الحكمة من صيام يوم عاشوراء
عن ابن عباس - رضي
الله عنهما - قال : قدم رسول الله المدينة فوجد اليهود يصومون يوم
عاشوراء ، فسئلوا عن ذلك ، فقالوا : هذا اليوم الذي أظهر الله فيه موسى
وبني إسرائيل على فرعون ، فنحن نصومه تعظيماً له ، فقال رسول الله : (
نحن أولى بموسى منكم ، فأمر بصيامه) أخرجه البخاري ومسلم ، وفي رواية
لمسلم : ( فصامه موسى شكراً ، فنحن نصومه … )(1) .
* * *
في
الحديث بيانٌ للحكمة العظيمة من مشروعية صيام يوم عاشوراء ، وهي تعظيم هذا
اليوم وشكرُ الله تعالى على نجاة موسى عليه الصلاة والسلام وبني إسرائيل ،
وإغراق فرعون وقومه ، ولهذا صامه موسى عليه السلام شكراً لله تعالى ،
وصامته اليهود ، وأمة محمد أحق بأن تقتدي بموسى من اليهود ، فإذا صامه
موسى شكراً لله تعالى ، فنحن نصومه كذلك ، ولهذا قال النبي : ( نحن أولى
بموسى منكم ) وفي رواية : ( فأنا أحق بموسى منكم ) أي : نحن أثبت وأقرب
لمتابعة موسى عليه السلام منكم ، فإنا موافقون له في أصول الدين ، ومصدقون
لكتابه ، وأنتم مخالفون لهما بالتغيير والتحريف ، والرسول أطوع وأتبع
للحق منهم ، فلذا صام يوم عاشوراء ، وأمر بصيامه تقريراً لتعظيمه ،
وتأكيداً لذلك .
وعن أبي موسى قال : كان يوم عاشوراء يوماً تعظمه
اليهود ، وتتخذه عيداً ، فقال رسول الله : ( صوموا أنتم ) أخرجه البخاري
ومسلم ، وفي رواية لمسلم : ( كان أهل خيبر يصومون يوم عاشوراء يتخذونه
عيداً ، ويُلبسون نساءهم فيه حليهم وشارتهم ، فقال رسول الله : ( فصوموا
أنتم )(2) .
وظاهر هذا أن من حكمة صومه مخالفة اليهود ، وذلك بعدم
اتخاذه عيداً ، والاقتصار على صومه ، لأن يوم العيد لا يصام ، وهذا أوجه
من مخالفة اليهود في يوم عاشوراء ، وسيأتي - إن شاء الله - وجه آخر من
المخالفة ، وهو صوم التاسع قبله .
وقد ضلَّ في هذا اليوم طائفتان :
طائفة
شابهت اليهود فاتخذت عاشوراء موسم عيد وسرور ، تظهر فيه شعائر الفرح
كالاختضاب والاكتحال ، وتوسيع النفقات على العيال ، وطبخ الأطعمة الخارجة
عن العادة ، ونحو ذلك من عمال الجهال ، الذين قابلوا الفاسد بالفاسد ،
والبدعة بالبدعة .
وطائفة أخرى اتخذت عاشوراء يوم مأتم وحزن ونياحة ،
لأجل قتل الحسين بن علي - رضي الله عنهما - تُظهر فيه شعار الجاهلية من
لطم الخدود وشق الجيوب ، وإنشاد قصائد الحزن ، ورواية الأخبار التي كذبها
أكثر من صدقها ، والقصد منها فتح باب الفتنة ، والتفريق بين الأمة ، وهذا
عمل من ضلَّ سعيه في الحياة الدنيا ، وهو يحسب أنه يحسن صنعاً .
وقد
هدى الله تعالى أهل السنة ففعلوا ما أمرهم به نبيهم من الصوم ، مع رعاية
عدم مشابهة اليهود فيه ، واجتنبوا ما أمرهم الشيطان به من البدع ، فلله
الحمد والمنة .
اللهم فقهنا في ديننا ، وارزقنا العمل به والاستقامة
عليه ، ويسِّرنا لليسرى ، وجنبنا العسرى ، واغفر لنا في الآخرة والأولى ،
وصلّى الله وسلم على نبينا محمد.
استحباب صيام اليوم التاسع مع العاشر
عن
ابن عباس - رضي الله عنهما - أن رسول الله لما صام يوم عاشوراء وأمر
بصيامه قالوا : يا رسول الله ، إنه يوم تعظمه اليهود والنصارى ، فقال رسول
الله : ( فإذا كان العام المقبل - إن شاء الله - صمنا اليوم التاسع )
قال : فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول الله . أخرجه مسلم ، وفي
رواية له : ( لئن بقية إلى قابل لأصومن التاسع )(1) .
* * *
الحديث
دليل على أنه يستحب لمن أراد أن يصوم عاشوراء أن يصوم قبله يوماً ، وهو
اليوم التاسع ، فيكون صوم التاسع سنة وإن لم يصمه النبي ، لأنه عزم على
صومه ، والغرض من ذلك - والله أعلم - أن يضمه إلى العاشر ليكون هديه
مخالفاً لأهل الكتاب ، فإنهم كانوا يصومون العاشر فقط ، وهذا تشعر به بعض
الروايات في مسلم ، وقد صح عن ابن عباس - رضي الله عنهما - موقوفاً عليه :
( صوموا التاسع والعاشر خالفوا اليهود )(2) .
وفي هذا دلالة واضحة
على أن المسلم منهي عن التشبه بالكفار وأهل الكتاب ، لما في ترك التشبه
بهم من المصالح العظيمة ، والفوائد الكثيرة ، ومن ذلك قطع الطرق المفضية
إلى محبتهم والميل إليهم ، وتحقيق معنى البراءة منهم ، وبغضهم في الله
تعالى ، وفيه - أيضاً - استقلال المسلمين وتميزهم .
وقد ذكر أهل العلم
أن أفضل المراتب في صيام عاشوراء ، صوم ثلاثة أيام : التاسع والعاشر
والحادي عشر ، واستدلوا بحديث ابن عباس : ( خالفوا اليهود وصوموا قبله
يوماً وبعده يوماً )(3) ، وهذا حديث ضعيف ، لا يعول عليه ، إلا أن يقال إن
صيام الثلاثة يأتي فضلها زيادة على فضل عاشوراء لكونها من شهر حرام ، ورد
الحث على صيامه ، وليحصل فضل صيام ثلاثة أيام من كل شهر ، وقد ورد عن
الإمام أحمد أنه قال : ( من أراد أن يصوم عاشوراء صام التاسع والعاشر إلا
أن تشكل الشهور فيصوم ثلاثة أيام ، ابن سيرين يقول ذلك )(1) .
والمرتبة الثانية : صوم التاسع والعاشر ، وعليها أكثر الأحاديث ، وتقدمت .
والمرتبة
الثالثة : صوم التاسع والعاشر أو العاشر والحادي عشر ، واستدلوا بحديث ابن
عباس مرفوعاً بلفظ : ( صوموا يوم عاشوراء ، وخالفوا فيه اليهود ، صوموا
قبله يوماً ، أو بعده يوماً ) وهو حديث ضعيف(2) .
والمرتبة الرابعة :
إفراد العاشر بالصوم ، فمن أهل العلم من كرهه ، لأنه تَشَبُّهٌ بأهل
الكتاب ، وهو قول ابن عباس على ما هو مشهور عنه ، وهو مذهب الإمام أحمد ،
وبعض الحنفية ، وقال آخرون : لا يكره ، لأنه من الأيام الفاضلة فيستحب
إدراك فضيلتها بالصوم ، والأظهر أنه مكروه في حق من استطاع أن يجمع معه
غيره ، ولا ينفي ذلك حصول الأجر لمن صامه وحده ، بل هو مثاب إن شاء الله
تعالى .
اللهم وفقنا لما يرضيك ، وجنبنا معاصيك ، واجعلنا من عبادك
الصالحين ، وحزبك المفلحين ، واعف عنا وتب علينا ، واغفر لنا ولوالدينا ،
وصلّى الله وسلم على نبينا محمد …