بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 23 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 23 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
من حديث : (إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ......) الاعجاز
صفحة 1 من اصل 1
من حديث : (إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ......) الاعجاز
ومن قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم : إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِرٌ :
وهو عند أحمد ، رحمه الله ، في "المسند" ، بإسناد فيه كلام ففيه عطية العوفي عن أبي سعيد وهو مدلس قد عنعن فضلا عن تدليسه في الشيوخ فيكني ، كما ذكر ابن حبان ، رحمه الله ، في "المجروحين" يكني : "الكلبي" وهو مجروح بــ : "أبي سعيد" فيتوهم الناظر بادي الرأي أنه الصحابي أبو سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، فقد روى عن كليهما وفي المسألة تفصيل في كتب العلل والجرح والتعديل ، فــ :
إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
فصدر السياق بالتوكيد فذلك مما يشحذ الذهن ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا ، وكذلك الشأن في تصدير السياق بالمسند إليه ، فتشتاق النفوس إلى معرفة المسند ، ومعنى الحكم في المسند إليه أظهر ، فالمحبة حكم ، ومن ينالها محكوم عليه ، وذلك خلاف المعهود ، فالأصل أن يكون المسند إليه هو المحكوم عليه ، فيقدم ما فيه دلالة الذات أظهر ، كالأعلام والأسماء الجامدة ، فهي إما أن تكون غير مشتقة كالأعلام المرتجلة كــ : "حاتم" فهو علم جامد غير مشتق وإن كانت فيه شبهة وصف إذا أريد به التنويه بوصف الكرم فأشهر أعلامه في الجاهلية : حاتم الطائي ، فيصير مشتقا لغيره ، إن صح التعبير ، لا لذاته ، فهو بالنظر إلى مبناه جامد غير مشتق ، وبالنظر إلى ما احتف به من قرينة العلمية على من اشتهر بوصف الكرم حتى صار إطلاق اسمه على غيره مظنة الثناء بالوصف الذي اشتهر عنه ، فدخلته الدلالة الوصفية من هذا الوجه ، فيقال : فلان حاتم زمانه ، كناية عن كرمه وجوده ، فصح تشبيه غيره به مع أن التشبيه يتعلق بداهة بمعان لا بذوات ، فلا بد فيه من معنى كلي جامع يثبت في الذهن مطلقا ويتفاوت في الخارج بتفاوت الأعيان التي يقوم بها ، فمعنى الكرم يثبت في الذهن مطلقا ولا يوجد في الخارج إلا مقيدا ، فكرم حاتم ، وكرم زيد ...... إلخ ، وذلك غير متصور في الذوات المجردة ، فالذات تثبت في الخارج واحدة ، فتمتنع الشركة فيها بداهة ، فذات زيد لا تقبل الشركة فهي ذاته لا ذات غيره بداهة ، فلا يشركه بكر فيها وإن اشتركا في وصف الذاتية المطلق ، فهو ، أيضا ، من الكليات الجامعة التي تثبت في الذهن مجردة ، فتنقسم في الخارج إلى ذوات مقيدة فذات زيد وذات بكر ...... إلخ ، ولكن لما كان حاتم ، مع أن له ذاتا مقيدة في الخارج ، لما كان مشهورا بالكرم حتى صار اسمه علما عليه نزل اسمه العلم منزلة وصف الكرم فثبت في الذهن مطلقا ، ثبوت بقية الأوصاف المعنوية ، فلم ينظر إلى دلالته الذاتية على شخص بعينه في الخارج فليس المراد ذاته ، وإنما المراد وصفه الذي اشتهر به فصار اسمه من هذا الوجه وإن كان علما شخصيا مقيدا يكافئ الوصف فينزل منزلة العلم الجنسي على معنى مطلق ، كالذي أشار إليه ابن مالك ، رحمه الله ، في "الألفية" بقوله :
ومثله برة للمبرة ******* كذا فجار علم للفجرة .
فــ : "برة" : علم جنسي معنوي على معنى البر ، و : "فجار" : علم جنسي معنوي على معنى الفجور .
فصح من هذا الوجه أن يشبه الناس به ، لا بالنظر إلى ذاته فهي ، كما تقدم ، مما لا يقبل الشركة ، وإنما بالنظر إلى وصف الكرم الذي اشتهر به ، فهو وصف يثبت في الذهن مطلقا فلا تمتنع الشركة فيه فهو كسائر المشتركات المعنوية ، فيثبت في الذهن معنى مجردا ، وتتفاوت فيه الأعيان في الخارج ، فتلك دلالة التواطؤ التي تقترن عادة بدلالة الاشتراك المعنوي ، فلا يتساوى الناس في الوصف ، وإن اشتركوا في الأصل فكرم زيد غير كرم بكر غير كرم حاتم ، وإن كان معنى الكرم بجميعهم قائم .
فتلك دلالة التواطؤ وهي عظيمة النفع في أشرف أبواب العلوم : باب الإلهيات ، فالمعاني تثبت في الذهن مجردة ، فالعلم والحكمة ..... إلخ : كليات معنوية تنزل منزلة العلم الجنسي المعنوي ، فتثبت مطلقة في الذهن ، ولا تثبت في الخارج إلا قائمة بذات تتصف بها على وجه يليق بها ، كمالا كما هي حال الخالق ، جل وعلا ، الأول الآخر ، أو نقصا ، كما هي حال المخلوق الحادث الفاني ، فثبت الاختلاف في الوصف فرعا على ثبوته ضرورة في الذات ، فليست ذات الأول الآخر كذات الحادث الفاني ، وإن اشتركا في معنى الذات المجرد ، فالذاتية المطلقة لا تكون إلا في الذهن ، فمثلها في ذلك مثل سائر المشتركات المعنوية ولو في حق الكائنات الأرضية كالإنسانية والحيوانية ، فذلك قدر معنوي مشترك في كل إنسان وحيوان ، ولا يمنع ثبوته في الذهن مشتركا بين كل البشر والحيوان ، لا يمنع ذلك من التباين بين ذواتها في الخارج ، فليست ذات زيد كذات عمرو ، وليست ذات الإنسان كذات الفرس بداهة ، وإن اشترك الأولان في معنى الإنسانية الكلي المطلق في الذهن ، واشترك الآخران في معنى الحيوانية ، فهو ، أيضا ، مطلق كلي في الذهن ، فحصل الترادف في أصل المعنى المطلق في الذهن ، وحصل التباين في الحقيقة في الخارج ، فذلك مما قد ينزل منزلة التكافؤ الذي يثبت فيه الترادف من وجه ، ويثبت فيه ضده من التباين من وجه آخر ، ولله المثل الأعلى ، فإن الاشتراك بينه وبين البشر في المطلقات الكلية الذهنية برسم الاشتراك المعنوي أو التواطؤ لا يلزم منه من باب أولى الاشتراك في الحقائق الخارجية ، بل لكل حقيقة ، كما تقدم ، تلائمه ، وقد ينزل الاشتراك المعنوي في هذا الباب ابتداء : منزلة المشكك ، فالتفاوت فيه في الخارج حاصل ، وإن كان المعنى المطلق في الذهن واحدا ، ففيه قدر زائد على التواطؤ ، فالبياض وصف مشترك بين الجلد والثلج ، ولكنه في الثلج أشد ، فصار مشككا من هذا الوجه ، وإن كان معنى البياض الكلي في كليهما ثابت ، وذلك في حقيقته يؤول إلى التواطؤ ، فليس المشكك عند التدبر والنظر إلا نوعا من المتواطئ ، كما أشار إلى ذلك في "شرح حديث النزول" بقوله : "إن هذه الأسماء العامة المتواطئة التي تسميها النحاة أسماء الأجناس سواء اتفقت معانيها في محالها أو تفاضلت كالسواد ونحوه ; وسواء سميت مشككة وقيل : إن المشككة نوع من المتواطئة - إما أن تستعمل : "مطلقة وعامة" كما إذا قيل الموجود ينقسم إلى : واجب وممكن وقديم ومحدث وخالق ومخلوق والعلم ينقسم إلى قديم ومحدث . وإما أن تستعمل : "خاصة معينة" كما إذا قيل : وجود زيد وعمرو وعلم زيد وعمرو وذات زيد وعمرو" . اهــ بتصرف يسير
وعلى كل الوجوه لا يثبت في هذا الباب للرب المعبود ، جل وعلا ، إلا المعاني الكلية المطلقة ، فمعاني الحكمة والعلم ..... إلخ من الأوصاف الذاتية اللازمة : خبرية كانت أو معنوية ، والصفات الفعلية المتعدية ، كل تلك المعاني مما يدرك العقل معناه الكلي فيثبت للرب ، جل وعلا ، على الوجه اللائق بجلاله بلا تفريق بين وصف معنى كالعلم ، ووصف خبر كالعين فذلك من التفريق بين المتماثلات ، فمن جاء بخبر الأول هو الذي جاء بخبر الثاني ، فمن صدقه في الأول لزمه تصديقه في الثاني ، فذلك قياس العقل الصريح بالتسوية بين المتماثلين ، ولا يلزم من هذا الإثبات : تشبيه ، فإنه ، كما تقدم ، إثبات للمعنى في الذهن لا الحقيقة في الخارج ، واشتراك الذوات في المعاني الكلية المشتركة في الذهن لا يلزم منه اشتراكها في الحقائق الخارجية ، بل ذلك ممتنع في عالم الشهادة لتباين الذوات في الخارج ، فذات عمرو غير ذات بكر ، بداهة ، مع اشتراكهما في الجنس الأعلى والنوع ، فإذا ثبت التباين في الخارج بين ذات مخلوق وآخر يشاركه الجنس والنوع ، ولم يمنع ذلك من اشتراكهما في وصف مطلق في الذهن من علم أو حكمة ..... إلخ ولم يمنع ذلك من تفاوتهما في قدره كمالا أو نقصانا فعلم زيد غير علم بكر بداهة ، فرعا على التباين بين ذاتيهما ، فإذا ثبت كل ذلك بين مخلوق وآخر ، فكيف لا يثبت من باب أولى بين الخالق ، جل وعلا ، الذي ليس كمثله شيء في حقيقة ذاته واسمه ووصفه وفعله كمالا مطلقا أولا وآخرا ، وبين المخلوق الحادث .
وبه يعلم فساد مقالة من شبه الرب ، جل وعلا ، بخلقه فجعل وصفه من جنس وصف البشر ، فيصيبه اللغوب فيستريح ، كما قالت يهود ، فجاء التنزيل بإبطاله ، فــ : (لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) ، وفساد مقالة من جوز حلول ذاته أو وصفه في ناسوت مخلوق ، كما هي حال النصارى فمقالتهم أفسد من باب أولى ، فشتان ذات الخالق ، جل وعلا ، كمالا وناسوت المخلوق نقصانا فذلك مما جبل عليه البشر ، ولو أنبياء بررة ، فحلول مخلوق في آخر مع تباين ذاتيهما في الخارج ضرورة أمر ممتنع في العقل والحس ضرورة قبل الشرع ، فكيف يصح في الأذهان حلول أشرف الذوات : الذات الإلهية القدسية في ذات أرضية لا تنفك ، كما تقدم ، عن عوارض النقص الجبلية ، وشتان وصف الخالق ، جل وعلا ، كمالا ، ووصف المخلوق نقصانا ، فلا يحل الناقص في الكامل بداهة فلا تحل الكلمة وهي من وصف الرب ، جل وعلا ، في ناسوت مخلوق فذلك مناف ، أيضا ، لضرورة العقل والحس فلم يعلم أن الوصف اللطيف يتجسد في ناسوت كثيف ، فضلا عن تجويز النقص على الوصف الكامل بتجويز حلوله في ناسوت حادث تجري عليه أعراض النقص الجبلية ، لو سلم ابتداء بأن ذلك مما يجوز وقوعه في الخارج ، فلا يقع في الخارج ، بل ولا يتصوره العقل السالم النابه ، وإنما غايته أن يفرضه العقل إذا أصابه الفساد والغفلة ، فخاض في أشرف العلوم بلا زاد من الوحي ، فهو العاصم في هذا الباب الجليل الشأن والخطر ، فلم يأت الرسل ، عليهم السلام ، بإثبات شيء مثلما أتوا بإثبات الكمال الذاتي والوصفي للرب العلي ، جل وعلا ، كما أشار إلى ذلك في "مدارج السالكين" بقوله :
"والرسل من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أرسلوا بالدعوة إلى الله وبيان الطريق الموصل إليه وبيان حال المدعوين بعد وصولهم إليه فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل ملة على لسان كل رسول فعرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفا مفصلا حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه يكلم ملائكته ويدبر أمر مملكته ويسمع أصوات خلقه ويرى أفعالهم وحركاتهم ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم يأمر وينهى ويرضى ويغضب ويحب ويسخط ويضحك من قنوطهم وقرب غيره ويجيب دعوة مضطرهم ويغيث ملهوفهم ويعين محتاجهم ويجبر كسيرهم ويغني فقيرهم ويميت ويحيي ويمنع ويعطي يؤتي الحكمة من يشاء مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير كل يوم هو في شأن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويفك عانيا وينصر مظلوما ويقصم ظالما ويرحم مسكينا ويغيث ملهوفا ويسوق الأقدار إلى مواقيتها ويجريها على نظامها ويقدم ما يشاء تقديمه ويؤخر ما يشاء تأخيره فأزمة الأمور كلها بيده ومدار تدبير الممالك كلها عليه وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة" . اهــ
وقل مثله في أصحاب مقالة الحلول والاتحاد العام ففساد مقالتهم أظهر ، فهي أفحش مقالة قيلت في الإلهيات فجوزوا حلول الرب ، جل وعلا ، أو اتحاده بكل الذوات ولو سفلت أو نجست ، بل وأثبتوا ذلك في مقالاتهم وأشعارهم ، فمجرد الاشتراك في الذاتية قد صار حجة لهم في إثبات التماثل من كل وجه ، بل والحلول والاتحاد بكل الخلق على وجه يلزم منه ضرورة طروء النقص على أكمل الذوات فذلك نفي صراح لاسمي الرب جل وعلا : السلام والقدوس ، فسلم من كل عيب وتقدس عن كل نقص إلا عند أولئك المخلطين ومن سار على طريقتهم من النصارى المثلثين واليهود المجسمين ، ومنشأ الزلل عند جميعهم : العدول عن الوحي ففيه السلامة من كل إثم في القول والعمل ، في التصور والحكم .
ومعرفة دلالات الألفاظ أصل جليل في هذا الباب ، فبه تزول إشكالات وشبهات فيثبت المكلف للرب ، جل وعلا ، ما يليق بجلاله من الكمال ، وينفي عنه ما قد تنزه عنه من النقصان ، فالألفاظ المجملة لا تثبت بإطلاق ولا تنفى بإطلاق ، فهي محتملة بتنوع الدلالات فتحتمل حقا يقبل وباطلا يرد فلا يسلم للمتكلم حتى يعين مراده فيعلم أي الدلالات أراد ، فالصحيح يقبل والباطل يرد كما تقدم .
والشاهد أن الأعلام منها ما هو جامد فيقدم في اللفظ على الوصف المشتق ، في نحو قولك : زيد فاهم ، ومنها ما هو مشتق بالنظر إلى لفظه ، فمبناه مشتق كالأعلام المنقولة فمنها ما نقل عن اسم جامد كنعمان فليس ذلك محل الشاهد ، ومنها ، وهو محل الشاهد ما نقل عن اسم فاعل كحارث ، أو مثال مبالغة كعباس ..... إلخ ، فهي مبان مشتقة من معان ، ودلالتها على الذات دلالة علم لا وصف ، فلا يلزم أن يكون المسمى "حارثا" : حارثا بل قد يكون أكسل الناس ! ، وذلك مما باين الرب ، جل وعلا ، فيه البشر ، فأسماؤه ، جل وعلا ، أعلام وأوصاف معا ، فدلالتها على ذاته القدسية كدلالة أسماء البشر على ذواتهم ، فهي دلالة علمية ، ودلالتها على ما تضمنته من معان اشتقت منها ، كالعليم فهو مشتق من العلم ، دلالة وصفية ، فتثبت له ، جل وعلا ، كلتا الدلالتين ، وجوبا ، بخلاف البشر فقد يثبت العلم ولا يثبت الوصف فيسمى فلان عليما وهو أجهل الناس ، أو رحيما وهو أفظ الناس ..... إلخ فيكون اسمه على غير مسمى ، بخلاف أسماء الرب ، جل وعلا ، فهي بما تضمنته من معاني الكمال المطلق أسماء على مسمى فتلك المعاني ثابتة له ، جل وعلا ، قائمة بذاته القدسية على الوجه اللائق بجلاله ، فدلالة الاسم في حق البشر علمية قطعا ، وقد تكون وصفية وقد لا تكون ، فيجوز أن يتخلف الوصف ويثبت الاسم فيكون ، كما تقدم ، اسما بلا مسمى ، فتثبت دلالة العلمية وتنتفي دلالة الوصفية ، كما تقدم من إطلاق اسم عليم على أجهل الناس ، فالدلالة العلمية ثابتة له قطعا ففلان اسمه عليم ، والدلالة الوصفية منفية عنه قطعا ، فهو أجهل الناس فليس له من اسمه حظ ، فلا يلزم أن يتضمن الاسم كلتا الدلالتين فيكون علما ووصفا في نفس الآن ، وأما في أسماء الرب ، جل وعلا ، فكلتا الدلالتين قد ثبتتا وجوبا ، كما تقدم ، فدلالة التضمن للذات والوصف معا متعينة في حقه ، تبارك وتعالى ، فلا تتخلف أبدا ، فيتضمن الاسم الدلالة على الذات : دلالة العلمية ، وعلى المعنى الذي اشتق منه : دلالة الوصفية ، فيثبت الاسم فهو أحسن الأسماء ، فــ : (لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) ، ويثبت الوصف فهو أعلى الأوصاف وأشرفها .
والشاهد أن العلم المشتق وإن كانت له تعلق بالوصف بالنظر إلى جهة الاشتقاق إلا أنه ينزل منزلة العلم الجامد في دلالته على الذات ، فيقدم أيضا على الوصف المشتق الذي يسند إليه إسناد الخبر إلى المبتدأ أو الحكم إلى المحكوم عليه فيقال : حارث فاهم ، فيسند وصف الفهم إلى حارث المشتق بالنظر إلى المبنى إسناده إلى زيد الجامد ، فالنظر في كليهما إلى الذات لا إلى الوصف ، كما تقدم ، ولذلك رجح بعض النحاة تقديم الاسم الدال على العلم جامدا كان أو منقولا على الاسم الدال على الوصف ، عند حدوث الالتباس فلا يعلم المبتدأ من الخبر ، فيكون العلم هو المقدم فهو مسند إليه محكوم عليه ، ويكون الوصف هو المؤخر فهو الحكم ، والترتيب العقلي يقضي بتقديم المحكوم عليه على الحكم المسند إليه ، فيقدم المحكوم عليه لتعلم العين التي يسند إليها الحكم فتطمئن النفس بمعرفتها ، فتتهيأ للحكم الذي يسند إليها ، فذلك المعهود في لسان العرب ، فإذا قدم ما فيه دلالة الوصف أظهر ، كما هو الشأن في هذا الحديث فــ : "أحب" مشتق من وصف المحبة ، إذا قدم فذلك خلاف المعهود فيفيد كما تقديم التشويق إلى ما يليه فالنفس تتلهف إلى معرفة عين المحكوم عليه بهذا الثناء الجميل ، وهو ، مع ذلك ، من وجه آخر ، معنى عام فدلالة الوصف فيه أيضا ظاهرة ، فليس إماما عادلا بعينه وإنما يصدق الوصف في الخارج على كل من تحرى العدل في إمامته خاصة كانت أو عامة ، فدعاؤهم جميعا : (اجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) ، وإن انصرف الذهن ابتداء إلى أصحاب الولايات العامة من الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء ...... إلخ ، بل إنه يصدق في حق الأنبياء عليهم السلام فذلك وصفهم : (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) ، و : (جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) ، فلكلٍ حظه من العدل الذي يصير به أهلا للثناء بالوصف والجزاء بالقرب ، والأنبياء عليهم السلام أعظم الناس حظا في هذا الباب ، فهم أئمة العدل الذي به قامت السماوات والأرض ، وهم الشهود العدول على أممهم ، فــ : (كَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) ، ولا يكون الشاهد بداهة إلا عدلا ، فرسمه التوسط والاقتصاد في أمره كله ، فلا يظلم بتقصير أو تعد في قول أو فعل وإنما يتحرى العدل بوضع الشيء في محله ، فلا يضع الحلم حيث لا ينفع إلا الغضب ، ولا يضع الجلال حيث لا ينفع إلا الجمال ، فتلك مفسدة أي مفسدة ، وإنما لكل حال ما يلائمها من الأحكام ، شرعية كانت أو عادية ، فمعنى العدل يعمها جميعا ، وإن كان أشرفها بداهة ما كان برسم الشرع ، فلا يتعدى العادل في الفتن ، وإن جار عليه الظالم وبغى ، وذلك أمر عسير أيما عسر ، إلا على من يسره الرب ، جل وعلا ، عليه ، فالنفس قد جبلت على حب الانتصار بل والتعدي والتشفي ، فلا يكبح جماح هذه الشهوة النفسانية إلا الطريقة الشرعية ، فــ : (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ، ولعل ما نحياه الآن من فتن مما يتأول فيه أهل العدل تلك المعاني الجليلة ، فلن يصبر على مر تأويلها إلا من ذاق حلاوة امتثال الشرع بكظم الغيظ ، وتحري العدل في القول والفعل ، فــ : "العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال والظلم محرم مطلقا لا يباح قط بحال ، قال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) ........ والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم ، والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم ..... فالعدل محمود محبوب باتفاق أهل الأرض وهو محبوب في النفوس مركوز حبه في القلوب تحبه القلوب وتحمده وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتبغضه وتذمه" . اهــ من "منهاج السنة" ، فالخصم في هذه الفتن إما ظالم جائر ، يتآمر على الدين والدنيا فيروم أذى أهل الحق ويروم الإفساد في الأرض ، أو : جاهل منقاد لما يلقى عليه من الأكاذيب والإشاعات ، فلا عقل له لينظر ويحكم بالعدل ، ولا إرادة له ليتحرى الحق فقد سلب الإرادة بما اعتاد من التقليد الأعمى لرءوس الضلالة ، فينكر ما تراه عينه لأنه مما عميت عنه أعينهم ، فحاله حال كل مقلد ، في الأصول أو الفروع أو النوازل ، فما فات إمامه سواء أكان إمام هدى أم إمام ضلالة في أمور الديانة ، وسواء أكان إمام عدل أم إمام جور في أمور الحكم والسياسة ، ما فاته فليس بحق وإن قام الدليل من النقل والعقل والحس على أنه الحق جزما ، فيصير الجزم وهما لأن المقلَّد قد جهل سهوا فهو معذور بجهله فلم يبلغه الحق في هذه النازلة ، أو تجاهل ، كما هي الحال الغالبة على رءوس هذه الفتنة ، فهو مذموم إذ قد علم الحق في هذه النازلة وفي كل نازلة تقدمتها فتغافل عنه عمدا بل ولبس على غيره بقلب الحقائق سواء أكان ذلك في دين أو دنيا ، فكان كلامه وقود فتنة وأعظمها الفتنة في الدين بتزيين الضلالة ، فلم يتحر العدل في كلامه بل ظلم وجار وذلك مما يزيد الفتنة اشتعالا ، فهو إمام جائر يبغضه الرب ، جل وعلا ، فلا يدنيه ، وإن حصلت له رياسة أو وجاهة في الدنيا فذلك من إملاء الرب ، جل وعلا ، له ، ويوم الجزاء يوفى حسابه بلا ظلم ، فالظلم ممتنع بداهة في حق الرب ، جل وعلا ، فقد مدح به أئمة العدل فألقى عليهم محبته في الدنيا ، فــ : "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ , عَزَّ وَجَلَّ , عَبْدًا ، قَالَ : يَا جِبْرِيلُ ، إِنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ ، فَيُنَادِيَ جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ ، إِنَّ رَبَّكُمْ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ قَالَ : فَتَتَنَزَّلُ الْمِقَةُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ" ، والمقة هي المحبة ، كما في قول القائل :
لوْلا اصْطِبارٌ لأّوْدَى كُلُّ ذي مِقَةٍ ******* لَمَّا استقَلَّتْ مَطاياهُنَّ لِلظَّعْنِ .
وفي الآخرة فهم الأقرب مجلسا فــ : "أَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ" . وذلك مما يمتاز به الإمام العادل من الجائر ، فــ : "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِ أَئِمَّتِكُمْ مِنْ شِرَارِهِمْ ؟ خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّوهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ ، وَتَدْعُونَ لَهُمْ وَيَدْعُونَ لَكُمْ ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُ" ، ولعل النوازل الأخيرة قد فضحت حال أئمة ضلالة قهروا الناس بسيف الجور والظلم ، فصاروا فيه مضرب المثل ، فقد ألقى الرب ، جل وعلا ، في قلوب الخاصة والعامة بغضهم ، فلم تطق عموم الرعية الصبر ، وإن سكتت سنين برسم القهر ، فكانت ثورتها تأويلا لبغض الرب ، جل وعلا ، لأولئك الفجرة الذين عطلوا الشرائع ، بل وازدروا الديانة تصريحا أو تلميحا ، فلم لم يزدر ويعاد بلسانه فله من حرب الرسالة بالفعل حظ وافر ، بل قد تبجح بذلك فهو الناصح الأمين لأعداء الدين من الكفار الأصليين ، بل قد تسلط على العقول فبدل في مقررات المدارس النظامية كما تسلط المخلوع وحرمه المصون على عقول أهل مصر ، فهو العدو في الشرائع الحكمية بل والمناهج الدراسية برسم مكافحة الإرهاب والأصولية ! .
فــ : "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" :
فذلك تفضيل لا يقتضي الإطلاق بل كلٌ بحسب سياقه ، كالمبالغة في وصف الظلم في قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، وقوله تعالى : (مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ، فقد ورد التفضيل مطلقا في سياق آخر ، فــ : " أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس" ، وقد يقال بأن السياقين متلازمان ، فالإمام العادل مظنة النفع للناس في الدين صيانة والدنيا سعة ، فذلك رسم دول العدل ، فلسان مقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : "إني نظرت فوجدتُني قد وليت أمر هذه الأمة أسودها وأحمرها ، ثم ذكرت الفقير الجائع ، والغريب الضائع ، والأسير المقهور ، وذا المال القليل والعيال الكثير ، وأشباه ذلك في أقاصي البلاد وأطراف الأرض ، فعلمت أن الله سائلي عنهم ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم ، فخفت أن لا يقبل الله تعالى مني معذرة فيهم ، ولا تقوم لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة" ، فذلك لسان مقاله عموما ولسان مقاله في أهل الذمة خصوصا : "فانظر أهل الذمة فارفق بهم ، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليه ، فإن كان له حميم فمر حميمه ينفق عليه" ، فذلك رسم عمر الفاروق ، رضي الله عنه ، فــ : "انظر هذا وضرباءه ، فوالله ما أنصفنا الرجل إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند شيبته رد عنه الجزية وعن أمثاله" ، ورسم دولة الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي رحمهما الله ، رسم دولته الزاهرة في الشام ومصر : "ينصف المظلوم ، ولو أنه يهودي ، من الظالم ولو أنه ولده أم أكبر أمير عنده" ، كما قد قال ابن الأثير ، رحمه الله ، في "الكامل" ، وكلاهما من وجه آخر : يدل بمفهومه على الضد ، فأبغض الناس إلى الله ، جل وعلا ، الإمام الجائر ، وقد ورد النص عليه في هذا الحديث استيفاء لشطري القسمة العقلية على جهة المقابلة وتوكيدا على المعنى بذكره تصريحا وإن استفاده العقل تلميحا بدليل خطاب الشطر الأول ، فذلك من جنس : دوران الحكم مع علته وجودا وعدما ، فيثبت حكم الحب بثبوت علته من العدل في القول والفعل والحكم ، وينتفي بل ويثبت ضده بانتفاء علته وثبوت ضدها من الجور ، فالإمام الجائر مظنة الضر للناس في الدين بإهدار أحكامه وتعطيل رسومه وشرائعه ، فملوك الجور لا يقيمون للدين وزنا بل ويحقرونه قولا وفعلا ، فالدين عدوهم اللدود بما ينزعه من رياساتهم فسلطانه أعظم من سلطانهم ، فهو الحاكم على أقوالهم وأفعالهم ، وذلك مما يأنف منه الظالم لنفسه بشرك أو معصية ، أو الظالم لرعيته بإفساد للدين والدنيا معا ، فهما متلازمان ، لا سيما في حق الأمة الخاتمة ، فلا يستقيم معاشها إن لم تقم أمر دينها برسم التعظيم والامتثال ، فلا يحصل ذلك بتعظيم زائف برسوم محبة مزعومة يكذبها شاهد الحال والفعل ، فالرعية معه في محنة سواء أكانت تروم الدين أم الدنيا ، فلا عجب أن تبغضه مع تباين الفكرة واختلاف الوجهة، فلكل وجهة هو موليها ، فيبغضه أهل الدين لما أبطل من رسوم الديانة : علما وعملا ، شعيرة بالتضييق وشريعة بنقض أحكام النقل بأحكام الهوى والذوق ، فلا يعنيه إلا المصلحة الخاصة فإن تعارضت معها المصلحة الشرعية أهدرها بل ولو تعارضت معها المصلحة الدنيوية لعموم الرعية فمقتضى قياس العقل ، ولو لم يرد به الشرع ، تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ، فذلك رسم العدل الذي لا حظ له فيه ، فقد نكس على رأسه ففسد قياس عقله فقدم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم ، تحصيلا لما ظنه خيرا وهو معدن الشر في الدين بل والدنيا التي يوالي ويعادي عليها فما استفاد إلا عدوات كامنة في الصدور ، نمت بمرور الأحقاب والدهور ، فأيامه أيام شؤم ثقيل الوطأة ، فأثمرت عداوات ظاهرة فما بطن لا يخفى في العادة وإن اجتهد صاحبه في كتمانه وكظمه ، فكظم الناس غيظهم برسم القهر فسيف الجور على رقابهم مسلط ، ثم شاء الرب ، جل وعلا ، أن يفيض الكيل فقد بلغ السيل الزبى ، فكل الناس أعداؤه ، وإن اختلفت المشارب ، فيبغضه ، كما تقدم ، أهل الهدى من أصحاب الديانة لما عطل من رسومها ، وبل ويبغضه أهل الضلالة من أصحاب الغواية من العلمانيين والليبراليين ...... إلخ ، لما أبطل من رسوم الحرية ، وإن راموا بإعمالها الحرية المطلقة التي تكافئ المروق من الدين فلا وازع يحجز عن كفر أو فحش ، بل وتبغضه عموم الرعية لما ضيق من أمر المعاش ، فكلهم قد خرج على حكمه الجائر وثار على ظلمه الفاحش ، فنزع بهم الرب ، جل وعلا ، ملكه ، فهم السبب الكوني النافذ ، فما كان لهم أن يجمعوا لولا أن شاء الرب ، جل وعلا ، إجماعهم القطعي مع اختلاف العقول والطبائع على أمر واحد هو : خلع الطاغية الجائر ، فهم يد القدرة النافذة في استئصاله وتأويل الحكمة البالغة في إمهاله واستدراجه ، فسكتوا سنين حتى ظنهم قد ماتوا ! ، ثم ثاروا فجأة فلم يكن لجنده أن يرهبهم ولم يكن لسحره أن يسكتهم ، فلم يصدق أحد وعده ، فهو الكذوب ، ولم يأمن أحد جوره فهو الجهول الظلوم .
وفعل المحبة مما يتعدى بنفسه فتقول : أحببت فلانا ، ويتعدى بواسطة كما في هذا السياق ، وهو من وصف الفعل الثابت للرب ، جل وعلا ، فــ : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ، فذلك مما يتعلق بمشيئته ، جل وعلا ، فهو مما علق على وصف مؤثر ، فالتعريف بالموصول مئنة من تعليق الحكم على الوصف الذي اشتقت منه الصلة فهو محط التعليل ، وذلك مقتضى الحكمة الثابتة للرب ، جل وعلا ، على الوجه اللائق بجلاله ، فمقتضاها في حق البشر : دوران الحكم مع علته وجودا وعدما ، ولله المثل الأعلى ، فلا يقتضي ذلك تعليل أفعاله ، جل وعلا ، بالأغراض ، فلفظ الغرض في هذا الباب : مجمل يفتقر إلى البيان ، فقد يحتمل وجها باطلا لا يثبت في حق الرب ، جل وعلا ، بداهة ، فالغرض مئنة من الحاجة والافتقار ، وذلك مما انتفى عنه ، جل وعلا ، ضرورة شرعية وعقلية ، بل وبدهية فلا يجادل فيها إلا جاحد أو مسفسط قد فسد عقله وطبعه فيماري في البدهيات الضرورية التي لا تفتقر إلى استدلال أو نظر .
وقد يحتمل وجها صحيحا ، هو الغاية التي لا يلزم من إثباتها الافتقار إلى حصولها ، بل هي تأويل حكمته البالغة بتعليق المسببات على أسبابها : شرعا وكونا ، فذلك مقتضى الحكمة في القدر الكوني النافذ ، والقدر الشرعي الحاكم .
والحب في لسان العرب نقيض البغض ، كما قد ذكر صاحب "اللسان" رحمه الله ، وهو مئنة من لزوم الشيء ، فــ : "أَحَبَّ البَعِيرُ بَرَكَ وقيل الإِحْبابُ في الإِبلِ كالحِرانِ في الخيل وهو أَن يَبْرُك فلا يَثُور قال أَبو محمد الفقعسي : حُلْتُ عَلَيْهِ بالقَفِيلِ ضَرْبا ... ضَرْبَ بَعِيرِ السَّوْءِ إِذْ أَحَبَّا ......... وقال أَبو عبيدة في قوله تعالى : (إِنّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْر عن ذِكْرِ رَبِّي) ، أَي لَصِقْتُ بالأَرض لِحُبّ الخَيْلِ حتى فاتَتني الصلاةُ وهذا غير معروف في الإِنسان وإِنما هو معروف في الإِبل وأَحَبَّ البعِيرُ أَيضاً إِحْباباً أَصابَه كَسْرٌ أَو مَرَضٌ فلم يَبْرَحْ مكانَه" . اهــ
فالحب مئنة من الملازمة ، فالمحب يلازم حبيبه فلا يفارقه ، ولله المثل الأعلى ، فالرب ، جل وعلا ، مع من يحب معية خاصة ، فهي ، أيضا ، من وصف فعله الحكيم ، بتعليق الحكم على سببه ، فــ : (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) ، فيحبه الرب ، جل وعلا ، بوصفه الفعلي ، ولازم تلك المحبة : المعية الخاصة نصرة وتأييدا ، وانشراح الصدر وحصول الطمأنينة في الأولى ، والنجاة والنعيم الكامل في دار الرضوان في الآخرة .
وقد صدر الخبر : "إِمَامٌ عَادِلٌ" بالموطئ : "إِمَامٌ" إمعانا فهو معنى كلي يقبل الانقسام ، فمنه ما هو في الخير ، ومنه ما هو في الشر ، كما أشار إلى ذلك صاحب "اللسان" ، رحمه الله ، فــ : "الإِمامُ الذي يُقْتَدى به ، (وذلك معنى عام فالاقتداء يكون في الخير والشر معا) .......... وإِمامُ كلِّ شيء قَيِّمُهُ والمُصْلِح له والقرآنُ إِمامُ المُسلمين وسَيدُنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِمام الأَئِمَّة والخليفة إمام الرَّعِيَّةِ وإِمامُ الجُنْد قائدهم ، (فإمام كل شيء بحسبه)" . اهـــ بتصرف ، ثم جاء الوصف "عَادِلٌ" ، فهو محط الفائدة .
ثم جاء الشطر الثاني استيفاء لشطري القسمة العقلية كما تقدم :
وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِرٌ :
فجمع له الوصف الفعلي ولازمه ، فذلك ، أيضا ، من جنس ما تقدم في الشطر الأول ، وفيه إبطال لمن تأول البغض بإرادة التعذيب أو الانتقام ، فقد عطف الثاني على الأول ، والعطف يقتضي المغايرة ، فحقيقة البغض تباين حقيقة التعذيب في الآخرة ، وإن كانا متلازمين ، فعطفهما من قبل عطف المتلازمات العقلية الضرورية ، فلا ينفكان ، فمن أبغضه الرب ، جل وعلا ، فمات على تلك الحال الردية ، فهو أهل للعذاب والإهانة فقد أذاق رعيته منهما ألوانا ، والجزاء من جنس العمل ، فذلك مقتضى العدل في الحكم و : (مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) .
والجور نقيض العدل ، فذلك ، أيضا ، من التعريف بالضد ، كما قد ذكر صاحب "اللسان" رحمه الله ، فــ : " الجَوْرُ نقيضُ العَدْلِ ........والجَوْرْ ضِدُّ القصدِ" ، فهو ضد العدل في الحكم العلمي ، وضد القصد في الحكم العملي فالجائر لا يعدل في العلم فهو غال أو جاف ، فلا توسط عنده ولا اعتدال ، وحال أصحاب المقالات العلمية الحادثة في الملل أو النحل على ذلك خير شاهد ، ولا يعدل في العمل فهو ، أيضا ، غال أو جاف ، وحال أصحاب الرياضات من رهبان الأمم على ذلك خير شاهد ، ومثله حال المتملكة برسم الجور فجورهم ينصرف ابتداء إلى العمل ، فسيرتهم في الرعية أسوأ سيرة ، وإن لم يسلم العلم من شؤم جورهم فقد تسلطوا ، كما تقدم ، على الأديان والأبدان معا ، فلم يسلم للرعية منهم دين أو دنيا .
والله أعلى وأعلم .
وهو عند أحمد ، رحمه الله ، في "المسند" ، بإسناد فيه كلام ففيه عطية العوفي عن أبي سعيد وهو مدلس قد عنعن فضلا عن تدليسه في الشيوخ فيكني ، كما ذكر ابن حبان ، رحمه الله ، في "المجروحين" يكني : "الكلبي" وهو مجروح بــ : "أبي سعيد" فيتوهم الناظر بادي الرأي أنه الصحابي أبو سعيد الخدري ، رضي الله عنه ، فقد روى عن كليهما وفي المسألة تفصيل في كتب العلل والجرح والتعديل ، فــ :
إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ :
فصدر السياق بالتوكيد فذلك مما يشحذ الذهن ، كما سبقت الإشارة إلى ذلك مرارا ، وكذلك الشأن في تصدير السياق بالمسند إليه ، فتشتاق النفوس إلى معرفة المسند ، ومعنى الحكم في المسند إليه أظهر ، فالمحبة حكم ، ومن ينالها محكوم عليه ، وذلك خلاف المعهود ، فالأصل أن يكون المسند إليه هو المحكوم عليه ، فيقدم ما فيه دلالة الذات أظهر ، كالأعلام والأسماء الجامدة ، فهي إما أن تكون غير مشتقة كالأعلام المرتجلة كــ : "حاتم" فهو علم جامد غير مشتق وإن كانت فيه شبهة وصف إذا أريد به التنويه بوصف الكرم فأشهر أعلامه في الجاهلية : حاتم الطائي ، فيصير مشتقا لغيره ، إن صح التعبير ، لا لذاته ، فهو بالنظر إلى مبناه جامد غير مشتق ، وبالنظر إلى ما احتف به من قرينة العلمية على من اشتهر بوصف الكرم حتى صار إطلاق اسمه على غيره مظنة الثناء بالوصف الذي اشتهر عنه ، فدخلته الدلالة الوصفية من هذا الوجه ، فيقال : فلان حاتم زمانه ، كناية عن كرمه وجوده ، فصح تشبيه غيره به مع أن التشبيه يتعلق بداهة بمعان لا بذوات ، فلا بد فيه من معنى كلي جامع يثبت في الذهن مطلقا ويتفاوت في الخارج بتفاوت الأعيان التي يقوم بها ، فمعنى الكرم يثبت في الذهن مطلقا ولا يوجد في الخارج إلا مقيدا ، فكرم حاتم ، وكرم زيد ...... إلخ ، وذلك غير متصور في الذوات المجردة ، فالذات تثبت في الخارج واحدة ، فتمتنع الشركة فيها بداهة ، فذات زيد لا تقبل الشركة فهي ذاته لا ذات غيره بداهة ، فلا يشركه بكر فيها وإن اشتركا في وصف الذاتية المطلق ، فهو ، أيضا ، من الكليات الجامعة التي تثبت في الذهن مجردة ، فتنقسم في الخارج إلى ذوات مقيدة فذات زيد وذات بكر ...... إلخ ، ولكن لما كان حاتم ، مع أن له ذاتا مقيدة في الخارج ، لما كان مشهورا بالكرم حتى صار اسمه علما عليه نزل اسمه العلم منزلة وصف الكرم فثبت في الذهن مطلقا ، ثبوت بقية الأوصاف المعنوية ، فلم ينظر إلى دلالته الذاتية على شخص بعينه في الخارج فليس المراد ذاته ، وإنما المراد وصفه الذي اشتهر به فصار اسمه من هذا الوجه وإن كان علما شخصيا مقيدا يكافئ الوصف فينزل منزلة العلم الجنسي على معنى مطلق ، كالذي أشار إليه ابن مالك ، رحمه الله ، في "الألفية" بقوله :
ومثله برة للمبرة ******* كذا فجار علم للفجرة .
فــ : "برة" : علم جنسي معنوي على معنى البر ، و : "فجار" : علم جنسي معنوي على معنى الفجور .
فصح من هذا الوجه أن يشبه الناس به ، لا بالنظر إلى ذاته فهي ، كما تقدم ، مما لا يقبل الشركة ، وإنما بالنظر إلى وصف الكرم الذي اشتهر به ، فهو وصف يثبت في الذهن مطلقا فلا تمتنع الشركة فيه فهو كسائر المشتركات المعنوية ، فيثبت في الذهن معنى مجردا ، وتتفاوت فيه الأعيان في الخارج ، فتلك دلالة التواطؤ التي تقترن عادة بدلالة الاشتراك المعنوي ، فلا يتساوى الناس في الوصف ، وإن اشتركوا في الأصل فكرم زيد غير كرم بكر غير كرم حاتم ، وإن كان معنى الكرم بجميعهم قائم .
فتلك دلالة التواطؤ وهي عظيمة النفع في أشرف أبواب العلوم : باب الإلهيات ، فالمعاني تثبت في الذهن مجردة ، فالعلم والحكمة ..... إلخ : كليات معنوية تنزل منزلة العلم الجنسي المعنوي ، فتثبت مطلقة في الذهن ، ولا تثبت في الخارج إلا قائمة بذات تتصف بها على وجه يليق بها ، كمالا كما هي حال الخالق ، جل وعلا ، الأول الآخر ، أو نقصا ، كما هي حال المخلوق الحادث الفاني ، فثبت الاختلاف في الوصف فرعا على ثبوته ضرورة في الذات ، فليست ذات الأول الآخر كذات الحادث الفاني ، وإن اشتركا في معنى الذات المجرد ، فالذاتية المطلقة لا تكون إلا في الذهن ، فمثلها في ذلك مثل سائر المشتركات المعنوية ولو في حق الكائنات الأرضية كالإنسانية والحيوانية ، فذلك قدر معنوي مشترك في كل إنسان وحيوان ، ولا يمنع ثبوته في الذهن مشتركا بين كل البشر والحيوان ، لا يمنع ذلك من التباين بين ذواتها في الخارج ، فليست ذات زيد كذات عمرو ، وليست ذات الإنسان كذات الفرس بداهة ، وإن اشترك الأولان في معنى الإنسانية الكلي المطلق في الذهن ، واشترك الآخران في معنى الحيوانية ، فهو ، أيضا ، مطلق كلي في الذهن ، فحصل الترادف في أصل المعنى المطلق في الذهن ، وحصل التباين في الحقيقة في الخارج ، فذلك مما قد ينزل منزلة التكافؤ الذي يثبت فيه الترادف من وجه ، ويثبت فيه ضده من التباين من وجه آخر ، ولله المثل الأعلى ، فإن الاشتراك بينه وبين البشر في المطلقات الكلية الذهنية برسم الاشتراك المعنوي أو التواطؤ لا يلزم منه من باب أولى الاشتراك في الحقائق الخارجية ، بل لكل حقيقة ، كما تقدم ، تلائمه ، وقد ينزل الاشتراك المعنوي في هذا الباب ابتداء : منزلة المشكك ، فالتفاوت فيه في الخارج حاصل ، وإن كان المعنى المطلق في الذهن واحدا ، ففيه قدر زائد على التواطؤ ، فالبياض وصف مشترك بين الجلد والثلج ، ولكنه في الثلج أشد ، فصار مشككا من هذا الوجه ، وإن كان معنى البياض الكلي في كليهما ثابت ، وذلك في حقيقته يؤول إلى التواطؤ ، فليس المشكك عند التدبر والنظر إلا نوعا من المتواطئ ، كما أشار إلى ذلك في "شرح حديث النزول" بقوله : "إن هذه الأسماء العامة المتواطئة التي تسميها النحاة أسماء الأجناس سواء اتفقت معانيها في محالها أو تفاضلت كالسواد ونحوه ; وسواء سميت مشككة وقيل : إن المشككة نوع من المتواطئة - إما أن تستعمل : "مطلقة وعامة" كما إذا قيل الموجود ينقسم إلى : واجب وممكن وقديم ومحدث وخالق ومخلوق والعلم ينقسم إلى قديم ومحدث . وإما أن تستعمل : "خاصة معينة" كما إذا قيل : وجود زيد وعمرو وعلم زيد وعمرو وذات زيد وعمرو" . اهــ بتصرف يسير
وعلى كل الوجوه لا يثبت في هذا الباب للرب المعبود ، جل وعلا ، إلا المعاني الكلية المطلقة ، فمعاني الحكمة والعلم ..... إلخ من الأوصاف الذاتية اللازمة : خبرية كانت أو معنوية ، والصفات الفعلية المتعدية ، كل تلك المعاني مما يدرك العقل معناه الكلي فيثبت للرب ، جل وعلا ، على الوجه اللائق بجلاله بلا تفريق بين وصف معنى كالعلم ، ووصف خبر كالعين فذلك من التفريق بين المتماثلات ، فمن جاء بخبر الأول هو الذي جاء بخبر الثاني ، فمن صدقه في الأول لزمه تصديقه في الثاني ، فذلك قياس العقل الصريح بالتسوية بين المتماثلين ، ولا يلزم من هذا الإثبات : تشبيه ، فإنه ، كما تقدم ، إثبات للمعنى في الذهن لا الحقيقة في الخارج ، واشتراك الذوات في المعاني الكلية المشتركة في الذهن لا يلزم منه اشتراكها في الحقائق الخارجية ، بل ذلك ممتنع في عالم الشهادة لتباين الذوات في الخارج ، فذات عمرو غير ذات بكر ، بداهة ، مع اشتراكهما في الجنس الأعلى والنوع ، فإذا ثبت التباين في الخارج بين ذات مخلوق وآخر يشاركه الجنس والنوع ، ولم يمنع ذلك من اشتراكهما في وصف مطلق في الذهن من علم أو حكمة ..... إلخ ولم يمنع ذلك من تفاوتهما في قدره كمالا أو نقصانا فعلم زيد غير علم بكر بداهة ، فرعا على التباين بين ذاتيهما ، فإذا ثبت كل ذلك بين مخلوق وآخر ، فكيف لا يثبت من باب أولى بين الخالق ، جل وعلا ، الذي ليس كمثله شيء في حقيقة ذاته واسمه ووصفه وفعله كمالا مطلقا أولا وآخرا ، وبين المخلوق الحادث .
وبه يعلم فساد مقالة من شبه الرب ، جل وعلا ، بخلقه فجعل وصفه من جنس وصف البشر ، فيصيبه اللغوب فيستريح ، كما قالت يهود ، فجاء التنزيل بإبطاله ، فــ : (لَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ) ، وفساد مقالة من جوز حلول ذاته أو وصفه في ناسوت مخلوق ، كما هي حال النصارى فمقالتهم أفسد من باب أولى ، فشتان ذات الخالق ، جل وعلا ، كمالا وناسوت المخلوق نقصانا فذلك مما جبل عليه البشر ، ولو أنبياء بررة ، فحلول مخلوق في آخر مع تباين ذاتيهما في الخارج ضرورة أمر ممتنع في العقل والحس ضرورة قبل الشرع ، فكيف يصح في الأذهان حلول أشرف الذوات : الذات الإلهية القدسية في ذات أرضية لا تنفك ، كما تقدم ، عن عوارض النقص الجبلية ، وشتان وصف الخالق ، جل وعلا ، كمالا ، ووصف المخلوق نقصانا ، فلا يحل الناقص في الكامل بداهة فلا تحل الكلمة وهي من وصف الرب ، جل وعلا ، في ناسوت مخلوق فذلك مناف ، أيضا ، لضرورة العقل والحس فلم يعلم أن الوصف اللطيف يتجسد في ناسوت كثيف ، فضلا عن تجويز النقص على الوصف الكامل بتجويز حلوله في ناسوت حادث تجري عليه أعراض النقص الجبلية ، لو سلم ابتداء بأن ذلك مما يجوز وقوعه في الخارج ، فلا يقع في الخارج ، بل ولا يتصوره العقل السالم النابه ، وإنما غايته أن يفرضه العقل إذا أصابه الفساد والغفلة ، فخاض في أشرف العلوم بلا زاد من الوحي ، فهو العاصم في هذا الباب الجليل الشأن والخطر ، فلم يأت الرسل ، عليهم السلام ، بإثبات شيء مثلما أتوا بإثبات الكمال الذاتي والوصفي للرب العلي ، جل وعلا ، كما أشار إلى ذلك في "مدارج السالكين" بقوله :
"والرسل من أولهم إلى خاتمهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين أرسلوا بالدعوة إلى الله وبيان الطريق الموصل إليه وبيان حال المدعوين بعد وصولهم إليه فهذه القواعد الثلاث ضرورية في كل ملة على لسان كل رسول فعرفوا الرب المدعو إليه بأسمائه وصفاته وأفعاله تعريفا مفصلا حتى كأن العباد يشاهدونه سبحانه وينظرون إليه فوق سماواته على عرشه يكلم ملائكته ويدبر أمر مملكته ويسمع أصوات خلقه ويرى أفعالهم وحركاتهم ويشاهد بواطنهم كما يشاهد ظواهرهم يأمر وينهى ويرضى ويغضب ويحب ويسخط ويضحك من قنوطهم وقرب غيره ويجيب دعوة مضطرهم ويغيث ملهوفهم ويعين محتاجهم ويجبر كسيرهم ويغني فقيرهم ويميت ويحيي ويمنع ويعطي يؤتي الحكمة من يشاء مالك الملك يؤتي الملك من يشاء وينزع الملك ممن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الخير وهو على كل شيء قدير كل يوم هو في شأن يغفر ذنبا ويفرج كربا ويفك عانيا وينصر مظلوما ويقصم ظالما ويرحم مسكينا ويغيث ملهوفا ويسوق الأقدار إلى مواقيتها ويجريها على نظامها ويقدم ما يشاء تقديمه ويؤخر ما يشاء تأخيره فأزمة الأمور كلها بيده ومدار تدبير الممالك كلها عليه وهذا مقصود الدعوة وزبدة الرسالة" . اهــ
وقل مثله في أصحاب مقالة الحلول والاتحاد العام ففساد مقالتهم أظهر ، فهي أفحش مقالة قيلت في الإلهيات فجوزوا حلول الرب ، جل وعلا ، أو اتحاده بكل الذوات ولو سفلت أو نجست ، بل وأثبتوا ذلك في مقالاتهم وأشعارهم ، فمجرد الاشتراك في الذاتية قد صار حجة لهم في إثبات التماثل من كل وجه ، بل والحلول والاتحاد بكل الخلق على وجه يلزم منه ضرورة طروء النقص على أكمل الذوات فذلك نفي صراح لاسمي الرب جل وعلا : السلام والقدوس ، فسلم من كل عيب وتقدس عن كل نقص إلا عند أولئك المخلطين ومن سار على طريقتهم من النصارى المثلثين واليهود المجسمين ، ومنشأ الزلل عند جميعهم : العدول عن الوحي ففيه السلامة من كل إثم في القول والعمل ، في التصور والحكم .
ومعرفة دلالات الألفاظ أصل جليل في هذا الباب ، فبه تزول إشكالات وشبهات فيثبت المكلف للرب ، جل وعلا ، ما يليق بجلاله من الكمال ، وينفي عنه ما قد تنزه عنه من النقصان ، فالألفاظ المجملة لا تثبت بإطلاق ولا تنفى بإطلاق ، فهي محتملة بتنوع الدلالات فتحتمل حقا يقبل وباطلا يرد فلا يسلم للمتكلم حتى يعين مراده فيعلم أي الدلالات أراد ، فالصحيح يقبل والباطل يرد كما تقدم .
والشاهد أن الأعلام منها ما هو جامد فيقدم في اللفظ على الوصف المشتق ، في نحو قولك : زيد فاهم ، ومنها ما هو مشتق بالنظر إلى لفظه ، فمبناه مشتق كالأعلام المنقولة فمنها ما نقل عن اسم جامد كنعمان فليس ذلك محل الشاهد ، ومنها ، وهو محل الشاهد ما نقل عن اسم فاعل كحارث ، أو مثال مبالغة كعباس ..... إلخ ، فهي مبان مشتقة من معان ، ودلالتها على الذات دلالة علم لا وصف ، فلا يلزم أن يكون المسمى "حارثا" : حارثا بل قد يكون أكسل الناس ! ، وذلك مما باين الرب ، جل وعلا ، فيه البشر ، فأسماؤه ، جل وعلا ، أعلام وأوصاف معا ، فدلالتها على ذاته القدسية كدلالة أسماء البشر على ذواتهم ، فهي دلالة علمية ، ودلالتها على ما تضمنته من معان اشتقت منها ، كالعليم فهو مشتق من العلم ، دلالة وصفية ، فتثبت له ، جل وعلا ، كلتا الدلالتين ، وجوبا ، بخلاف البشر فقد يثبت العلم ولا يثبت الوصف فيسمى فلان عليما وهو أجهل الناس ، أو رحيما وهو أفظ الناس ..... إلخ فيكون اسمه على غير مسمى ، بخلاف أسماء الرب ، جل وعلا ، فهي بما تضمنته من معاني الكمال المطلق أسماء على مسمى فتلك المعاني ثابتة له ، جل وعلا ، قائمة بذاته القدسية على الوجه اللائق بجلاله ، فدلالة الاسم في حق البشر علمية قطعا ، وقد تكون وصفية وقد لا تكون ، فيجوز أن يتخلف الوصف ويثبت الاسم فيكون ، كما تقدم ، اسما بلا مسمى ، فتثبت دلالة العلمية وتنتفي دلالة الوصفية ، كما تقدم من إطلاق اسم عليم على أجهل الناس ، فالدلالة العلمية ثابتة له قطعا ففلان اسمه عليم ، والدلالة الوصفية منفية عنه قطعا ، فهو أجهل الناس فليس له من اسمه حظ ، فلا يلزم أن يتضمن الاسم كلتا الدلالتين فيكون علما ووصفا في نفس الآن ، وأما في أسماء الرب ، جل وعلا ، فكلتا الدلالتين قد ثبتتا وجوبا ، كما تقدم ، فدلالة التضمن للذات والوصف معا متعينة في حقه ، تبارك وتعالى ، فلا تتخلف أبدا ، فيتضمن الاسم الدلالة على الذات : دلالة العلمية ، وعلى المعنى الذي اشتق منه : دلالة الوصفية ، فيثبت الاسم فهو أحسن الأسماء ، فــ : (لِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) ، ويثبت الوصف فهو أعلى الأوصاف وأشرفها .
والشاهد أن العلم المشتق وإن كانت له تعلق بالوصف بالنظر إلى جهة الاشتقاق إلا أنه ينزل منزلة العلم الجامد في دلالته على الذات ، فيقدم أيضا على الوصف المشتق الذي يسند إليه إسناد الخبر إلى المبتدأ أو الحكم إلى المحكوم عليه فيقال : حارث فاهم ، فيسند وصف الفهم إلى حارث المشتق بالنظر إلى المبنى إسناده إلى زيد الجامد ، فالنظر في كليهما إلى الذات لا إلى الوصف ، كما تقدم ، ولذلك رجح بعض النحاة تقديم الاسم الدال على العلم جامدا كان أو منقولا على الاسم الدال على الوصف ، عند حدوث الالتباس فلا يعلم المبتدأ من الخبر ، فيكون العلم هو المقدم فهو مسند إليه محكوم عليه ، ويكون الوصف هو المؤخر فهو الحكم ، والترتيب العقلي يقضي بتقديم المحكوم عليه على الحكم المسند إليه ، فيقدم المحكوم عليه لتعلم العين التي يسند إليها الحكم فتطمئن النفس بمعرفتها ، فتتهيأ للحكم الذي يسند إليها ، فذلك المعهود في لسان العرب ، فإذا قدم ما فيه دلالة الوصف أظهر ، كما هو الشأن في هذا الحديث فــ : "أحب" مشتق من وصف المحبة ، إذا قدم فذلك خلاف المعهود فيفيد كما تقديم التشويق إلى ما يليه فالنفس تتلهف إلى معرفة عين المحكوم عليه بهذا الثناء الجميل ، وهو ، مع ذلك ، من وجه آخر ، معنى عام فدلالة الوصف فيه أيضا ظاهرة ، فليس إماما عادلا بعينه وإنما يصدق الوصف في الخارج على كل من تحرى العدل في إمامته خاصة كانت أو عامة ، فدعاؤهم جميعا : (اجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) ، وإن انصرف الذهن ابتداء إلى أصحاب الولايات العامة من الخلفاء والملوك والسلاطين والأمراء ...... إلخ ، بل إنه يصدق في حق الأنبياء عليهم السلام فذلك وصفهم : (إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا) ، و : (جَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآَيَاتِنَا يُوقِنُونَ) ، فلكلٍ حظه من العدل الذي يصير به أهلا للثناء بالوصف والجزاء بالقرب ، والأنبياء عليهم السلام أعظم الناس حظا في هذا الباب ، فهم أئمة العدل الذي به قامت السماوات والأرض ، وهم الشهود العدول على أممهم ، فــ : (كَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا) ، ولا يكون الشاهد بداهة إلا عدلا ، فرسمه التوسط والاقتصاد في أمره كله ، فلا يظلم بتقصير أو تعد في قول أو فعل وإنما يتحرى العدل بوضع الشيء في محله ، فلا يضع الحلم حيث لا ينفع إلا الغضب ، ولا يضع الجلال حيث لا ينفع إلا الجمال ، فتلك مفسدة أي مفسدة ، وإنما لكل حال ما يلائمها من الأحكام ، شرعية كانت أو عادية ، فمعنى العدل يعمها جميعا ، وإن كان أشرفها بداهة ما كان برسم الشرع ، فلا يتعدى العادل في الفتن ، وإن جار عليه الظالم وبغى ، وذلك أمر عسير أيما عسر ، إلا على من يسره الرب ، جل وعلا ، عليه ، فالنفس قد جبلت على حب الانتصار بل والتعدي والتشفي ، فلا يكبح جماح هذه الشهوة النفسانية إلا الطريقة الشرعية ، فــ : (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) ، ولعل ما نحياه الآن من فتن مما يتأول فيه أهل العدل تلك المعاني الجليلة ، فلن يصبر على مر تأويلها إلا من ذاق حلاوة امتثال الشرع بكظم الغيظ ، وتحري العدل في القول والفعل ، فــ : "العدل واجب لكل أحد على كل أحد في كل حال والظلم محرم مطلقا لا يباح قط بحال ، قال تعالى : (ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى) ........ والعدل مما اتفق أهل الأرض على مدحه ومحبته والثناء على أهله ومحبتهم ، والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه وذم أهله وبغضهم ..... فالعدل محمود محبوب باتفاق أهل الأرض وهو محبوب في النفوس مركوز حبه في القلوب تحبه القلوب وتحمده وهو من المعروف الذي تعرفه القلوب والظلم من المنكر الذي تنكره القلوب فتبغضه وتذمه" . اهــ من "منهاج السنة" ، فالخصم في هذه الفتن إما ظالم جائر ، يتآمر على الدين والدنيا فيروم أذى أهل الحق ويروم الإفساد في الأرض ، أو : جاهل منقاد لما يلقى عليه من الأكاذيب والإشاعات ، فلا عقل له لينظر ويحكم بالعدل ، ولا إرادة له ليتحرى الحق فقد سلب الإرادة بما اعتاد من التقليد الأعمى لرءوس الضلالة ، فينكر ما تراه عينه لأنه مما عميت عنه أعينهم ، فحاله حال كل مقلد ، في الأصول أو الفروع أو النوازل ، فما فات إمامه سواء أكان إمام هدى أم إمام ضلالة في أمور الديانة ، وسواء أكان إمام عدل أم إمام جور في أمور الحكم والسياسة ، ما فاته فليس بحق وإن قام الدليل من النقل والعقل والحس على أنه الحق جزما ، فيصير الجزم وهما لأن المقلَّد قد جهل سهوا فهو معذور بجهله فلم يبلغه الحق في هذه النازلة ، أو تجاهل ، كما هي الحال الغالبة على رءوس هذه الفتنة ، فهو مذموم إذ قد علم الحق في هذه النازلة وفي كل نازلة تقدمتها فتغافل عنه عمدا بل ولبس على غيره بقلب الحقائق سواء أكان ذلك في دين أو دنيا ، فكان كلامه وقود فتنة وأعظمها الفتنة في الدين بتزيين الضلالة ، فلم يتحر العدل في كلامه بل ظلم وجار وذلك مما يزيد الفتنة اشتعالا ، فهو إمام جائر يبغضه الرب ، جل وعلا ، فلا يدنيه ، وإن حصلت له رياسة أو وجاهة في الدنيا فذلك من إملاء الرب ، جل وعلا ، له ، ويوم الجزاء يوفى حسابه بلا ظلم ، فالظلم ممتنع بداهة في حق الرب ، جل وعلا ، فقد مدح به أئمة العدل فألقى عليهم محبته في الدنيا ، فــ : "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ , عَزَّ وَجَلَّ , عَبْدًا ، قَالَ : يَا جِبْرِيلُ ، إِنَّ رَبَّكَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبَّهُ ، فَيُنَادِيَ جِبْرِيلُ فِي السَّمَاءِ ، إِنَّ رَبَّكُمْ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ قَالَ : فَتَتَنَزَّلُ الْمِقَةُ عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ" ، والمقة هي المحبة ، كما في قول القائل :
لوْلا اصْطِبارٌ لأّوْدَى كُلُّ ذي مِقَةٍ ******* لَمَّا استقَلَّتْ مَطاياهُنَّ لِلظَّعْنِ .
وفي الآخرة فهم الأقرب مجلسا فــ : "أَقْرَبَهُمْ مِنْهُ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ" . وذلك مما يمتاز به الإمام العادل من الجائر ، فــ : "أَلاَ أُخْبِرُكُمْ بِخِيَارِ أَئِمَّتِكُمْ مِنْ شِرَارِهِمْ ؟ خِيَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُحِبُّوهُمْ وَيُحِبُّونَكُمْ ، وَتَدْعُونَ لَهُمْ وَيَدْعُونَ لَكُمْ ، وَشِرَارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ وَيُبْغِضُونَكُمْ ، وَتَلْعَنُونَهُمْ وَيَلْعَنُونَكُ" ، ولعل النوازل الأخيرة قد فضحت حال أئمة ضلالة قهروا الناس بسيف الجور والظلم ، فصاروا فيه مضرب المثل ، فقد ألقى الرب ، جل وعلا ، في قلوب الخاصة والعامة بغضهم ، فلم تطق عموم الرعية الصبر ، وإن سكتت سنين برسم القهر ، فكانت ثورتها تأويلا لبغض الرب ، جل وعلا ، لأولئك الفجرة الذين عطلوا الشرائع ، بل وازدروا الديانة تصريحا أو تلميحا ، فلم لم يزدر ويعاد بلسانه فله من حرب الرسالة بالفعل حظ وافر ، بل قد تبجح بذلك فهو الناصح الأمين لأعداء الدين من الكفار الأصليين ، بل قد تسلط على العقول فبدل في مقررات المدارس النظامية كما تسلط المخلوع وحرمه المصون على عقول أهل مصر ، فهو العدو في الشرائع الحكمية بل والمناهج الدراسية برسم مكافحة الإرهاب والأصولية ! .
فــ : "إِنَّ أَحَبَّ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" :
فذلك تفضيل لا يقتضي الإطلاق بل كلٌ بحسب سياقه ، كالمبالغة في وصف الظلم في قوله تعالى : (فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) ، وقوله تعالى : (مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) ، فقد ورد التفضيل مطلقا في سياق آخر ، فــ : " أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس" ، وقد يقال بأن السياقين متلازمان ، فالإمام العادل مظنة النفع للناس في الدين صيانة والدنيا سعة ، فذلك رسم دول العدل ، فلسان مقال عمر بن عبد العزيز رحمه الله : "إني نظرت فوجدتُني قد وليت أمر هذه الأمة أسودها وأحمرها ، ثم ذكرت الفقير الجائع ، والغريب الضائع ، والأسير المقهور ، وذا المال القليل والعيال الكثير ، وأشباه ذلك في أقاصي البلاد وأطراف الأرض ، فعلمت أن الله سائلي عنهم ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حجيجي فيهم ، فخفت أن لا يقبل الله تعالى مني معذرة فيهم ، ولا تقوم لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حجة" ، فذلك لسان مقاله عموما ولسان مقاله في أهل الذمة خصوصا : "فانظر أهل الذمة فارفق بهم ، وإذا كبر الرجل منهم وليس له مال فأنفق عليه ، فإن كان له حميم فمر حميمه ينفق عليه" ، فذلك رسم عمر الفاروق ، رضي الله عنه ، فــ : "انظر هذا وضرباءه ، فوالله ما أنصفنا الرجل إن أكلنا شبيبته ثم نخذله عند شيبته رد عنه الجزية وعن أمثاله" ، ورسم دولة الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي رحمهما الله ، رسم دولته الزاهرة في الشام ومصر : "ينصف المظلوم ، ولو أنه يهودي ، من الظالم ولو أنه ولده أم أكبر أمير عنده" ، كما قد قال ابن الأثير ، رحمه الله ، في "الكامل" ، وكلاهما من وجه آخر : يدل بمفهومه على الضد ، فأبغض الناس إلى الله ، جل وعلا ، الإمام الجائر ، وقد ورد النص عليه في هذا الحديث استيفاء لشطري القسمة العقلية على جهة المقابلة وتوكيدا على المعنى بذكره تصريحا وإن استفاده العقل تلميحا بدليل خطاب الشطر الأول ، فذلك من جنس : دوران الحكم مع علته وجودا وعدما ، فيثبت حكم الحب بثبوت علته من العدل في القول والفعل والحكم ، وينتفي بل ويثبت ضده بانتفاء علته وثبوت ضدها من الجور ، فالإمام الجائر مظنة الضر للناس في الدين بإهدار أحكامه وتعطيل رسومه وشرائعه ، فملوك الجور لا يقيمون للدين وزنا بل ويحقرونه قولا وفعلا ، فالدين عدوهم اللدود بما ينزعه من رياساتهم فسلطانه أعظم من سلطانهم ، فهو الحاكم على أقوالهم وأفعالهم ، وذلك مما يأنف منه الظالم لنفسه بشرك أو معصية ، أو الظالم لرعيته بإفساد للدين والدنيا معا ، فهما متلازمان ، لا سيما في حق الأمة الخاتمة ، فلا يستقيم معاشها إن لم تقم أمر دينها برسم التعظيم والامتثال ، فلا يحصل ذلك بتعظيم زائف برسوم محبة مزعومة يكذبها شاهد الحال والفعل ، فالرعية معه في محنة سواء أكانت تروم الدين أم الدنيا ، فلا عجب أن تبغضه مع تباين الفكرة واختلاف الوجهة، فلكل وجهة هو موليها ، فيبغضه أهل الدين لما أبطل من رسوم الديانة : علما وعملا ، شعيرة بالتضييق وشريعة بنقض أحكام النقل بأحكام الهوى والذوق ، فلا يعنيه إلا المصلحة الخاصة فإن تعارضت معها المصلحة الشرعية أهدرها بل ولو تعارضت معها المصلحة الدنيوية لعموم الرعية فمقتضى قياس العقل ، ولو لم يرد به الشرع ، تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة ، فذلك رسم العدل الذي لا حظ له فيه ، فقد نكس على رأسه ففسد قياس عقله فقدم ما حقه التأخير وأخر ما حقه التقديم ، تحصيلا لما ظنه خيرا وهو معدن الشر في الدين بل والدنيا التي يوالي ويعادي عليها فما استفاد إلا عدوات كامنة في الصدور ، نمت بمرور الأحقاب والدهور ، فأيامه أيام شؤم ثقيل الوطأة ، فأثمرت عداوات ظاهرة فما بطن لا يخفى في العادة وإن اجتهد صاحبه في كتمانه وكظمه ، فكظم الناس غيظهم برسم القهر فسيف الجور على رقابهم مسلط ، ثم شاء الرب ، جل وعلا ، أن يفيض الكيل فقد بلغ السيل الزبى ، فكل الناس أعداؤه ، وإن اختلفت المشارب ، فيبغضه ، كما تقدم ، أهل الهدى من أصحاب الديانة لما عطل من رسومها ، وبل ويبغضه أهل الضلالة من أصحاب الغواية من العلمانيين والليبراليين ...... إلخ ، لما أبطل من رسوم الحرية ، وإن راموا بإعمالها الحرية المطلقة التي تكافئ المروق من الدين فلا وازع يحجز عن كفر أو فحش ، بل وتبغضه عموم الرعية لما ضيق من أمر المعاش ، فكلهم قد خرج على حكمه الجائر وثار على ظلمه الفاحش ، فنزع بهم الرب ، جل وعلا ، ملكه ، فهم السبب الكوني النافذ ، فما كان لهم أن يجمعوا لولا أن شاء الرب ، جل وعلا ، إجماعهم القطعي مع اختلاف العقول والطبائع على أمر واحد هو : خلع الطاغية الجائر ، فهم يد القدرة النافذة في استئصاله وتأويل الحكمة البالغة في إمهاله واستدراجه ، فسكتوا سنين حتى ظنهم قد ماتوا ! ، ثم ثاروا فجأة فلم يكن لجنده أن يرهبهم ولم يكن لسحره أن يسكتهم ، فلم يصدق أحد وعده ، فهو الكذوب ، ولم يأمن أحد جوره فهو الجهول الظلوم .
وفعل المحبة مما يتعدى بنفسه فتقول : أحببت فلانا ، ويتعدى بواسطة كما في هذا السياق ، وهو من وصف الفعل الثابت للرب ، جل وعلا ، فــ : (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) ، فذلك مما يتعلق بمشيئته ، جل وعلا ، فهو مما علق على وصف مؤثر ، فالتعريف بالموصول مئنة من تعليق الحكم على الوصف الذي اشتقت منه الصلة فهو محط التعليل ، وذلك مقتضى الحكمة الثابتة للرب ، جل وعلا ، على الوجه اللائق بجلاله ، فمقتضاها في حق البشر : دوران الحكم مع علته وجودا وعدما ، ولله المثل الأعلى ، فلا يقتضي ذلك تعليل أفعاله ، جل وعلا ، بالأغراض ، فلفظ الغرض في هذا الباب : مجمل يفتقر إلى البيان ، فقد يحتمل وجها باطلا لا يثبت في حق الرب ، جل وعلا ، بداهة ، فالغرض مئنة من الحاجة والافتقار ، وذلك مما انتفى عنه ، جل وعلا ، ضرورة شرعية وعقلية ، بل وبدهية فلا يجادل فيها إلا جاحد أو مسفسط قد فسد عقله وطبعه فيماري في البدهيات الضرورية التي لا تفتقر إلى استدلال أو نظر .
وقد يحتمل وجها صحيحا ، هو الغاية التي لا يلزم من إثباتها الافتقار إلى حصولها ، بل هي تأويل حكمته البالغة بتعليق المسببات على أسبابها : شرعا وكونا ، فذلك مقتضى الحكمة في القدر الكوني النافذ ، والقدر الشرعي الحاكم .
والحب في لسان العرب نقيض البغض ، كما قد ذكر صاحب "اللسان" رحمه الله ، وهو مئنة من لزوم الشيء ، فــ : "أَحَبَّ البَعِيرُ بَرَكَ وقيل الإِحْبابُ في الإِبلِ كالحِرانِ في الخيل وهو أَن يَبْرُك فلا يَثُور قال أَبو محمد الفقعسي : حُلْتُ عَلَيْهِ بالقَفِيلِ ضَرْبا ... ضَرْبَ بَعِيرِ السَّوْءِ إِذْ أَحَبَّا ......... وقال أَبو عبيدة في قوله تعالى : (إِنّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الخَيْر عن ذِكْرِ رَبِّي) ، أَي لَصِقْتُ بالأَرض لِحُبّ الخَيْلِ حتى فاتَتني الصلاةُ وهذا غير معروف في الإِنسان وإِنما هو معروف في الإِبل وأَحَبَّ البعِيرُ أَيضاً إِحْباباً أَصابَه كَسْرٌ أَو مَرَضٌ فلم يَبْرَحْ مكانَه" . اهــ
فالحب مئنة من الملازمة ، فالمحب يلازم حبيبه فلا يفارقه ، ولله المثل الأعلى ، فالرب ، جل وعلا ، مع من يحب معية خاصة ، فهي ، أيضا ، من وصف فعله الحكيم ، بتعليق الحكم على سببه ، فــ : (إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ) ، فيحبه الرب ، جل وعلا ، بوصفه الفعلي ، ولازم تلك المحبة : المعية الخاصة نصرة وتأييدا ، وانشراح الصدر وحصول الطمأنينة في الأولى ، والنجاة والنعيم الكامل في دار الرضوان في الآخرة .
وقد صدر الخبر : "إِمَامٌ عَادِلٌ" بالموطئ : "إِمَامٌ" إمعانا فهو معنى كلي يقبل الانقسام ، فمنه ما هو في الخير ، ومنه ما هو في الشر ، كما أشار إلى ذلك صاحب "اللسان" ، رحمه الله ، فــ : "الإِمامُ الذي يُقْتَدى به ، (وذلك معنى عام فالاقتداء يكون في الخير والشر معا) .......... وإِمامُ كلِّ شيء قَيِّمُهُ والمُصْلِح له والقرآنُ إِمامُ المُسلمين وسَيدُنا محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم إِمام الأَئِمَّة والخليفة إمام الرَّعِيَّةِ وإِمامُ الجُنْد قائدهم ، (فإمام كل شيء بحسبه)" . اهـــ بتصرف ، ثم جاء الوصف "عَادِلٌ" ، فهو محط الفائدة .
ثم جاء الشطر الثاني استيفاء لشطري القسمة العقلية كما تقدم :
وَإِنَّ أَبْغَضَ النَّاسِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَشَدَّهُ عَذَابًا إِمَامٌ جَائِرٌ :
فجمع له الوصف الفعلي ولازمه ، فذلك ، أيضا ، من جنس ما تقدم في الشطر الأول ، وفيه إبطال لمن تأول البغض بإرادة التعذيب أو الانتقام ، فقد عطف الثاني على الأول ، والعطف يقتضي المغايرة ، فحقيقة البغض تباين حقيقة التعذيب في الآخرة ، وإن كانا متلازمين ، فعطفهما من قبل عطف المتلازمات العقلية الضرورية ، فلا ينفكان ، فمن أبغضه الرب ، جل وعلا ، فمات على تلك الحال الردية ، فهو أهل للعذاب والإهانة فقد أذاق رعيته منهما ألوانا ، والجزاء من جنس العمل ، فذلك مقتضى العدل في الحكم و : (مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) .
والجور نقيض العدل ، فذلك ، أيضا ، من التعريف بالضد ، كما قد ذكر صاحب "اللسان" رحمه الله ، فــ : " الجَوْرُ نقيضُ العَدْلِ ........والجَوْرْ ضِدُّ القصدِ" ، فهو ضد العدل في الحكم العلمي ، وضد القصد في الحكم العملي فالجائر لا يعدل في العلم فهو غال أو جاف ، فلا توسط عنده ولا اعتدال ، وحال أصحاب المقالات العلمية الحادثة في الملل أو النحل على ذلك خير شاهد ، ولا يعدل في العمل فهو ، أيضا ، غال أو جاف ، وحال أصحاب الرياضات من رهبان الأمم على ذلك خير شاهد ، ومثله حال المتملكة برسم الجور فجورهم ينصرف ابتداء إلى العمل ، فسيرتهم في الرعية أسوأ سيرة ، وإن لم يسلم العلم من شؤم جورهم فقد تسلطوا ، كما تقدم ، على الأديان والأبدان معا ، فلم يسلم للرعية منهم دين أو دنيا .
والله أعلى وأعلم .
مواضيع مماثلة
» قَوْلُهُ: "نَقُولُ فِي تَوْحِيدِ اللَّهِ مُعْتَقِدِينَ بِتَوْفِيقِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ و
» أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
» من حديث : "أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ" وجه الاعجاز اللغوى
» لَا يَنَامُوا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ نَعِيمِ الْمَحَبَّةِ للَّه عَزَّ وَجَلَّ
» أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
» أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ
» من حديث : "أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ" وجه الاعجاز اللغوى
» لَا يَنَامُوا لِمَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ نَعِيمِ الْمَحَبَّةِ للَّه عَزَّ وَجَلَّ
» أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin