بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 22 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 22 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
درء تعارض الخلق و التخيير
صفحة 1 من اصل 1
درء تعارض الخلق و التخيير
بسم الله الرحمن الرحيم.
التخيير هي ظاهرة - وإن كنا نجهل كنهها - إلا أننا نقر بوجودها وخير الأدلة هي شهادة المرء على نفسه. وهي شهادة مزدوجة:
1- يشهد على نفسه انه حر مُخير في واقعه اليومي, والمفارقة أن الذي يحاول إثبات انه مسير- يختار متى وأين وكيف يكتب مقالته.
2- ثانياً يشهد على نفسه أن حريته حادثة ومخلوقة. ومحال أن تخلق النفس حريتها قبل أن تمتلك حرية القرار.
قال تعالى في الأنعام {148} سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ
إذاً كل من يقول ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا) يدعي انه مسير بحجة خلق الله لحريته أو بحجة القدر (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) ولو كان لهم علم لأخبرونا على الأقل بحقيقة ظاهرة التخيير. وهذا محال لان التحليل العقلي مُقتصر فقط على قواعد جبرية فهي لا تطال سوى الجواهر الخاضعة لنظام جبري. وسمي علم الجبر جبراً لأنه خال من الظن ولأن به نتتبع حتمية تسلسل الاستدلال إلى أن نصل إلى النتيجة الحتمية - وكل ذلك دون استشارة الجوهر محل الدراسة - وهذا يعني انك وصلت إلى نتيجة حتمية متعلقة بأفعال جوهر لم تُخيره. فان حاولت استعمال علم الكلام مثلاً لتحليل كيفية رجحان النفس إلى ما تختار, بذلك تنفي ضمناً حرية النفس لأنك أدخلتها في نظام جبري ليس فيه تخيير. وهذا هو الخطأ الفادح الذي يسقط فيه الكثير لأن العقل متى تخطى حدود الجبر أصبح كلامه ضناً ( إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ). إذاً الإنسان بعقله وإدراكه يمكنه فقط إدراك وجود ظاهرة التخيير لكنه عاجز عن إدراك حقيقتها وكيفية عملها, فوجد البعض حلاً سفسطائيا: أدخلوا ظاهرة التخيير في عالم الجبر ثم صاحوا قائلين انظروا : (التخيير أصبح جبراً ولذلك فالإنسان مسير).
وأشهر سفسطاتهم قولهم : (إذا اختارت النفس أمراً هذا لأنها تميل إليه. فهل اختارت ميلانها ورجحانها هذا؟ وان كانت قد اختارته فهل سبقه رجحان آخر, وهذا الأخير هل سبقه آخر ... وهكذا إلى ما لانهاية؟)
ثم يستنتجون ( إن اختيار النفس للكفر والإيمان يتوقف على أصل طبيعتها التي خلقها الله, وهذا إجبار. )
أين الخطأ في هذا التحليل؟ هل خالف ظاهرياً القواعد التي يستعملها العقل؟ لا. إذاً أين الخطأ؟ الخطأ ثلاثي:
1- كذب على نفسه إذ ادعى ما يناقض حقيقته كعاقل حر.
2- ثم افترض أن الله غير قادر على خلق قوة حرة.
3- ثم شطح بعقله وكما سبق ذكره العقل مجاله التحليل الجبري وهو حبيسه لأنه لا توجد قاعدة عقلية تنقلك من مقدمة إلى نتيجة حتمية دون استعمال أدوات جبرية. وكل من يحاول تحليل ظاهرة التخيير ليس أمامه سوى طريقين: إما أن يخرج بعقله عن حدوده باستغنائه عن التحليل الجبري, ومتى فعل ذلك لا يؤخذ بكلامه (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ). أو يُدخل ظاهرة التخيير في عالم الجبر وبالتالي - من حيث لا يدري - يفترض في المقدمة ما يحاول إثباته في النتيجة بأن النفس مُسيرة. وهذا خطأ منطقي وهنا أيضاً لا يؤخذ بكلامه.
ثم إن قولهم (اختيار النفس يتوقف على أصل طبيعتها التي خلقها الله وهذا إجبار.)
هذا القول في مغالطة أخرى, فالأصل في طبيعة النفس أنها مخيرة وليس الأصل فيها أنها تميل إلى احد الخيارين. بل ميلان النفس إلى جهة ما يأتي بعد التخيير وليس قبله إذ أن الترتيب السّبـبي هنا مهم للغاية:
1- فان قلت ان الله خلق طبيعة الكفر في الكافر قبل أن يخلق فيه الطبيعة القادر على الاختيار, بذلك تناقض نسفك إذ لا مفهوم للتخيير في هذه الحالة, وهذا مناقض لما تشهد به على نفسك.
2- وإن قلت أن الله خلق طبيعة التخيير في النفس ثم خلق لها طبيعة الكفر او الإيمان التي اختارتها , بذلك لن يكون هناك إجبار لان الأصل هو التخيير.
وهذه الشبهة سببها الخلط بين الطبيعة الملازمة للنفس من جهة وبين الطبيعة المُختارة من قبل النفس. والمشكلة ان الكثير يطلق على الظاهرتين نفس الاسم : (( الإرادة )). فما هو تعريفكم للإرادة؟ هل هي الطبيعة المخيرة للنفس قبل التخيير أم هي الطبيعة التي اختارتها النفس من كفر وإيمان؟ الفرق شاسع بينهما في طرق الاستدلال لان الفرق بين التعريفين هو الفرق بين الملازم والطارئ والفرق بين المقدمة والنتيجة :
1- المقدمة هي حرية التخيير في النفس وهي طبيعة ملازمة لجوهرها لا تنفك عنه وليس للعبد القدرة على تغيير طبيعته كمخير فيصبح مسير.
2- لكن في المقابل يستطيع العبد تغيير طبيعته كمؤمن أو ككافر, فيرتد المؤمن ويؤمن الكافر.
إذاً الصفة المتغيرة يستحيل أن تسبق الصفة الملازمة للجوهر (لان سبق المتغير للملازم يتنافى مع مفهوم الملازمة) , وهذا دليل قطعي أن طبيعة التخيير في النفس هي الأصل.
إن قيل كيف يُحاسَب العبد على أعمال جسدية خلقها الله.
الجواب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر. وفي المقابل قال من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه. والأدلة كثير تثبت أن الإنسان لا يحاسب على فعلٍ خالف نيته و يمكن أن يجازي العبدَ على نية لم تكتمل كفعل. إذاً خلق أفعال العباد لا يتنافى مع عدل الله لأنه سبحانه يحاسب العبد على نيته التي اختارها.
فان قيل كيف يحاسب الله العبد إذا كان الله هو خالق نيته وخالق التقوى والفجور؟
الجواب: لن تجد عاقل يدعي انه مُجبر على السير في طريق بحجة أن غيره أنشأ ذلك الطريق. وكذلك لن تجد عاقل يدعي انه مسير بحجة اختياره بين مخلوقين ( الفجور والتقوى ).
ثانياً الفجور أو التقوى هما نتيجتان وليسا مقدمة, وسبق إثبات أن طبيعة التخيير في النفس هي الأصل, لذلك من يسأل عن استحقاق العبد لأفعاله عليه أن يقرن ذلك بالأصل.
إذاً كل صادق يقر بشهادته على نفسه أن الله قادر على خلق قوة حرة مخيرة. وكما أن خلق الله لحريتك لا ينفي تخييرها, كذلك خلق الله للنوايا وللتقوى والفجور لا ينفي استحقاقك لما تختار. ومن يقول (لو شاء الله ما أشركت ) يشهد على نفسه انه كاذب. وتحداهم الله بان يخرجوا علمهم. (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ). ولا علم لهم بحقيقة النفس فكيف يخوضون في أفعالها؟
فإن قيل: إذاً ظاهرة التخيير مخالفة للحق لأنها خارجة عن العقل.
الجواب: هذه مغالطة أخرى لان ما يدركه العقل ليس هو كل الحق. وظاهرة التخيير ليست خارجة عن الحق بل هي خارجة عن إدراك العقل وأدواته الجبرية. وهذه الأدوات المتواضعة يستحيل أن تكون مفاتيح للغيب.
الدلائل النقلية على خلق الله لمشيئة وأفعال العباد.
السؤال عن أفعال العباد هو سؤال عن ثلاثة أمور كلها مخلوقة:
1- حرية النفس قبل اختيارها لما تريد وهي الطبيعة المطبوعة في النفس.
2- نتيجة تخييرها من تقوى أو فجور وهذه طبيعة مُختارة من قِبل النفس.
3- أفعال الجسد.
أولاً
قال تعالى في سورة فاطر {3} يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
ومن يدعي انه يخلق أفعاله نعيد عليه السؤال نفسه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ؟
والاستفهام هنا إنكاري مفاده أنْ لا خالق غير الله. فكيف تجرؤ وتدعي انك خالق مع الله؟
ثانياً
فان قيل أن أفعال العباد هي خلق تحويل وأن الخلق في الآية السابقة هو خلق من عدم.
الجواب: خلق التحويل معناه الصنع كأن تخلق من الخشب طاولة لكن من خلق حركاتك وسكناتك التي قادت إلى النتيجة التي صنعتها؟
الله سبحانه هو خالقها, ومن يقول غير ذلك يقع في الشرك. الدليل:
قال تعالى في سورة الرعد {16} أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
ربما يقول البعض أين الدليل في الآية؟ الشاهد في الآية أن الله يتحدى الكفار بان يأتوا بما تشابه عليهم من الخلق كدليل على شركهم. ولانه لا يوجد شريك لله في الخلق فيستحيل أن يتشابه علينا الخلق. لكن من يدعي انه خلق أفعاله يدعي انه يخلق كخلق الله.
كيف؟
لو قلت انك تخلق حركة يدك مثلاً. نفس الفعل يمكن أن يصدر عنك وأنت نائم, فمن خلق حركة يدك وأنت غافل عما حولك؟ ستقول الله.
إذاً أنت تدعي انك تخلق كخلق الله ومن لا يدري انك نائم سيتشابه عليه الخلق فلا يعرف هل حركة يدك أهي من خلقك أم من خلق الله.
وحالك كحال من : جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ
والمشكلة هنا انك لم تشرك مع الله صنماً بل أشركت نفسك مع الله فادعيت أنك تخلق كخلقه.
فان قيل : (بنفس المنطق اذا رأيت خشبة سيتشابه علي الأمر فلا اعلم هل خلقها الله على هيئتها أم خلقها عبد خلق تحويل)
هذه مغالطة رخيصة. فلن يتشابه على المسلم الأمر لأنه يعلم أن الله خلق كل شيء جوهراً وشكلاً وخلق الفعل المسبب له سواء كان الفعل نتج عن موج بحر أم حركة يد إنسان. وبالتالي لن نجعل لله شركاء يخلقوا كخلقه حتى يتشابه الخلق علينا. كيف سيتشابه الأمر علينا ونحن نؤمن أن في جميع الأحوال الله خلق السبب بجوهره وأفعاله وخلق النتيجة بجوهرها وخصائصها التي نتجت عن الفعل؟ وبالطبع من خلق اللهُ أفعاله ليس شريكاً لله في الخلق.
أما من يتشابه الخلق عليه فهو من لا يعلم أفعال العبد أهي عن قصد منه أم عفوية؟ أهي من خلق العبد ولم يخلقها الله أم هي من خلق الله ولم يخلقها العبد؟
ثالثاً
كل ما سوى الله وصفاته وآحادها هو مخلوق. قال تعالى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)
ابن كثير : أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره [وتسخيره] (2) ، وتدبيره وتقديره (3)
البحر المديد: { فقدَّره } أي : فهيأه لِمَا أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به.
الوجيز للواحدي : { وخلق كلَّ شيء } ممَّا يُطلق في صفة المخلوق { فقدَّره تقديراً } جعله على مقدارٍ
{ فقدَّرهُ } أى فخلقه على كيفية مخصوصة ، وخصائص وأفعال لائقة به
فإن قيل أن الحرية والإرادة وحركات العباد هي صفات وليست جواهر والآية تتحدث عن الجواهر.
الجواب: قال تعالى (وخلق كل شيء فقدره تقديراً ) وهذا دليل أن الله خلق كل شيء بجوهره وصفاته وخصائصه, لأن التقدير لا يكون دون التصرف في خصائص الجوهر عاقل كان أم غير عاقل. فكما إن الله قدّر صفات الجمادات التي لم تخلق خصائصها, كذلك قدّر الله صفات الأنفس من إيمان وكفر. وكما أن الجمادات لم تخلق حركاتها وأفعالها كذلك العباد لم تخلق أفعال أجسادها. فالآية شاملة لم تفرق بين الجواهر المخيرة كالأنفس وبين الجواهر الغير عاقلة كالجمادات.
فإن قيل أين دليلكم النصي أن نتائج التخيير - من إرادة الفجور والتقوى - هي من خلق الله.
قال تعالى : الشمس {7} وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {8} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
والشاهد هنا أن الفجور والتقوى هما إرادتين ألهمهما اللهُ للنفس. والله لا يلهم العدم بل هو ألهام لما خلقه الله واختارته النفس.
رابعاً
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا هذه الآية { ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها } وقف ثم قال : اللهم آت نفسي تقواها أنت وليها ومولاها وخير من زكاها.
وفي صحيح مسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر اللهم آت نفسي تقواها ... (الى آخر الحديث).
فإن قيل (فألهمها فجورها وتقواها) تعني أن الله بيّن للنفس الفجور والتقوى.
نعم الآية تشمل هذا المعنى لان الله بيّن للنفس ما خلقه سبحانه من فجور وتقوى ثم اختارته النفس. والآية لا تتحدث عن العلم فقط بل عما وقر في القبل, وخير دليل على ذلك قوله تعالى (فألهمها فجورها وتقواها). فالفجور فجورها والتقوى تقواها, وهي محاسبة عليهما ولا يعقل أن ينسب الفجور في الآية إلى النفس بمجرد علمها به. إذاً الآية تتحدث عما في نفس العبد -من تقوى و فجور- وليس فقط العلم بهما. وهذا هو المعنى الظاهر المباشر لان الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً.
ملخص التفاسير أن الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً وهذا يبين أن الله عز وجل خلق في المؤمن التقوى وفي الكافر الفجور بعد التخيير الذي يسبقه إعقال وإفهام النفس لما تختار.
والمعنى المحصل فيه وجهان :
. الأول : أن إلهام الفجور والتقوى ، إفهامها وإعقالهما ، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما شاء منهما ، وهو كقوله : { وهديناه النجدين } قالوا : ويدل عليه قوله بعد ذلك : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها * وَقَدْ خَابَ مَن دساها } [ الشمس : 10 9 ] وهذا الوجه مروى عن ابن عباس وعن جمع من أكابر المفسرين
. والوجه الثاني : أنه تعالى ألهم المؤمن المتقي تقواه وألهم الكافر فجوره ، قال سعيد بن جبير : ألزمها فجورها وتقواها ، وقال ابن زيد : جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها بالفجور ، واختار الزجاج والواحدي ذلك ، قال الواحدي : التعليم والتعريف والتبيين غير والإلهام غير ، فإن الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً ، وإذا أوقع في قلبه شيئاً فقد ألزمه إياه . وأصل معنى الإلهام من قولهم : لهم الشيء ، والتهمه إذا ابتلعه ، وألهمته ذلك الشيء أي أبلغته ، وهذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد ، لأنه كالإبلاغ ، فالتفسير الموافق لهذا الأصل قول ابن زيد ، وهو صريح في أن الله تعالى خلق في المؤمن تقواه ، وفي الكافر فجوره (انتهى)
ولا يوجد تناقض بين القولين فالقول الثاني يحوي الأول لان النفس تدرك ما اختارت من إرادة. ومن ينكر المعنى الثاني - وهو المعنى الظاهر- نقول له ليس من العدل أ ن يُنسب الفجور و التقوى للنفس في الآية لمجرد علمها بهما. ولن يدعي احد ان النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن ندعوا الله أن يُؤتينا العدم؟ بل علما أن ندعوا الله أن يؤتينا ما خلق من تقوى>
فإن قيل أين دليلكم النقلي انه لا تناقض بين حرية الإنسان وبين خلق الله للإرادتين؟
الجواب في نفس السورة:
الشمس {7} وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {8} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {9} قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا {10} وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا
في الآيتين 9 و 10 النفس هي التي تختار تزكيتها من عدمه. وهذا دليل نصي أن خلق الله للتقوى والفجور لا يتنافى مع تخيير النفس واستحقاقها لما اختارت.
وهذا الأسلوب نجده في عدة مواقع في القرآن بان يجمع الله بين قولين - البعض يفرق بينهما باجتهاده الخاطئ. فالبعض مثلاً يستنتج خطأ أن الله ليس سميع وبصير لأنه ليس مثلنا نسمع ونرى, لكنه سبحانه جمع بين القولين (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) حتى يزول الفهم الخاطئ للبعض. وكذلك جمع الله في أربع آيات قصار بين إلهام الإرادتين وبين المشيئة الحرة للنفس, حتى لا نستنتج خطأ ما يقودنا إلى قول القدرية من جهة أو الإشراك بأن نقول أن الإنسان هو خالق مع الله.
خامساً
قال تعالى في سورة الملك {13} وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {14} أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
ملخص التفاسير: الآية تحتمل ثلاثة أوجه:
1- أن يكون من خلق في محل النصب ويكون المرفوع مضمراً ، والتقدير ألا يعلم الله من خلق
2- أن يكون { مَنْ خَلَقَ } في محل الرفع والمنصوب يكون مضمراً والتقدير ألا يعلم من خلق مخلوقه
3- أن تكون { مَنْ } في تقدير ما كما تكون ما في تقدير من في قوله : { والسماء وَمَا بناها } وعلى هذا التقدير تكون ما إشارة إلى ما يسره الخلق وما يجهرونه ويضمرونه في صدورهم وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى
انه تعالى لما ذكر أنه عالم بالسر والجهر وبكل ما في الصدور قال بعده : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله لو كان تعالى خالقاً لكل ما يفعلونه في السر والجهر ، وفي الصدور والقلوب ، فإنه لو لم يكن خالقاً لها لم يكن قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } مقتضياً كونه تعالى عالماً بتلك الأشياء ، وإذا كان كذلك ثبت أنه تعالى هو الخالق لجميع ما يفعلونه في السر والجهر من أفعال الجوارح ومن أفعال القلوب (انتهى).
فأن قيل معنى الآية أن الله عليم بذات الصدور لأنه خالق للعبد وليس لأنه خالق لما في صدره.
هذا لوي للنص . الله علمنا في الآية أن الخالق لابد أن يعلم خلقه. وهذه القاعدة لم يذكرها الله عبثاً بل هي تفيد أن علم الله بالشيء المذكور في الآية يعني انه مخلوق لله.
وما هو الشيء الذي اخبرنا الله انه عليم به؟ (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وذات الصدور هي كل الخواطر والنوايا وكل ما حواه الصدر.
ولان الله يعلم كل ذلك فهو بالضرورة خالقها وذلك تطبيقاً للقاعدة التي علمنا الله في نفس السياق.
سادساً
قال سبحانه : (والله خلقكم وما تعملون ) .
إذاً العباد وأعمالهم كلها مخلوقة لله عز وجل. والمعنى المباشر أن الله خلقنا وأعملنا, حركاتنا وسكناتنا.
فإن قيل (خلقكم وما تعملون) تعني (خلكم والذي تعملون).
الجواب: وهذا القول لا ينقض الآخر بل يعززه.
فما الذي عمله الكفار؟ الأصنام.
وما هي الأصنام؟ نتيجة لمقدمة
وما هي المقدم؟ أعمال العباد وأفعالهم.
فإذا كان الله خلق النتيجة (أي الأصنام) فباللزوم قد خلق المقدمة أي أفعال العباد.
وأمام المعترض أربعة احتمالات:
1- الله خلق نتيجة أفعال العباد من عدم. بذلك تنفي أفعال العبد جملة وتفصيلاً
2- الله خلق نتيجة أفعال العباد كما خلق مثلاً آدم بيديه من تراب.
في هذه الحالة لن يجرؤ احد ويقول أن العبد هو خالق الفعل الذي أدى إلى النتيجة, لان الفعل هنا هو فعل ذات الله وهذا يعني أن العبد خلق فعل الله وهذا كفر.
3- العبد خلق الفعل الذي به صنع الأصنام والله لم يخلق نتيجة عمل البعد. وهذا مخالف لقوله تعلى (خلقكم وما تعملون).
4- الاحتمال الوحيد المتبقي أن الله خلق النتيجة بخلقه لأفعال العباد.
ومثال على ذلك لمن لم يستوعب بعد. الله خلق المصور وما يصور من أصنام. ولا يجادل في ذلك من يؤمن بقوله تعالى (خلقكم وما تعملون)
إذاً الله خلق تلك الصور التي صورها العبد كما تخبرنا الآية. وأنت تقول أن العبد أيضاً خلق تلك الصور وخلق أفعاله.
وكما سبق أمام المعترض أربعة احتمالات أولها محال والثاني كفر والثالث مخالف للقرآن والرابع هو: خلق الله لأفعال العباد.
فإن قيل: الآية لا تنعي خلق أشكال الأصنام بل خلق الحجارة والأخشاب التي منها خُلقت الأصنام.
هذا القول لا علاقة له بالآية لا معناً ولا لغة.
(وما تعملون) تعني أفعالهم أو تعني الذي عملوه من أصنام. والأصنام ليست حجارة فقط بل هي أيضاً أشكال و صور وآثار لفعل. وصانع الشكل هو بالضرورة خالق للحدث لذي تسبب في تشكيل ذلك الشكل. ودليل آخر في الآية التي تسبقها: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) والخشب والحجر قبل النحت والتصوير لم يكن معبوداً. فهم يعبدون ما ينحتون بعد نحته على الوجه المخصوص, والله خلقهم وما يعبدون من أصنام منحوتة. يعزز هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يصنع كل صانع و صنعته ". ولا مجال للادعاء أن الصنعة هي فقط المادة الخام التي يستعملها الصانع.
فإن جادل أكثر؟
ائتي له بمثال نتيجة العمل فيه ليست مادة ولا أشكال.
أليس النظر والكلام والسب والبكاء والضحك والدعاء كلها أفعال من أفعال العباد؟ نعم
فكيف يفسر المعترض قوله تعالى (خلقكم وما تعملون) في حالة كان الفعل هو الضحك ؟
ليس له مفر إلا القبول أن الله خلق العبد وخلق ضحكه. وهذا موافق لقوله تعالى (وأنه هو أضحكَ وأبكى )
إذاً كيفما تفسر (ما) في الآية فالنتيجة واحدة. الله خلق نتيجة عمل العبد وباللزوم خلق فعله الذي قاد إلى النتيجة.
سابعاً
قال تعالى في سورة النجم {43} وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى
تفسير الالوسي : خلق فعلي الضحك والبكاء
البحر المديد : أي : خلق الضحك والبكاء ، أو : خلق الفرح والحزن
فتح القدير أي : هو الخالق لذلك والقاضي بسببه )
تفسير الخازن: أي هو القادر على إيجاد الضدين في محل واحد الضحك والبكاء ففيه دليل على أن جميع ما يعمله الإنسان فبقضاء الله وقدره وخلقه حتى الضحك والبكاء
فإن قيل (أَضْحَكَ وأبكى) تعنى خلق أسباب الضحك.
الجواب : هذا القول أيضاً لا ينقض الآخر بل يعززه.
فإذا ظلمك أخوك وأبكاك, فهو إذاً الفاعل. ومع ذلك نسب الله إليه الفعل الذي أبكاك (أي فعل ظلم الأخ لأخيه)
الآية صريحة فالله هو الذي أبكاك رغم أن العبد هو الذي ظلمك. وهنا أمامك خيارين لا ثالث لهما:
. إما أن يكون الله نسب إليه فعل الظلم -الذي أبكاك- بصفته الفاعل, وهذا محال لان الله ليس بظلام للعبيد.
. وإما أن تقر أن الله نسب إليه الفعل الذي أبكاك بصفته الخالق لذلك الفعل. وأما مقترف الفعل هو أخوك الذي ظلمك.
وهكذا إذا حاولت إنكار خلق الله لضحكك وبكائك, تضطر إلى قبول خلق الله لأفعال العباد التي أضحكتك أو أبكتك.
فأن قيل كيف يخلق الله ما حرمه؟
الجواب: هناك فرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية, وفرق بين خلق الحرام وبين اقترافه.
ثامناً
الدليل التالي من قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يصنع كل صانع و صنعته " 1637
قال الألباني في " السلسلة الصحيحة " 4 / 181 : أخرجه البخاري في " خلق أفعال العباد " ( ص 73 ) و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 357 و 358 ) و ابن منده في " التوحيد " ( ق 39 / 2 ) و ابن عدي ( 263 / 2 ) و الحاكم ( 1 / 31 ) و البيهقي في " الأسماء و الصفات " ( ص 26 و 388 ) و كذا المحاملي في " الأمالي " ( ج 6 رقم 13 ) و الديلمي ( 1 / 2 / 228 ) من طرق عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة مرفوعا به . و قال الحاكم : " صحيح على شرط مسلم " . و وافقه الذهبي ، و هو كما قالا . قلت : و لفظه عند ابن منده و الحاكم و الديلمي : " خالق " مكان " يصنع " . و زاد البخاري في آخر الحديث : " و تلا بعضهم عند ذلك : *( و الله خلقكم و ما تعملون )* " . و الظاهر أنها مدرجة ، و قال البخاري عقبه : " فأخبر أن الصناعات و أهلها مخلوقة " . ثم رواه من طريق الأعمش عن شقيق عن حذيفة رضي الله عنه : " إن الله خلق كل صانع و صنعته ، إن الله خلق صانع الخزم و صنعته " . ( الخزم ) بالتحريك شجر يتخذ من لحائه الحبال .
فأن قيل أن (صنعته) تعني نتيجة عمل الصانع.
هذا المعنى أيضا لا ينقض الأول بل يعزز, ويكفي إعادة نفس الاستدلال السابق.
فإذا كان الله خلق نتيجة عمل الصانع فباللزوم قد خلق المقدمة التي هي فعل الصانع.
و لو كان العبد هو خالق الفعل الذي به صنع صنعته, فما معنى أن الله صنع نفس نتيجة عمل الصانع؟
طبعاً كل الأجوبة المحتملة تقود الى تناقض مع الحديث أو تقودك إلى القول أن العبد خلق فعل الله الذي به صنع صنعة الصانع. وهذا كفر.
ولن يقول المسلم أن الله اقترف عمل الكافر. لذلك لم يبقى سوى القبول أن الله خلق فعل الصانع. (أو يرفض الحديث النبوي)
تاسعاً
الله هو خالق آياته والعبد لا يخلق آيات الله.
قال تعالى : الروم {23} وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
المنام والابتغاء هما من أفعال العبد ولا جدال أن فعل النوم لا يخلقه النائم الغافل عما حوله, ولا جدال أن الخالق لابد أن يكون واع.
أما الابتغاء من فضل الله والسعي في الأرض هو فعل من أفعال العبد القاصد لما يفعل. ومع ذلك قال الله أن فعل العبد آية من آيات الله.
فان قيل أن العبد خلق فعل ابتغائه وسعيه في الأرض وان الله لم يخلق ذلك الفعل هذا يعني أن العبد خلق آية من آيات الله و أن الله لم يخلق آياته.
عاشراً
ما الفرق بين أفعال الأنبياء الخارقة للنواميس وبين وأفعال العباد العادية؟
قال تعالى : طه 22 وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى
ولا داعي لذكر الآيات الأخرى مثل شق البحر حتى لا يتحجج المعترض بان الله خلق تلك الآية في الجماد ولم يخلق فعل موسى. لذلك نقتصر على الآية التي لم تنفصل عن جسد موسى عليه السلام. ولم يدعي مبتدع من قبل أن الأنبياء خلقت الآيات التي بعثهم الله بها. إذاً فعل موسى عليه السلام لم يخلقه هو بل هي آية من خلق الله. وكذلك فعل العبد حين يبتغي من فضله - ذلك الفعل هو آية لله لم يخلقها العبد. (وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ).
فما الفرق بين الآيات التي يجريها الله على يد أنبيائه وبين الآيات التي يجيرها على أيدينا؟ الفرق الوحيد هو خروج آيات الأنبياء عن نواميس الطبيعة. ولو كان هناك فرق في مسألة الخلق بين معجزات الأنبياء وبين وأفعالنا, لكان ذلك الفرق بسبب علاقة الأفعال بالنواميس وليس بسبب إرادة الفاعل. لأننا والأنبياء مريدين قاصين لما نفعل سواء كان الفعل إبتغاء العبد من فضل الله أو كان الفعل ضم موسى يده إلى جيبه لتخرج بيضاء.
إذاً إن قيل أن إرادة الفاعل هي دليل خلقه لأفعاله. بذلك يكون موسى خلق آية من آيات الله وان الله لم يخلقها.
وإن قيل أن موسى لم يخلق آيات الله لأنها خارقة للنواميس بذلك يعترف المعترض من حيث لا يدري أن إرادة الفاعل ليست دليلاً على خلقه لأفعاله.
وهكذا تنهار دعواهم من أساسها ومن جميع الوجوه لان الباطل حاله كثوب قصير إذا غطيت به طرف كشفت عن طرف آخر.
الدلائل العقلية على خلق الله لمشيئة وأفعال العباد.
حتى دون الاستعانة بالأدلة النقلية مع كثرتها, كل عاقل لو احترم عقله لما ادعى أبداً انه يخلق حريته وأفعاله.
اولاً: من صفات الخالق امتلاكه الإرادة التي بها يَخلق. فكيف قرر الإنسان أن يخلق حريته قبل أن يمتلك حرية القرار؟ هذا محال. بل منذ أن أدرك الإنسان وجوده أدرك انه مخير.
ثانياً: محال أن يستعير العبد طريقاً لا وجود له أو يميل إلى جهة لا وجود لها. بل يختار ما خلق الله له من طريق التقوى أو الفجور.
ثالثاً: القادر على خلق إرادته من العدم له القدرة أن يمتنع عن خلقها إن شاء وله القرة على إيجاد ما لا مثيل له إن شاء أو على الأقل إيجاد إرادة لا يحاسب عليها يوم القيامة كإرادة الحيوان مثلاً. وهذا مخالف للواقع.
رابعاً: إن قيل أن النفس تخلق إرادتها خلق تحويل وليس من عدم. بهذا نفترض أن لنا علم بحقيقة ظاهرة التخيير, وقد سبق ذكر أن العقل غير قادر على إدراك ظاهرة التخيير لان أدوات العقل هي أدوات جبر. وحتى لو جاريناهم في قولهم نقول: خلق التحويل يتم بين نفس الجنس. ومن يدعي انه خلق إرادته من نفس جنسها أي من إرادة أخرى. نعيد عليه نفس السؤال: ومن خلق الأخرى؟ وننساق إلى تسلسل لا نهائي.
فإن قيل: كيف تدعي أن الله خلق إرادتك وفي نفس الوقت تقول أنها نتيجة حريتك؟
الجواب: وجود علاقة سببية بين المخلوقات لا ينفي صفتهم كمخلوقات. فالنار يطفئها الماء ومع ذلك لو لم يخلق الله فعل الإطفاء لما تم. ولو لم يخلق الله فعل الضحك لما ضحكت. ولو لم يخلق الله الطاعة والمعصية لما أطعت ولا عصيت. والفرق بينك وبين الملاك أن الله خلق معصيتك ولم يخلقها للملاك. والفرق بينك وبين أهل الجنة أن الله نزع من أهل الجنة ما في قلبهم من غل (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) فلا مجال لهم ان يختاروا ما نزعه الله من حيز التخيير.
خامساً : من شروط الخلق العلم.
الخالق يعلم ما خلق بالضرورة. فهل يعلم الإنسان حقيقة أفعاله وكل تعقيداتها العصبية البيولوجية والميكانيكية والنفسية... ؟ بالطبع لا . إذاً لن تجد عاقل يدعي أنه خلق ما يجهل, وذلك لأن الخلق هو الإيجاد على سبيل القصد ، والقصد لا بد أن يكون مسبوقاً بالعلم المطلق لجوهر وصفات المقصود خلقه, وهذا لن يتوفر في العبد أبداً (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) والجاهل بالشيء يستحيل أن يكون قاصداً إلى ما يجهل, بل هو قاصد للمعنى لا أكثر. فإن أراد العبد رمي الرمح فهو يعلم بمعنى ما يريد فقط, لا تفاصيل الفعل التي إن علمها لما اخطأ الهدف قط. فكيف يجهل الخالق تفاصيل ما خلق؟
سادساً : من شروط الخلق القدرة.
النائم والمستيقظ يصدر منهما نفس الفعل. فمن خلق فعل النائم الغافل عما يفعل جسده؟ سيقولون الله. وما الذي تغير عند المستيقظ؟ الإرادة فقط. وهل الإرادة كافية لخلق العمل؟ بالطبع لا والدليل أن المشلول - وإن توفرت له الإرادة - يعجز على تحريك يده. والفرق بينه وبين السليم أن الله خلق للسليم أسباب ونتائج الحركة. ولو كانت النية كافية, لخلق المشلول حركته من عدم و لما كان هناك في الوجود مُريد ٌعاجز.
سابعاً: لا يوجد فاعل يخلق أفعاله سواء كان الفاعل رباً او عبداً.
لو افترضنا أن الفاعل يخلق أفعاله هذا يعني أن كل فعل هو مخلوق.
وما معنى انه مخلوق؟ معناه أن الفعل سبقه فعل آخر (أي فعل الخلق).
وهذا الأخير (أي الخلق) لانه أيضاً فعل لابد أن يكون مخلوقاً.
وهكذا كل فعل خلق لابد أن يسبقه فعل خلق آخر... إلى ما لا نهاية
إذاً القول أن الفاعل يخلق أفعاله يقودك إلى سفسطة وتناقض.
والحق أن الله لا يخلق فعاله لأنها ليست مخلوقة. والعبد لا يخلق أفعاله لأنها مخلوقة لله.
__________________
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
رد باقتباس
#2
قديم 08-07-2006
عبد الواحد عبد الواحد غير متواجد حالياً
محاور
المذهب أو العقيدة: مسلم
تاريخ التسجيل: May 2005
المشاركات: 2,024
افتراضي
ملخص لما سبق
حريتك وما تختاره من تقوى وفجور كلها مخلوقه لله تعالى.
. فمن يدعي انه مسير بدعوى خلق الله لإرادة العبد, نذكره أنه يشهد على نفسه انه حر مخير وانه لم يخلق حريته لان قبل وجودها لم يكن يملك قرار خلقها.
. وبعد وجودها اختارت النفس ما خلق الله من تقوى وفجور لان اختيار العبد لا يكون إلا بين ما هو موجود. ويستحيل على النفس أن تميل إلى جهة لا وجود لها.
. ومن يحاول الخوض في ظاهرة التخيير نقول له: التحليل العقلي يُبنى على قواعد جبرية وهي لا تطال سوى الجواهر الخاضعة لنظام جبري. ومحاولة فهم ظاهرة التخيير بأدوات العقل لا يتم دون إدخال التخيير في عالم الجبر وبذلك تفترض في المقدمة ما تريد الوصول إليه في النتيجة وهذه سفسطة. والحل الثاني أن تترك أدوات عقلك وتخرج عن حدود الجبر ولن يبقى لك حينها سوى الظن.
الأنعام {148} سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ
ثانياً كيفما فسرت قوله تعلى (فألهمها فجورها وتقواها) فالنتيجة واحدة: الله خلق فجور وتقوى النفس. ويعزز هذا المعنى دعاء النبي صلى الله علي وسلم ( اللهم آت نفسي تقواها). وطبعاً الله لا يُؤتي ولا يُلهم العدم. والضمير يعود للنفس ( فجورها وتقواها). وليس من العدل نسبهما للنفس لمجرد علم العبد بهما. وهذا لا يتنافى مع تخيير النفس إذ قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها * وَقَدْ خَابَ مَن دساها) وهذا دليل نقلي انه لا تناقض بين خلق الإرادة وبين التخيير, أما الدليل العقلي أن الحر لا يختار العدم بل يختار ما خلق الله.
أما بقية الآيات والأحاديث السابقة كلها تدل أن الله خلق أفعال العباد. والمعترض لا يخرج قوله عن أحد تأويلين : (الله خلقنا وأسباب أفعالنا) أو (الله خلقنا ونتائج أفعالنا)
1- أما القول الأول يكفي الإتيان بمثل الأخ الذي ظلم أخاه فأبكاه. والله يقول انه هو الذي أبكى العبد { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى }. فان قيل إن الله لم يخلق بكاء العبد بل خلق سببه , بذلك يقر المعترض من حيث لا يدري أن الله خلق فعل الظلم الذي اقترفه الأخ في حق أخيه. وهكذا إذا حاول المعترض الفرار من فعل العبد الباكي سقط في فعل العبد المُبكي.
2- أما القول الثاني (الله خلقنا ونتائج أفعالنا) فله حالتين:
. في حالة الأفعال التي لها نتائج ملموسة. نقول نعم الله خلق نتائج أفعالنا, وهذا دليل أن خالق النتيجة هو خالق المقدمة بالضرورة. إذ كيف يدعي عاقل أن الله خلق الصور ولم يخلق فعل العبد الذي رسم الصور؟
. أما في حالة الأفعال التي نتائجها هي ذات الأفعال: كالخشية والفسوق والضحك والبكاء والحزن والحسد والحب, المعترض يجد نفسه في حرج اكبر في تفسير قوله (خلقكم وما تعملون).
ومن الأدلة قوله تعالى في سورة في الفرقان {2} : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } وهذا يشمل الجواهر (كالنفس) وصفاتها وآحادها من كفر وإيمان. لان التقدير لا يكون دون التصرف في خصائص الجوهر. والمتصرف في الشيء وجب أن يكون عليماً به.
وسؤال آخر لن تجد له جواب: لو كان العبد يخلق سعيه لما سمى الله سعي الإنسان آية من آياته, بذلك يكون العبد هو خالق لآيات الله.
قال تعالى (وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الله هو خالق آياته ومن آياته ابتغاء العبد من فضله. والابتغاء يجمع بين القصد وفعل وهذا خير دليل على خلق الله لإرادة وأفعال العباد.
ولو سألتهم ما هي يا ترى حجتهم على خلق العبد لأفعاله؟
إن قالوا العلم: نقول لهم الخالق لابد أن يكون عالم محيطاً بتفاصيل ما يخلق وليس قاصداً للمعنى فقط. وهذه صفة يختص بها اللهُ دون غيره.
وإن قالوا النية والقصد: نقول أن موسى عليه السلام كان قاصداً لفعله حين ضم يده. إذاً القصد ليس شرطاً كافياً للخلق لان موسى لم يخلق الآيات التي أجراها الله على يده.
وأخيراً وهذا في رأيي أقوى دليل والله اعلم. الله علمنا قاعدة عظيمة تنجينا إن شاء الله من الشرك.
متى تشابه الخلق علينا فهذا دليل شركنا. قال تعالى (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ )
فان جعلت لله شركاء يخلقون كخلقه إذاً النتيجة الحتمية أن يتشابه الخلق عليك. والعكس بالعكس إن تشابه الخلق عليك فاعلم انك مشرك.
ولمن يدعي انه يخلق أفعاله لو سألناه من خلق حركة يد فلان يا فلان؟ سيقول:
ربما خلقها العبد ولم يخلها الله إذا كان العبد قاصداً لحركة يده
ربما خلقها الله ولم يخلق العبد إذا كان غافلا أو نائماً.
تشابه الخلق عليك أليس كذلك؟ حاك كحال من قال الله فيهم : أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ؟
إذاً تعوذ بالله من الشرك وأكمل الآية: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
__________________
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
رد باقتباس
التخيير هي ظاهرة - وإن كنا نجهل كنهها - إلا أننا نقر بوجودها وخير الأدلة هي شهادة المرء على نفسه. وهي شهادة مزدوجة:
1- يشهد على نفسه انه حر مُخير في واقعه اليومي, والمفارقة أن الذي يحاول إثبات انه مسير- يختار متى وأين وكيف يكتب مقالته.
2- ثانياً يشهد على نفسه أن حريته حادثة ومخلوقة. ومحال أن تخلق النفس حريتها قبل أن تمتلك حرية القرار.
قال تعالى في الأنعام {148} سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ
إذاً كل من يقول ( لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا) يدعي انه مسير بحجة خلق الله لحريته أو بحجة القدر (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا) ولو كان لهم علم لأخبرونا على الأقل بحقيقة ظاهرة التخيير. وهذا محال لان التحليل العقلي مُقتصر فقط على قواعد جبرية فهي لا تطال سوى الجواهر الخاضعة لنظام جبري. وسمي علم الجبر جبراً لأنه خال من الظن ولأن به نتتبع حتمية تسلسل الاستدلال إلى أن نصل إلى النتيجة الحتمية - وكل ذلك دون استشارة الجوهر محل الدراسة - وهذا يعني انك وصلت إلى نتيجة حتمية متعلقة بأفعال جوهر لم تُخيره. فان حاولت استعمال علم الكلام مثلاً لتحليل كيفية رجحان النفس إلى ما تختار, بذلك تنفي ضمناً حرية النفس لأنك أدخلتها في نظام جبري ليس فيه تخيير. وهذا هو الخطأ الفادح الذي يسقط فيه الكثير لأن العقل متى تخطى حدود الجبر أصبح كلامه ضناً ( إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ). إذاً الإنسان بعقله وإدراكه يمكنه فقط إدراك وجود ظاهرة التخيير لكنه عاجز عن إدراك حقيقتها وكيفية عملها, فوجد البعض حلاً سفسطائيا: أدخلوا ظاهرة التخيير في عالم الجبر ثم صاحوا قائلين انظروا : (التخيير أصبح جبراً ولذلك فالإنسان مسير).
وأشهر سفسطاتهم قولهم : (إذا اختارت النفس أمراً هذا لأنها تميل إليه. فهل اختارت ميلانها ورجحانها هذا؟ وان كانت قد اختارته فهل سبقه رجحان آخر, وهذا الأخير هل سبقه آخر ... وهكذا إلى ما لانهاية؟)
ثم يستنتجون ( إن اختيار النفس للكفر والإيمان يتوقف على أصل طبيعتها التي خلقها الله, وهذا إجبار. )
أين الخطأ في هذا التحليل؟ هل خالف ظاهرياً القواعد التي يستعملها العقل؟ لا. إذاً أين الخطأ؟ الخطأ ثلاثي:
1- كذب على نفسه إذ ادعى ما يناقض حقيقته كعاقل حر.
2- ثم افترض أن الله غير قادر على خلق قوة حرة.
3- ثم شطح بعقله وكما سبق ذكره العقل مجاله التحليل الجبري وهو حبيسه لأنه لا توجد قاعدة عقلية تنقلك من مقدمة إلى نتيجة حتمية دون استعمال أدوات جبرية. وكل من يحاول تحليل ظاهرة التخيير ليس أمامه سوى طريقين: إما أن يخرج بعقله عن حدوده باستغنائه عن التحليل الجبري, ومتى فعل ذلك لا يؤخذ بكلامه (إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ). أو يُدخل ظاهرة التخيير في عالم الجبر وبالتالي - من حيث لا يدري - يفترض في المقدمة ما يحاول إثباته في النتيجة بأن النفس مُسيرة. وهذا خطأ منطقي وهنا أيضاً لا يؤخذ بكلامه.
ثم إن قولهم (اختيار النفس يتوقف على أصل طبيعتها التي خلقها الله وهذا إجبار.)
هذا القول في مغالطة أخرى, فالأصل في طبيعة النفس أنها مخيرة وليس الأصل فيها أنها تميل إلى احد الخيارين. بل ميلان النفس إلى جهة ما يأتي بعد التخيير وليس قبله إذ أن الترتيب السّبـبي هنا مهم للغاية:
1- فان قلت ان الله خلق طبيعة الكفر في الكافر قبل أن يخلق فيه الطبيعة القادر على الاختيار, بذلك تناقض نسفك إذ لا مفهوم للتخيير في هذه الحالة, وهذا مناقض لما تشهد به على نفسك.
2- وإن قلت أن الله خلق طبيعة التخيير في النفس ثم خلق لها طبيعة الكفر او الإيمان التي اختارتها , بذلك لن يكون هناك إجبار لان الأصل هو التخيير.
وهذه الشبهة سببها الخلط بين الطبيعة الملازمة للنفس من جهة وبين الطبيعة المُختارة من قبل النفس. والمشكلة ان الكثير يطلق على الظاهرتين نفس الاسم : (( الإرادة )). فما هو تعريفكم للإرادة؟ هل هي الطبيعة المخيرة للنفس قبل التخيير أم هي الطبيعة التي اختارتها النفس من كفر وإيمان؟ الفرق شاسع بينهما في طرق الاستدلال لان الفرق بين التعريفين هو الفرق بين الملازم والطارئ والفرق بين المقدمة والنتيجة :
1- المقدمة هي حرية التخيير في النفس وهي طبيعة ملازمة لجوهرها لا تنفك عنه وليس للعبد القدرة على تغيير طبيعته كمخير فيصبح مسير.
2- لكن في المقابل يستطيع العبد تغيير طبيعته كمؤمن أو ككافر, فيرتد المؤمن ويؤمن الكافر.
إذاً الصفة المتغيرة يستحيل أن تسبق الصفة الملازمة للجوهر (لان سبق المتغير للملازم يتنافى مع مفهوم الملازمة) , وهذا دليل قطعي أن طبيعة التخيير في النفس هي الأصل.
إن قيل كيف يُحاسَب العبد على أعمال جسدية خلقها الله.
الجواب: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش ورب قائم حظه من قيامه السهر. وفي المقابل قال من سأل الله الشهادة بصدق بلغه الله منازل الشهداء وإن مات على فراشه. والأدلة كثير تثبت أن الإنسان لا يحاسب على فعلٍ خالف نيته و يمكن أن يجازي العبدَ على نية لم تكتمل كفعل. إذاً خلق أفعال العباد لا يتنافى مع عدل الله لأنه سبحانه يحاسب العبد على نيته التي اختارها.
فان قيل كيف يحاسب الله العبد إذا كان الله هو خالق نيته وخالق التقوى والفجور؟
الجواب: لن تجد عاقل يدعي انه مُجبر على السير في طريق بحجة أن غيره أنشأ ذلك الطريق. وكذلك لن تجد عاقل يدعي انه مسير بحجة اختياره بين مخلوقين ( الفجور والتقوى ).
ثانياً الفجور أو التقوى هما نتيجتان وليسا مقدمة, وسبق إثبات أن طبيعة التخيير في النفس هي الأصل, لذلك من يسأل عن استحقاق العبد لأفعاله عليه أن يقرن ذلك بالأصل.
إذاً كل صادق يقر بشهادته على نفسه أن الله قادر على خلق قوة حرة مخيرة. وكما أن خلق الله لحريتك لا ينفي تخييرها, كذلك خلق الله للنوايا وللتقوى والفجور لا ينفي استحقاقك لما تختار. ومن يقول (لو شاء الله ما أشركت ) يشهد على نفسه انه كاذب. وتحداهم الله بان يخرجوا علمهم. (قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ). ولا علم لهم بحقيقة النفس فكيف يخوضون في أفعالها؟
فإن قيل: إذاً ظاهرة التخيير مخالفة للحق لأنها خارجة عن العقل.
الجواب: هذه مغالطة أخرى لان ما يدركه العقل ليس هو كل الحق. وظاهرة التخيير ليست خارجة عن الحق بل هي خارجة عن إدراك العقل وأدواته الجبرية. وهذه الأدوات المتواضعة يستحيل أن تكون مفاتيح للغيب.
الدلائل النقلية على خلق الله لمشيئة وأفعال العباد.
السؤال عن أفعال العباد هو سؤال عن ثلاثة أمور كلها مخلوقة:
1- حرية النفس قبل اختيارها لما تريد وهي الطبيعة المطبوعة في النفس.
2- نتيجة تخييرها من تقوى أو فجور وهذه طبيعة مُختارة من قِبل النفس.
3- أفعال الجسد.
أولاً
قال تعالى في سورة فاطر {3} يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ
ومن يدعي انه يخلق أفعاله نعيد عليه السؤال نفسه: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ؟
والاستفهام هنا إنكاري مفاده أنْ لا خالق غير الله. فكيف تجرؤ وتدعي انك خالق مع الله؟
ثانياً
فان قيل أن أفعال العباد هي خلق تحويل وأن الخلق في الآية السابقة هو خلق من عدم.
الجواب: خلق التحويل معناه الصنع كأن تخلق من الخشب طاولة لكن من خلق حركاتك وسكناتك التي قادت إلى النتيجة التي صنعتها؟
الله سبحانه هو خالقها, ومن يقول غير ذلك يقع في الشرك. الدليل:
قال تعالى في سورة الرعد {16} أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
ربما يقول البعض أين الدليل في الآية؟ الشاهد في الآية أن الله يتحدى الكفار بان يأتوا بما تشابه عليهم من الخلق كدليل على شركهم. ولانه لا يوجد شريك لله في الخلق فيستحيل أن يتشابه علينا الخلق. لكن من يدعي انه خلق أفعاله يدعي انه يخلق كخلق الله.
كيف؟
لو قلت انك تخلق حركة يدك مثلاً. نفس الفعل يمكن أن يصدر عنك وأنت نائم, فمن خلق حركة يدك وأنت غافل عما حولك؟ ستقول الله.
إذاً أنت تدعي انك تخلق كخلق الله ومن لا يدري انك نائم سيتشابه عليه الخلق فلا يعرف هل حركة يدك أهي من خلقك أم من خلق الله.
وحالك كحال من : جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ
والمشكلة هنا انك لم تشرك مع الله صنماً بل أشركت نفسك مع الله فادعيت أنك تخلق كخلقه.
فان قيل : (بنفس المنطق اذا رأيت خشبة سيتشابه علي الأمر فلا اعلم هل خلقها الله على هيئتها أم خلقها عبد خلق تحويل)
هذه مغالطة رخيصة. فلن يتشابه على المسلم الأمر لأنه يعلم أن الله خلق كل شيء جوهراً وشكلاً وخلق الفعل المسبب له سواء كان الفعل نتج عن موج بحر أم حركة يد إنسان. وبالتالي لن نجعل لله شركاء يخلقوا كخلقه حتى يتشابه الخلق علينا. كيف سيتشابه الأمر علينا ونحن نؤمن أن في جميع الأحوال الله خلق السبب بجوهره وأفعاله وخلق النتيجة بجوهرها وخصائصها التي نتجت عن الفعل؟ وبالطبع من خلق اللهُ أفعاله ليس شريكاً لله في الخلق.
أما من يتشابه الخلق عليه فهو من لا يعلم أفعال العبد أهي عن قصد منه أم عفوية؟ أهي من خلق العبد ولم يخلقها الله أم هي من خلق الله ولم يخلقها العبد؟
ثالثاً
كل ما سوى الله وصفاته وآحادها هو مخلوق. قال تعالى (وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا)
ابن كثير : أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب، وهو خالق كل شيء وربه ومليكه وإلهه، وكل شيء تحت قهره [وتسخيره] (2) ، وتدبيره وتقديره (3)
البحر المديد: { فقدَّره } أي : فهيأه لِمَا أراد به من الخصائص والأفعال اللائقة به.
الوجيز للواحدي : { وخلق كلَّ شيء } ممَّا يُطلق في صفة المخلوق { فقدَّره تقديراً } جعله على مقدارٍ
{ فقدَّرهُ } أى فخلقه على كيفية مخصوصة ، وخصائص وأفعال لائقة به
فإن قيل أن الحرية والإرادة وحركات العباد هي صفات وليست جواهر والآية تتحدث عن الجواهر.
الجواب: قال تعالى (وخلق كل شيء فقدره تقديراً ) وهذا دليل أن الله خلق كل شيء بجوهره وصفاته وخصائصه, لأن التقدير لا يكون دون التصرف في خصائص الجوهر عاقل كان أم غير عاقل. فكما إن الله قدّر صفات الجمادات التي لم تخلق خصائصها, كذلك قدّر الله صفات الأنفس من إيمان وكفر. وكما أن الجمادات لم تخلق حركاتها وأفعالها كذلك العباد لم تخلق أفعال أجسادها. فالآية شاملة لم تفرق بين الجواهر المخيرة كالأنفس وبين الجواهر الغير عاقلة كالجمادات.
فإن قيل أين دليلكم النصي أن نتائج التخيير - من إرادة الفجور والتقوى - هي من خلق الله.
قال تعالى : الشمس {7} وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {8} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا
والشاهد هنا أن الفجور والتقوى هما إرادتين ألهمهما اللهُ للنفس. والله لا يلهم العدم بل هو ألهام لما خلقه الله واختارته النفس.
رابعاً
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا تلا هذه الآية { ونفس وما سوّاها فألهمها فجورها وتقواها } وقف ثم قال : اللهم آت نفسي تقواها أنت وليها ومولاها وخير من زكاها.
وفي صحيح مسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر اللهم آت نفسي تقواها ... (الى آخر الحديث).
فإن قيل (فألهمها فجورها وتقواها) تعني أن الله بيّن للنفس الفجور والتقوى.
نعم الآية تشمل هذا المعنى لان الله بيّن للنفس ما خلقه سبحانه من فجور وتقوى ثم اختارته النفس. والآية لا تتحدث عن العلم فقط بل عما وقر في القبل, وخير دليل على ذلك قوله تعالى (فألهمها فجورها وتقواها). فالفجور فجورها والتقوى تقواها, وهي محاسبة عليهما ولا يعقل أن ينسب الفجور في الآية إلى النفس بمجرد علمها به. إذاً الآية تتحدث عما في نفس العبد -من تقوى و فجور- وليس فقط العلم بهما. وهذا هو المعنى الظاهر المباشر لان الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً.
ملخص التفاسير أن الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً وهذا يبين أن الله عز وجل خلق في المؤمن التقوى وفي الكافر الفجور بعد التخيير الذي يسبقه إعقال وإفهام النفس لما تختار.
والمعنى المحصل فيه وجهان :
. الأول : أن إلهام الفجور والتقوى ، إفهامها وإعقالهما ، وأن أحدهما حسن والآخر قبيح وتمكينه من اختيار ما شاء منهما ، وهو كقوله : { وهديناه النجدين } قالوا : ويدل عليه قوله بعد ذلك : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها * وَقَدْ خَابَ مَن دساها } [ الشمس : 10 9 ] وهذا الوجه مروى عن ابن عباس وعن جمع من أكابر المفسرين
. والوجه الثاني : أنه تعالى ألهم المؤمن المتقي تقواه وألهم الكافر فجوره ، قال سعيد بن جبير : ألزمها فجورها وتقواها ، وقال ابن زيد : جعل فيها ذلك بتوفيقه إياها للتقوى وخذلانه إياها بالفجور ، واختار الزجاج والواحدي ذلك ، قال الواحدي : التعليم والتعريف والتبيين غير والإلهام غير ، فإن الإلهام هو أن يوقع الله في قلب العبد شيئاً ، وإذا أوقع في قلبه شيئاً فقد ألزمه إياه . وأصل معنى الإلهام من قولهم : لهم الشيء ، والتهمه إذا ابتلعه ، وألهمته ذلك الشيء أي أبلغته ، وهذا هو الأصل ثم استعمل ذلك فيما يقذفه الله تعالى في قلب العبد ، لأنه كالإبلاغ ، فالتفسير الموافق لهذا الأصل قول ابن زيد ، وهو صريح في أن الله تعالى خلق في المؤمن تقواه ، وفي الكافر فجوره (انتهى)
ولا يوجد تناقض بين القولين فالقول الثاني يحوي الأول لان النفس تدرك ما اختارت من إرادة. ومن ينكر المعنى الثاني - وهو المعنى الظاهر- نقول له ليس من العدل أ ن يُنسب الفجور و التقوى للنفس في الآية لمجرد علمها بهما. ولن يدعي احد ان النبي صلى الله عليه وسلم علمنا أن ندعوا الله أن يُؤتينا العدم؟ بل علما أن ندعوا الله أن يؤتينا ما خلق من تقوى>
فإن قيل أين دليلكم النقلي انه لا تناقض بين حرية الإنسان وبين خلق الله للإرادتين؟
الجواب في نفس السورة:
الشمس {7} وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا {8} فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا {9} قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا {10} وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا
في الآيتين 9 و 10 النفس هي التي تختار تزكيتها من عدمه. وهذا دليل نصي أن خلق الله للتقوى والفجور لا يتنافى مع تخيير النفس واستحقاقها لما اختارت.
وهذا الأسلوب نجده في عدة مواقع في القرآن بان يجمع الله بين قولين - البعض يفرق بينهما باجتهاده الخاطئ. فالبعض مثلاً يستنتج خطأ أن الله ليس سميع وبصير لأنه ليس مثلنا نسمع ونرى, لكنه سبحانه جمع بين القولين (لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ) (وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) حتى يزول الفهم الخاطئ للبعض. وكذلك جمع الله في أربع آيات قصار بين إلهام الإرادتين وبين المشيئة الحرة للنفس, حتى لا نستنتج خطأ ما يقودنا إلى قول القدرية من جهة أو الإشراك بأن نقول أن الإنسان هو خالق مع الله.
خامساً
قال تعالى في سورة الملك {13} وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ {14} أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ
ملخص التفاسير: الآية تحتمل ثلاثة أوجه:
1- أن يكون من خلق في محل النصب ويكون المرفوع مضمراً ، والتقدير ألا يعلم الله من خلق
2- أن يكون { مَنْ خَلَقَ } في محل الرفع والمنصوب يكون مضمراً والتقدير ألا يعلم من خلق مخلوقه
3- أن تكون { مَنْ } في تقدير ما كما تكون ما في تقدير من في قوله : { والسماء وَمَا بناها } وعلى هذا التقدير تكون ما إشارة إلى ما يسره الخلق وما يجهرونه ويضمرونه في صدورهم وهذا يقتضي أن تكون أفعال العباد مخلوقة لله تعالى
انه تعالى لما ذكر أنه عالم بالسر والجهر وبكل ما في الصدور قال بعده : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } وهذا الكلام إنما يتصل بما قبله لو كان تعالى خالقاً لكل ما يفعلونه في السر والجهر ، وفي الصدور والقلوب ، فإنه لو لم يكن خالقاً لها لم يكن قوله : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } مقتضياً كونه تعالى عالماً بتلك الأشياء ، وإذا كان كذلك ثبت أنه تعالى هو الخالق لجميع ما يفعلونه في السر والجهر من أفعال الجوارح ومن أفعال القلوب (انتهى).
فأن قيل معنى الآية أن الله عليم بذات الصدور لأنه خالق للعبد وليس لأنه خالق لما في صدره.
هذا لوي للنص . الله علمنا في الآية أن الخالق لابد أن يعلم خلقه. وهذه القاعدة لم يذكرها الله عبثاً بل هي تفيد أن علم الله بالشيء المذكور في الآية يعني انه مخلوق لله.
وما هو الشيء الذي اخبرنا الله انه عليم به؟ (إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) وذات الصدور هي كل الخواطر والنوايا وكل ما حواه الصدر.
ولان الله يعلم كل ذلك فهو بالضرورة خالقها وذلك تطبيقاً للقاعدة التي علمنا الله في نفس السياق.
سادساً
قال سبحانه : (والله خلقكم وما تعملون ) .
إذاً العباد وأعمالهم كلها مخلوقة لله عز وجل. والمعنى المباشر أن الله خلقنا وأعملنا, حركاتنا وسكناتنا.
فإن قيل (خلقكم وما تعملون) تعني (خلكم والذي تعملون).
الجواب: وهذا القول لا ينقض الآخر بل يعززه.
فما الذي عمله الكفار؟ الأصنام.
وما هي الأصنام؟ نتيجة لمقدمة
وما هي المقدم؟ أعمال العباد وأفعالهم.
فإذا كان الله خلق النتيجة (أي الأصنام) فباللزوم قد خلق المقدمة أي أفعال العباد.
وأمام المعترض أربعة احتمالات:
1- الله خلق نتيجة أفعال العباد من عدم. بذلك تنفي أفعال العبد جملة وتفصيلاً
2- الله خلق نتيجة أفعال العباد كما خلق مثلاً آدم بيديه من تراب.
في هذه الحالة لن يجرؤ احد ويقول أن العبد هو خالق الفعل الذي أدى إلى النتيجة, لان الفعل هنا هو فعل ذات الله وهذا يعني أن العبد خلق فعل الله وهذا كفر.
3- العبد خلق الفعل الذي به صنع الأصنام والله لم يخلق نتيجة عمل البعد. وهذا مخالف لقوله تعلى (خلقكم وما تعملون).
4- الاحتمال الوحيد المتبقي أن الله خلق النتيجة بخلقه لأفعال العباد.
ومثال على ذلك لمن لم يستوعب بعد. الله خلق المصور وما يصور من أصنام. ولا يجادل في ذلك من يؤمن بقوله تعالى (خلقكم وما تعملون)
إذاً الله خلق تلك الصور التي صورها العبد كما تخبرنا الآية. وأنت تقول أن العبد أيضاً خلق تلك الصور وخلق أفعاله.
وكما سبق أمام المعترض أربعة احتمالات أولها محال والثاني كفر والثالث مخالف للقرآن والرابع هو: خلق الله لأفعال العباد.
فإن قيل: الآية لا تنعي خلق أشكال الأصنام بل خلق الحجارة والأخشاب التي منها خُلقت الأصنام.
هذا القول لا علاقة له بالآية لا معناً ولا لغة.
(وما تعملون) تعني أفعالهم أو تعني الذي عملوه من أصنام. والأصنام ليست حجارة فقط بل هي أيضاً أشكال و صور وآثار لفعل. وصانع الشكل هو بالضرورة خالق للحدث لذي تسبب في تشكيل ذلك الشكل. ودليل آخر في الآية التي تسبقها: (أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ) والخشب والحجر قبل النحت والتصوير لم يكن معبوداً. فهم يعبدون ما ينحتون بعد نحته على الوجه المخصوص, والله خلقهم وما يعبدون من أصنام منحوتة. يعزز هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يصنع كل صانع و صنعته ". ولا مجال للادعاء أن الصنعة هي فقط المادة الخام التي يستعملها الصانع.
فإن جادل أكثر؟
ائتي له بمثال نتيجة العمل فيه ليست مادة ولا أشكال.
أليس النظر والكلام والسب والبكاء والضحك والدعاء كلها أفعال من أفعال العباد؟ نعم
فكيف يفسر المعترض قوله تعالى (خلقكم وما تعملون) في حالة كان الفعل هو الضحك ؟
ليس له مفر إلا القبول أن الله خلق العبد وخلق ضحكه. وهذا موافق لقوله تعالى (وأنه هو أضحكَ وأبكى )
إذاً كيفما تفسر (ما) في الآية فالنتيجة واحدة. الله خلق نتيجة عمل العبد وباللزوم خلق فعله الذي قاد إلى النتيجة.
سابعاً
قال تعالى في سورة النجم {43} وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى
تفسير الالوسي : خلق فعلي الضحك والبكاء
البحر المديد : أي : خلق الضحك والبكاء ، أو : خلق الفرح والحزن
فتح القدير أي : هو الخالق لذلك والقاضي بسببه )
تفسير الخازن: أي هو القادر على إيجاد الضدين في محل واحد الضحك والبكاء ففيه دليل على أن جميع ما يعمله الإنسان فبقضاء الله وقدره وخلقه حتى الضحك والبكاء
فإن قيل (أَضْحَكَ وأبكى) تعنى خلق أسباب الضحك.
الجواب : هذا القول أيضاً لا ينقض الآخر بل يعززه.
فإذا ظلمك أخوك وأبكاك, فهو إذاً الفاعل. ومع ذلك نسب الله إليه الفعل الذي أبكاك (أي فعل ظلم الأخ لأخيه)
الآية صريحة فالله هو الذي أبكاك رغم أن العبد هو الذي ظلمك. وهنا أمامك خيارين لا ثالث لهما:
. إما أن يكون الله نسب إليه فعل الظلم -الذي أبكاك- بصفته الفاعل, وهذا محال لان الله ليس بظلام للعبيد.
. وإما أن تقر أن الله نسب إليه الفعل الذي أبكاك بصفته الخالق لذلك الفعل. وأما مقترف الفعل هو أخوك الذي ظلمك.
وهكذا إذا حاولت إنكار خلق الله لضحكك وبكائك, تضطر إلى قبول خلق الله لأفعال العباد التي أضحكتك أو أبكتك.
فأن قيل كيف يخلق الله ما حرمه؟
الجواب: هناك فرق بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية, وفرق بين خلق الحرام وبين اقترافه.
ثامناً
الدليل التالي من قول النبي صلى الله عليه وسلم " إن الله يصنع كل صانع و صنعته " 1637
قال الألباني في " السلسلة الصحيحة " 4 / 181 : أخرجه البخاري في " خلق أفعال العباد " ( ص 73 ) و ابن أبي عاصم في " السنة " ( 357 و 358 ) و ابن منده في " التوحيد " ( ق 39 / 2 ) و ابن عدي ( 263 / 2 ) و الحاكم ( 1 / 31 ) و البيهقي في " الأسماء و الصفات " ( ص 26 و 388 ) و كذا المحاملي في " الأمالي " ( ج 6 رقم 13 ) و الديلمي ( 1 / 2 / 228 ) من طرق عن أبي مالك الأشجعي عن ربعي بن حراش عن حذيفة مرفوعا به . و قال الحاكم : " صحيح على شرط مسلم " . و وافقه الذهبي ، و هو كما قالا . قلت : و لفظه عند ابن منده و الحاكم و الديلمي : " خالق " مكان " يصنع " . و زاد البخاري في آخر الحديث : " و تلا بعضهم عند ذلك : *( و الله خلقكم و ما تعملون )* " . و الظاهر أنها مدرجة ، و قال البخاري عقبه : " فأخبر أن الصناعات و أهلها مخلوقة " . ثم رواه من طريق الأعمش عن شقيق عن حذيفة رضي الله عنه : " إن الله خلق كل صانع و صنعته ، إن الله خلق صانع الخزم و صنعته " . ( الخزم ) بالتحريك شجر يتخذ من لحائه الحبال .
فأن قيل أن (صنعته) تعني نتيجة عمل الصانع.
هذا المعنى أيضا لا ينقض الأول بل يعزز, ويكفي إعادة نفس الاستدلال السابق.
فإذا كان الله خلق نتيجة عمل الصانع فباللزوم قد خلق المقدمة التي هي فعل الصانع.
و لو كان العبد هو خالق الفعل الذي به صنع صنعته, فما معنى أن الله صنع نفس نتيجة عمل الصانع؟
طبعاً كل الأجوبة المحتملة تقود الى تناقض مع الحديث أو تقودك إلى القول أن العبد خلق فعل الله الذي به صنع صنعة الصانع. وهذا كفر.
ولن يقول المسلم أن الله اقترف عمل الكافر. لذلك لم يبقى سوى القبول أن الله خلق فعل الصانع. (أو يرفض الحديث النبوي)
تاسعاً
الله هو خالق آياته والعبد لا يخلق آيات الله.
قال تعالى : الروم {23} وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ
المنام والابتغاء هما من أفعال العبد ولا جدال أن فعل النوم لا يخلقه النائم الغافل عما حوله, ولا جدال أن الخالق لابد أن يكون واع.
أما الابتغاء من فضل الله والسعي في الأرض هو فعل من أفعال العبد القاصد لما يفعل. ومع ذلك قال الله أن فعل العبد آية من آيات الله.
فان قيل أن العبد خلق فعل ابتغائه وسعيه في الأرض وان الله لم يخلق ذلك الفعل هذا يعني أن العبد خلق آية من آيات الله و أن الله لم يخلق آياته.
عاشراً
ما الفرق بين أفعال الأنبياء الخارقة للنواميس وبين وأفعال العباد العادية؟
قال تعالى : طه 22 وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آَيَةً أُخْرَى
ولا داعي لذكر الآيات الأخرى مثل شق البحر حتى لا يتحجج المعترض بان الله خلق تلك الآية في الجماد ولم يخلق فعل موسى. لذلك نقتصر على الآية التي لم تنفصل عن جسد موسى عليه السلام. ولم يدعي مبتدع من قبل أن الأنبياء خلقت الآيات التي بعثهم الله بها. إذاً فعل موسى عليه السلام لم يخلقه هو بل هي آية من خلق الله. وكذلك فعل العبد حين يبتغي من فضله - ذلك الفعل هو آية لله لم يخلقها العبد. (وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ).
فما الفرق بين الآيات التي يجريها الله على يد أنبيائه وبين الآيات التي يجيرها على أيدينا؟ الفرق الوحيد هو خروج آيات الأنبياء عن نواميس الطبيعة. ولو كان هناك فرق في مسألة الخلق بين معجزات الأنبياء وبين وأفعالنا, لكان ذلك الفرق بسبب علاقة الأفعال بالنواميس وليس بسبب إرادة الفاعل. لأننا والأنبياء مريدين قاصين لما نفعل سواء كان الفعل إبتغاء العبد من فضل الله أو كان الفعل ضم موسى يده إلى جيبه لتخرج بيضاء.
إذاً إن قيل أن إرادة الفاعل هي دليل خلقه لأفعاله. بذلك يكون موسى خلق آية من آيات الله وان الله لم يخلقها.
وإن قيل أن موسى لم يخلق آيات الله لأنها خارقة للنواميس بذلك يعترف المعترض من حيث لا يدري أن إرادة الفاعل ليست دليلاً على خلقه لأفعاله.
وهكذا تنهار دعواهم من أساسها ومن جميع الوجوه لان الباطل حاله كثوب قصير إذا غطيت به طرف كشفت عن طرف آخر.
الدلائل العقلية على خلق الله لمشيئة وأفعال العباد.
حتى دون الاستعانة بالأدلة النقلية مع كثرتها, كل عاقل لو احترم عقله لما ادعى أبداً انه يخلق حريته وأفعاله.
اولاً: من صفات الخالق امتلاكه الإرادة التي بها يَخلق. فكيف قرر الإنسان أن يخلق حريته قبل أن يمتلك حرية القرار؟ هذا محال. بل منذ أن أدرك الإنسان وجوده أدرك انه مخير.
ثانياً: محال أن يستعير العبد طريقاً لا وجود له أو يميل إلى جهة لا وجود لها. بل يختار ما خلق الله له من طريق التقوى أو الفجور.
ثالثاً: القادر على خلق إرادته من العدم له القدرة أن يمتنع عن خلقها إن شاء وله القرة على إيجاد ما لا مثيل له إن شاء أو على الأقل إيجاد إرادة لا يحاسب عليها يوم القيامة كإرادة الحيوان مثلاً. وهذا مخالف للواقع.
رابعاً: إن قيل أن النفس تخلق إرادتها خلق تحويل وليس من عدم. بهذا نفترض أن لنا علم بحقيقة ظاهرة التخيير, وقد سبق ذكر أن العقل غير قادر على إدراك ظاهرة التخيير لان أدوات العقل هي أدوات جبر. وحتى لو جاريناهم في قولهم نقول: خلق التحويل يتم بين نفس الجنس. ومن يدعي انه خلق إرادته من نفس جنسها أي من إرادة أخرى. نعيد عليه نفس السؤال: ومن خلق الأخرى؟ وننساق إلى تسلسل لا نهائي.
فإن قيل: كيف تدعي أن الله خلق إرادتك وفي نفس الوقت تقول أنها نتيجة حريتك؟
الجواب: وجود علاقة سببية بين المخلوقات لا ينفي صفتهم كمخلوقات. فالنار يطفئها الماء ومع ذلك لو لم يخلق الله فعل الإطفاء لما تم. ولو لم يخلق الله فعل الضحك لما ضحكت. ولو لم يخلق الله الطاعة والمعصية لما أطعت ولا عصيت. والفرق بينك وبين الملاك أن الله خلق معصيتك ولم يخلقها للملاك. والفرق بينك وبين أهل الجنة أن الله نزع من أهل الجنة ما في قلبهم من غل (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ) فلا مجال لهم ان يختاروا ما نزعه الله من حيز التخيير.
خامساً : من شروط الخلق العلم.
الخالق يعلم ما خلق بالضرورة. فهل يعلم الإنسان حقيقة أفعاله وكل تعقيداتها العصبية البيولوجية والميكانيكية والنفسية... ؟ بالطبع لا . إذاً لن تجد عاقل يدعي أنه خلق ما يجهل, وذلك لأن الخلق هو الإيجاد على سبيل القصد ، والقصد لا بد أن يكون مسبوقاً بالعلم المطلق لجوهر وصفات المقصود خلقه, وهذا لن يتوفر في العبد أبداً (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) والجاهل بالشيء يستحيل أن يكون قاصداً إلى ما يجهل, بل هو قاصد للمعنى لا أكثر. فإن أراد العبد رمي الرمح فهو يعلم بمعنى ما يريد فقط, لا تفاصيل الفعل التي إن علمها لما اخطأ الهدف قط. فكيف يجهل الخالق تفاصيل ما خلق؟
سادساً : من شروط الخلق القدرة.
النائم والمستيقظ يصدر منهما نفس الفعل. فمن خلق فعل النائم الغافل عما يفعل جسده؟ سيقولون الله. وما الذي تغير عند المستيقظ؟ الإرادة فقط. وهل الإرادة كافية لخلق العمل؟ بالطبع لا والدليل أن المشلول - وإن توفرت له الإرادة - يعجز على تحريك يده. والفرق بينه وبين السليم أن الله خلق للسليم أسباب ونتائج الحركة. ولو كانت النية كافية, لخلق المشلول حركته من عدم و لما كان هناك في الوجود مُريد ٌعاجز.
سابعاً: لا يوجد فاعل يخلق أفعاله سواء كان الفاعل رباً او عبداً.
لو افترضنا أن الفاعل يخلق أفعاله هذا يعني أن كل فعل هو مخلوق.
وما معنى انه مخلوق؟ معناه أن الفعل سبقه فعل آخر (أي فعل الخلق).
وهذا الأخير (أي الخلق) لانه أيضاً فعل لابد أن يكون مخلوقاً.
وهكذا كل فعل خلق لابد أن يسبقه فعل خلق آخر... إلى ما لا نهاية
إذاً القول أن الفاعل يخلق أفعاله يقودك إلى سفسطة وتناقض.
والحق أن الله لا يخلق فعاله لأنها ليست مخلوقة. والعبد لا يخلق أفعاله لأنها مخلوقة لله.
__________________
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
رد باقتباس
#2
قديم 08-07-2006
عبد الواحد عبد الواحد غير متواجد حالياً
محاور
المذهب أو العقيدة: مسلم
تاريخ التسجيل: May 2005
المشاركات: 2,024
افتراضي
ملخص لما سبق
حريتك وما تختاره من تقوى وفجور كلها مخلوقه لله تعالى.
. فمن يدعي انه مسير بدعوى خلق الله لإرادة العبد, نذكره أنه يشهد على نفسه انه حر مخير وانه لم يخلق حريته لان قبل وجودها لم يكن يملك قرار خلقها.
. وبعد وجودها اختارت النفس ما خلق الله من تقوى وفجور لان اختيار العبد لا يكون إلا بين ما هو موجود. ويستحيل على النفس أن تميل إلى جهة لا وجود لها.
. ومن يحاول الخوض في ظاهرة التخيير نقول له: التحليل العقلي يُبنى على قواعد جبرية وهي لا تطال سوى الجواهر الخاضعة لنظام جبري. ومحاولة فهم ظاهرة التخيير بأدوات العقل لا يتم دون إدخال التخيير في عالم الجبر وبذلك تفترض في المقدمة ما تريد الوصول إليه في النتيجة وهذه سفسطة. والحل الثاني أن تترك أدوات عقلك وتخرج عن حدود الجبر ولن يبقى لك حينها سوى الظن.
الأنعام {148} سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آَبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ
ثانياً كيفما فسرت قوله تعلى (فألهمها فجورها وتقواها) فالنتيجة واحدة: الله خلق فجور وتقوى النفس. ويعزز هذا المعنى دعاء النبي صلى الله علي وسلم ( اللهم آت نفسي تقواها). وطبعاً الله لا يُؤتي ولا يُلهم العدم. والضمير يعود للنفس ( فجورها وتقواها). وليس من العدل نسبهما للنفس لمجرد علم العبد بهما. وهذا لا يتنافى مع تخيير النفس إذ قال الله تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَن زكاها * وَقَدْ خَابَ مَن دساها) وهذا دليل نقلي انه لا تناقض بين خلق الإرادة وبين التخيير, أما الدليل العقلي أن الحر لا يختار العدم بل يختار ما خلق الله.
أما بقية الآيات والأحاديث السابقة كلها تدل أن الله خلق أفعال العباد. والمعترض لا يخرج قوله عن أحد تأويلين : (الله خلقنا وأسباب أفعالنا) أو (الله خلقنا ونتائج أفعالنا)
1- أما القول الأول يكفي الإتيان بمثل الأخ الذي ظلم أخاه فأبكاه. والله يقول انه هو الذي أبكى العبد { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى }. فان قيل إن الله لم يخلق بكاء العبد بل خلق سببه , بذلك يقر المعترض من حيث لا يدري أن الله خلق فعل الظلم الذي اقترفه الأخ في حق أخيه. وهكذا إذا حاول المعترض الفرار من فعل العبد الباكي سقط في فعل العبد المُبكي.
2- أما القول الثاني (الله خلقنا ونتائج أفعالنا) فله حالتين:
. في حالة الأفعال التي لها نتائج ملموسة. نقول نعم الله خلق نتائج أفعالنا, وهذا دليل أن خالق النتيجة هو خالق المقدمة بالضرورة. إذ كيف يدعي عاقل أن الله خلق الصور ولم يخلق فعل العبد الذي رسم الصور؟
. أما في حالة الأفعال التي نتائجها هي ذات الأفعال: كالخشية والفسوق والضحك والبكاء والحزن والحسد والحب, المعترض يجد نفسه في حرج اكبر في تفسير قوله (خلقكم وما تعملون).
ومن الأدلة قوله تعالى في سورة في الفرقان {2} : { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا } وهذا يشمل الجواهر (كالنفس) وصفاتها وآحادها من كفر وإيمان. لان التقدير لا يكون دون التصرف في خصائص الجوهر. والمتصرف في الشيء وجب أن يكون عليماً به.
وسؤال آخر لن تجد له جواب: لو كان العبد يخلق سعيه لما سمى الله سعي الإنسان آية من آياته, بذلك يكون العبد هو خالق لآيات الله.
قال تعالى (وَمِنْ آَيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ) الله هو خالق آياته ومن آياته ابتغاء العبد من فضله. والابتغاء يجمع بين القصد وفعل وهذا خير دليل على خلق الله لإرادة وأفعال العباد.
ولو سألتهم ما هي يا ترى حجتهم على خلق العبد لأفعاله؟
إن قالوا العلم: نقول لهم الخالق لابد أن يكون عالم محيطاً بتفاصيل ما يخلق وليس قاصداً للمعنى فقط. وهذه صفة يختص بها اللهُ دون غيره.
وإن قالوا النية والقصد: نقول أن موسى عليه السلام كان قاصداً لفعله حين ضم يده. إذاً القصد ليس شرطاً كافياً للخلق لان موسى لم يخلق الآيات التي أجراها الله على يده.
وأخيراً وهذا في رأيي أقوى دليل والله اعلم. الله علمنا قاعدة عظيمة تنجينا إن شاء الله من الشرك.
متى تشابه الخلق علينا فهذا دليل شركنا. قال تعالى (أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ )
فان جعلت لله شركاء يخلقون كخلقه إذاً النتيجة الحتمية أن يتشابه الخلق عليك. والعكس بالعكس إن تشابه الخلق عليك فاعلم انك مشرك.
ولمن يدعي انه يخلق أفعاله لو سألناه من خلق حركة يد فلان يا فلان؟ سيقول:
ربما خلقها العبد ولم يخلها الله إذا كان العبد قاصداً لحركة يده
ربما خلقها الله ولم يخلق العبد إذا كان غافلا أو نائماً.
تشابه الخلق عليك أليس كذلك؟ حاك كحال من قال الله فيهم : أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ؟
إذاً تعوذ بالله من الشرك وأكمل الآية: قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ
__________________
أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ
بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ
رد باقتباس
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin