بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 36 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 36 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
أدب المعاملة في ضوء القرآن الكريم
صفحة 1 من اصل 1
أدب المعاملة في ضوء القرآن الكريم
أدب المعاملة في ضوء القرآن الكريم
- أولاً: مفهوم الأدب وفضله
الأدب لغةً هو الظَرْفُ وحُسْن التناول. يُقال: تأدّب الغلام في كلامه مع أبيه؛ أي تحاشى الكلامَ الخارج عن حدود الأدب. وسُمِّيَ الأدب أدباً لأنه يُوجّه الناسَ إلى المحامد وينهاهم عن القبائح. وأصل الأدب الدعاء، ومنه قيل للطعام الذي يُدعى إليه الناس مَدْعاة ومَأْدُبَة[1]. ومصطلح الأدب كما يرى ابن القيم يدل على معنى الاجتماع؛ فالأدب اجتماع خصال الخير في العبد. ومنه المأدُبة وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس[2].
وعَرّف الجرجاني الأدب بأنه "عبارة عن معرفة ما يُحترز به عن جميع أنواع الخطأ"[3]. ووَردَ عن عبدالله بن المبارك أنه عرّف الأدب بأنه معرفة النفس ورعونتها، وتجنب تلك الرعونة[4].
... ولابدّ هنا من التمييز بين الأدب بمفهومه العام، وعلم الأدب بمفهومه الخاص. فعلم الأدب هو "علم إصلاح اللسان والخطاب، وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه، وصيانته عن الأخطاء والخلل"[5]. فهذا المفهوم كما يقول ابن القيم هو "شعبة من الأدب العام"[6].
والأدب الذي يعنينا في هذا البحث هو الأدب بمفهومه العام والذي أشرنا إليه أولاً، وهو المختص بالجانب الخُلُقي والسلوكي لا بدلالات اللسان ودلالات الألفاظ في حالاتها الإفرادية والتركيبية.
وبالنظر إلى أهمية الأدب وفضله في الإسلام، فإننا نجد أنّ الإسلام قد وضع قواعد في التربية والتهذيب، ومبادئ للقيم والسلوك والأخلاق، ليقيم عليها مجتمعاً نقيّ السريرة، عفّ اللسان، ذا أدبٍ وذوقٍ رفيع. فقد عُنيَ الإسلام بموضوع الأدب بشكل عام. فقـد رُوي عن النبي (ص) أنه قال: "ما نَحَلَ والدٌ ولدَه أفضل من أدبٍ حَسَن"[7]. وأنه قال: "أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم"[8].
ويشير عبدالله بن المبارك إلى حاجتنا إلى الأدب بقوله: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم[9]. ويقول الإمام القرافي في كتابه «الفروق» وهو يتحدث عن موقع الأدب من العمل وبيان أنه مُقدَّم في الرتبة عليه: "واعلم أنّ قليلَ الأدب خير ٌمن كثير من العمل، ولذلك هلك إبليس وضاع أكثر عمله بقلَّة أدبه. وقال الرجل الصالح لابنه: اجعل عملك مِلحاً وأَدَبَك دقيقاً؛ أي ليكنْ استكثارُك من الأدب أكثر من استكثارك من العمل؛ لكثرة جدواه ونفاسة معناه"[10].
وقيل في بيان فضل الأدب: أربعةٌ يسود بها العبد: العلم، والأدب، والفقه، والأمانة[11]. وقيل: مَن كَثُرَ أدبُه شرُفَ وإنْ كان وضيعاً، وسادَ وإنْ كان غريباً، وكثُرت الحاجة إليه وإنْ كان فقيراً[12].
وإنْ كان الأدب خُلُقاً عاماً يتناول كثيراً من التصرفات والسلوكيات، إلا أنه أفضل ما يكون في الكلام. رُوي في ذلك عن عبد الملك بن مروان أنه قال: "ما الناسُ إلى شيءٍ مِنَ الأدب أحوجُ منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتعاودون الكلام، ويتعاطَوْن البيان، ويتهادَوْن الحكمة، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها، ويجمعون ما تفرّق منها، فإنّ الكلام قاضٍ يحكم بين الخصوم، وضياءٌ يجلو الظُلَم. حاجةُ الناسِ إلى موادّه حاجُتُهم إلى موادّ الأغذية"[13].
- ثانياً: التصوّر القرآني لأدب التعامل مع الآخرين
الأصل في دين الإسلام أنه دينُ تجمّعٍ وألفة، لا دينَ عزلةٍ وفرارٍ من تكاليف الحياة، ولم يأت القرآن ليدعو المسلمين إلى الانقطاع في دير، أو العبادة في صومعة، بعيداً عن مشاكل الحياة ومتطلباتها. بل إنّ نزعة التعرّف إلى الناس والاختلاط بهم أصيلة في تعاليم هذا الدين. فقد بين الرسول (ص) أنّ الفضل لمن خالط الآخرين وتعرَّف عليهم ولم يتقوقع على نفسه، وذلك في قوله: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"[14]،[15].
* * * * *
والحقيقة أنَّ أدب التعامل مع الآخرين له مفهوم شامل، يتسع اتساع العلاقات الإنسانية بين بني البشر. والروابط التي تجمع بين الناس كثيرة، فمن رابطة الدم، إلى رابطة الفكرة والمبدأ، ورابطة العمل والوظيفة، ورابطة الصداقة والصحبة، ورابطة الجنس والعرق، والرابطة التجارية والاقتصادية، ورابطة العقيدة التي تُعدّ من أقوى الروابط وأمتنها. ولكن قوّة رابطة العقيدة، لا تعني أنَّ أدب التعامل مع الآخرين لا يدور إلا في نطاقها، ولا يشمل التعامل مع أصحاب العقائد الأخرى من غير المسلمين، بل إنَّ أدب التعامل يتسع ليشمل الإنسانية كلَّها.
ولابدّ لنا في هذا السياق من التفريق بين أدب التعامل مع الآخرين وبين الولاء لهم. فإنّ الولاء هو المحبة والنصرة[16] وهذه لا تكون إلا بين المسلمين. ولكن التبرؤ من أعداء الله لا يعني الإساءة في معاملتهم، أو أكل حقوقهم، أو سبّهم والفحش معهم في القول، أو عدم ملاطفتهم. فالولاء "هو سلوك الباطن، والمحبة القلبية، وما يترتب على ذلك من نصرة وإعانة. أما التعامل الحسن؛ فهو سلوك الجوارح والعلاقة الظاهرية. والأول قد حُصر على المسلمين، أما الثاني فهو مع المسلمين ومع غيرهم"[17]. ولعلّ ما ورد في سورة الممتحنة، هو من أوضح الآيات التي تميز بين الولاء وبين البرّ وحُسن التعامل، يقول تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[18].
فقضية التعامل مع الآخرين هي قضية بالغة الأهمية والخطورة، وقد جعل الإسلام الإلتزام بالدين في قسمٍ كبيرٍ منه، متوقفٌ على الأدب وحسن المعاملة. ومن منطلق هذه الأهمية، جاء القرآن الكريم ليضع لنا المناهج القويمة والأسس السليمة للتعامل مع الآخرين باعتباره موضوعاً أساسياً من موضوعات هذا الدين. فقد أصّل القرآن الكريم لأدب التعامل مع الآخرين وأقامه على مجموعة من القواعد والفنون، التي نضمن من خلالها نتائج إيجابية وحسنة في العلاقات الإنسانية، وهذه القواعد والفنون كثيرة ومتنوعة، وليس من موضوعنا الحديث فيها، غير أنّ هناك قاعدة قرآنية تُعدُّ أصلاً تتفرع عنه كل قواعد التعامل مع الآخرين، هذه القاعدة هي «حُسْنُ الخُلُق»، إذْ لا نجاح ولا توفيق في التعامل مع الآخرين دون هذا الأصل المتين. ومن هنا فقد مدح الله تعالى نبيه بهذه الصفة، فقال عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[19]...
فحُسْنُ الخُلُق أصْلٌ في أدب التعامل، وتتفرع عنه سلوكيات كثيرة. ويتحدّث الإمام الغزالي عن أهم هذه السلوكيات المترتبة على حُسن الخُلُق، فيقول بأن من صفات الشخص الذي يوصف بحسن الخُلُق أنه "يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الإصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، بَرّاً وصولاً، وقوراً صبوراً، شكوراً رضيّاً، حليماً رفيقاً، عفيفاً شفيقاً، لا لعَّاناً ولا سبّاباً، ولا نمّاماً ولا مغتاباً، ولا عجولاً، ولا حقوداً، ولا بخيلاً ولا حسوداً، بشّاشاً هشّاشاً، يحب في الله، ويبغض في الله، ويرضى في الله، ويغضب في الله، فهذا هو حُسن الخلق"[20].
ويُنبِّه المصطفى (ص) إلى أهميَّة حُسْن الخُلُق في التعامل مع الآخرين، فيقول: «إنَّكم لا تَسَعُونَ النَّاسَ بأموالِكم، ولكنْ يَسَعُهُم منْكم بَسْطُ الوجْهِ وحُسْنُ الخُلُق»[21]. وفي هذا الحديث الشريف عِظَةٌ نافعة وحِكمة بالغة، فإنَّ الإنسان مهما بَذَل من المال لا يحظى برضى الناس، ثم إنَّ المال ليس في مقدور كلّ إنسان، ولكن في مقدور كلِّ واحدٍ أنْ يُحسن خُلُقه، ويلين جانبه، ويخفض جناحه، ويبسط وجهه. وهذا الأدب في التعامل مع الآخرين، خيرُ مُعينٍ على تذليل صعوبات الحياة، وتخفيف آلامها، لأنه يبعث السرور في النفس، وبه تطيب المعاشرة وتصفو المعيشة.
كما يشير القرآن الكريم إلى مبدأ مهم في التعامل مع الآخرين. فالدِّينُ في المنظور القرآني ليس صلاةً وصياماً في جهة، وجلافةً وجَفَاءً في التعامل مع الناس في الجهة الأخرى، بل هو وِحْدَةٌ متكاملة يرتبط فيها الجانب الإيماني بالجانب العَملي في الحياة. قال تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[22].
فهذه الآية تشير إلى ملامح الشخصية الإسلامية التي ترتكز على جانبين اثنين: جانب الفكر والإيمان وأداء العبادات، وجانب الممارسة في السلوك الذاتي وفي العلاقة مع الناس ومع المواقف الصعبة في الحياة. نلمح ذلك من خلال تحديد طبيعة البِرّ الذي يعني التوسُّع في الخير والإحسان، كما يذكر أهل اللغة[23]، لأنه يمثِّل سرّ الشخصيّة لدى المؤمن في آفاق التصوّر وميدان التعامل. فبالإيمان والعمل تتكامل الشخصية وتنطلق.
وبصورة عامة، فإنّ الأسلوب الإسلامي في التعامل مع الناس هو الأسلوب الأمثل والأحسن، وهو الأسلوب الذي يعود بانعكاسات إيجابية على العلاقات الإنسانية. ولا يزال المسلم الحق الملتزم بدينه، المحافظ على أخلاقه الإسلامية، شامةً بين الناس وقدوة حسنة لهم، يحبه كلُّ من يخالطه، ويُسَرُّ لـه كل من يجالسه. تخلُّقه بآداب الإسلام ومكارم الأخلاق جعل منه نموذجاً حياً للشخصية الاجتماعية الرّاقية المهذبة النقية.
وما انتشار الإسلام في جميع أنحاء المعمورة إلا دليلٌ واضحٌ على انعكاس الأخلاق الإسلامية على العلاقات في المجتمعات الإنسانية، حتى إنَّ الذين دخلوا في هذا الدين تأثّراً بهذه الأخلاق، يتجاوز عددهم أضعاف من دخلوه عن طريق السيف. بل إنّ السيف –في كثير من الأحيان- لم يكن إلا لإزالة العقبات التي تحول بين الناس والالتقاء مع صفاء الإسلام وسماحة أخلاقه، وما أنْ تضع الحرب أوزارها، ويتعامل المسلمون مع أعدائهم، وتنساب العلاقات فيما بينهم، حتى تبهرهم عظمة هذا الدين، وسُموِّ أخلاقه، فيتحولوا من أعداء محاربين للإسلام وأهله، إلى مناصرين للحق مدافعين عنه.
- توجيهات قرآنية في الحث على أدب المعاملة:
كثيرة هي التوجيهات القرآنية التي تحث على الالتزام بالأدب في التعامل مع الآخرين، وسنحاول فيما يلي أن نذكر بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر:
1. النهي عن فضول الكلام والخوض في الباطل
حثَّ القرآن الكريم على الإبتعاد عن فضول الكلام وعدم الخوض في الباطل، والالتزام بهذا التوجيه القرآني مِنْ شأنه أنْ يَصُبَّ في بناء مجتمعٍ متماسكٍ يبتعد فيه الناس عن الثرثرة والإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه. قال تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[24]. فهذه الآية القرآنية تُوجِّه المؤمنين إلى أنْ يكون كلامُهم هادفاً، فإنَّ من شأن المسلم الواعي ألا يخوض فيما لا يعنيه، وألا يُكثر من الكلام المباح غير الهادف والذي لا خير فيه، فإنَّ الوقت أثمن من إضاعته في فضول الكلام وهَذَرِه.
وكثرة الكلام تؤدي إلى قسوة القلب، فقد وَرَدَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "لا ُتكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنَّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوةٌ للقلب، وإنَّ أبعد الناس من الله القلب القاسي"[25]. ولا شكَّ أنَّ قسوة القلب مع الله تؤدي إلى قسوته مع الناس، مما يُلقي بظلاله السيئة على الاتصال بالآخرين، وعلى العلاقات الإنسانية بشكل عام.
2. النهي عن السب والفحش في القول
للسب واللعن والفحش في القول أضرار كثيرة، ففيها إيذاءٌ للمسبوب، وإيغارٌ للصدور، وقَطْعٌ للعلاقات والمودَّات، وزرعٌ لبذور الفتنة والشقاق، وذلك لما تجلبه من العداوة والبغضاء، وتجرُّه من المنازعات والمشاحنات التي قد تنتهي بأوخم العواقب وأسوأ النتائج، فتتفكك عُرى المحبة، وتنقطع روابط الأُلْفة، ويحل الفساد محل الصلاح، والخصام محل الوئام، فتسوء الأحوال وتضطرب الأعمال.
ونتيجة لهذه الآثار السيئة التي يتركها السباب وفحش القول على العلاقات الإنسانية، جاء التوجيه القرآني ليحث على تجنب النطق بالألفاظ البذيئة، والكلمات المبتذلة. قال تعالى: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)[26]. وفي آية أخرى نصَّ القرآن الكريم على أن إيذاء المؤمنين بالقول السيئ دون وجه حق، يترتب عليه إثم عظيم. قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)[27].
3. الحث على الصَّمت وحُسْنِ الإستماع
الصمت وحُسن الإستماع مهارة لابدّ من إتقانها، لما لذلك من أهمية كبرى في بناء العلاقات الإنسانية بين الأفراد والجماعات، وهي وسيلة مُجدية في إيجاد الفهم المتبادل بين الناس، ومساعدتهم في حلِّ مشكلاتهم، والتخفيف من آلامهم، وما يحسون به من ضيقٍ وحزن.
وقد نبَّه القرآن الكريم إلى ضرورة حُسن الاستماع. قال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الألْبَابِ)[28]. قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن ويَنْكَفُّ عن القبيح فلا يتحدث به[29].
جاء في كتاب «فن التفاوض» لوليام أوري ما نَصُّهُ: "إنَّ الإنصات عظيم الفائدة، فهو يفتح لك نافذة لترى ما يدور في عقل الطرف الآخر، كما يجعل الطرف الآخر على استعداد للإنصات إليك. فلو أنَّ الطرف الآخر كان غاضباً أو قلقاً، فلماذا لا تحاول أنْ تستمع إلى شكواه. لا تقاطعه حتى لو شعرتَ أنه مخطئ، أو أنه يهينك. ويمكنك أنْ تُشْعره بإصغائك إليه عن طريق تركيز نظرك عليه، أو هزّ رأسك من آنٍ لآخر، أو ترديد عبارات مثل: «نعم، نعم» أو «أنا أفهم ما تقصده» وعندما ينتهي من حديثه، اسْأَلْه بهدوء إن كان لديه شيء آخر يريد أن يضيفه، وشجعه على أنْ يُفضي إليك بكل ما يضايقه، بأن تقول له مثلاً: «من فضلك استمر في حديثك» أو «ماذا حدث بعد ذلك؟». وبمجرد أنْ تُنصت لما يريد الطرف الآخر أنْ يقوله، فغالباً ما سيؤدي ذلك إلى تهدئته، ليصبح أكثر تعقَّلاً وأكثر استجابة بشأن حل المشكلة، واستصدار القرار المطلوب، فليس من قبيل الصدفة أنَّ أفضل المحاورين غالباً ما يستمعون أكثر مما يتكلمون"[30].
ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنَّ براعة الإنصات تكون بالأذُن، وطرف العين، وحضور القلب، وإشراقة الوجه، وعدم الإنشغال بتحضير الردّ، وعدم الإستعجال بالردّ قبل إتمام الفهم. فإنَّ كثيراً من الناس يخفقون في ترك أثرٍ طيِّب في نفوس من يقابلونهم لأول مرة، لأنهم لا يُصغون إليهم باهتمام، إنهم يستمعون بنصف أُذُن، ويحصرون همهم فيما سيقولونه لمستمعهم، فإذا تكلَّم المستمع لم يُلقوا لـه بالاً، عِلْماً بأنَّ أكثر الناس يُفضِّلون المنصت الجيد على المتكلم الجيد[31].
يقول دايل كارنيغي Dale Carnegie في كتابه القيم «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس»: "إذا كنتَ تريد أنْ ينفضَّ الناسُ من حولك، ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك، فهاك الوصفة: لا تُعطِ أحداً فرصة الحديث .. تَكَلَّم بغير انقطاع .. وإذا خَطَرَت لك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يُتم حديثه، فهو ليس ذكياً مثلك، فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف؟ اقتحم عليه الحديث، واعترض في منتصف كلامه"[32].
ومن حُسن الاستماع أنه إذا كان السامع عالماً بكلام المتحدث، فإنه ليس من الأدب مقاطعته ومداخلته فيه، بغرض الإظهار للآخرين معرفة هذا الحديث والعلم به. قال عطاء بن أبي رباح: إنَّ الشاب ليحدثني بحديث، فأستمع له كأني لم أسمعه، ولقد سمعتُه قبل أنْ يولد[33].
ومن حُسن الأدب أيضاً، أنه إذا أشكل على المستمع شيء من كلام محدِّثه، فإن عليه أنْ يصبر حتى الانتهاء من الحديث، ثم يستفهم منه بأدب ولطف وتمهيدٍ حَسَنٍ للاستفهام، ولا يقطع عليه كلامه، فإنَّ ذلك مخلٌّ بأدب الاستماع، إلا إذا كان المجلس مجلس دراسة وتعلُّم، فإن له حينئذٍ شأناً آخر، ويحسن فيه السؤال والمناقشة عند تمام الجملة أو المعنى الذي يشرحه المعلِّم، وينبغي أنْ تكون المناقشة فيه بأدب وكياسة[34]. قال الهيثم بن عَدي: قالت الحكماء: من الأخلاق السيئة مغالبة الرجل على كلامه، والاعتراض فيه لقطع حديثه[35].
ومن الأدب في هذا السياق كذلك، أنه إذا سُئل شخصٌ عن شيء، فإنه لا يحسن بغيره أنْ يبادر إلى الإجابة، بل ينبغي أنْ لا يقول شيئاً حتى يُسأل عنه، فإنَّ ذلك أحْفَظُ للأدب وأرفع للمقام. رُوي عن مجاهد أنَّ لقمان قال لإبنه: إياك إذا سُئل غيرك أنْ تكونَ أنتَ المجيب، كأنكَ أصبتَ غنيمة، أو ظفرت بعطيَّة، فإنك إنْ فعلتَ ذلك، أَزْرَيْتَ بالمسؤول، وعَنَّفت السائل، ودَللْتَ السفهاءَ على سفاهة حلمك، وسوء أدبك[36].
4. الحث على خفض الصوت وعدم رفعه
من توجيهات القرآن الكريم في الحث على الأدب مع الآخرين، الدعوة إلى خفض الصوت وعدم رفعه. ويظهر هذا التوجيه جَليِّاً فيما جاء على لسان لقمان الحكيم في وصاياه لابنه. قال تعالى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[37].
قال الآلوسي: "والحكمة في غض الصوت المأمور به، أنه أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع، وفَهْمِه"[38].
وأدب خفض الصوت ينبغي مراعاته مع جميع المخاطبين، بغضِّ النظر عن سِنِّهم ومكانتهم، غير أنه يزداد تأكيداً مع ذوي المكانة والشأن، وعلى هذا جاء التوجيه القرآني بخفض الصوت في حضرة النبي (ص)، الوارد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ)[39]. وكذلك في حضرة الوالدين، كما يُفهم من قوله تعالى: ( فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[40].
ولعلنا أحوج ما نكون إلى الهدوء وعدم رفع الصوت في الحوار الذي يجري مع المعارضين والمخالفين، فإنه يحسن بالمحاور ألا يرفع الصوت أكثر مما يحتاج إليه السامع. فإنَّ رفع الصوت لا يُقوِّي حجة صاحبه قط، وفي أكثر الحالات يكون صاحب الصوت الأعلى قليل المضمون، ضعيف الحجة، يستر عجزه بالصراخ، على عكس صاحب الصوت الهادئ الذي يعكس عقلاً متزناً وفكراً منظماً وحجة وموضوعية.
قال أبو عثمان محمد بن الشافعي: ما سمعتُ أبي ناظر أحداً قط فرفع صوته[41].
وقد وُجد بالخبرة والتجربة، أنَّ الصوت المعتدل الهادئ المتأني من غير صراخ أو صياح، ومن غير إسرارٍ وإخفات، هو الأدخل إلى النفوس، والأنفذ إلى الأعماق، والأحفظ لجلال الكلمة ووقار المتكلم.
5. الحث على طلاقة الوجه وعدم العبوس
تُعدُّ طلاقة الوجه لوناً من ألوان التحبب إلى الناس، ووسيلةً مؤثرةً من وسائل التقرِّب إلى الآخرين ومداراتهم. قال تعالى موجهاً رسوله الكريم إلى هذا السلوك: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)[42]؛ أي تواضع لهم وأَلِنْ جانبك، وعامل أهل الإيمان بالإحسان والرفق والحنان. كما حذَّره سبحانه من الفظاظة والغلظة والقسوة والشدة باعتبارها من المنفِّرات والمفرِّقات والمذهبات لأخوَّة الإيمان، فقال سبحانه: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)[43]. ونهى القرآن الكريم صراحةً عن العبوس في وجه الشخص في أثناء الحديث معه، فقد عاتب سبحانه وتعالى رسوله الكريم لعبوسه في وجه أحد الصحابة. قال تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ)[44].
والمطَّلع على سيرة المصطفى (ص) وسنّته الشريفة، يجد بما لا يدع مجالاً للشك، أنه كان القدوة في حُسن الإخاء وجميل المعاشرة وطلاقة الوجه. فنظراً لأهمية هذا الخُلُق الرفيع، وما انطوى عليه من الآثار الجليلة في نفوس الناس، وكونه من أبرز أسباب تجمع القلوب، وإشاعة الألفة والمحبة والوداد بين الإخوان، وجدنا النبي (ص) يحث على طلاقة الوجه في لُقيا المؤمنين بعضهم بعضاً. فقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المعروف شيئاً ولو أنْ تَلْقَى أخاك بوجْهٍ طَلِق"[45]. وقال: "تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة"[46].
6. الحث على أداء التحية وردِّها
الناظر في التوجيهات القرآنية التي تحثُّ على أدب المعاملة، يجد أنها تُحدد السِّمة التي يحرص المنهج القرآني دوماً على طبع المجتمع المسلم بها، ألا وهي الدعوة إلى التمسك بكلِّ وسيلة من شأنها أنْ تُوثِّق عُرى الأخوة وتعزّز علاقات المودَّة بين أفراد المجتمع. ولعل إفشاء السلام والتحيَّة يُعدَّان في مقدمة تلك الوسائل التي تتجلَّى ثمارها في تصفية القلوب، وتوسيع دائرة التعارف بين الناس، وتوثيق الصِّلة بين عباد الله، وهي ظاهرة يُدركها كل من يمارسها على صعيد المجتمع، ويتدبّر نتائجها الإنسانية العجيبة. وقد اختار الله للمؤمنين أجمل معاني التحية ليتبادلوها فيما بينهم؛ وجَعَلَها كلمة السلام. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[47]. وقال: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)[48].
وإذا كان الإسلام قد حثَّ على أداء التحية، فهو في الوقت نفسه قد حثَّ على ردِّها. وإنْ كان الحث على أدائها قد جاء على وجه النَدْب، فإنَّ الحث على ردِّها قد جاء على وجه الوجوب. قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا)[49]. قال القرطبي: "أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سُنَّة مُرغَّبٌ فيها، وردّه فريضة، لقوله تعالى: «فحيُّوا بأحسن منها أو رُدُّوها» "[50].
7. النهي عن النجوى
النجوى: هي كلام السرِّ الذي يكون بين اثنين أو أكثر، في تخافت وتهامس، بعيداً عن أسماع الناس[51]. ويبين القرآن الكريم أنَّ النجوى من صفات المنافقين الذين يَجبنون دائماً عن التصريح بآرائهم ومعتقداتهم، ويعتادون على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[52].
وفي النهي عن النجوى دليلٌ على حرص الإسلام على مراعاة شعور الآخرين، إذ إنَّ النجوى على هذه الصورة تؤدِّي إلى سوء الظن بالآخرين وجرح مشاعرهم، لما قد يوحيه هذا التصرف لهم بأنهم ليسوا أهلاً للمشورة أو الصحبة.
8. النهي عن السخرية والتنابز بالألقاب
الناظر في أثر السخرية والتنابز بالألقاب على العلاقات الإنسانية، يجد أنَّ سُخرية الإنسان من أخيه الإنسان معول هدَّام يسعى حثيثاً في تخريب العلاقات الإنسانية، وتمزيق الأخوة الإيمانية شرَّ ممزَّق، حيث يستعلي المرء بماله أو حسبه أو جاهه، مفاخرة ومباهاة وتحقيراً للآخرين، دون أن يُدرك إمكانية تفوِّقهم عليه بمواصفات لا تتوافر فيه، وهذه كلها أسلحة إبليس يضعها بين أيدي الخلائق ليفرِّق بينهم، وليزرع العداوة والبغضاء في قلوبهم.
ونَهى الله تعالى المؤمنين عن السخرية من الآخرين مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم، فلعلَّ من يُسخَر منه ويُنظر إليه نظرة احتقار واستخفاف، خيرٌ وأحبُّ إلى الله من الساخر الذي يعتقد في نفسه الكمال، ويرمي أخاه بالنقص والعيب. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ)[53]. وقال تعالى: (ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[54].
ويستوقفنا في هذه الآية قوله تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم) فكيف يصحُّ هذا التعبير علماً بأن الإنسان يلمز غيره لا نفسه؟ إنَّ في هذا التعبير القرآني تذكيرٌ للمؤمنين بأنهم وحدة متماسكة كنفس واحدة، فمن عاب غيره من المؤمنين، فكأنما يعيب نفسه. وفي هذا إشارة إلى مستوى العلاقة التي يجب أن تسود بين المسلمين. إنها الأخوَّة التي تجعل من الحفاظ على حقوق الأخ حفاظاً على حقوق النفس.
فالقرآن الكريم يؤسس لقواعد اللياقة الاجتماعية، والأدب النفسي للتعامل في المجتمع الإنساني، فالمجتمع الفاضل من وجهة النظر القرآنية، لا بدّ وأن يقوم على أسسٍ من الأدبيات الذوقية، التي ينبغي أنْ تَحكم العلاقات السائدة بين أبنائه. إنه المجتمع الذي يترفَّع أبناؤه عن الهمز واللمز والسخرية، ويكون الأدب هو الخُلق الذي يحكم تعاملهم فيما بينهم.
9. النهي عن الغيبة والنميمة
من الأمور التي وجَّه القرآن الكريم لإجتنابها لمنافاتها أدب المعاملة، الغيبة والنميمة. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)[55]. وقال: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ)[56].
والهدف من هذه التوجيهات، هو تنقية المجتمع الإسلامي من شوائب الخسَّة والضِّعة، وبناء العلاقات الاجتماعية على أسس المودَّة والإخاء والنصيحة، وشغل الوقت بالإيجابيات النافعة، وصون الأمة عن السلبيات المبدِّدة، فالمؤمن طاهر القلب أبداً عفيف اللسان، إذا رأى عورة لأخيه سترها، وإذا شاهد نقيصة أعرض عن نشرها، ونبهه سراً للإقلاع عنها...
وذِكرُ هذه الأشياء التي يُعاب بها الإنسان يُساعد على شيوعها، والله سبحانه لا يحبّ أن تشيع هذه السلبيَّات في حياة الناس. ولا يخفى ما ينشأ من آثارٍ سيئة في العلاقات بين الناس نتيجة سماع هذه المعايب، وما يُثار من ضغائن وأحقاد عندما يُنقل هذا الكلام إلى الطرف الآخر. وقد سعى الإسلام إلى إقامة سياجٍ حول حُرمات الأشخاص وكراماتهم وحرياتهم، وتعليم الناس كيف يطهِّرون مشاعرهم وضمائرهم في أسلوب متفرِّدٍ عجيب.
- أولاً: مفهوم الأدب وفضله
الأدب لغةً هو الظَرْفُ وحُسْن التناول. يُقال: تأدّب الغلام في كلامه مع أبيه؛ أي تحاشى الكلامَ الخارج عن حدود الأدب. وسُمِّيَ الأدب أدباً لأنه يُوجّه الناسَ إلى المحامد وينهاهم عن القبائح. وأصل الأدب الدعاء، ومنه قيل للطعام الذي يُدعى إليه الناس مَدْعاة ومَأْدُبَة[1]. ومصطلح الأدب كما يرى ابن القيم يدل على معنى الاجتماع؛ فالأدب اجتماع خصال الخير في العبد. ومنه المأدُبة وهي الطعام الذي يجتمع عليه الناس[2].
وعَرّف الجرجاني الأدب بأنه "عبارة عن معرفة ما يُحترز به عن جميع أنواع الخطأ"[3]. ووَردَ عن عبدالله بن المبارك أنه عرّف الأدب بأنه معرفة النفس ورعونتها، وتجنب تلك الرعونة[4].
... ولابدّ هنا من التمييز بين الأدب بمفهومه العام، وعلم الأدب بمفهومه الخاص. فعلم الأدب هو "علم إصلاح اللسان والخطاب، وإصابة مواقعه، وتحسين ألفاظه، وصيانته عن الأخطاء والخلل"[5]. فهذا المفهوم كما يقول ابن القيم هو "شعبة من الأدب العام"[6].
والأدب الذي يعنينا في هذا البحث هو الأدب بمفهومه العام والذي أشرنا إليه أولاً، وهو المختص بالجانب الخُلُقي والسلوكي لا بدلالات اللسان ودلالات الألفاظ في حالاتها الإفرادية والتركيبية.
وبالنظر إلى أهمية الأدب وفضله في الإسلام، فإننا نجد أنّ الإسلام قد وضع قواعد في التربية والتهذيب، ومبادئ للقيم والسلوك والأخلاق، ليقيم عليها مجتمعاً نقيّ السريرة، عفّ اللسان، ذا أدبٍ وذوقٍ رفيع. فقد عُنيَ الإسلام بموضوع الأدب بشكل عام. فقـد رُوي عن النبي (ص) أنه قال: "ما نَحَلَ والدٌ ولدَه أفضل من أدبٍ حَسَن"[7]. وأنه قال: "أكرموا أولادكم وأحسنوا أدبهم"[8].
ويشير عبدالله بن المبارك إلى حاجتنا إلى الأدب بقوله: نحن إلى قليل من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم[9]. ويقول الإمام القرافي في كتابه «الفروق» وهو يتحدث عن موقع الأدب من العمل وبيان أنه مُقدَّم في الرتبة عليه: "واعلم أنّ قليلَ الأدب خير ٌمن كثير من العمل، ولذلك هلك إبليس وضاع أكثر عمله بقلَّة أدبه. وقال الرجل الصالح لابنه: اجعل عملك مِلحاً وأَدَبَك دقيقاً؛ أي ليكنْ استكثارُك من الأدب أكثر من استكثارك من العمل؛ لكثرة جدواه ونفاسة معناه"[10].
وقيل في بيان فضل الأدب: أربعةٌ يسود بها العبد: العلم، والأدب، والفقه، والأمانة[11]. وقيل: مَن كَثُرَ أدبُه شرُفَ وإنْ كان وضيعاً، وسادَ وإنْ كان غريباً، وكثُرت الحاجة إليه وإنْ كان فقيراً[12].
وإنْ كان الأدب خُلُقاً عاماً يتناول كثيراً من التصرفات والسلوكيات، إلا أنه أفضل ما يكون في الكلام. رُوي في ذلك عن عبد الملك بن مروان أنه قال: "ما الناسُ إلى شيءٍ مِنَ الأدب أحوجُ منهم إلى إقامة ألسنتهم التي بها يتعاودون الكلام، ويتعاطَوْن البيان، ويتهادَوْن الحكمة، ويستخرجون غوامض العلم من مخابئها، ويجمعون ما تفرّق منها، فإنّ الكلام قاضٍ يحكم بين الخصوم، وضياءٌ يجلو الظُلَم. حاجةُ الناسِ إلى موادّه حاجُتُهم إلى موادّ الأغذية"[13].
- ثانياً: التصوّر القرآني لأدب التعامل مع الآخرين
الأصل في دين الإسلام أنه دينُ تجمّعٍ وألفة، لا دينَ عزلةٍ وفرارٍ من تكاليف الحياة، ولم يأت القرآن ليدعو المسلمين إلى الانقطاع في دير، أو العبادة في صومعة، بعيداً عن مشاكل الحياة ومتطلباتها. بل إنّ نزعة التعرّف إلى الناس والاختلاط بهم أصيلة في تعاليم هذا الدين. فقد بين الرسول (ص) أنّ الفضل لمن خالط الآخرين وتعرَّف عليهم ولم يتقوقع على نفسه، وذلك في قوله: "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم، أفضل من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم"[14]،[15].
* * * * *
والحقيقة أنَّ أدب التعامل مع الآخرين له مفهوم شامل، يتسع اتساع العلاقات الإنسانية بين بني البشر. والروابط التي تجمع بين الناس كثيرة، فمن رابطة الدم، إلى رابطة الفكرة والمبدأ، ورابطة العمل والوظيفة، ورابطة الصداقة والصحبة، ورابطة الجنس والعرق، والرابطة التجارية والاقتصادية، ورابطة العقيدة التي تُعدّ من أقوى الروابط وأمتنها. ولكن قوّة رابطة العقيدة، لا تعني أنَّ أدب التعامل مع الآخرين لا يدور إلا في نطاقها، ولا يشمل التعامل مع أصحاب العقائد الأخرى من غير المسلمين، بل إنَّ أدب التعامل يتسع ليشمل الإنسانية كلَّها.
ولابدّ لنا في هذا السياق من التفريق بين أدب التعامل مع الآخرين وبين الولاء لهم. فإنّ الولاء هو المحبة والنصرة[16] وهذه لا تكون إلا بين المسلمين. ولكن التبرؤ من أعداء الله لا يعني الإساءة في معاملتهم، أو أكل حقوقهم، أو سبّهم والفحش معهم في القول، أو عدم ملاطفتهم. فالولاء "هو سلوك الباطن، والمحبة القلبية، وما يترتب على ذلك من نصرة وإعانة. أما التعامل الحسن؛ فهو سلوك الجوارح والعلاقة الظاهرية. والأول قد حُصر على المسلمين، أما الثاني فهو مع المسلمين ومع غيرهم"[17]. ولعلّ ما ورد في سورة الممتحنة، هو من أوضح الآيات التي تميز بين الولاء وبين البرّ وحُسن التعامل، يقول تعالى: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[18].
فقضية التعامل مع الآخرين هي قضية بالغة الأهمية والخطورة، وقد جعل الإسلام الإلتزام بالدين في قسمٍ كبيرٍ منه، متوقفٌ على الأدب وحسن المعاملة. ومن منطلق هذه الأهمية، جاء القرآن الكريم ليضع لنا المناهج القويمة والأسس السليمة للتعامل مع الآخرين باعتباره موضوعاً أساسياً من موضوعات هذا الدين. فقد أصّل القرآن الكريم لأدب التعامل مع الآخرين وأقامه على مجموعة من القواعد والفنون، التي نضمن من خلالها نتائج إيجابية وحسنة في العلاقات الإنسانية، وهذه القواعد والفنون كثيرة ومتنوعة، وليس من موضوعنا الحديث فيها، غير أنّ هناك قاعدة قرآنية تُعدُّ أصلاً تتفرع عنه كل قواعد التعامل مع الآخرين، هذه القاعدة هي «حُسْنُ الخُلُق»، إذْ لا نجاح ولا توفيق في التعامل مع الآخرين دون هذا الأصل المتين. ومن هنا فقد مدح الله تعالى نبيه بهذه الصفة، فقال عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[19]...
فحُسْنُ الخُلُق أصْلٌ في أدب التعامل، وتتفرع عنه سلوكيات كثيرة. ويتحدّث الإمام الغزالي عن أهم هذه السلوكيات المترتبة على حُسن الخُلُق، فيقول بأن من صفات الشخص الذي يوصف بحسن الخُلُق أنه "يكون كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الإصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزلل، قليل الفضول، بَرّاً وصولاً، وقوراً صبوراً، شكوراً رضيّاً، حليماً رفيقاً، عفيفاً شفيقاً، لا لعَّاناً ولا سبّاباً، ولا نمّاماً ولا مغتاباً، ولا عجولاً، ولا حقوداً، ولا بخيلاً ولا حسوداً، بشّاشاً هشّاشاً، يحب في الله، ويبغض في الله، ويرضى في الله، ويغضب في الله، فهذا هو حُسن الخلق"[20].
ويُنبِّه المصطفى (ص) إلى أهميَّة حُسْن الخُلُق في التعامل مع الآخرين، فيقول: «إنَّكم لا تَسَعُونَ النَّاسَ بأموالِكم، ولكنْ يَسَعُهُم منْكم بَسْطُ الوجْهِ وحُسْنُ الخُلُق»[21]. وفي هذا الحديث الشريف عِظَةٌ نافعة وحِكمة بالغة، فإنَّ الإنسان مهما بَذَل من المال لا يحظى برضى الناس، ثم إنَّ المال ليس في مقدور كلّ إنسان، ولكن في مقدور كلِّ واحدٍ أنْ يُحسن خُلُقه، ويلين جانبه، ويخفض جناحه، ويبسط وجهه. وهذا الأدب في التعامل مع الآخرين، خيرُ مُعينٍ على تذليل صعوبات الحياة، وتخفيف آلامها، لأنه يبعث السرور في النفس، وبه تطيب المعاشرة وتصفو المعيشة.
كما يشير القرآن الكريم إلى مبدأ مهم في التعامل مع الآخرين. فالدِّينُ في المنظور القرآني ليس صلاةً وصياماً في جهة، وجلافةً وجَفَاءً في التعامل مع الناس في الجهة الأخرى، بل هو وِحْدَةٌ متكاملة يرتبط فيها الجانب الإيماني بالجانب العَملي في الحياة. قال تعالى: (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)[22].
فهذه الآية تشير إلى ملامح الشخصية الإسلامية التي ترتكز على جانبين اثنين: جانب الفكر والإيمان وأداء العبادات، وجانب الممارسة في السلوك الذاتي وفي العلاقة مع الناس ومع المواقف الصعبة في الحياة. نلمح ذلك من خلال تحديد طبيعة البِرّ الذي يعني التوسُّع في الخير والإحسان، كما يذكر أهل اللغة[23]، لأنه يمثِّل سرّ الشخصيّة لدى المؤمن في آفاق التصوّر وميدان التعامل. فبالإيمان والعمل تتكامل الشخصية وتنطلق.
وبصورة عامة، فإنّ الأسلوب الإسلامي في التعامل مع الناس هو الأسلوب الأمثل والأحسن، وهو الأسلوب الذي يعود بانعكاسات إيجابية على العلاقات الإنسانية. ولا يزال المسلم الحق الملتزم بدينه، المحافظ على أخلاقه الإسلامية، شامةً بين الناس وقدوة حسنة لهم، يحبه كلُّ من يخالطه، ويُسَرُّ لـه كل من يجالسه. تخلُّقه بآداب الإسلام ومكارم الأخلاق جعل منه نموذجاً حياً للشخصية الاجتماعية الرّاقية المهذبة النقية.
وما انتشار الإسلام في جميع أنحاء المعمورة إلا دليلٌ واضحٌ على انعكاس الأخلاق الإسلامية على العلاقات في المجتمعات الإنسانية، حتى إنَّ الذين دخلوا في هذا الدين تأثّراً بهذه الأخلاق، يتجاوز عددهم أضعاف من دخلوه عن طريق السيف. بل إنّ السيف –في كثير من الأحيان- لم يكن إلا لإزالة العقبات التي تحول بين الناس والالتقاء مع صفاء الإسلام وسماحة أخلاقه، وما أنْ تضع الحرب أوزارها، ويتعامل المسلمون مع أعدائهم، وتنساب العلاقات فيما بينهم، حتى تبهرهم عظمة هذا الدين، وسُموِّ أخلاقه، فيتحولوا من أعداء محاربين للإسلام وأهله، إلى مناصرين للحق مدافعين عنه.
- توجيهات قرآنية في الحث على أدب المعاملة:
كثيرة هي التوجيهات القرآنية التي تحث على الالتزام بالأدب في التعامل مع الآخرين، وسنحاول فيما يلي أن نذكر بعضاً منها على سبيل المثال لا الحصر:
1. النهي عن فضول الكلام والخوض في الباطل
حثَّ القرآن الكريم على الإبتعاد عن فضول الكلام وعدم الخوض في الباطل، والالتزام بهذا التوجيه القرآني مِنْ شأنه أنْ يَصُبَّ في بناء مجتمعٍ متماسكٍ يبتعد فيه الناس عن الثرثرة والإكثار من الكلام الذي لا حاجة إليه. قال تعالى: (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا)[24]. فهذه الآية القرآنية تُوجِّه المؤمنين إلى أنْ يكون كلامُهم هادفاً، فإنَّ من شأن المسلم الواعي ألا يخوض فيما لا يعنيه، وألا يُكثر من الكلام المباح غير الهادف والذي لا خير فيه، فإنَّ الوقت أثمن من إضاعته في فضول الكلام وهَذَرِه.
وكثرة الكلام تؤدي إلى قسوة القلب، فقد وَرَدَ عن رسول الله (ص) أنه قال: "لا ُتكثروا الكلام بغير ذكر الله، فإنَّ كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوةٌ للقلب، وإنَّ أبعد الناس من الله القلب القاسي"[25]. ولا شكَّ أنَّ قسوة القلب مع الله تؤدي إلى قسوته مع الناس، مما يُلقي بظلاله السيئة على الاتصال بالآخرين، وعلى العلاقات الإنسانية بشكل عام.
2. النهي عن السب والفحش في القول
للسب واللعن والفحش في القول أضرار كثيرة، ففيها إيذاءٌ للمسبوب، وإيغارٌ للصدور، وقَطْعٌ للعلاقات والمودَّات، وزرعٌ لبذور الفتنة والشقاق، وذلك لما تجلبه من العداوة والبغضاء، وتجرُّه من المنازعات والمشاحنات التي قد تنتهي بأوخم العواقب وأسوأ النتائج، فتتفكك عُرى المحبة، وتنقطع روابط الأُلْفة، ويحل الفساد محل الصلاح، والخصام محل الوئام، فتسوء الأحوال وتضطرب الأعمال.
ونتيجة لهذه الآثار السيئة التي يتركها السباب وفحش القول على العلاقات الإنسانية، جاء التوجيه القرآني ليحث على تجنب النطق بالألفاظ البذيئة، والكلمات المبتذلة. قال تعالى: (لاَّ يُحِبُّ اللّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)[26]. وفي آية أخرى نصَّ القرآن الكريم على أن إيذاء المؤمنين بالقول السيئ دون وجه حق، يترتب عليه إثم عظيم. قال تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُّبِينًا)[27].
3. الحث على الصَّمت وحُسْنِ الإستماع
الصمت وحُسن الإستماع مهارة لابدّ من إتقانها، لما لذلك من أهمية كبرى في بناء العلاقات الإنسانية بين الأفراد والجماعات، وهي وسيلة مُجدية في إيجاد الفهم المتبادل بين الناس، ومساعدتهم في حلِّ مشكلاتهم، والتخفيف من آلامهم، وما يحسون به من ضيقٍ وحزن.
وقد نبَّه القرآن الكريم إلى ضرورة حُسن الاستماع. قال تعالى: (الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُوْلَئِكَ هُمْ أُوْلُوا الألْبَابِ)[28]. قال ابن عباس: هو الرجل يسمع الحسن والقبيح، فيتحدث بالحسن ويَنْكَفُّ عن القبيح فلا يتحدث به[29].
جاء في كتاب «فن التفاوض» لوليام أوري ما نَصُّهُ: "إنَّ الإنصات عظيم الفائدة، فهو يفتح لك نافذة لترى ما يدور في عقل الطرف الآخر، كما يجعل الطرف الآخر على استعداد للإنصات إليك. فلو أنَّ الطرف الآخر كان غاضباً أو قلقاً، فلماذا لا تحاول أنْ تستمع إلى شكواه. لا تقاطعه حتى لو شعرتَ أنه مخطئ، أو أنه يهينك. ويمكنك أنْ تُشْعره بإصغائك إليه عن طريق تركيز نظرك عليه، أو هزّ رأسك من آنٍ لآخر، أو ترديد عبارات مثل: «نعم، نعم» أو «أنا أفهم ما تقصده» وعندما ينتهي من حديثه، اسْأَلْه بهدوء إن كان لديه شيء آخر يريد أن يضيفه، وشجعه على أنْ يُفضي إليك بكل ما يضايقه، بأن تقول له مثلاً: «من فضلك استمر في حديثك» أو «ماذا حدث بعد ذلك؟». وبمجرد أنْ تُنصت لما يريد الطرف الآخر أنْ يقوله، فغالباً ما سيؤدي ذلك إلى تهدئته، ليصبح أكثر تعقَّلاً وأكثر استجابة بشأن حل المشكلة، واستصدار القرار المطلوب، فليس من قبيل الصدفة أنَّ أفضل المحاورين غالباً ما يستمعون أكثر مما يتكلمون"[30].
ولابدّ من الإشارة هنا إلى أنَّ براعة الإنصات تكون بالأذُن، وطرف العين، وحضور القلب، وإشراقة الوجه، وعدم الإنشغال بتحضير الردّ، وعدم الإستعجال بالردّ قبل إتمام الفهم. فإنَّ كثيراً من الناس يخفقون في ترك أثرٍ طيِّب في نفوس من يقابلونهم لأول مرة، لأنهم لا يُصغون إليهم باهتمام، إنهم يستمعون بنصف أُذُن، ويحصرون همهم فيما سيقولونه لمستمعهم، فإذا تكلَّم المستمع لم يُلقوا لـه بالاً، عِلْماً بأنَّ أكثر الناس يُفضِّلون المنصت الجيد على المتكلم الجيد[31].
يقول دايل كارنيغي Dale Carnegie في كتابه القيم «كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس»: "إذا كنتَ تريد أنْ ينفضَّ الناسُ من حولك، ويسخروا منك عندما توليهم ظهرك، فهاك الوصفة: لا تُعطِ أحداً فرصة الحديث .. تَكَلَّم بغير انقطاع .. وإذا خَطَرَت لك فكرة بينما غيرك يتحدث فلا تنتظر حتى يُتم حديثه، فهو ليس ذكياً مثلك، فلماذا تضيع وقتك في الاستماع إلى حديثه السخيف؟ اقتحم عليه الحديث، واعترض في منتصف كلامه"[32].
ومن حُسن الاستماع أنه إذا كان السامع عالماً بكلام المتحدث، فإنه ليس من الأدب مقاطعته ومداخلته فيه، بغرض الإظهار للآخرين معرفة هذا الحديث والعلم به. قال عطاء بن أبي رباح: إنَّ الشاب ليحدثني بحديث، فأستمع له كأني لم أسمعه، ولقد سمعتُه قبل أنْ يولد[33].
ومن حُسن الأدب أيضاً، أنه إذا أشكل على المستمع شيء من كلام محدِّثه، فإن عليه أنْ يصبر حتى الانتهاء من الحديث، ثم يستفهم منه بأدب ولطف وتمهيدٍ حَسَنٍ للاستفهام، ولا يقطع عليه كلامه، فإنَّ ذلك مخلٌّ بأدب الاستماع، إلا إذا كان المجلس مجلس دراسة وتعلُّم، فإن له حينئذٍ شأناً آخر، ويحسن فيه السؤال والمناقشة عند تمام الجملة أو المعنى الذي يشرحه المعلِّم، وينبغي أنْ تكون المناقشة فيه بأدب وكياسة[34]. قال الهيثم بن عَدي: قالت الحكماء: من الأخلاق السيئة مغالبة الرجل على كلامه، والاعتراض فيه لقطع حديثه[35].
ومن الأدب في هذا السياق كذلك، أنه إذا سُئل شخصٌ عن شيء، فإنه لا يحسن بغيره أنْ يبادر إلى الإجابة، بل ينبغي أنْ لا يقول شيئاً حتى يُسأل عنه، فإنَّ ذلك أحْفَظُ للأدب وأرفع للمقام. رُوي عن مجاهد أنَّ لقمان قال لإبنه: إياك إذا سُئل غيرك أنْ تكونَ أنتَ المجيب، كأنكَ أصبتَ غنيمة، أو ظفرت بعطيَّة، فإنك إنْ فعلتَ ذلك، أَزْرَيْتَ بالمسؤول، وعَنَّفت السائل، ودَللْتَ السفهاءَ على سفاهة حلمك، وسوء أدبك[36].
4. الحث على خفض الصوت وعدم رفعه
من توجيهات القرآن الكريم في الحث على الأدب مع الآخرين، الدعوة إلى خفض الصوت وعدم رفعه. ويظهر هذا التوجيه جَليِّاً فيما جاء على لسان لقمان الحكيم في وصاياه لابنه. قال تعالى: (وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ)[37].
قال الآلوسي: "والحكمة في غض الصوت المأمور به، أنه أوفر للمتكلم، وأبسط لنفس السامع، وفَهْمِه"[38].
وأدب خفض الصوت ينبغي مراعاته مع جميع المخاطبين، بغضِّ النظر عن سِنِّهم ومكانتهم، غير أنه يزداد تأكيداً مع ذوي المكانة والشأن، وعلى هذا جاء التوجيه القرآني بخفض الصوت في حضرة النبي (ص)، الوارد في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لا تَشْعُرُونَ)[39]. وكذلك في حضرة الوالدين، كما يُفهم من قوله تعالى: ( فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا * وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا)[40].
ولعلنا أحوج ما نكون إلى الهدوء وعدم رفع الصوت في الحوار الذي يجري مع المعارضين والمخالفين، فإنه يحسن بالمحاور ألا يرفع الصوت أكثر مما يحتاج إليه السامع. فإنَّ رفع الصوت لا يُقوِّي حجة صاحبه قط، وفي أكثر الحالات يكون صاحب الصوت الأعلى قليل المضمون، ضعيف الحجة، يستر عجزه بالصراخ، على عكس صاحب الصوت الهادئ الذي يعكس عقلاً متزناً وفكراً منظماً وحجة وموضوعية.
قال أبو عثمان محمد بن الشافعي: ما سمعتُ أبي ناظر أحداً قط فرفع صوته[41].
وقد وُجد بالخبرة والتجربة، أنَّ الصوت المعتدل الهادئ المتأني من غير صراخ أو صياح، ومن غير إسرارٍ وإخفات، هو الأدخل إلى النفوس، والأنفذ إلى الأعماق، والأحفظ لجلال الكلمة ووقار المتكلم.
5. الحث على طلاقة الوجه وعدم العبوس
تُعدُّ طلاقة الوجه لوناً من ألوان التحبب إلى الناس، ووسيلةً مؤثرةً من وسائل التقرِّب إلى الآخرين ومداراتهم. قال تعالى موجهاً رسوله الكريم إلى هذا السلوك: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ)[42]؛ أي تواضع لهم وأَلِنْ جانبك، وعامل أهل الإيمان بالإحسان والرفق والحنان. كما حذَّره سبحانه من الفظاظة والغلظة والقسوة والشدة باعتبارها من المنفِّرات والمفرِّقات والمذهبات لأخوَّة الإيمان، فقال سبحانه: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ)[43]. ونهى القرآن الكريم صراحةً عن العبوس في وجه الشخص في أثناء الحديث معه، فقد عاتب سبحانه وتعالى رسوله الكريم لعبوسه في وجه أحد الصحابة. قال تعالى: (عَبَسَ وَتَوَلَّى * أَن جَاءهُ الأَعْمَى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى * أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذِّكْرَى * أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلا يَزَّكَّى * وَأَمَّا مَن جَاءكَ يَسْعَى * وَهُوَ يَخْشَى * فَأَنتَ عَنْهُ تَلَهَّى * كَلا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ)[44].
والمطَّلع على سيرة المصطفى (ص) وسنّته الشريفة، يجد بما لا يدع مجالاً للشك، أنه كان القدوة في حُسن الإخاء وجميل المعاشرة وطلاقة الوجه. فنظراً لأهمية هذا الخُلُق الرفيع، وما انطوى عليه من الآثار الجليلة في نفوس الناس، وكونه من أبرز أسباب تجمع القلوب، وإشاعة الألفة والمحبة والوداد بين الإخوان، وجدنا النبي (ص) يحث على طلاقة الوجه في لُقيا المؤمنين بعضهم بعضاً. فقد قال عليه الصلاة والسلام: "لا تَحْقِرَنَّ مِنَ المعروف شيئاً ولو أنْ تَلْقَى أخاك بوجْهٍ طَلِق"[45]. وقال: "تبسُّمك في وجه أخيك لك صدقة"[46].
6. الحث على أداء التحية وردِّها
الناظر في التوجيهات القرآنية التي تحثُّ على أدب المعاملة، يجد أنها تُحدد السِّمة التي يحرص المنهج القرآني دوماً على طبع المجتمع المسلم بها، ألا وهي الدعوة إلى التمسك بكلِّ وسيلة من شأنها أنْ تُوثِّق عُرى الأخوة وتعزّز علاقات المودَّة بين أفراد المجتمع. ولعل إفشاء السلام والتحيَّة يُعدَّان في مقدمة تلك الوسائل التي تتجلَّى ثمارها في تصفية القلوب، وتوسيع دائرة التعارف بين الناس، وتوثيق الصِّلة بين عباد الله، وهي ظاهرة يُدركها كل من يمارسها على صعيد المجتمع، ويتدبّر نتائجها الإنسانية العجيبة. وقد اختار الله للمؤمنين أجمل معاني التحية ليتبادلوها فيما بينهم؛ وجَعَلَها كلمة السلام. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[47]. وقال: (فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً)[48].
وإذا كان الإسلام قد حثَّ على أداء التحية، فهو في الوقت نفسه قد حثَّ على ردِّها. وإنْ كان الحث على أدائها قد جاء على وجه النَدْب، فإنَّ الحث على ردِّها قد جاء على وجه الوجوب. قال تعالى: (وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا)[49]. قال القرطبي: "أجمع العلماء على أن الابتداء بالسلام سُنَّة مُرغَّبٌ فيها، وردّه فريضة، لقوله تعالى: «فحيُّوا بأحسن منها أو رُدُّوها» "[50].
7. النهي عن النجوى
النجوى: هي كلام السرِّ الذي يكون بين اثنين أو أكثر، في تخافت وتهامس، بعيداً عن أسماع الناس[51]. ويبين القرآن الكريم أنَّ النجوى من صفات المنافقين الذين يَجبنون دائماً عن التصريح بآرائهم ومعتقداتهم، ويعتادون على التناجي بالإثم والعدوان ومعصية الرسول. قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاؤُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلا تَتَنَاجَوْا بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)[52].
وفي النهي عن النجوى دليلٌ على حرص الإسلام على مراعاة شعور الآخرين، إذ إنَّ النجوى على هذه الصورة تؤدِّي إلى سوء الظن بالآخرين وجرح مشاعرهم، لما قد يوحيه هذا التصرف لهم بأنهم ليسوا أهلاً للمشورة أو الصحبة.
8. النهي عن السخرية والتنابز بالألقاب
الناظر في أثر السخرية والتنابز بالألقاب على العلاقات الإنسانية، يجد أنَّ سُخرية الإنسان من أخيه الإنسان معول هدَّام يسعى حثيثاً في تخريب العلاقات الإنسانية، وتمزيق الأخوة الإيمانية شرَّ ممزَّق، حيث يستعلي المرء بماله أو حسبه أو جاهه، مفاخرة ومباهاة وتحقيراً للآخرين، دون أن يُدرك إمكانية تفوِّقهم عليه بمواصفات لا تتوافر فيه، وهذه كلها أسلحة إبليس يضعها بين أيدي الخلائق ليفرِّق بينهم، وليزرع العداوة والبغضاء في قلوبهم.
ونَهى الله تعالى المؤمنين عن السخرية من الآخرين مهما كانت صفاتهم وأوضاعهم، فلعلَّ من يُسخَر منه ويُنظر إليه نظرة احتقار واستخفاف، خيرٌ وأحبُّ إلى الله من الساخر الذي يعتقد في نفسه الكمال، ويرمي أخاه بالنقص والعيب. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلا نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ)[53]. وقال تعالى: (ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)[54].
ويستوقفنا في هذه الآية قوله تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم) فكيف يصحُّ هذا التعبير علماً بأن الإنسان يلمز غيره لا نفسه؟ إنَّ في هذا التعبير القرآني تذكيرٌ للمؤمنين بأنهم وحدة متماسكة كنفس واحدة، فمن عاب غيره من المؤمنين، فكأنما يعيب نفسه. وفي هذا إشارة إلى مستوى العلاقة التي يجب أن تسود بين المسلمين. إنها الأخوَّة التي تجعل من الحفاظ على حقوق الأخ حفاظاً على حقوق النفس.
فالقرآن الكريم يؤسس لقواعد اللياقة الاجتماعية، والأدب النفسي للتعامل في المجتمع الإنساني، فالمجتمع الفاضل من وجهة النظر القرآنية، لا بدّ وأن يقوم على أسسٍ من الأدبيات الذوقية، التي ينبغي أنْ تَحكم العلاقات السائدة بين أبنائه. إنه المجتمع الذي يترفَّع أبناؤه عن الهمز واللمز والسخرية، ويكون الأدب هو الخُلق الذي يحكم تعاملهم فيما بينهم.
9. النهي عن الغيبة والنميمة
من الأمور التي وجَّه القرآن الكريم لإجتنابها لمنافاتها أدب المعاملة، الغيبة والنميمة. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلا تَجَسَّسُوا وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ)[55]. وقال: (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلافٍ مَّهِينٍ * هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ)[56].
والهدف من هذه التوجيهات، هو تنقية المجتمع الإسلامي من شوائب الخسَّة والضِّعة، وبناء العلاقات الاجتماعية على أسس المودَّة والإخاء والنصيحة، وشغل الوقت بالإيجابيات النافعة، وصون الأمة عن السلبيات المبدِّدة، فالمؤمن طاهر القلب أبداً عفيف اللسان، إذا رأى عورة لأخيه سترها، وإذا شاهد نقيصة أعرض عن نشرها، ونبهه سراً للإقلاع عنها...
وذِكرُ هذه الأشياء التي يُعاب بها الإنسان يُساعد على شيوعها، والله سبحانه لا يحبّ أن تشيع هذه السلبيَّات في حياة الناس. ولا يخفى ما ينشأ من آثارٍ سيئة في العلاقات بين الناس نتيجة سماع هذه المعايب، وما يُثار من ضغائن وأحقاد عندما يُنقل هذا الكلام إلى الطرف الآخر. وقد سعى الإسلام إلى إقامة سياجٍ حول حُرمات الأشخاص وكراماتهم وحرياتهم، وتعليم الناس كيف يطهِّرون مشاعرهم وضمائرهم في أسلوب متفرِّدٍ عجيب.
مواضيع مماثلة
» أرجى آية في القرآن الكريم؟
» أسباب المغفرة القرآن الكريم
» أدعية من القرآن الكريم
» واجبنا نحو القرآن الكريم
» فضل القرآن الكريم وتدبره"
» أسباب المغفرة القرآن الكريم
» أدعية من القرآن الكريم
» واجبنا نحو القرآن الكريم
» فضل القرآن الكريم وتدبره"
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin