلموا بقيام البراهين على صحة نبوة محمد صلى الله عليه وسلم عندهم فكانوا أفضل ممن أسلم بالغلبة بلا خلاف من أحد من المسلمين" . اهــ
وبالسيف والسنان حال النزال ، ويشرع جهاد المنافقين بالحجة والبرهان أصالة ، فقد عصمت دماؤهم بالشهادة ، ما لم يستعلنوا بنفاقهم فحدهم إذا ظهر منهم وتكرر : حد الزنديق فيقتل وإن أظهر التوبة لئلا يصير الدين لعبة ، ولا يستوفي ذلك ، على تفصيل ، إلا من له ولاية عامة بإمارة أو احتساب لئلا تشيع الفوضى وتقع الفتنة الكبرى .
كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ :
فتلك نكرة في سياق الإثبات فتفيد الإطلاق ، فأي كلمة حق عنده أمرا أو نهيا ، ترغيبا أو ترهيبا ، فهي أعظم الجهاد لما يلقاه القائل من عنته ، فقالها الكليم عليه السلام عند فرعون وقالها سعيد بن جبير عند الحجاج وقالها الأوزاعي عند عبد الله بن علي وقالها أبو حنيفة عند أبي جعفر المنصور وقالها أحمد عند المأمون والمعتصم ، والعندية تحتمل الحضور أو الغيبة ، فهي كناية عن تمكن ذلك الجائر من نيل القائل بالأذى فهو تحت سلطانه ، فلا يمتنع حملها على الحقيقة فيقولها بحضرته ، أو المجاز فيقولها في غيبته مع علمه يقينا ببلوغها إياه ، لا سيما في الأعصار والأمصار التي يكثر فيها الجواسيس فهم رسل الشر بما ينقلون ويتزيدون إرادة نيل الرضا بإظهار الإخلاص في حرب الله ورسوله وحزبه المؤمنين من القائمين بشريعة رب العالمين ! .
وقدم وصف الإمام ، فهو كما تقدم ، موطئ لما بعده ، فمادته تحتمل الإمامة في الخير فهي مئنة من المدح ، أو الإمامة في الشر فهي مئنة من الذم ، وجاء الوصف : "جائر" : فهو محط الحكم ، فيتعلق به فهو المعنى المؤثر في وجوده أو عدمه ، فوصفه الجور والتعدي في القول والفعل ، وذلك معنى يعم سائر أنواع الظلم ، فقد يظلم بالمروق من الديانة بالكلية ، فــ : (مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) ، وإن لم يحسن في هذه المسألة وفي سائر مسائل الأسماء والأحكام : الحكم على المعين إلا من الراسخين في العلم فهم الذين يقيمون الحجج وينفون الشبه ، وقد يظلم ظلما عمليا لا ينقض أصل الإيمان وإن نقض كماله الواجب ، فيقتل النفوس بلا حق أو يفرض المكوس بلا سبب يلجئ ........ إلخ من صور الظلم العملي ، وقد تجتمع فيه السوأتان فهو مبدل للشرائع معطل للأحكام ، متعد مع ذلك في أمور الدماء والأعراض والأموال ! .
وقد ورد في حديث آخر النص على نوع آخر : "أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ قَالَ مَنْ عَقَرَ جَوَادَهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ" ، فذلك ، كما تقدم ، من التباين في الجواب تبعا للتباين في حال السائل ، فيحمل كلٌ على سياقه الذي ورد فيه لما احتف به من قرائن سياقية أو حالية ، أو يقيد كلٌ ببابه ، فأفضل جهاد الظالمين بالقول : كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ إِمَامٍ جَائِرٍ ، وأفضل جهاد الظالمين بالفعل : مَنْ عَقَرَ جَوَادَهُ وَأُهْرِيقَ دَمُهُ .
والله أعلى وأعلم .
مواضيع مماثلة
» من حديث : (إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ......) الاعجاز
» ** أحذر ... حديث لا يصح *** دراسة إسناد حديث ذات أنواط
» الاعجاز الغيبى فى السنه النبويه"
» الاعجاز النبوى فى التراب وطهوريته
» الاعجاز العلمى فى السنه النبويه"
» ** أحذر ... حديث لا يصح *** دراسة إسناد حديث ذات أنواط
» الاعجاز الغيبى فى السنه النبويه"
» الاعجاز النبوى فى التراب وطهوريته
» الاعجاز العلمى فى السنه النبويه"
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin