بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 3 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 3 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
القتال المذهبي أو الطائفي:
صفحة 1 من اصل 1
القتال المذهبي أو الطائفي:
الحلقة [ 93 ] : الباب التاسع : القتال داخل الدائرة الإسلامية
الفصل الأول : الاقتتال بين الدول الإسلامية (2 من 2)
• ( 4 ) القتال المذهبي أو الطائفي:
ومن القتال الذي يقع بين المسلمين بعضهم وبعض: القتال على أساس طائفي أو مذهبي - كما يحدث في العراق اليوم - للأسف الشديد بين السنة والشيعة.
فتَحْتَ سلطان الاحتلال الأمريكي للعراق تفاقمت الفتنة الطائفية، ومدَّت أعناقها، وتطاير شررها، وارتفع دخانها، والاحتلال الغاشم يباركها ويغذِّيها، ويوسِّع نطاقها من وراء ستار.
وقد رأينا بعد نسف قبة مرقدي الإمامين العسكريين في سَامرَّاء، وهما تحت مسؤولية أهل السنة من قرون، كيف انطلق الغاضبون من الشيعة للانتقام من مساجد أهل السنة وإحراقها، حتى أحرقوا المصاحف فيها، ومن قَتْل بعض الأئمة، واعتقال البعض الآخر، وكيف قُتل الكثيرون وأُلقِي بجثثهم في الشوارع. هذا مع أن أهل السنة لم يثبت أن لهم أي عَلاقة بحادث المرقدين.
كما شكا كثير من أهل السنة من (فرق الموت)، التي تلبس زيَّ الشرطة، وتدخل على الناس بيوتهم، وتأخذ منهم مَن تشاء من الرجال، ولا يعرف أحد بعد ذلك أين مصيرهم؟ وكثيرا ما توجد جثثهم وأشلاؤهم ملقاة في خربة أو في الطريق بعد أيام من اختطافهم من منازلهم.
وكثيرا ما يردُّ أهل السنة - أو جماعات معينة منهم - على هذه الجرائم بجرائم مماثلة، وهم يردِّدون: الشر بالشر يحسم، والبادئ أظلم: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:194]، وهذا خطر على الفريقين.
وفي مدينة كراتشي في باكستان: نجد حربا تدور رحاها منذ عدَّة سنين بين الشيعة والسنة. فالشيعة عندهم جيش محمد! والسنة عندهم جند الصحابة! فليت شعري متى كان جيش محمد ضدَّ جند الصحابة أو العكس؟
ويسقط عشرات القتلى من الطرفين في أحداث دامية يندى لها الجبين، وتأسى لها القلوب، وتذرف لها العيون.
• السنة والشيعة من أهل القبلة :
ومهما يختلف السنة والشيعة في بعض الأمور، فهم جميعا من (أهل القِبلة)، الذين يجب أن تحفظ عليهم نفوسهم ونسلهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم.
أليسوا جميعا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ أليسوا يصلون الصلوات الخمس؟ أليسوا يصومون رمضان من كلِّ عام؟ أليسوا يؤدُّون الزكاة من أموالهم؟ أليسوا يحجُّون البيت مَن استطاع إليه سبيلا؟
ولا يستثنى من ذلك إلا الغلاة المرفوضون من جماهير الشيعة أنفسهم، الذين يقولون أقوالا تخرجهم من المِلَّة، كدعوى أن القرآن ناقص، أو أن الصحابة كلَّهم كفروا ماعدا أفراد قليلين منهم، أو نحو ذلك.
ويجب على أهل العقل والحكمة من الفريقين: أن يضعوا من الوسائل العلمية والعملية ما يقي من الوقوع في هذا الصراع الأسود، ويجنِّب الجميع سفك الدماء التي يجب أن تُصان.
• مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب:
هذا، وقد كتبتُ رسالة، كانت في أصلها بحثا قدَّمته إلى مؤتمر (التقريب بين المذاهب)، الذي عقد في مملكة البحرين منذ سنوات قريبة[1] ، في مبادئ الحوار والتقريب، ضمَّنته عشرة مبادئ أو قواعد لا بد من مراعاتها إذا أردنا تقاربا حقيقيا نلمسه على أرض الواقع، وليس مجرَّد شعارات، أو نداءات، أو كلمات أدبية رائعة، ثم لا نرى لها في الحياة الإسلامية المعيشة أثرا بيِّنا. ولا أستطيع أن ألخِّص هذه الرسالة هنا، ولكن أركِّز على بعض ما جاء فيها:
( أ ) اجتناب تكفير كل مَن قال: (لا إله إلا الله):
من المبادئ هنا في الحوار والتقريب بين المذاهب: تبنِّي المبدأ الذي ذكرتُه في كتابي: (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرُّق المذموم)، وهو (الكف عن تكفير المسلمين)، وتجنُّب هذا المزلق الخطير.
ولا يخفى على دارس: أن أخطر أدوات التدمير لبنيان الاتحاد أو التقارب بين المسلمين على الاطلاق: هو (التكفير): أن تُخرج مسلما من المِلَّة، ومن دائرة أهل القبلة، وتحكم عليه بالكفر الأكبر، والردَّة الكاملة.
فهذا بلا ريب يقطع ما بينك وبينه من حبال، فلا لقاء بين مسلم ومرتد عن الإسلام، فهما خطَّان متوازيان لا يلتقيان.
وقد ذكرتُ في رسالتي: (ظاهرة الغلو في التكفير) أخطاء هذا الاتجاه وأخطاره، فهو خطيئة دينية، وخطيئة علمية، وخطيئة حركية وسياسية.
والسنة النبوية تحذِّر أبلغ التحذير من اتِّهام المسلم بالكفر، في أحاديث صريحة صحيحة مستفيضة.
وقصة أسامة بن زيد مع الرجل الذي قتله في المعركة بعد ما قال: (لا إله إلا الله) واضحة كلَّ الوضوح، فقد أنكر عليه الرسول الكريم قتله بعد قولها، ولم يقبل منه دعواه أنه قالها تعوُّذا من السيف، قائلا: "هلاَّ شققتَ عن قلبه؟!"[2] .
ولهذا لا يجوز اقتحام هذا الحِمى، وتكفير أهل الإسلام، لذنوب ارتكبوها، أو بدع اقترفوها، أو آراء اعتنقوها، وإن أخطؤوا الصواب فيها.
والأدلَّة على هذا كثيرة متوافرة، وأقوال العلماء الكبار معروفة محفوظة [3].
( ب ) البعد عن شطط الغلاة:
ومن المبادئ التي تجب رعايتها في حوار المسلمين بعضهم مع بعض: البعد عن شطط الغلاة والمتطرِّفين من كلا الفريقين، الذين يثيرون الفتن في حديثهم إذا تحدَّثوا، وفي كتابتهم إذا كتبوا، وإذا كانت الفتنة نائمة أيقظوها، أو ساكنة حرَّكوها، أو ضعيفة تبرَّعوا لها من دمائهم حتى تحيا وتقوى.
إن المعوَّل عليه هنا هم: المعتدلون من أهل البصيرة والحكمة، الذين لا يتشنَّجون، ولا يتنطَّعون، وينظرون إلى الأمور بهدوء وعقلانية ووسطية، لا ينظرون إلى الأمر من زاوية واحدة، بل من جميع زواياه، ولا يكتفون بالنظر إلى السطح، بل يحاولون أن يغوصوا في الأعماق، ولا يقتصرون على آثاره اليوم، بل يمتدُّون ببصرهم إلى المستقبل، وهؤلاء هم الذين رُزقوا (الفقه) بمعناه الواسع ... ونعني به: فقه السنن، وفقه المقاصد، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه الاختلاف أو الائتلاف.
إننا إذا نظرنا في ضوء هذا الفقه الرحب المنشود نجد أن المصلحة تقتضي توحيد المسلمين في مواجهة القوى الكبرى المتربِّصة بهم، والمعادية لهم، ويكفي أن يتوحَّدوا أو يتجمَّعوا على (الحدِّ الأدنى).
وأدنى الحدود هو: (ما يصير به المسلم مسلما). وإنما يصير مسلما بشهادة أن (لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله)، ومعنى هذا: أن أهل (لا إله إلا الله)، وبعبارة أخرى (أهل القبلة): أي الذين يتَّجهون في صلاتهم إلى القبلة يجب أن يتَّحدوا ويجتمعوا في صورة من الصُور.
إن الأمة لا تستطيع أن تواجه أعداءها وهي متفرِّقة، ولا تستطيع أن تحقِّق أهدافها وهي متفرِّقة، ولا تستطيع أن تطوِّر إمكاناتها وهي متفرِّقة، ولا أن تكسب لها مكانا في عالم اليوم - عالم الثورات العلمية - وهي متفرِّقة.
وأقلُّ مظاهر الاتحاد: الجانب السلبي منه، وهو طرح العداوة، وترك الجفوة؛ فلا يعادي بعض الأمة بعضا، ولا يجافي بعضها بعضا، ناهيك من أن يكيد بعضها لبعض، أو يقاتل بعضها بعضا.
وعندنا عبرة من القرآن الكريم، في تعقيبه على حرب فارس والروم في أول ظهور الإسلام، حيث انتصر الفرس المجوس على الروم النصارى، وفرح المشركون الوثنيون بانتصار الفرس المجوس الذين يعبدون النار، ويرونهم أقرب إليهم، وحزن المسلمون لانهزام الروم، وهم نصارى أهل كتاب، ويراهم المسلمون أقرب إليهم. وحدث جدل بين الفريقين فيمَن تكون له العاقبة؟ ونزل القرآن يفصل بين الفريقين بقوله: {ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:1-5] [4].
( جـ ) المصارحة بالحكمة:
ومن مبادئ الحوار الإسلامي الإسلامي: أن يصارح بعضنا بعضا بالمشاكل القائمة، والمسائل المعلَّقة، والعوائق المانعة، ومحاولة التغلُّب عليها بالحكمة والتدرُّج والتعاون المفروض شرعا بين المسلمين بعضهم وبعض.
فليس من الحكمة أن نخفي كلَّ شيء، أو نسكت عنه، أو نؤجِّله ونَدَعَه معلَّقا دون أن نجرؤ على إثارته أو الكلام فيه؛ فهذا لا يحلُّ مشكلة، ولا يقدِّم علاجا، أو يقرِّب بين الفريقين خطوة واحدة.
• عدم نشر المذهب الشيعي في بلاد السنة الخالصة :
من ذلك ما ذكرتُه للإخوة من علماء الشيعة حين زرتُهم في إيران، وهو أن من المهم أن نراعي (فقه الموازنات) و(فقه الأولويات) في العَلاقة بين بعضنا وبعض. فقد يتراءى للبعض أن ينشر المذهب الشيعي في البلاد السنية الخالصة مثل مصر أو السودان أو المغرب، ورأيي أن هذا عمل ضرره أكبر من نفعه؛ لأنه يثير فتنا وبلبلة في مجتمع واحد مستقرٍّ على السنة، ويحدث توتُّرا وغضبا ضدَّ الشيعة، في حين لا تكسب للشيعة من وراء ذلك إلا أفرادا معدودين هم في غنى عنهم. فأيهما أرجح في ميزان المصالح الحقيقية: إثارة شعب بكلِّ فئاته ضدَّ المذهب أم كسب أفراد منه؟
وأذكر أني تكلمتُ في هذا الموضوع، وكان آية الله الشيخ محمد علي التسخيري حاضرا، فقال: صدقتَ والله، ولنا في ذلك تجربة حيَّة؛ فقد كانت علاقتنا جيدة مع (ثورة الإنقاذ) في السودان، وفتحنا مكتبا هناك وتصرَّف مدير المكتب تصرُّفا أثار الإخوة هناك، بأن وزَّع عدة مئات من كتاب عنوانه (ثم اهتديت)! على لسان رجل كان سنيا ثم تشيَّع! فما كان من الإخوة في الخرطوم إلا أن أغلقوا المكتب نهائيا، وطردوا مديره.
ومن هنا أقول: ينبغي للشيعة ألا يحاولوا نشر المذهب الشيعي في بلاد السنة الخالصة، ولا لأهل السنة أن ينشروا مذهبهم في البلاد الخالصة للمذهب الشيعي، إبقاء على الودِّ، واتِّقاء للفتنة.
وهذا مما اتَّفق معي فيه الإمام محمد المهدي شمس الدين في لبنان: أن يمتنع دعاة كلُّ مذهب عن (التبشير) به في البلاد الخالصة للمذهب الآخر.
• مراعاة حقوق الأقلية :
ومما صارحت به الإخوة في إيران ضرورة مراعاة حقوق الأقلية السنية بين الشيعة، أو الحقوق الشيعية بين السنة. وكان مما قلتُه للإخوة هناك: إن في مصر أقلية مسيحية قبطية، ولهذا يراعى في كلِّ حكومة أن يكون لها وزيران أو ثلاثة على الأقل.
وفي إيران أقلية كبيرة من أهل السنة من الأكراد ومن العرب، وهم شافعية، ومن البلوش وهم حنفية، ولكنهم لا يمثَّلون في الحكومة ولا بوزير واحد، وكلُّ المحافظين الذي يولَّون عليهم من الشيعة. فقيل لي: هم ممثلون في مجلس الشورى. قلتُ: ولكن ليس بنسبة عددهم، على أن مجلس الشورى شيء، ومجلس الوزراء شيء آخر.
ومما قلتُه للإخوة أيضا في إيران: إن أهل السنة في طهران يقدَّرون بمليونين أو أكثر، وهم يطالبون منذ سنين بإقامة مسجد لهم، يجتمعون فيه لأداء فريضة صلاة الجمعة، ويشاركهم في ذلك السفراء العرب والمسلمون، فلم تستجب السلطات لهم حتى الآن.
• وضع أهل السنة في العراق :
والوضع الآن في العراق - بعد زوال حكم الطاغية صدام حسين، وسقوط النظام البعثي - يجب أن تعالج فيه العَلاقة بين السنة والشيعة بالمصارحة اللازمة في هذه الآونة الخطيرة، وأن يراعى العدل في اقتسام تركة البعث. فالحقُّ أن أهل السنة في العراق يشكون من أن إخوانهم الشيعة يريدون أن يرثوا التركة وحدهم، ولا يكادون يتركون للسنة إلا الفتات. حتى المساجد التي في مناطق أهل السنة استولى عليها الإخوة الشيعة، ومنها: مسجد صدام الكبير، الذي بني في منطقة ليس فيها شيعي واحد!
وحُجَّة الشيعة: أن (صداما) كان سُنيًّا، وأنه مالأ أهل السنة. وهذا قول مردود. وعقلاء الشيعة يعرفون ذلك. فلم يكن صدام بالسني ولا بالشيعي، ولا عَلاقة له بالإسلام ودعوته. وعلاقته بالإسلاميين - عسكريين ومدنيين، سنيين وشيعيين - دموية. فلم يكن يهتمُّ بالدين أصلا، لا عقيدة ولا شريعة، ولا قِيَمًا ولا أخلاقًا. فنسبته إلى السنة ظلم، ومعاقبتهم بسبب طغيانه أمر منكر؛ فقد أصاب العراق كلَّه منه شرٌّ كثير، أصاب العرب والأكراد، وأصاب الشيعة والسنة جميعا، ولم يسلم منه مسلم ولا غير مسلم.
والأمر يزداد سؤءا يوما بعد يوم، وأهل السنة يشكون من (فرق الموت)، التي تنقضُّ عليهم في بيوتهم، وتستاقهم إلى حيث لا يعرف أحد مصيرهم.
وأهل البصرة يشكون في الفترة الأخيرة مما يمكن أن يسمى: (التطهير العرقي) أو (الطائفي)، والإبادة الإجرامية التي يشهدونها كلَّ يوم، بل كلَّ ساعة. يُقتل مَن يُقتل جهرا، ويُغتال مَن يُغتال سرًّا، وتداس الكرامات، وتنتهك الحرمات، وترتكب الجرائم الغليظة، في صمت مؤسف وبدم بارد.
وإذا لم يُتدارك هذا الأمر بسرعة وبقوة، فأخشى ما أخشاه، ويخشاه معي العقلاء: أن ينتهي إلى حرب أهلية طائفية مجنونة، لا تُبقي ولا تذر، ولا يُجتنى من ورائها ثمرة طيبة لأي من الفريقين، لن يستفيد منها شيعي ولا سني، وإنما يستفيد منها أعداء العراق، وأعداء العرب، وأعداء الإسلام، وأعداء الإنسانية كلِّها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
( د ) الحذر من دسائس الأعداء:
ومن المبادئ المهمة هنا أيضا: أن نكون على حذر من كيد أعداء الأمة، ودسائسهم التي يريدون بها أن يفرِّقوا جمعها، ويشتِّتوا شملها، ويمزِّقوا صفوفها؛ فلا تتوحَّد على غاية، ولا تجتمع على طريق.
وقد حفظنا من فلسفتهم منذ بدأ استعمارهم لبلادنا وغيرها هذه الكلمة المعبِّرة عن غايتهم وطريقتهم (فَرِّق تَسُد). فهم يجتهدون كي يفرِّقوا كلمتنا من أجل أن يحكمونا ويسودونا.
ومن المعروف أن الاتحاد قوة، بل الاتحاد يُقوِّي القِلَّة، والتفرُّق يُضْعِف الكثرة، وما نال أعداء الأمة المسلمة منها إلا يوم تفرَّقت واختصمت واختلفت راياتها، وتعدَّدت قياداتها، وتنازعوا فيما بينهم، فهيَّؤوا الفرصة لعدوهم أن ينفذ إليهم، وأن ينفث سمومه فيما بينهم، حتى يكيد بعضُهم لبعض، ويذوق بعضُهم بأسَ بعض، وحقَّ عليهم قوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تختلفوا فإن مَن كان قبلكم اختلفوا فهلكوا"[5] .
وهم يلعبون على كلِّ حبل، وينفذون من كلِّ ثُغرة، ليمزِّقوا الأمة شرَّ ممزِّق، حتى تتفرَّق أيدي سبأ.
فأحيانا ينفذون من ثُغرة اختلاف الديانة، ليقولوا: مسلم ومسيحي، كما يفعلون في مصر.
وأحيانا ينفذون من ثُغرة اختلاف العِرْق، كما يقولون في العراق: عرب وأكراد، وفي الجزائر والمغرب: عرب وبربر (أمازيغ).
وأحيانا ينفذون من اختلاف المذهب، كما يفعلون بين المسلمين بعضهم وبعض، في العراق ولبنان ليقولوا: سني وشيعي، أو في عُمان، ليقولوا: سني وإباضي.
حتى إذا لم يجدوا شيئا من ذلك قالوا: قومي وإسلامي، أو يميني ويساري، أو ثوري وليبرالي ... إلى آخر هذه التقسيمات.
ولكن المراقبين الأيقاظ يلاحظون أنهم يركِّزون منذ مدَّة على الاختلاف المذهبي (الطائفي أو العرقي) بين المسلمين؛ فهم يتمنَّون من أعماق صدورهم أن يشعلوها فتنة تأكل اليابس والأخضر، وأن يوقدوها حربا أهلية صريحة بين السنة والشيعة؛ فقد كانت حرب العراق وإيران يغلب عليها الطابع القومي: حرب العرب والفرس، وهم يريدونها حربا دينية مكشوفة القناع بين السنة والشيعة!! يريدون أن يتحارب الجميع وهم يتفرَّجون، وأن يأكل بعضهم بعضا، ليتولَّوا وهم فرحون، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
وهذا ما أصبحنا نشاهده اليوم بأعيننا في العراق الشقيق، الذي عاش قرونا بسنَّته وشيعته، ولم يحدث بينهما صراع، وكانت العشيرة الواحدة تضمُّ السنيِّين والشيعيِّين، بل كانت الأسرة الواحدة تضمُّ الطرفين، وكانت المصاهرة: معروفة بينهما، واليوم نرى هذه الحرب الطاحنة بين الفريقين، التي هي أشبه بجهنَّم، يقال لها: هل امتلأتِ؟ وتقول: هل من مزيد؟!
ومهما تختلف الأمة بعضها مع بعض فلا يجوز بحال أن يتحوَّل خلافها إلى قتال بعضها بعضا.
وإن من أشدِّ المصائب على الأمة: أن يصبح بأسها بينها، كما وصف الله اليهود قديما: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14].
إن الأمة - بجميع طوائفها ومدارسها ومذاهبها وعروقها وأقاليمها - مدعوَّة لأن تستيقظ لما يُراد بها، وأن تقف مع نفسها وقفة طويلة للحساب والمراجعة، وأن تعرف مَن لها، ومَن عليها، مَن صديقها ومَن عدوها، وخصوصا بعد حرب العراق وما وراءها من تداعيات وآثار، وظهور أمريكا قوة وحيدة، متألِّهة مستكبرة في الأرض، لا تُسأل عمَّا تفعل، ولا تُسأل عمَّا تريد.
آن للضعفاء أن يتَّحدوا ليواجهوا القوة الطاغية، وآن للمؤمنين أن يتَّحدوا ليواجهوا الفرعونية الجديدة التي تقول للناس: أنا ربكم الأعلى.
( هـ ) ضرورة التلاحم في وقت الشدة:
وإذا جاز لبعض الناس أن يتفرَّقوا ويختلفوا في أوقات العافية والرخاء والنصر؛ فلا يجوز لهم بحال أن يتفرَّقوا في ساعات الشدَّة والعسرة والمحنة؛ فالمفروض أن المحن تجمع المتفرِّقين، وأن المصائب تجمع المصابين، وقديما قال الشاعر:
......................... عند الشدائد تذهب الأحقاد.
• امتحان عسير وموقف خطير :
ونحن الآن نعاني محنا قاسية، وقوارع شديدة، في كلِّ وطن من أوطاننا، وفي أمتنا بصفة عامة، وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م؛ فقد دخلت الأمة من مشرقها إلى مغربها في امتحان عسير، وموقف خطير، يستوجب منها عامة، ومن علمائها ودعاتها وفصائل صحوتها خاصة ... أن ينسوا خلافاتهم الجانبية، ومعاركهم الهامشية، ويقفوا في جبهة واحدة متراصَّة في المعركة التي يواجهها الإسلام وأهله؛ فعند المعركة يجب أن يتلاحم الجميع، ويتساند الجميع، ولا يعلو صوت نشاز، يفرِّق الأمة في ساعة الخطر، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف:4].
• تقارب أهل الكفر ، وتباعد أهل الإيمان :
وإن من أشدِّ المخاطر أن يتلاحم خصوم الأمة من أهل الكفر، ويوالي بعضهم بعضا، في حين يتباعد أهل الإيمان ويتخاذلون، وهو ما حذَّر منه القرآن في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] أي إن لم يوالِ بعضكم بعضا، ويتكاتف بعضكم مع بعض كما يفعلون، تكون الفتنة والفساد الكبير؛ لأن معناه أن أهل الباطل يتجمَّعون، وأهل الحقِّ يتفرَّقون، وأن هناك عملا وهنا فراغا، هذا هو الخطر كلُّ الخطر.
وقد رأينا غير المسلمين يتجمَّعون ويتوحَّدون، على الرغم من وجود أسباب كثيرة للخلاف بينهم، بعضها تاريخي، وبعضها واقعي، كما رأينا في الاتحاد الأوربي، الذي حدث بين بلاده بعضها وبعض حروب وحروب، آخرها الحربان العالميتان، اللتان سقط فيهما ملايين الضحايا، ومع هذا طرحوا هذه المآسي وراءهم ظهريا، ووجدوا مصلحتهم الكبرى في أن يتَّحدوا.
وقبل ذلك رأينا التقارب بين المذاهب أو الكنائس المسيحية بعضها وبعض، وبين المسيحية عموما واليهودية، برغم العداء التاريخي بينهما، حتى أصدر الفاتيكان وثيقته الشهيرة بتبرئة اليهود من دم المسيح [6]!
والمسلمون - وحدهم - هم الذين يختلفون ويتنازعون بعضهم مع بعض، مع توافر الكثير من أسباب الوحدة بينهم، وحسبهم أنهم جميعا من أهل القبلة، وأنهم جميعا من أهل (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، وأنهم جميعا رضوا بالله ربًّا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، نبيا ورسولا.
• حرص هارون عليه السلام على وحدة الجماعة :
ولقد ذكر القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام: حادثة فيها تبصرة وعبرة لأولي الأبصار، وهي قصة هارون عليه السلام مع قومه، حين ذهب موسى إلى مناجاة ربه أربعين ليلة، فأضلَّهم السامري، وأخرج لهم عجلا جسدا له خُوار، فقال: هذا إلهكم وإله موسى. وأطاعه القوم وعبدوا العجل، الذي لا يرجع إليهم قولا، ولا يملك لهم ضرًّا ولا نفعا، ولا يهديهم سبيلا. {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91،90].
ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا لما فعلوه في غيبته، وألقى ألواح التوراة في الأرض غضبا لله وللحقِّ، وأخذ برأس أخيه يجرُّه إليه، قائلا له: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:92-94].
وقد رضي موسى بهذا الجواب من أخيه، وأقرَّه القرآن الكريم، فدلَّ على أن ما راعاه هارون أمر له اعتباره في ميزان الدين، وهو: الحرص على وحدة الجماعة، حتى لا تتمزَّق، والسكوت على منكر كبير، بل هو أكبر منكر - وهو الإشراك بالله تعالى بعبادة غيره سبحانه - حرصا على وحدة الجماعة، وهو قطعا سكوت مؤقَّت، حتى يرجع موسى من رحلته، ويتفاهم الأَخَوان معا في علاج الموقف الخطير بما يلائمه.
ولا يقول أحد: إن هذا كان شرع من قبلنا، فإنما يذكر القرآن هذه القصص لنأخذ منها العبر والدروس، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبَابِ} [يوسف: 111].
وقال تعالى لرسوله بعد أن ذكر له عددا من أسماء رسله الكرام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90][7] .
إن توحيد الأمة الإسلامية مطلوب في كلِّ حين، وهو أشدُّ ما يكون طلبا في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ أمتنا. فاتحادها فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتِّمها الواقع الإسلامي والواقع العالمي. فالاتحاد قوة لها، والتفرُّق يجعلها ضحية سهلة يمكن للأعداء أن يأكلوها قطعة قطعة.
---------
هوامش :
[1] عقد في الفترة من 20 إلى 30 سبتمبر 2003م.
[2] متفق عليه عن أسامة بن زيد، وقد سبق تخريجه ص 829
[3] راجع هذه الأقوال في رسالتنا: (ظاهرة الغلو في التفكير) صـ77 – 94، طبعة مكتبة وهبة بالقاهرة.
[4] رواه أحمد في المسند (2495)، وقال مخرِّجوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والترمذي في التفسير (3193)، وقال: حديث حسن صحيح غريب إنما نعرفه من حديث سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة، والنسائي في الكبرى كتاب التفسير (11325)، والطبراني في الكبير (12/28)، والحاكم في التفسير (2/445)، عن ابن عباس، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2551).
[5] رواه البخاري في الخصومات (2410)، وأحمد في المسند (3907)، عن ابن مسعود.
[6] صدرت الوثيقة في 24 يونيو 1985م في عهد يوحنا بولص الثاني.
[7] انظر: كتابنا (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) صـ341 – 343. طبعة دار الشروق. مصر.
----------( يُتبع )----------
الفصل الأول : الاقتتال بين الدول الإسلامية (2 من 2)
• ( 4 ) القتال المذهبي أو الطائفي:
ومن القتال الذي يقع بين المسلمين بعضهم وبعض: القتال على أساس طائفي أو مذهبي - كما يحدث في العراق اليوم - للأسف الشديد بين السنة والشيعة.
فتَحْتَ سلطان الاحتلال الأمريكي للعراق تفاقمت الفتنة الطائفية، ومدَّت أعناقها، وتطاير شررها، وارتفع دخانها، والاحتلال الغاشم يباركها ويغذِّيها، ويوسِّع نطاقها من وراء ستار.
وقد رأينا بعد نسف قبة مرقدي الإمامين العسكريين في سَامرَّاء، وهما تحت مسؤولية أهل السنة من قرون، كيف انطلق الغاضبون من الشيعة للانتقام من مساجد أهل السنة وإحراقها، حتى أحرقوا المصاحف فيها، ومن قَتْل بعض الأئمة، واعتقال البعض الآخر، وكيف قُتل الكثيرون وأُلقِي بجثثهم في الشوارع. هذا مع أن أهل السنة لم يثبت أن لهم أي عَلاقة بحادث المرقدين.
كما شكا كثير من أهل السنة من (فرق الموت)، التي تلبس زيَّ الشرطة، وتدخل على الناس بيوتهم، وتأخذ منهم مَن تشاء من الرجال، ولا يعرف أحد بعد ذلك أين مصيرهم؟ وكثيرا ما توجد جثثهم وأشلاؤهم ملقاة في خربة أو في الطريق بعد أيام من اختطافهم من منازلهم.
وكثيرا ما يردُّ أهل السنة - أو جماعات معينة منهم - على هذه الجرائم بجرائم مماثلة، وهم يردِّدون: الشر بالشر يحسم، والبادئ أظلم: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ} [البقرة:194]، وهذا خطر على الفريقين.
وفي مدينة كراتشي في باكستان: نجد حربا تدور رحاها منذ عدَّة سنين بين الشيعة والسنة. فالشيعة عندهم جيش محمد! والسنة عندهم جند الصحابة! فليت شعري متى كان جيش محمد ضدَّ جند الصحابة أو العكس؟
ويسقط عشرات القتلى من الطرفين في أحداث دامية يندى لها الجبين، وتأسى لها القلوب، وتذرف لها العيون.
• السنة والشيعة من أهل القبلة :
ومهما يختلف السنة والشيعة في بعض الأمور، فهم جميعا من (أهل القِبلة)، الذين يجب أن تحفظ عليهم نفوسهم ونسلهم وعقولهم وأموالهم وأعراضهم.
أليسوا جميعا يشهدون أن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله؟ أليسوا يصلون الصلوات الخمس؟ أليسوا يصومون رمضان من كلِّ عام؟ أليسوا يؤدُّون الزكاة من أموالهم؟ أليسوا يحجُّون البيت مَن استطاع إليه سبيلا؟
ولا يستثنى من ذلك إلا الغلاة المرفوضون من جماهير الشيعة أنفسهم، الذين يقولون أقوالا تخرجهم من المِلَّة، كدعوى أن القرآن ناقص، أو أن الصحابة كلَّهم كفروا ماعدا أفراد قليلين منهم، أو نحو ذلك.
ويجب على أهل العقل والحكمة من الفريقين: أن يضعوا من الوسائل العلمية والعملية ما يقي من الوقوع في هذا الصراع الأسود، ويجنِّب الجميع سفك الدماء التي يجب أن تُصان.
• مبادئ في الحوار والتقريب بين المذاهب:
هذا، وقد كتبتُ رسالة، كانت في أصلها بحثا قدَّمته إلى مؤتمر (التقريب بين المذاهب)، الذي عقد في مملكة البحرين منذ سنوات قريبة[1] ، في مبادئ الحوار والتقريب، ضمَّنته عشرة مبادئ أو قواعد لا بد من مراعاتها إذا أردنا تقاربا حقيقيا نلمسه على أرض الواقع، وليس مجرَّد شعارات، أو نداءات، أو كلمات أدبية رائعة، ثم لا نرى لها في الحياة الإسلامية المعيشة أثرا بيِّنا. ولا أستطيع أن ألخِّص هذه الرسالة هنا، ولكن أركِّز على بعض ما جاء فيها:
( أ ) اجتناب تكفير كل مَن قال: (لا إله إلا الله):
من المبادئ هنا في الحوار والتقريب بين المذاهب: تبنِّي المبدأ الذي ذكرتُه في كتابي: (الصحوة الإسلامية بين الاختلاف المشروع والتفرُّق المذموم)، وهو (الكف عن تكفير المسلمين)، وتجنُّب هذا المزلق الخطير.
ولا يخفى على دارس: أن أخطر أدوات التدمير لبنيان الاتحاد أو التقارب بين المسلمين على الاطلاق: هو (التكفير): أن تُخرج مسلما من المِلَّة، ومن دائرة أهل القبلة، وتحكم عليه بالكفر الأكبر، والردَّة الكاملة.
فهذا بلا ريب يقطع ما بينك وبينه من حبال، فلا لقاء بين مسلم ومرتد عن الإسلام، فهما خطَّان متوازيان لا يلتقيان.
وقد ذكرتُ في رسالتي: (ظاهرة الغلو في التكفير) أخطاء هذا الاتجاه وأخطاره، فهو خطيئة دينية، وخطيئة علمية، وخطيئة حركية وسياسية.
والسنة النبوية تحذِّر أبلغ التحذير من اتِّهام المسلم بالكفر، في أحاديث صريحة صحيحة مستفيضة.
وقصة أسامة بن زيد مع الرجل الذي قتله في المعركة بعد ما قال: (لا إله إلا الله) واضحة كلَّ الوضوح، فقد أنكر عليه الرسول الكريم قتله بعد قولها، ولم يقبل منه دعواه أنه قالها تعوُّذا من السيف، قائلا: "هلاَّ شققتَ عن قلبه؟!"[2] .
ولهذا لا يجوز اقتحام هذا الحِمى، وتكفير أهل الإسلام، لذنوب ارتكبوها، أو بدع اقترفوها، أو آراء اعتنقوها، وإن أخطؤوا الصواب فيها.
والأدلَّة على هذا كثيرة متوافرة، وأقوال العلماء الكبار معروفة محفوظة [3].
( ب ) البعد عن شطط الغلاة:
ومن المبادئ التي تجب رعايتها في حوار المسلمين بعضهم مع بعض: البعد عن شطط الغلاة والمتطرِّفين من كلا الفريقين، الذين يثيرون الفتن في حديثهم إذا تحدَّثوا، وفي كتابتهم إذا كتبوا، وإذا كانت الفتنة نائمة أيقظوها، أو ساكنة حرَّكوها، أو ضعيفة تبرَّعوا لها من دمائهم حتى تحيا وتقوى.
إن المعوَّل عليه هنا هم: المعتدلون من أهل البصيرة والحكمة، الذين لا يتشنَّجون، ولا يتنطَّعون، وينظرون إلى الأمور بهدوء وعقلانية ووسطية، لا ينظرون إلى الأمر من زاوية واحدة، بل من جميع زواياه، ولا يكتفون بالنظر إلى السطح، بل يحاولون أن يغوصوا في الأعماق، ولا يقتصرون على آثاره اليوم، بل يمتدُّون ببصرهم إلى المستقبل، وهؤلاء هم الذين رُزقوا (الفقه) بمعناه الواسع ... ونعني به: فقه السنن، وفقه المقاصد، وفقه المآلات، وفقه الموازنات، وفقه الأولويات، وفقه الاختلاف أو الائتلاف.
إننا إذا نظرنا في ضوء هذا الفقه الرحب المنشود نجد أن المصلحة تقتضي توحيد المسلمين في مواجهة القوى الكبرى المتربِّصة بهم، والمعادية لهم، ويكفي أن يتوحَّدوا أو يتجمَّعوا على (الحدِّ الأدنى).
وأدنى الحدود هو: (ما يصير به المسلم مسلما). وإنما يصير مسلما بشهادة أن (لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله)، ومعنى هذا: أن أهل (لا إله إلا الله)، وبعبارة أخرى (أهل القبلة): أي الذين يتَّجهون في صلاتهم إلى القبلة يجب أن يتَّحدوا ويجتمعوا في صورة من الصُور.
إن الأمة لا تستطيع أن تواجه أعداءها وهي متفرِّقة، ولا تستطيع أن تحقِّق أهدافها وهي متفرِّقة، ولا تستطيع أن تطوِّر إمكاناتها وهي متفرِّقة، ولا أن تكسب لها مكانا في عالم اليوم - عالم الثورات العلمية - وهي متفرِّقة.
وأقلُّ مظاهر الاتحاد: الجانب السلبي منه، وهو طرح العداوة، وترك الجفوة؛ فلا يعادي بعض الأمة بعضا، ولا يجافي بعضها بعضا، ناهيك من أن يكيد بعضها لبعض، أو يقاتل بعضها بعضا.
وعندنا عبرة من القرآن الكريم، في تعقيبه على حرب فارس والروم في أول ظهور الإسلام، حيث انتصر الفرس المجوس على الروم النصارى، وفرح المشركون الوثنيون بانتصار الفرس المجوس الذين يعبدون النار، ويرونهم أقرب إليهم، وحزن المسلمون لانهزام الروم، وهم نصارى أهل كتاب، ويراهم المسلمون أقرب إليهم. وحدث جدل بين الفريقين فيمَن تكون له العاقبة؟ ونزل القرآن يفصل بين الفريقين بقوله: {ألم * غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِن بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ} [الروم:1-5] [4].
( جـ ) المصارحة بالحكمة:
ومن مبادئ الحوار الإسلامي الإسلامي: أن يصارح بعضنا بعضا بالمشاكل القائمة، والمسائل المعلَّقة، والعوائق المانعة، ومحاولة التغلُّب عليها بالحكمة والتدرُّج والتعاون المفروض شرعا بين المسلمين بعضهم وبعض.
فليس من الحكمة أن نخفي كلَّ شيء، أو نسكت عنه، أو نؤجِّله ونَدَعَه معلَّقا دون أن نجرؤ على إثارته أو الكلام فيه؛ فهذا لا يحلُّ مشكلة، ولا يقدِّم علاجا، أو يقرِّب بين الفريقين خطوة واحدة.
• عدم نشر المذهب الشيعي في بلاد السنة الخالصة :
من ذلك ما ذكرتُه للإخوة من علماء الشيعة حين زرتُهم في إيران، وهو أن من المهم أن نراعي (فقه الموازنات) و(فقه الأولويات) في العَلاقة بين بعضنا وبعض. فقد يتراءى للبعض أن ينشر المذهب الشيعي في البلاد السنية الخالصة مثل مصر أو السودان أو المغرب، ورأيي أن هذا عمل ضرره أكبر من نفعه؛ لأنه يثير فتنا وبلبلة في مجتمع واحد مستقرٍّ على السنة، ويحدث توتُّرا وغضبا ضدَّ الشيعة، في حين لا تكسب للشيعة من وراء ذلك إلا أفرادا معدودين هم في غنى عنهم. فأيهما أرجح في ميزان المصالح الحقيقية: إثارة شعب بكلِّ فئاته ضدَّ المذهب أم كسب أفراد منه؟
وأذكر أني تكلمتُ في هذا الموضوع، وكان آية الله الشيخ محمد علي التسخيري حاضرا، فقال: صدقتَ والله، ولنا في ذلك تجربة حيَّة؛ فقد كانت علاقتنا جيدة مع (ثورة الإنقاذ) في السودان، وفتحنا مكتبا هناك وتصرَّف مدير المكتب تصرُّفا أثار الإخوة هناك، بأن وزَّع عدة مئات من كتاب عنوانه (ثم اهتديت)! على لسان رجل كان سنيا ثم تشيَّع! فما كان من الإخوة في الخرطوم إلا أن أغلقوا المكتب نهائيا، وطردوا مديره.
ومن هنا أقول: ينبغي للشيعة ألا يحاولوا نشر المذهب الشيعي في بلاد السنة الخالصة، ولا لأهل السنة أن ينشروا مذهبهم في البلاد الخالصة للمذهب الشيعي، إبقاء على الودِّ، واتِّقاء للفتنة.
وهذا مما اتَّفق معي فيه الإمام محمد المهدي شمس الدين في لبنان: أن يمتنع دعاة كلُّ مذهب عن (التبشير) به في البلاد الخالصة للمذهب الآخر.
• مراعاة حقوق الأقلية :
ومما صارحت به الإخوة في إيران ضرورة مراعاة حقوق الأقلية السنية بين الشيعة، أو الحقوق الشيعية بين السنة. وكان مما قلتُه للإخوة هناك: إن في مصر أقلية مسيحية قبطية، ولهذا يراعى في كلِّ حكومة أن يكون لها وزيران أو ثلاثة على الأقل.
وفي إيران أقلية كبيرة من أهل السنة من الأكراد ومن العرب، وهم شافعية، ومن البلوش وهم حنفية، ولكنهم لا يمثَّلون في الحكومة ولا بوزير واحد، وكلُّ المحافظين الذي يولَّون عليهم من الشيعة. فقيل لي: هم ممثلون في مجلس الشورى. قلتُ: ولكن ليس بنسبة عددهم، على أن مجلس الشورى شيء، ومجلس الوزراء شيء آخر.
ومما قلتُه للإخوة أيضا في إيران: إن أهل السنة في طهران يقدَّرون بمليونين أو أكثر، وهم يطالبون منذ سنين بإقامة مسجد لهم، يجتمعون فيه لأداء فريضة صلاة الجمعة، ويشاركهم في ذلك السفراء العرب والمسلمون، فلم تستجب السلطات لهم حتى الآن.
• وضع أهل السنة في العراق :
والوضع الآن في العراق - بعد زوال حكم الطاغية صدام حسين، وسقوط النظام البعثي - يجب أن تعالج فيه العَلاقة بين السنة والشيعة بالمصارحة اللازمة في هذه الآونة الخطيرة، وأن يراعى العدل في اقتسام تركة البعث. فالحقُّ أن أهل السنة في العراق يشكون من أن إخوانهم الشيعة يريدون أن يرثوا التركة وحدهم، ولا يكادون يتركون للسنة إلا الفتات. حتى المساجد التي في مناطق أهل السنة استولى عليها الإخوة الشيعة، ومنها: مسجد صدام الكبير، الذي بني في منطقة ليس فيها شيعي واحد!
وحُجَّة الشيعة: أن (صداما) كان سُنيًّا، وأنه مالأ أهل السنة. وهذا قول مردود. وعقلاء الشيعة يعرفون ذلك. فلم يكن صدام بالسني ولا بالشيعي، ولا عَلاقة له بالإسلام ودعوته. وعلاقته بالإسلاميين - عسكريين ومدنيين، سنيين وشيعيين - دموية. فلم يكن يهتمُّ بالدين أصلا، لا عقيدة ولا شريعة، ولا قِيَمًا ولا أخلاقًا. فنسبته إلى السنة ظلم، ومعاقبتهم بسبب طغيانه أمر منكر؛ فقد أصاب العراق كلَّه منه شرٌّ كثير، أصاب العرب والأكراد، وأصاب الشيعة والسنة جميعا، ولم يسلم منه مسلم ولا غير مسلم.
والأمر يزداد سؤءا يوما بعد يوم، وأهل السنة يشكون من (فرق الموت)، التي تنقضُّ عليهم في بيوتهم، وتستاقهم إلى حيث لا يعرف أحد مصيرهم.
وأهل البصرة يشكون في الفترة الأخيرة مما يمكن أن يسمى: (التطهير العرقي) أو (الطائفي)، والإبادة الإجرامية التي يشهدونها كلَّ يوم، بل كلَّ ساعة. يُقتل مَن يُقتل جهرا، ويُغتال مَن يُغتال سرًّا، وتداس الكرامات، وتنتهك الحرمات، وترتكب الجرائم الغليظة، في صمت مؤسف وبدم بارد.
وإذا لم يُتدارك هذا الأمر بسرعة وبقوة، فأخشى ما أخشاه، ويخشاه معي العقلاء: أن ينتهي إلى حرب أهلية طائفية مجنونة، لا تُبقي ولا تذر، ولا يُجتنى من ورائها ثمرة طيبة لأي من الفريقين، لن يستفيد منها شيعي ولا سني، وإنما يستفيد منها أعداء العراق، وأعداء العرب، وأعداء الإسلام، وأعداء الإنسانية كلِّها، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
( د ) الحذر من دسائس الأعداء:
ومن المبادئ المهمة هنا أيضا: أن نكون على حذر من كيد أعداء الأمة، ودسائسهم التي يريدون بها أن يفرِّقوا جمعها، ويشتِّتوا شملها، ويمزِّقوا صفوفها؛ فلا تتوحَّد على غاية، ولا تجتمع على طريق.
وقد حفظنا من فلسفتهم منذ بدأ استعمارهم لبلادنا وغيرها هذه الكلمة المعبِّرة عن غايتهم وطريقتهم (فَرِّق تَسُد). فهم يجتهدون كي يفرِّقوا كلمتنا من أجل أن يحكمونا ويسودونا.
ومن المعروف أن الاتحاد قوة، بل الاتحاد يُقوِّي القِلَّة، والتفرُّق يُضْعِف الكثرة، وما نال أعداء الأمة المسلمة منها إلا يوم تفرَّقت واختصمت واختلفت راياتها، وتعدَّدت قياداتها، وتنازعوا فيما بينهم، فهيَّؤوا الفرصة لعدوهم أن ينفذ إليهم، وأن ينفث سمومه فيما بينهم، حتى يكيد بعضُهم لبعض، ويذوق بعضُهم بأسَ بعض، وحقَّ عليهم قوله تعالى: {وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال:46] وقوله عليه الصلاة والسلام: "لا تختلفوا فإن مَن كان قبلكم اختلفوا فهلكوا"[5] .
وهم يلعبون على كلِّ حبل، وينفذون من كلِّ ثُغرة، ليمزِّقوا الأمة شرَّ ممزِّق، حتى تتفرَّق أيدي سبأ.
فأحيانا ينفذون من ثُغرة اختلاف الديانة، ليقولوا: مسلم ومسيحي، كما يفعلون في مصر.
وأحيانا ينفذون من ثُغرة اختلاف العِرْق، كما يقولون في العراق: عرب وأكراد، وفي الجزائر والمغرب: عرب وبربر (أمازيغ).
وأحيانا ينفذون من اختلاف المذهب، كما يفعلون بين المسلمين بعضهم وبعض، في العراق ولبنان ليقولوا: سني وشيعي، أو في عُمان، ليقولوا: سني وإباضي.
حتى إذا لم يجدوا شيئا من ذلك قالوا: قومي وإسلامي، أو يميني ويساري، أو ثوري وليبرالي ... إلى آخر هذه التقسيمات.
ولكن المراقبين الأيقاظ يلاحظون أنهم يركِّزون منذ مدَّة على الاختلاف المذهبي (الطائفي أو العرقي) بين المسلمين؛ فهم يتمنَّون من أعماق صدورهم أن يشعلوها فتنة تأكل اليابس والأخضر، وأن يوقدوها حربا أهلية صريحة بين السنة والشيعة؛ فقد كانت حرب العراق وإيران يغلب عليها الطابع القومي: حرب العرب والفرس، وهم يريدونها حربا دينية مكشوفة القناع بين السنة والشيعة!! يريدون أن يتحارب الجميع وهم يتفرَّجون، وأن يأكل بعضهم بعضا، ليتولَّوا وهم فرحون، {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال:30].
وهذا ما أصبحنا نشاهده اليوم بأعيننا في العراق الشقيق، الذي عاش قرونا بسنَّته وشيعته، ولم يحدث بينهما صراع، وكانت العشيرة الواحدة تضمُّ السنيِّين والشيعيِّين، بل كانت الأسرة الواحدة تضمُّ الطرفين، وكانت المصاهرة: معروفة بينهما، واليوم نرى هذه الحرب الطاحنة بين الفريقين، التي هي أشبه بجهنَّم، يقال لها: هل امتلأتِ؟ وتقول: هل من مزيد؟!
ومهما تختلف الأمة بعضها مع بعض فلا يجوز بحال أن يتحوَّل خلافها إلى قتال بعضها بعضا.
وإن من أشدِّ المصائب على الأمة: أن يصبح بأسها بينها، كما وصف الله اليهود قديما: {بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر:14].
إن الأمة - بجميع طوائفها ومدارسها ومذاهبها وعروقها وأقاليمها - مدعوَّة لأن تستيقظ لما يُراد بها، وأن تقف مع نفسها وقفة طويلة للحساب والمراجعة، وأن تعرف مَن لها، ومَن عليها، مَن صديقها ومَن عدوها، وخصوصا بعد حرب العراق وما وراءها من تداعيات وآثار، وظهور أمريكا قوة وحيدة، متألِّهة مستكبرة في الأرض، لا تُسأل عمَّا تفعل، ولا تُسأل عمَّا تريد.
آن للضعفاء أن يتَّحدوا ليواجهوا القوة الطاغية، وآن للمؤمنين أن يتَّحدوا ليواجهوا الفرعونية الجديدة التي تقول للناس: أنا ربكم الأعلى.
( هـ ) ضرورة التلاحم في وقت الشدة:
وإذا جاز لبعض الناس أن يتفرَّقوا ويختلفوا في أوقات العافية والرخاء والنصر؛ فلا يجوز لهم بحال أن يتفرَّقوا في ساعات الشدَّة والعسرة والمحنة؛ فالمفروض أن المحن تجمع المتفرِّقين، وأن المصائب تجمع المصابين، وقديما قال الشاعر:
......................... عند الشدائد تذهب الأحقاد.
• امتحان عسير وموقف خطير :
ونحن الآن نعاني محنا قاسية، وقوارع شديدة، في كلِّ وطن من أوطاننا، وفي أمتنا بصفة عامة، وخصوصا بعد أحداث 11 سبتمبر 2001م؛ فقد دخلت الأمة من مشرقها إلى مغربها في امتحان عسير، وموقف خطير، يستوجب منها عامة، ومن علمائها ودعاتها وفصائل صحوتها خاصة ... أن ينسوا خلافاتهم الجانبية، ومعاركهم الهامشية، ويقفوا في جبهة واحدة متراصَّة في المعركة التي يواجهها الإسلام وأهله؛ فعند المعركة يجب أن يتلاحم الجميع، ويتساند الجميع، ولا يعلو صوت نشاز، يفرِّق الأمة في ساعة الخطر، كما قال تعالى: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} [الصف:4].
• تقارب أهل الكفر ، وتباعد أهل الإيمان :
وإن من أشدِّ المخاطر أن يتلاحم خصوم الأمة من أهل الكفر، ويوالي بعضهم بعضا، في حين يتباعد أهل الإيمان ويتخاذلون، وهو ما حذَّر منه القرآن في قوله: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ} [الأنفال:73] أي إن لم يوالِ بعضكم بعضا، ويتكاتف بعضكم مع بعض كما يفعلون، تكون الفتنة والفساد الكبير؛ لأن معناه أن أهل الباطل يتجمَّعون، وأهل الحقِّ يتفرَّقون، وأن هناك عملا وهنا فراغا، هذا هو الخطر كلُّ الخطر.
وقد رأينا غير المسلمين يتجمَّعون ويتوحَّدون، على الرغم من وجود أسباب كثيرة للخلاف بينهم، بعضها تاريخي، وبعضها واقعي، كما رأينا في الاتحاد الأوربي، الذي حدث بين بلاده بعضها وبعض حروب وحروب، آخرها الحربان العالميتان، اللتان سقط فيهما ملايين الضحايا، ومع هذا طرحوا هذه المآسي وراءهم ظهريا، ووجدوا مصلحتهم الكبرى في أن يتَّحدوا.
وقبل ذلك رأينا التقارب بين المذاهب أو الكنائس المسيحية بعضها وبعض، وبين المسيحية عموما واليهودية، برغم العداء التاريخي بينهما، حتى أصدر الفاتيكان وثيقته الشهيرة بتبرئة اليهود من دم المسيح [6]!
والمسلمون - وحدهم - هم الذين يختلفون ويتنازعون بعضهم مع بعض، مع توافر الكثير من أسباب الوحدة بينهم، وحسبهم أنهم جميعا من أهل القبلة، وأنهم جميعا من أهل (لا إله إلا الله، محمد رسول الله)، وأنهم جميعا رضوا بالله ربًّا، وبالإسلام دينا، وبالقرآن إماما، وبمحمد صلى الله عليه وسلم، نبيا ورسولا.
• حرص هارون عليه السلام على وحدة الجماعة :
ولقد ذكر القرآن الكريم في قصة موسى عليه السلام: حادثة فيها تبصرة وعبرة لأولي الأبصار، وهي قصة هارون عليه السلام مع قومه، حين ذهب موسى إلى مناجاة ربه أربعين ليلة، فأضلَّهم السامري، وأخرج لهم عجلا جسدا له خُوار، فقال: هذا إلهكم وإله موسى. وأطاعه القوم وعبدوا العجل، الذي لا يرجع إليهم قولا، ولا يملك لهم ضرًّا ولا نفعا، ولا يهديهم سبيلا. {وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِن قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى} [طه:91،90].
ولما رجع موسى إلى قومه غضبان أسفا لما فعلوه في غيبته، وألقى ألواح التوراة في الأرض غضبا لله وللحقِّ، وأخذ برأس أخيه يجرُّه إليه، قائلا له: {مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي * قَالَ يَا ابْنَ أُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي} [طه:92-94].
وقد رضي موسى بهذا الجواب من أخيه، وأقرَّه القرآن الكريم، فدلَّ على أن ما راعاه هارون أمر له اعتباره في ميزان الدين، وهو: الحرص على وحدة الجماعة، حتى لا تتمزَّق، والسكوت على منكر كبير، بل هو أكبر منكر - وهو الإشراك بالله تعالى بعبادة غيره سبحانه - حرصا على وحدة الجماعة، وهو قطعا سكوت مؤقَّت، حتى يرجع موسى من رحلته، ويتفاهم الأَخَوان معا في علاج الموقف الخطير بما يلائمه.
ولا يقول أحد: إن هذا كان شرع من قبلنا، فإنما يذكر القرآن هذه القصص لنأخذ منها العبر والدروس، كما قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الألْبَابِ} [يوسف: 111].
وقال تعالى لرسوله بعد أن ذكر له عددا من أسماء رسله الكرام: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90][7] .
إن توحيد الأمة الإسلامية مطلوب في كلِّ حين، وهو أشدُّ ما يكون طلبا في هذه المرحلة العصيبة من تاريخ أمتنا. فاتحادها فريضة وضرورة، فريضة يوجبها الدين، وضرورة يحتِّمها الواقع الإسلامي والواقع العالمي. فالاتحاد قوة لها، والتفرُّق يجعلها ضحية سهلة يمكن للأعداء أن يأكلوها قطعة قطعة.
---------
هوامش :
[1] عقد في الفترة من 20 إلى 30 سبتمبر 2003م.
[2] متفق عليه عن أسامة بن زيد، وقد سبق تخريجه ص 829
[3] راجع هذه الأقوال في رسالتنا: (ظاهرة الغلو في التفكير) صـ77 – 94، طبعة مكتبة وهبة بالقاهرة.
[4] رواه أحمد في المسند (2495)، وقال مخرِّجوه: إسناده صحيح على شرط الشيخين، والترمذي في التفسير (3193)، وقال: حديث حسن صحيح غريب إنما نعرفه من حديث سفيان الثوري عن حبيب بن أبي عمرة، والنسائي في الكبرى كتاب التفسير (11325)، والطبراني في الكبير (12/28)، والحاكم في التفسير (2/445)، عن ابن عباس، وصححه الألباني في صحيح الترمذي (2551).
[5] رواه البخاري في الخصومات (2410)، وأحمد في المسند (3907)، عن ابن مسعود.
[6] صدرت الوثيقة في 24 يونيو 1985م في عهد يوحنا بولص الثاني.
[7] انظر: كتابنا (الصحوة الإسلامية من المراهقة إلى الرشد) صـ341 – 343. طبعة دار الشروق. مصر.
----------( يُتبع )----------
مواضيع مماثلة
» أمر القتال
» بين القتال الداخلي والخارجي
» القتال فى الاسلام ضوابط واحكام.
» القتال داخل الدائرة الإسلامية
» غزوة أحد بداية القتال ونصر المسلمين
» بين القتال الداخلي والخارجي
» القتال فى الاسلام ضوابط واحكام.
» القتال داخل الدائرة الإسلامية
» غزوة أحد بداية القتال ونصر المسلمين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin