بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 6 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 6 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
السماء والسماوة 2
صفحة 1 من اصل 1
السماء والسماوة 2
وها هو الصدِّيق رضي الله عنه وأرضاه يقول: [[لست تاركاً شيئاً كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل به إلا عملت به، إني أخشى إن تركت من أمره شيئاً أن أزيغ ]]^ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [النور:63]^.
إنه الصدِّيق اتخذ الله معبوده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم دليله وإمامه، فرجح إيمانه.
فحفت به العلياء من كل جانبٍ كما حف أرجاءَ العيون المحاجرُ
لما أشار بعض المسلمين على أبي بكر رضي الله عنه بألا يبعث جيش أسامة لاحتياجه إليه، قال: [[والله لو أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة ، وأن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين؛ ما رددتُ جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللتُ لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو لم يبقَ في القُرَى غيري لأنفذته، أفأطيعه حياً وأعصيه ميتاً! ]]^ فأنفذه.
.................... فانقاد كُرهاً من أبى واستكبرا
ثم أعلنها حرباً على المرتدين، فقيل له: [[إنهم يقولون: لا إله إلا الله، قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عَناقاً أو عِقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ]]^ فنصر الله به دين الله:
قاد السفينَ بجرأة ومهارة كالطَّود نحو مسيرة لا تُهْزَمُ
وارتدت العرب الغلاظ فأشفقتْ همم الرجال فصاح: هل مَن يفهمُ؟
والله لو منعوا عِقال نويقةٍ أدَّوه نحو المصطفى لن يَسلَموا
ومضى أبو بكر لغايته إلى أن أخضع المرتد وهو مرغمُ
هذا هو الإسلام في عليائه مُثُلٌ وأعلامٌ ودينٌ قَيِّمُ
ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وتلك سهلة بالدعوى واللسان؛ لكنها صعبة عند التحقيق والامتحان.
الرضا -معشر الإخوة-: كمال الانقياد والاستسلام لأوامر الله ونواهيه، ولو خالف المرء شيخه وطائفته ومذهبه وهوى نفسه.
مستمسكاً بعرى العقيدة تابعاً ولغير شرع الله لا يستسلمُ
لا يوقف تنفيذ قول الأوامر على قول شيخه أو طائفته؛ فإن أذنوا نفذ وقَبِل وإلا أعرض ولم ينفذ، وفوض الأمر لهم، والله لأن يلقى العبد ربه بكل ذنب خلا الشرك خير له من أن يلقاه بهذه الحال. كما قال ابن القيم رحمه الله.
والحق مثل الشمس يجمل ضوؤه للمبصرين ولا يروق لأرمدِ
***
ووالله ما الأبصار تنفع أهلَها إذا لم يكن للمبصرين بصائرُ
معشر الإخوة: ذلك الجيل أسلم واستسلم وانقاد لحكم الله بلا خيار: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]^.
وبلا تنطع في البحث عن الحكمة والعلة؛ لأن ذلك ينافي التسليم والانقياد لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]^.
وبلا حرج في النفس عند تطبيق النص الشرعي: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65]^.
شعارهم: (بِمَ أمر ربنا؟) لا (لِمَ أمر ربنا؟) فكانوا السماء، فاسلك طريقهم، فلئن سلكتَها لقد سبقت سبقاً بعيداً إلى السمو والسماء، ولئن أخذت يميناً أو شمالاً لقد ضللت ضلالاً بعيداً، وهلكت في البيداء، وشتان ما بين السماوة والسماء!
أعلى الصفحة
تطبيق الكتاب والسنة عند نساء الصحابة
تقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه أبو داود رحمه الله: { إن لنساء قريش فضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل منهن، لما نزل قول الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]^ انقلب رجالُهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله فما منهن امرأة إلا قامت إلى مُرْطها فاعتجرت به وغطَّت رأسها؛ تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتاب }^.
فمن لم يكن حسنها في الحجابِ فسخريةٌ عَدُّها في الحسانِ
***
يا رُب أنثى لها دين لها أدبٌ فاقت رجالاً بلا عزم ولا أدبِ
ويـختلط الرجال والنساء في الطرق عند الـخروج من الـمسجد، فيقول صلى الله عليه وسلم كما ثبت في سنن أبي داوُد : {استأخرن.. عليكن بِحافَات الطريق }^ فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من شدة لصوقها به.
معشر الإخوة والأخوات: هذه شامة تهدى لمن بهرتهم مدنية الغرب، فصنعت لهم الصنم، وألهتم عن جلال الحرم، فلم يبق عندهم قيس يحن لليلى بين الشعاب، بل صار يتمنى أن يراها بلا حجاب، بل يشهد جمالها عارية بلا ثياب، لتصبح وتمسي في تباب، واشتبهت عندها الحمائم والصقور، والغراب بالقراب، و اليافع بالكعاب.
كأنه زَبَدٌ والبحر يقذفه والشط يأنفه والحل والحرمُ
إنها -يا فتاة الإسلام- ليست مسألة حجاب فقط، إنها عقيدة وشريعة.. إنها استسلام وتعظيم وحب لله.. إنها مسألة واحدة: أن تكوني أو لا تكوني.
هو الخبر اليقين وما سواه أحاديث المنى والترهات
أعلى الصفحة
تطبيق السنة عند ابن رواحة
يُقبل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فسمعه يوجه الأمر للواقفين: {اجلسوا، فجلس مكانه خارج المسجد، مستسلماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم حكمة ذلك الأمر، حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خُطبته وعلم بذلك، فقال: زادك الله حرصاً على طواعية الله ورسوله }^.
إن للإيمان ناس كالأسُدْ فتشبه إن من يؤمن يَسُدْ
لما وُجِّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، صلى معه العصر رجلٌ، ثم مر على قوم من الأنصار يصلون إلى بيت المقدس ، فقال: [[أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وُجِّه نحو الكعبة ]]^ وهم ركوعٌ فانحرفوا، ما راجعوا وما ترددوا، وما رءوسَهم رفعوا حتى امتثلوا، على مثلهم ينطبق قول الله: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [النور:51]^ .
وما يستوي الفِتْن فيه الغبار وإن أشبه الكحل الأكحلُُ
أعلى الصفحة
أبو طلحة وتطبيقه لكتاب الله
وفي صحيح البخاري : أنه لما نزل قول الله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]^ قام أبو طلحة رضي الله عنه، فقال: {يا رسول الله! إن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: بخٍ بخٍ.. ذاك مال رابح.. ذاك مال رابح! قد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال: أفعل يا رسول الله }^ وحاله:
نفسي الفداء ثم أمي وأبي لصاحب المعراج أحمد النبي
تعودوا هاك، ولم يتعودوا هات، ولكل امرئ ما تعود.
عزفت أنفسهم عن قول: لا فهي لا تعرف إلا هي لك
يا حي يا قيوم فاجمعنا بهم في الخلد إنا لم تحد عن حبهم
في أواخر حياته عكف على القرآن، وبينا هو يقرأ في (براءة) قول الله: انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41]^ قال لأبنائه: [[جهزوني! قالوا: نحن نغزو عنك قد عذرك الله، قال: أي بني! والله ما أرى إلا أن الله استنفرنا شيوخاً وشباناً.. فجهزوني ]]^ .
يشبه الرعدَ إذا الرعدُ رجفْ يشبه البرقَ إذا البرقُ خطفْ
جهزوه وغزا في البحر ومات فيه، فلم يجدوا له جزيرة ليدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام أو تسعة، لم يتغير رضي الله عنه وأرضاه.
لو كان هذا الدهر شخصاً ناطقاً أثنى عليه بنثره وقصيدهِ
أو كان ليلاً كان ليلة قدرهِ أو كان يوماً كان يومي عيدهِ
***
إيهٍ إيه!
علِّم القوم نهوضاً للسما فشعار القوم كل واشرب ونَمْ
إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سواهما حُلُم.
يا مفني العمر في التفتيش عن حلم لو كان يُدرَكُ ما كان اسمه الحلما
معشر الإخوة! خير الناس ذلك القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم.
هم الرجال وقد جاءوا على قدر هم الذين إذا ما عاهدوا صدقوا
أعلى الصفحة
تطبيق السنة عند الشافعي وأحمد
سأل الإمامَ الشافعي وهو بـمصر رجلٌ عن مسألة، فأفتاه بقول النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ فارتَعَدَ الإمام الشافعي ، واصفر لونه، وقال: أرأيت في وسطي زناراً؟! أرأيتني خرجت من كنيسة؟! ويحك! أيُّ أرض تقلني، وأي سماء تظلني إن رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم أقل به؟! نعم! أقول به وعلى الرأس والعينين، متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم آخذ به، فأشهدكم -أيها الناس- أن عقلي قد ذهب... حاله: والله يميناً براً.. لو تبرجت الآراء في بقللها، وتطامنت لي الجبال بقللها، لتفتنني عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم إلى رأي غيره لما رأيت لي عنه عديلاً، ولا اتخذت به بديلاً.
إذا رأيتَ الهوى في أمه حكما فحكم هنالك أن العقل قد ذهبا
أخي:
وما أحذو لك الأمثال إلا لتحذو وإن حذوت على مثالي
يختفي شيخ أهل السنة وإمام هذه الأمة أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله- في المحنة عند ابن هانئ ثلاثة أيام -أيام الواثق - ثم قال لـابن هانئ بعد ثلاثة أيام: اطلب لي موضعاً حتى أتحول إليه، فقال ابن هانئ : لا آمن عليك يا أبا عبد الله ، قال: افعل إن فعلت أفَدْتُك، قال ابن هانئ : فطلبت له موضعاً، فلما خرج قلت له: الفائدة يا إمام، قال: لقد اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام ثم تحول، وليس ينبغي أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرخاء ويترك في الشدة:
فيرحم الرحمن ذلك العلمْ الزاهد العابد قمة القممْ
وفارس المعقول والمنقولِ المقتفي لسنة الرسولِ
ونشهد الله على محبتهْ جَمَعنا الله معاً في جنتهْ
هذا هو النهج الذي سما بأولئك.. إنه التلقي للتنفيذ والعمل
أعلى الصفحة
تطبيق الوحي عند الأجيال المتأخرة
ولما أخذت الأجيال المتأخرة الوحي للدارسة والمتعة خرج لنا هذا الجيل الهالك في بيداء السماوة في مجمله:
لكل جماعة فيهم إمامٌ ولكن الجميع بلا إمامِ
***
ليسوا بأحياء ولكنهم تسمعُ من أفواههم أحرفُ
وشتان ما بين السماوة والسما!
أيها الجيل: ليس بعد نبينا نبي، ولا بعد كتابنا كتاب، ولا بعد أمتنا أمة، الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وذكر لنا منه علماً وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]^ فاقصد البحر وخلِّ القنوات.
وإذا أتى نهر الله بطل نهر معقِلِ..
وفي طلعة الشمس ما يغنيك عن زُحَلِ
***
فاستذكرن آثارك الخوالدا ومجدك الفذ الصريح التالدا
واقتبس الأصول منه والسننْ ولتسمون بها الهضاب والفُننْ
وكن أخي في الرأي والإعدادِ من عصبة الزبير و المقدادِ
وشتان ما بين السماوة والسما..!
أعلى الصفحة
صدق التميز والمفاصلة مع الكفر وأهله عند الجيل الأول
Real Palyer الاستماع بواسطة
فإن عبودية الله لا تسمح بموالاة أي عدو لله: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ [المجادلة:22]^.
لقد تميز جيل الصحابة رضي الله عنهم عن المجتمع الجاهلي تميزاً واضحاً في كل شيء؛ ظاهراً وباطناً كما يقول سيد .
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية، ويبدأ عهداً جديداً منفصلاً كل الانفصال عن حياته الجاهلية، ويقف من كل ما عهده في جاهليته موقف الحذِر المتخوف الهائب المستريب.
متيقظاً في كل جارحة له مخصوصة قلبٌ وعينٌ تنظرُ
قد عاش عزلة شعورية كاملة بين ماضيه في جاهليته وغوايته، وحاضره في إسلامه وهدايته.. عزلة شعورية في صِلاته وروابطه الاجتماعية، حتى وهو يتعامل معهم في عالم التجارة اليومي.. انخلاع من البيئة الجاهلية وعرفها وتصوراتها، وعاداتها وتقاليدها، وانضمامه إلى المجتمع الإسلامي في ولائه وطاعته وتبعيته، في تخفف وانسلاخ من ضغط العادة والتقليد والتصور والقيم السائدة البائدة، فكان ذلك الجيل المتميز، حاله:
من كان منا فإنا منه ومن شذ رُدَّا
ليس الفتى من توارى إن الفتى مَن تصدَّى
ومن تسربل عزاً لم يستر الذل بُرْدا
......
مفاصلة عمر الفاروق للكفر وأهله
لما أسلم عمر رضي الله عنه وأرضاه قال المشركون: [[صبأت، فقال عمر : كذبتم! ولكني أسلمت وصدَّقت، فثاروا إليه، فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وأعيى من التعب فقعد، فقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم! أحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا ]]^، وحاله: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55]^.
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
الله يعلم أنا لا نحبكمُ ولا نلومكمُ ألا تحبونا
كلٌ له نية في بغض صاحبه بالله نبغضكم دوماً وتقلونا
الله أكبر! ما كان بين إسلامه رضي الله عنه وبين أن قاتلهم وقاتلوه، وقال: [[ افعلوا ما بدا لكم ]]^ إلا سويعات عديدة، وحاله:
إذا كان قلبي لا يغار لدينه فما هو لي قلب ولا أنا صاحبه
إنه التميز والمفاصلة الحاسمة مع الباطل وأهله، ورفض الالتقاء في منتصف الطريق.
إنه الفاروق الذي جاءه أبو سفيان من أشراف قومه ليشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شد عقد الحديبية ، فقال له ببراء من أعداء الله: [[أنا أشفع لكم؟! والله الذي لا إله إلا هو لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ]]^ حاله: كان العيش معهم والشفاعة لهم ممكنة.
ولكنهم ركبوا مسلكاً يحيد عن الجسد المشرقِ
وقد ولي الأمر منهم رجالٌ يخالف منطقهم منطقي
نأوا عن هدى الله في نهجهم وساروا وسرتُ فلم نلتقِ
إنه على بصيرة من دينه.. واثق بمنهجه.. موقن برسالته.. لو شك الناس -جميعًا- في الحق ما شك فيه؛ لأنه يفترض أنه خلق وحده، وكلف بالحق وحده، وسيحاسب عليه وحده.
وعلى مقادير الرجال فعالهم قطع المهند تابعٌ لحديدهِ
أعلى الصفحة
ثمامة بن أثال ومفاصلته للكفر وأهله
أخرج الشيخان {أن ثمامة سيد أهل اليمامة وقع في الأسر ورُبط في سارية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحسن النبي صلى الله عليه وسلم إساره، ثم قال: أطلقوا ثمامة ، فرغب في الإسلام، وتغيرت الصورة القاتمة التي كان يحملها عن الإسلام إلى صورة مشرقة استنارت بها بصيرته، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد وشهد الشهادتين، ثم قال: يا رسول الله! والله ما كان على وجه الأرض وجه ولا دين ولا بلد أبغض عندي من وجهك ودينك وبلدك، فقد أصبحت أحب الوجوه كلها، والدين كله، والبلاد كلها إلي، يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فما ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر }^.
انجلت الرغوة عن اللبن الصريح.. ولا يصح إلا الصحيح، محيت ألوان الغشاوة التي كانت مهيمنة على قلبه، فأعلن بدء تاريخ جديد يمحو به آثار ما سلف، ويتميز به ويفاصل في عزة وأنف.
رُوي أنه قدم مكة فلبى، فأخذته قريش، وقالوا: [[لقد اجترأت علينا.. والله لولا ما بيننا وبينك لقتلناك، أصبوت؟! قال: ما صبوت ولكني أسلمت لله، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ]]^. حاله:
ولقد وجدت ولاء قوم سُبةً فاجعل ولاءك للعزيز الأكرم
لم يكن بائع كلام، ولا مكثر أوهام، قام بتنفيذ التهديد، ومنع عنهم الحنطة حتى اضطروا خاضعين إلى أن يكتبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ متوسلين قائلين: [[إنك تأمر بصلة الرحم، وقد قطعت أرحامنا.. قتلت آباءنا بالسيف وأبناءنا بالجوع ]]^ فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمح لهم بحمل الحنطة إلى مكة ، فامتثل وفعل، كيف ورسول الله قد أمر.
ولو تقطع جذع عن منابته ماتت على غصنها تلك العناقيدُ
مفاصلة حاسمة، وفكر نزيه، وتميز صريح، وهدىً صحيح، خاب من قال فلم يفعل، فما يفلح القائل حتى يفعل.
إنه التميز الذي جعل من ذلك الشاعر الذي كان يستعدي على المسلمين، ويسمهم بالسفه وسوء الاختيار قبل إسلامه، يستعلي على تلك الكلمات والموروثات التي كان يفاخر بها؛ قيل له بعد إسلامه: [[أنشدنا من شعرك؟ فقال: لقد أبدلني الله من الشعر الزهراوين: البقرة وآل عمران، لا أستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ]]^ تميز محسوس، وتحول ملموس، ولا يكابر في المحسوس إلا ممسوس..
قد فاته أن الهداية بلسمٌ ومذاق طعم الشهد لن يتغيرا
أعلى الصفحة
التميز والمفاصلة عند الجيل الحاضر
معشر الإخوة! ولما حاد هذا الجيل عن تلك المفاصلة والعزلة، والتميز والترفع على مبادئ ومظاهر الجاهلية، تلوث وتأثر بقدر حيدته عن ذلك النهج، فمستقل ومستكثر، فلو نظرت إلى مدن الجيل وقراه من مرقب عال، وسَبَرت حاله في مجمله؛ لم تميز بينه وبين مجتمع المغضوب عليهم والضالين إلا في بعض المظاهر والشعارات والآثار واللوحات.. لهث وراء المادة في غير اقتصاد.. اكتساب من غير احتساب.. سهر في غير طاعة.. عمل بغير نية.. تجارة في لهو عن ذكر الله.. ولاء لعدو الله.. حرفة في جهل بدين الله.. وظيفة في الإخلاص لغير الله.. أحكام في مشاقة الله.. شغلٌ في ضلالة.. قعود في بطالة.. حياة في غفلة وجهالة وشتات وفرقة. أمة لمن تتميز.
فهي والأحداث تستهدفها تعشق اللهو وتهوى الطربا
أمة قد فت في ساعدها بغضُها الأهلَ وحبُّ الغُرَبا
***
أمتي من بعد طول الـ ـنوم صارت غفلويه
صدَّقت كل خِداعٍ من غوي وغوية
واستكانت لخداع الذْ ئب من غير رويه
نزلت من حصنها العا لي إلى أرض دنيه
لترى ما لدى النا صح من دنيا هنيه
ثم جاء الذئب فانقـ ضَ بأنياب قوية
كيف ينقض عليها؟ كيف يرميها ضحيه؟
وكتاب الله يهديـ ـها ألا هيا إِلَيَّه
كيف تمسي بخبيث الـ ـمكر لقمات هنيه
فرأى تقسيم أوصا لٍ لها في الجاهليه
ورمى أقوامها الكُثْـ ـر بداء الفوضويه
وبأفكار زُيوفٍ محدثات زخرفيه
بقي الحصن ولا حرْ اس يحمون الرعيه
ضحك الباغي عليها بأخاديع ذكيه
فاستجابت بغباء عمل الشاة الضحيه
ساقها الجزار للذ بح إلى أرض قصيه
وقف الباغي ينادي الـ ـقوم هل ثم بقيه؟
سوف لا أترككم إلْا شقياً أو شقيه
هذه روح القضية هل سنصحوا للبليه؟
بِمَ نصحو؟
بكتاب الله والسنْـ ـنَة والأيدي القويه
بولاءٍ وبراءٍ ومبادٍ عقديه
وجيوش تهزم البا غي وتسقيه المنيه
وعلى هذا! فلن تستقيم قيم الإسلام إلا بتميز ومفاصلة وبراءة، واستعلاء على القيم المنحرفة واعتزال لها، وعدم تعديل قيمنا وتصوراتنا لتلتقي معها على أي حال كان، وما يلقاها إلا الصابرون...
إنه الوقوف والصمود بوجه المجتمع المخالف، والمنطق السائد، والأفكار والتصورات، والانحرافات والنزوات، والواقف قد يشعر بالوهن ما لم يأوِ إلى ربه ومولاه..
واللهُ لن يترك المؤمن وحيداً حين يعلم صدقه يواجه الضغط، وينوء بالثقل، ويهزه الوهن: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11]^.
إن أعداء الله ومبادئهم كذوات السموم؛ نحن معها على افتراق وبراء وعداء حتى يدخلوا في ديننا.
هل لمحتم طيبة من حيةٍ؟! أو لمستم رقة من عقربِ؟!
إنَّا حين نسايرها ولو خطوة واحدة فإنا نفقد الطريق إلى العلياء، ونتيه في بيداء السماوة أذلاء، وحين نتميز ونفاصل ولا نلتقي إلا على نبع الوحي الصافي نكون بحق أجلاء الرفعة والعلاء، وأهل العطاء والسمو للسماء.
وشتان ما بين السماوة والسما..!
أعلى الصفحة
معرفة المنهج الصحيح لمنزلة الدنيا من الآخرة عند الجيل الأول
Real Palyer الاستماع بواسطة
علموا أن لذة الآخرة أعظم وأدوم وألَمَها كذلك، ولذة الدنيا أصغر وأحقر وألَمَها كذلك، فتركوا أدنى اللذتين لتحصيل أعلاهما، واحتملوا أيسر الألمين لدفع أعلاهما.. حسموا في قلوبهم كل أرجحة ولجلجة بين قيم الدنيا والآخرة.. خلَّصوا قلوبهم من وشيجة غريبة تحول بينهم وبين التجرد لله، والخلوص له وحده دون ما سواه، وحال أحدهم:
بما في فؤادي يبوح الفمُ ويجهل غير الذي أعلمُ
......
حقيقة الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم هن من البشر، ولهن مشاعر البشر على فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوة.. لما رأين السعة والرخاء بما أفاء الله على رسوله وعلى المؤمنين؛ راجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر النفقة، فلم يستقبل هذا الأمر بالرضا؛ لأنه كان يريد أن تظل حياته وحياة من يتصلون به على أفق سامٍ وضيءٍ، مبرئاً من كل ظل للدنيا وأوشابها، لا لحرمة السعة؛ ولكن للاستعلاء على جواذب الأرض الرخيصة.
يشقى الحريص أبداً بحرصه لو شرب الأنهار طراً ما ارتوى
لو ابتنى فوق الثريا سكناً هوى به الحرص إلى جوف الثرى
احتجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: طلق نساءه حين اعتزلهن، وأنزل الله آية التخيير، فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:28-29]^ بدأ صلوات الله وسلامه عليه بأحب نسائه إليه عائشة ليُعْلَم أن محبة الله فوق كل محبة، فتلا عليها الآية، وقال: {لا تعجلي حتى تستأمري أبويكِ، فقالت: أفيك أستأمر أبوي يا رسول الله؟! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة }^ فما عرض على امرأة غيرها من نسائه إلا اختارت الله ورسوله والدار الآخرة.
تالله ما عقل امرؤٌ قد با ع ما يبقى بما هو مضمحل فانِ
***
ليس من يجعل العقيدة نهجاً كالذي ينتمي إليها شعارا
هذا هو الميزان الدقيق في نفوس الأصحاب، استمدوه من كتاب الله وهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاشوه في واقع حياتهم، فحُقَّ لهم أن يسودوا ويقودوا.
فيوماً على نجد وغارات أهله ويوماً بأرض ذات شَت وعرعرٍ
صح عند مسلم عن جابر رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس حوله، فوجد جدياً أسك ميتاً، فتناوله بأصل أذنه، ثم قال: أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم }^.
هكذا يا معشر الإخوة! رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزهد في الدنيا والرغبة في الأخرى، فتركهم من بعده جبالاً شُمَّاً، كلٌّ يسير مفرداً كأمة.
هادر كالأسد الزائر مرغٍ مزبدُ لهب ملتهم محتدم متقدُ
والله لأن تؤخذ المدية، فتوضع في حلق أحدهم لتنفذ من الجانب الآخر؛ أهون عنده من أن تكون الدنيا مقدَّمة على الآخرة، وهي عند الله أهون من جناح بعوضة. وحاله:
لا أشرئب إلى ما لم يكن طمعاً ولا أبيت على ما فات حسرانا
***
ليس الوقوف على الأبواب من خلقي ولا التمسح بالأعتاب من عملي
أعلى الصفحة
أبو عقيل الأنصاري وإيثاره الآخرة على الدنيا
لما كان يوم اليمامة ، واصطف الناس، وبدأ القتال، رُمِي أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بسهم فوقع بين منكبه وفؤاده في غير مقتل، فأُخْرِج السهم ووهن له شقه الأيسر، وجُرَّ إلى الرَّحْل، ولما حمي القتال وانهزم المسلمون في أول المعركة، وهو واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح: [[يا للأنصار، الله.. الله.. والكرة على عدوكم، يقول ابن عمر رضي الله عنهم: فنهض أبو عقيل يريد قومة، فقلت: ما تريد.. ما فيك قتال؟! قال: قد نوَّه المنادي باسمي يا ابن عمر ، فقال ابن عمر : إنما يقول: يا للأنصار! ولا يعني: الجرحى، فقال أبو عقيل : لقد نوَّه المنادي باسمي وأنا من الأنصار، ولا والله الذي لا إله إلا هو لأجيبنه ولو حبواً ... ]]^.
إن الطيور وإن قصصت جناحهاتسمو بفطرتها إلى الطيرانِ
يقول ابن عمر : [[... فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف باليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار! كرة كيوم حنين.. كرة كيوم حنين، يا خيل الله اثبتي، وبالجنة أبشري ... ]]^ .
يتقدم الصفوف محرضاً والحرب تقذف تياراً بتيارِ
***
كالماء أعذب ما يكون وإنه لأشد ما يصبو على النيرانِ
يقول ابن عمر : [[... فنظرت إليه وقد قطعت يده المجروحة من المنكب ووقعت على الأرض، وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها خلصت إلى مقتل، وهو صريع في آخر رمق، وقد هزم الله عدوه ونصر جنده، فوقفتُ عليه، وقلت: أبا عقيل فقال بلسانٍ ملتاث: لبيك! لمن العاقبة؟ قلت: أبشر قد قُتِل عدو الله، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ثم لقي الله ... ]]^ .
صامتاً ليس يطيل الكَلِمَا وهو بالصمت يربي الأمما
***
فلولا احتقار الأسد شبهتها به ولكنها معدودة في البهائمِ
***
ما كان للزهرات لولا أنها هتكت حجاب الكُم أن تتوردا
قد قيدوك فما أطقت قيودهم والحر يأبى أن يعيش مقيدا
علم أن الدنيا بأسرها قليلة، وبقاءها من أولها إلى آخرها قليل، ونصيبه من هذا القليل قليل، ورأى غيره يبذل روحه ليظفر بقدر قليل من هذا القليل في بقاء قليل، فبذل أعز ما يبذله.. نفسَه، وحالُه: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]^ .
لم يدخر نفساً ولا مالاً وقد باعهما لله والله اشترى
ما ضره ما أصابه يوم يجبر الله مصيبته بالجنة بمنِّه!
فبعد هذا الظل يا بلبل ماء وهوا
وجنة أخرى يطيـ ـب في رياضها الحيا
بهذه الموازين خرجوا من الجزيرة ليبلغوا رسالة الله، وليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام -على حد قول ربعي رضي الله عنه- فواجَهوا حضارات مادية رقت حواشيها، وطالت ذيولها، وبلغت في البذخ درجة الخيال.
كان أحدهم إذا انتطق بمنطقة قيمتها دون مائة ألف درهم يعير ويزدرى ويحتقر، وتتفاداه العيون، ويتوارى من القوم، كما يقول الندوي .
واجه الصحابة هذا كله فركلوه بأقدامهم، ما هو عندهم بشيء، إذْ هم في سجن الدنيا لما ينتظرونه عند الله من الكرامة، رأوا خبزاً رقاقاً لم يروا مثله في الرقة، فحسبوه مناديلاً، فأخذوه في أيديهم فإذا هي أرغفة، ما كانوا يظنون أن الخبز يكون في هذه الدرجة من الرقة والأناقة.
لا يشتهي أحدهم ما لا يجد، وإذا وجده لا يجعله غاية الجد والكد، يتسامون على المظاهر الجوفاء، ويترفعون عن الأخلاق الشوهاء، واعتزازهم بالله رب الأرض والسماء.
ركبوا العزائم واعتلوا بظهورها وسروا فما حنوا إلى نعمان
ساروا رويداً ثم جاءوا أولاً سير الدليل يؤم بالركبان
أعلى الصفحة
حقارة الدنيا عند عبادة بن الصامت
معشر الإخوة: إليكم صورة للمواجهة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة؛ حُسمت فيها النتيجة لحزب الله أهل الآخرة قبل المواجهة المسلحة.
فلكل راضٍ بالهوان قرارة يحتلها ولكل راق سُلَّمُ
لما وصل عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى مصر ، بعث إلى المقوقس حاكم مصر عشرة رجال على رأسهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وجعله متكلم الوفد، وكان عبادة شديد السواد، مفرط الطول مهاباً، فلما دخلت رسل المسلمين على المقوقس هابهم، وقال: [[نحوا عني ذلك الأسود وقدموا غيره ليكلمني، فقال الوفد: إن هذا أفضلنا رأياً وعلماً، مقدَّمٌ علينا، نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، أمَّره الأمير علينا وأمرنا ألا نخالفه، وإن الأسود والأبيض عندنا سواء، لا يفضُل أحدٌ أحداً إلا بدينه وتقواه، فأومأ إلى عبادة أن يتكلم في رفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة : إن فيمن خلفتُ من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي، وأشد وأفظع سواداً مني، لو رأيتهم كنتَ أهيبَ لهم مني، ولقد ولَّيتُ وأدبر شبابي وإني مع ذلك -بحمد الله- ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وأصحابي همُ هم، رغبتنا وهمتنا الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، والله ما يبالي أحدنا أكان له قناطير الذهب أم كان لا يملك إلا الدرهم، نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاؤها ما هو برخاء، بذلك أمرنا الله وعهد إلينا نبينا، تقضَّى زمن الحل وهذا زمن العقد ]]^.
بعض المواقف يا رجال حرائرٌ والبعض يا بن الأكرمين إماءُ
وقع الكلام منه موقعاً عظيما، فقال لأصحابه: هل سمعتم مثل كلام هذا قط؟! لقد هبتُ منظره.. وإن قوله لأهيب عندي من منظره، وما أظن ملكهم إلا سيغلب الأرض كلها.
نعم:
كلماتهم قُضُبٌ وهن فواصلُ كل الضرائب تحتهن مفاصلُ
إنما الألفاظ نطقٌ ورسومْ والمعاني روح هاتيك الجسومْ
ثم أقبل على عبادة ليسلك معه طريق الإرهاب في قالب النصح، فيقول: قد سمعتُ مقالتك، ولَعَمْري إنكم ما ظهرتم على من ظهرتم إلا بحب الدنيا، ولقد توجه لقتالكم ما لا يحصى عدده من الروم ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم، فنفرض لكل رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة، ولخليفتكم ألفاً، خذوها وانقلبوا إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به.
عجباً له من أسلوب شفقة الضرة على الضرة، إنه ليعلم أنهم ليسوا بطلاب دنيا، ولكنها محاولة رجل يائس أراد أن يصنع شيئاً يُعْذَر به أمام قومه.
يحاول الأقزام دائماً -معشر الإخوة- أن يستنزلوا العظماء من عليائهم ليشاركوهم تدني أفكارهم.. إنه يعرض هذه المساومة وهو يدرك ويعترف أن المسلمين بلغوا منزلة تخولهم لملك الأرض كلها، ومع ذا يعرض عروضه المتدنية على قوم حالهم:
اشترانا منا فقلنا ربحنا لا نقيل يا رب ولا نستقيلُ
لكن:
ومن يكُ أعوراً والقلب أعمى فكل الخلق في عينيه عورُ
تعجب عبادة من هذه العقلية التي لا تعرف رباً غير المال، وقال بصوت كله ثقة وإيمان: [[يا هذا! لا يغرنك مَن حولَك.. لا تغرنك نفسُك.. لا يغرنك أصحابُك، لعمر الله! ما هذا بالذي تخوفنا به، ولا والله ما هذا بالذي يردنا عما نحن فيه، ولئن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوان الله وجنته، والله ما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من أن نقتل لتعلو كلمة الله، والله ما منا رجل إلا وهو يدعو الله صباح مساء أن يرزقه الشهادة في سبيله، وألا يرده إلى أرضه ولا إلى أهله إلا بنصر المسلمين، فانظر فليست إلا خصلة من ثلاث، اختر أيها شئت، ولا تطمع نفسك في باطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن قبلُ إلينا، هذا ديننا الذي ندين الله به، فانظروا لأنفسكم ]]^.
فليس الليث من جوع يقادُ إلى جيف تحيط بها كلابُ
أنبقى في الحياة بلا لسان وقد نطقت بحاجتها الحميرُ
قال المقوقس : أفلا تجيبون إلى خصلة غير هؤلاء الثلاث؟ فوقع قول المقوقس على آذان صماء من عبادة ، ورفع يديه يشير إلى السماء مرة ويخفضها إلى الأرض أخرى.
ويبعثها حرة لا تضيقُ بكيد العواذل واللوم
يقول: [[لا ورب هذه السماء، لا ورب هذه الأرض، لا ورب كل شيء، ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم ]]^.
نحن نهدي الخلق زهراً وثماراً وسوانا يبعث النار ضراما
كل نمرود إذا أوقد ناراً عادت النيران برداً وسلاما
عندها أذعن وبدأ يشاور أصحابه، فامتنعوا عن الإسلام، ثم امتنعوا عن الجزية، وقالوا: لئن دفعناها لم نَعدُ أن نكون لهم عبيداً، وللموت خير من هذا، فقال المقوقس : أجيبوني وأطيعوا القول، والله ما لكم بهم من طاقة، وإن لم تجيبوهم طائعين لتجيبُنَّهم إلى ما هو أعظم منها مكرهين، فأبوا وامتنعوا، فاقتحم المسلمون عليهم أحد حصونهم في هيمنة تكبير ارتجت لها الأرض معلنة: ألا كبرياء في الأرض إلا وكسرت شوكتها، وقلبت ظهراً لبطن، ولم يبق إلا كبرياء الله.
أدت رسالتَها المنابرُ وانبرى حد السلاح بدوره ليقولا
آن الأوان لأن نخاطر بالدمِ مَن لم يخاطر بالدما لم يسلمِ
ففتح حصنهم، وكسرت شوكتهم، وذَلوا، فلام المقوقس قومه، وقال: ألم أخبركم؟! أما والذي يُحْلَف به لتجيبنهم إلى ما أرادوا، فلو أن هؤلاء القوم استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتالهم أحد، أطيعوني..
فأذعنوا.. وذَلوا.. وخنعوا.. ودفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
فيا ناشد الحق في مجامع المبطلين! لا رد الله ضالتك، أتطلب الفَص من اللص، وتقيس في مورد النص.
يا قوم كفوا عن الشكوى لذي صمم لا يُسمع الصم إلا الصارم الذكرُ
لقد كان ذلك الجيل محتفظاً بشخصيته المتميزة القوية إزاء تلك الحضارات المادية الدنيوية في تلك المعارك السقيطة، ما فقدوا شيئاً من مبادئهم وقيمهم، عبروا دجلة المادة، وفرات البهرج، فلم تبتل ذيولهم فيها؛ لأنهم عبروها بإيمان بالله عميق، وموازين دقيقة، وقيم أهلتهم للعزة والقيادة، والسمو والريادة، فانتزعوا عجلة القيادة من القيم الهابطة، والمفاهيم والعقائد الفاسدة، والمثل المفترئة؛ لأن المواجهة كانت بين القيم والمفاهيم، والمألوف أن تسري سنة الله.. أن البقاء للأصلح: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17]^.
أعلى الصفحة
الجيل الحاضر.. واغتراره بالدنيا
معشر الإخوة: ولما التفتت الأمة إلى غير تلك القيم ولم تزن الدنيا بميزانها الحق؛ رفعت الطين، ووضعت الدين، فقدت وهي على البر هويتها ومقوماتها، فإذا عموم أبنائها دون آحادهم عقولٌ في طلب الدنيا، بُلْه عما خلقوا له، طلاب أمانٍ، دين أحدهم لعقة على لسانه، عن الباقي مصروف، وبالفاني مشغوف، بالخوف من كل شيء إلا من مولاه معروف.. بالخزي محفوف، محب للدنيا.. كاره للموت، من خوف الموت بالموت وأشد من الموت.. يعتبر الدنيا رأس ماله، ومنتهى آماله، يود لو يعمر ألف سنة حتى إذا جاءه الموت خرج من الدنيا وهو حزين متلهف على ما يفارقه، كاره مستبشع ما يستقبله.. غثاء هباء، لا ينفع ولا يدفع ولا يرفع ولا يصفع ولا يشفع.
إنما تلك مسوخ ورثت نسبة الإسلام عن أم وجَدْ
وعندها:
تشابهت البهائم والعِبِدَّا علينا والموالي والصميمُ
أولئك الجيل فهموا الإسلام فهماً دقيقاً، فساروا بمفتاح السمو يفتحون المشارق والمغارب، لا يستعصي عليهم قُطر، ولا يستعصي عليهم مِصر.. الحصون تُفْتَح، والقلوب تُفْتَح، والقيم الصحيحة تسود، والموازين تُصَحَّح، فكانوا السماء.
ولما تخلفت هذه المفاهيم عند مَن بعدهم أصيبوا بمركَّب النقص، فكانوا السماوة.
وشتان ما بين السماوة والسماء.
ألا إن من السخافة أن يقال: إن السماوة والسماء واحد؛ لأن النسبة إليهما في اللغة واحدة (سماوي) لا يقول به إلا غبي أو صبي أو عقل وراءه خبي.
من رام شهداً فإن النحل مصدره ومن بغى السم فليطلب له الرقطا
سر السمو إلى السماء لذلك الجيل؛ هو تحررهم من كل سلطان سوى سلطان الله، يعدلون بعدل الله، ويزنون بميزان الله، ويعملون على اسم الله لا سواه.. يوالون الله ويعادون أعداء الله.. رقابة الله كمنت في ضمائرهم، والطمع في رضا الله والخوف منه أغناهم عن رقابة البشر وعقوبتهم، فصار المسلم حقاً هو الأعلى.
يقف موقف المجرد من كل قوة مادية، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى، يتداعى عليه الأعداء وهو كالطود ثابتاً لا يتزحزح، وهَبْها كانت القاضية.. فماذا يضيره؟
الناس يموتون وهو ورهطه يستشهدون، فيغادرون الأرض إلى رحمة الله حين يغادرها غيرهم إلى غضب الله.
هو الأعلى..
من الله يتلقى، وإليه يرجع، وعلى منهجه يسير.. يسود مجتمعه عقائد باطلة مغايرة لما هو عليه، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى.
يضج الباطل ويرفع عقيرته التي قد تعشى معها الأبصار، وتغشى البصائر، فلا يفارقه الشعور رغم الضجيج.. لأنه الأعلى.
يغرق المجتمع في شهواته، ويمضي مع نزواته إلى الوحل والطين، فينظر من أُفُقِه العالي إلى الغارقين في الوحل.. اللاصقين بالطين، وهو مفرد وحيد، فلا تراوده نفسه على خلع ردائه الطاهر، والانغماس معهم في الوحل.. لأنه الأعلى بلذة الإيمان والتقوى.
يقف قابضاً على دينه كالقابض على الجمر، في مجتمع شارد عن القيم والدين، وهم يهزءون به ويسخرون، فيقول بقول من سبقه في موكب الإيمان العريق، والطريق الطويل: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38]^ ويتلمح نهاية الموكب الفائز الوضيء، ونهاية القافلة البائسة في قول الله: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:34]^ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:35]^ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:36]^.
بهذا الشعور، وبتلك القيم.. ارتقت الأمة في نظامها وأخلاقها وحياتها وكل شئونها إلى قمة سامية سامقة، لم ترتفع إليها من قبل قط، ولم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل منهاج ذلك الجيل.
فانهض فقد طلع الصباحُ ولاح محمر الأجيمْ
وشتان ما بين السماء والسماوة
أعلى الصفحة
عزة وشجاعة الجيل الأول
Real Palyer الاستماع بواسطة
......
عزة يزيد بن معاوية أمام قيصر
هاهو جيش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه بقيادة ابنه يزيد يقف على أطراف القسطنطينية قريباً من أسوارها -جيشٌ مغفور له كما ثبت في صحيح البخاري - وفي الجيش بعض أفراد ذلك الجيل على رأسهم: أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، حل به مَرَض -مَرِض مرضاً شديداً- فأتاه يزيد ليعوده، ويقول له: [[ ما حاجتك أبا أيوب ؟ قال: ادفني عند أسوار القسطنطينية ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يدفن عند أسوار القسطنطينية رجل صالح }^ وإني لأرجو الله أن أكون أنا هو.
إن النفوس إذا سمت وتهذبت وتوجهت تعلو إلى جناتها
جاءته المنية هناك، ما ضيع وما قصر وما فرط رضي الله عنه وأرضاه.. القتال دائر، ويأمر يزيد بتكفينه، فيحمل على السرير.. تخرج به الكتائب لتنفذ وصيته، ويدفن عند الأسوار تحت سنابك الخيل، ينظر قيصرهم إلى سريره يُحْمَل تحت ظلال السيوف، فيرسل قيصر إلى يزيد : ما هذا الذي أرى؟ فيقول يزيد : [[ هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سألنا أن نقدمه في بلادك، ونحن والله الذي لا إله إلا هو منفذون وصيته أو نهلك جميعاً ونلحق بالله ]]^.
فيا لَلَّه!
إن لم يكن في حياة المرء من شرفٍ فإنه بالردى قد تشرف الرممُ
قال: عجباً! أين دهاؤك؟! وأين دهاء أبيك الذي يُنسب له؟! يرسلك أبوك فتأتي بصاحب نبيك -ونقول: صلى الله عليه وسلم- وتدفنه في بلادنا حتى إذا ما وليت أخرجناه للكلاب؟!
فقال يزيد في سمو وسماء وعزة: [[إنك كافر بالذي أكرمت هذا له، وإني والله ما أردت إيداعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم، والله الذي لا إله إلا هو مَن أكرمتُ صاحبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم له، لئن بلغني أنه نُبِش قبرُه، أو مثل به، لا تركتُ في الأرض الإسلام نصرانياً إلا قتلته، ولا كنيسة إلا هدمتها ]]^.
جعل الخطام بأنف كل مخالفٍ حتى استقام له الذي لم يُخْطَمِ
فقال: لِلَّه أنت، أبوك كان أعلم بك، فوحق المسيح لأحفظنه بيدي إن لم أجد من يحفظه.
ولا عجب! فالحق قد أجاب، والذل قد وجب.
وموجة النهر في عين الجبان بها غول وحوت وتنين وتمساحُ
وشتان ما بين السماء والسماوة!
وتبقى الآحاد والفئات ممن استقت من ذلك النبع الصافي على تلك العزة في كل آن، محلقة سامية للسماء ناطقة تقول:
ومن لم يقوَّم بهدي الكتاب فبالسيف يا صحابي قُمْ
أعلى الصفحة
عزة أبي يوسف المراكشي أمام ملك كستانة
يكتب ملك كستانة في أواخر القرن السادس إلى السلطان المسلم أبي يوسف المراكشي يهدده ويعنفه، ويطلب منه تسليم بعض بلاد المسلمين، وكان فيما قال في غطرسة وكبرياء: أراك تماطل نفسك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فما أدري الجبن بطَّأَ بك، أم التكذيب بما وعدك نبيك.
فلما قرأ أبو يوسف الكتاب تنمَّر، وغضب، وتربد وجهه، وأرغى وأزبد، ثم مزقه وكتب على رقعة منه بقلم.. يفتك الشعور ويفلق الصخور: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:37]^ الجواب ما ترى لا ما تسمع.
فلا كتب إلا المشرفية عندنا ولا رسل إلا للخميس العرمرمِ
***
وقام قيام الليث فار غليله وقد برِّزت أنيابه ومخالبهْ
استنفر الناس، ودعا للجهاد، ورغب في السعادة، وحاله:
أججوها حمما وابعثوها حمما
قربوا مني القنا قد كسرت القلما
***
دوت بكل قبيلة ومحلة صيحاته فتجاوبت أصداؤها
سارع مائة ألف مسلم متطوع للبذل والتضحية، والذب عن بيضة المسلمين، وإعزاز دين رب العالمين؛ لينضموا إلى الجيش الذي يبلغ مائة ألف من الموحدين، حال الواحد منهم:
ارمِ بي كل عدو فأنا السهم السريع
وإلا:
فلا نعمت نفس ولا أفلح امرؤٌ ولا انهال هطَّال ولا لاح مشرقُ
مضى الليث إلى الأندلس بجيش يؤمن بالله، ويستقي من نبع وحي الله.. شعاره: تكبير الله، وهذا ما وعدنا الله، وصدق الله، وحسبنا الله.
فكانت الملحمة التي تنزل معها نصر الله على حزب الله، فقتلوا من العدو مائة وستة وأربعين ألف قتيل، وأسروا من أسروا نصراً من الله، وحقت كلمة الله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]^.
معشر الإخوة والبنين! والله ما قام عبدٌ بالحق وكان قيامه لله وبالله إلا لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له منها فرجاً ومخرجاً، وإنما يؤتى من تفريطه وتقصيره.
فاعلم أيها السامي للسما:
مَن يخف سلطان ذي العرش المجيدْ خافه كل قريبٍ وبعيدْ
***
فما رميت ولكن الإله رمى فكيف يُهْزَم مَن بالله ينتصرُ
والله أكبر صوتٌ تقشعر له شمُّ الذرى وتكاد الأرض تنفطرُ
معشر الإخوة! نَصَر الله ذلك الجيل، لأنه أخذ بمقومات النصر، استقى من نبع الوحي، وطبق ونفذ، وتميز وفاصل، وضحى بالزائل، فكانوا السماء بحق، صدورُ محافل، وقادةُ جحافل، يقذفون بكلمة الحق مجلجلة على الباطل، فإذا الحق ظاهر، والباطل زاهق نافر، يقذفون بعزائمهم فإذا الكفر مكسور، والإيمان منصور.
إن تلك المقومات للسمو إلى السماء لم تبلَ ولم تمت؛ إنما هي كامنة، وتلك الشعل لم تنطفئ فهي في كنف القرآن والسنة آمنة، فلا يزال الله يغرس غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، إنهم من كانوا على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكن أو لا تكون:
ومن يجد ترباً وماء غرسا وبذل المال وحاط الأنفُسا
***
فبادر أُخَيَّ لرفع اللواء على كل قِطْع ولا تحجمِ
وزف هدى الله للعالمين بآياتِ قرآنك المحكمِ
سمواً سماءً بوحي الإله وجاهد وصابر ولا تسأمِ
أعلى الصفحة
نصائح وتوجيهات إلى أفراد جيل هذا الزمان
Real Palyer الاستماع بواسطة
أيها الجيل: الفرد في هذا الزمان أشد حاجة لليقظة والانتباه مما كان عليه أسلافه المسلمون في العصور الماضية، لقد كان أسلافه يعيشون في وسط إسلامي تسوده الفضائل، ويعمه التواصي بالحق.. الرذائل فيه تتوارى عن أعين العلماء وسيوف الأمراء، أما اليوم فإن المدنية السفيهة الحديثة قد جعلت كفر جميع مذاهب الكفار، وشهواتهم وشبهاتهم، مسموعةً مُبْصَرةً مزخرفةً عن طريق الإذاعات والشبكات، والصحف والقنوات، تتسلق وتتسلل إلى أعماق القلوب الجوفاء والبيوتات، وترفع عقيرتها: إليَّ إليَّ! فعندي الفقه الطيب، تعني: فقه الإرجاء والتسيب، وينعق فيها الرويبضات التافهون في أمر العامة صارخين:
العلم ما ينقله الإعلامُ وليس ما يبثه الإسلامُ
والحق ما تطلقه الأبواقُ وليس ما تثبته الأخلاقُ
قد طوروا الخطاب للصِّغارِ باللحن والعُرْي وبالصَّغارِ
خابوا فهم حثالة الأنسالِ وعُصْبة الفساق والأنذالِِ
رهط الخنا والغي والمِحالِ مِن كل عِي ماذق تنبالِ
محارب لله لا يبالي كأنما صيغوا من الأوحالِ
أو من رجيع الحمر والبغالِ
لكن:
لكن ومهما نعقوا ومخرقوا عليهم ألف دليل ينطق
فانثر كنانتك أيها الجيل الراشد، والزم نبعك الصافي وتميزك ومفاصلتك، وسدد سهامك، وأشرع رماحك، وأعدَّ عدتك؛ فإن لم تجد فيها سلاح الحديد والنار فلن تراع.. معك السلاح الذي يفل الحديد، كتاب الله خير عدة وعديد، معك المادة التي تطفئ النار وهي اتحاد الصف على الإيمان، معك المِسَن الذي يشحذ هذين؛ وهو التقوى والصبر، فلن تضر.
فوالذي أكرمك بالإسلام.. إنهم ما قاتلوك بالحديد إلا ما يوازي ساعة من نهار؛ لكنهم قاتلوك في الوقت كله بما هو أعظم من الحديد.. قاتلوك: بالكتاب الذي يزرع الشك.. بالظن الذي يمرض اليقين.. بالصحيفة التي تنشر الرذيلة.. بالقلم الذي يشيع الفاحشة.. بالممثلة التي تظهر الفجور.. بالراقصة التي تغري بالتأنث الصخور.. بالمهازل التي تقتل الجد.. بالخمر والمخدر الذي يهدم البدن والعقل والمال والدين.. بمُعلمِ وعالمِ السوء الذي يفسد الفكر، وينقل الناس من الشهوة على وجل إلى الشبهة بلا وجل ولا خجل.. بالكماليات التي تثقل الحياة..
إنه الصدِّيق اتخذ الله معبوده، ورسول الله صلى الله عليه وسلم دليله وإمامه، فرجح إيمانه.
فحفت به العلياء من كل جانبٍ كما حف أرجاءَ العيون المحاجرُ
لما أشار بعض المسلمين على أبي بكر رضي الله عنه بألا يبعث جيش أسامة لاحتياجه إليه، قال: [[والله لو أن الطير تخطفني، وأن السباع من حول المدينة ، وأن الكلاب جرت بأرجل أمهات المؤمنين؛ ما رددتُ جيشاً وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا حللتُ لواءً عقده رسول الله صلى الله عليه وسلم، والله لو لم يبقَ في القُرَى غيري لأنفذته، أفأطيعه حياً وأعصيه ميتاً! ]]^ فأنفذه.
.................... فانقاد كُرهاً من أبى واستكبرا
ثم أعلنها حرباً على المرتدين، فقيل له: [[إنهم يقولون: لا إله إلا الله، قال: والله لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة، والله لو منعوني عَناقاً أو عِقالاً كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه ]]^ فنصر الله به دين الله:
قاد السفينَ بجرأة ومهارة كالطَّود نحو مسيرة لا تُهْزَمُ
وارتدت العرب الغلاظ فأشفقتْ همم الرجال فصاح: هل مَن يفهمُ؟
والله لو منعوا عِقال نويقةٍ أدَّوه نحو المصطفى لن يَسلَموا
ومضى أبو بكر لغايته إلى أن أخضع المرتد وهو مرغمُ
هذا هو الإسلام في عليائه مُثُلٌ وأعلامٌ ودينٌ قَيِّمُ
ذاق طعم الإيمان مَن رضي بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً، وتلك سهلة بالدعوى واللسان؛ لكنها صعبة عند التحقيق والامتحان.
الرضا -معشر الإخوة-: كمال الانقياد والاستسلام لأوامر الله ونواهيه، ولو خالف المرء شيخه وطائفته ومذهبه وهوى نفسه.
مستمسكاً بعرى العقيدة تابعاً ولغير شرع الله لا يستسلمُ
لا يوقف تنفيذ قول الأوامر على قول شيخه أو طائفته؛ فإن أذنوا نفذ وقَبِل وإلا أعرض ولم ينفذ، وفوض الأمر لهم، والله لأن يلقى العبد ربه بكل ذنب خلا الشرك خير له من أن يلقاه بهذه الحال. كما قال ابن القيم رحمه الله.
والحق مثل الشمس يجمل ضوؤه للمبصرين ولا يروق لأرمدِ
***
ووالله ما الأبصار تنفع أهلَها إذا لم يكن للمبصرين بصائرُ
معشر الإخوة: ذلك الجيل أسلم واستسلم وانقاد لحكم الله بلا خيار: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36]^.
وبلا تنطع في البحث عن الحكمة والعلة؛ لأن ذلك ينافي التسليم والانقياد لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]^.
وبلا حرج في النفس عند تطبيق النص الشرعي: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً [النساء:65]^.
شعارهم: (بِمَ أمر ربنا؟) لا (لِمَ أمر ربنا؟) فكانوا السماء، فاسلك طريقهم، فلئن سلكتَها لقد سبقت سبقاً بعيداً إلى السمو والسماء، ولئن أخذت يميناً أو شمالاً لقد ضللت ضلالاً بعيداً، وهلكت في البيداء، وشتان ما بين السماوة والسماء!
أعلى الصفحة
تطبيق الكتاب والسنة عند نساء الصحابة
تقول عائشة رضي الله عنها فيما رواه أبو داود رحمه الله: { إن لنساء قريش فضلاً، وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار، ولا أشد تصديقاً لكتاب الله، ولا إيماناً بالتنزيل منهن، لما نزل قول الله: وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ [النور:31]^ انقلب رجالُهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله فما منهن امرأة إلا قامت إلى مُرْطها فاعتجرت به وغطَّت رأسها؛ تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتاب }^.
فمن لم يكن حسنها في الحجابِ فسخريةٌ عَدُّها في الحسانِ
***
يا رُب أنثى لها دين لها أدبٌ فاقت رجالاً بلا عزم ولا أدبِ
ويـختلط الرجال والنساء في الطرق عند الـخروج من الـمسجد، فيقول صلى الله عليه وسلم كما ثبت في سنن أبي داوُد : {استأخرن.. عليكن بِحافَات الطريق }^ فكانت المرأة تلتصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من شدة لصوقها به.
معشر الإخوة والأخوات: هذه شامة تهدى لمن بهرتهم مدنية الغرب، فصنعت لهم الصنم، وألهتم عن جلال الحرم، فلم يبق عندهم قيس يحن لليلى بين الشعاب، بل صار يتمنى أن يراها بلا حجاب، بل يشهد جمالها عارية بلا ثياب، لتصبح وتمسي في تباب، واشتبهت عندها الحمائم والصقور، والغراب بالقراب، و اليافع بالكعاب.
كأنه زَبَدٌ والبحر يقذفه والشط يأنفه والحل والحرمُ
إنها -يا فتاة الإسلام- ليست مسألة حجاب فقط، إنها عقيدة وشريعة.. إنها استسلام وتعظيم وحب لله.. إنها مسألة واحدة: أن تكوني أو لا تكوني.
هو الخبر اليقين وما سواه أحاديث المنى والترهات
أعلى الصفحة
تطبيق السنة عند ابن رواحة
يُقبل عبد الله بن رواحة رضي الله عنه إلى المسجد، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب، فسمعه يوجه الأمر للواقفين: {اجلسوا، فجلس مكانه خارج المسجد، مستسلماً لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يعلم حكمة ذلك الأمر، حتى فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من خُطبته وعلم بذلك، فقال: زادك الله حرصاً على طواعية الله ورسوله }^.
إن للإيمان ناس كالأسُدْ فتشبه إن من يؤمن يَسُدْ
لما وُجِّه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة، صلى معه العصر رجلٌ، ثم مر على قوم من الأنصار يصلون إلى بيت المقدس ، فقال: [[أشهد أني صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد وُجِّه نحو الكعبة ]]^ وهم ركوعٌ فانحرفوا، ما راجعوا وما ترددوا، وما رءوسَهم رفعوا حتى امتثلوا، على مثلهم ينطبق قول الله: إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ [النور:51]^ .
وما يستوي الفِتْن فيه الغبار وإن أشبه الكحل الأكحلُُ
أعلى الصفحة
أبو طلحة وتطبيقه لكتاب الله
وفي صحيح البخاري : أنه لما نزل قول الله: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران:92]^ قام أبو طلحة رضي الله عنه، فقال: {يا رسول الله! إن أحب أموالي إلي بيرحاء ، وإنها صدقة أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث أراك الله يا رسول الله، فقال صلى الله عليه وسلم: بخٍ بخٍ.. ذاك مال رابح.. ذاك مال رابح! قد سمعت ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقال: أفعل يا رسول الله }^ وحاله:
نفسي الفداء ثم أمي وأبي لصاحب المعراج أحمد النبي
تعودوا هاك، ولم يتعودوا هات، ولكل امرئ ما تعود.
عزفت أنفسهم عن قول: لا فهي لا تعرف إلا هي لك
يا حي يا قيوم فاجمعنا بهم في الخلد إنا لم تحد عن حبهم
في أواخر حياته عكف على القرآن، وبينا هو يقرأ في (براءة) قول الله: انفِرُوا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ [التوبة:41]^ قال لأبنائه: [[جهزوني! قالوا: نحن نغزو عنك قد عذرك الله، قال: أي بني! والله ما أرى إلا أن الله استنفرنا شيوخاً وشباناً.. فجهزوني ]]^ .
يشبه الرعدَ إذا الرعدُ رجفْ يشبه البرقَ إذا البرقُ خطفْ
جهزوه وغزا في البحر ومات فيه، فلم يجدوا له جزيرة ليدفنوه فيها إلا بعد سبعة أيام أو تسعة، لم يتغير رضي الله عنه وأرضاه.
لو كان هذا الدهر شخصاً ناطقاً أثنى عليه بنثره وقصيدهِ
أو كان ليلاً كان ليلة قدرهِ أو كان يوماً كان يومي عيدهِ
***
إيهٍ إيه!
علِّم القوم نهوضاً للسما فشعار القوم كل واشرب ونَمْ
إنما هو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما سواهما حُلُم.
يا مفني العمر في التفتيش عن حلم لو كان يُدرَكُ ما كان اسمه الحلما
معشر الإخوة! خير الناس ذلك القرن الذي بعث فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم الذين يلونهم.
هم الرجال وقد جاءوا على قدر هم الذين إذا ما عاهدوا صدقوا
أعلى الصفحة
تطبيق السنة عند الشافعي وأحمد
سأل الإمامَ الشافعي وهو بـمصر رجلٌ عن مسألة، فأفتاه بقول النبي صلى الله عليه وسلم، قال له: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا، فقال الرجل: أتقول بهذا؟ فارتَعَدَ الإمام الشافعي ، واصفر لونه، وقال: أرأيت في وسطي زناراً؟! أرأيتني خرجت من كنيسة؟! ويحك! أيُّ أرض تقلني، وأي سماء تظلني إن رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً لم أقل به؟! نعم! أقول به وعلى الرأس والعينين، متى رويت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً ولم آخذ به، فأشهدكم -أيها الناس- أن عقلي قد ذهب... حاله: والله يميناً براً.. لو تبرجت الآراء في بقللها، وتطامنت لي الجبال بقللها، لتفتنني عن اتباع محمد صلى الله عليه وسلم إلى رأي غيره لما رأيت لي عنه عديلاً، ولا اتخذت به بديلاً.
إذا رأيتَ الهوى في أمه حكما فحكم هنالك أن العقل قد ذهبا
أخي:
وما أحذو لك الأمثال إلا لتحذو وإن حذوت على مثالي
يختفي شيخ أهل السنة وإمام هذه الأمة أحمد بن حنبل -عليه رحمة الله- في المحنة عند ابن هانئ ثلاثة أيام -أيام الواثق - ثم قال لـابن هانئ بعد ثلاثة أيام: اطلب لي موضعاً حتى أتحول إليه، فقال ابن هانئ : لا آمن عليك يا أبا عبد الله ، قال: افعل إن فعلت أفَدْتُك، قال ابن هانئ : فطلبت له موضعاً، فلما خرج قلت له: الفائدة يا إمام، قال: لقد اختفى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثة أيام ثم تحول، وليس ينبغي أن يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرخاء ويترك في الشدة:
فيرحم الرحمن ذلك العلمْ الزاهد العابد قمة القممْ
وفارس المعقول والمنقولِ المقتفي لسنة الرسولِ
ونشهد الله على محبتهْ جَمَعنا الله معاً في جنتهْ
هذا هو النهج الذي سما بأولئك.. إنه التلقي للتنفيذ والعمل
أعلى الصفحة
تطبيق الوحي عند الأجيال المتأخرة
ولما أخذت الأجيال المتأخرة الوحي للدارسة والمتعة خرج لنا هذا الجيل الهالك في بيداء السماوة في مجمله:
لكل جماعة فيهم إمامٌ ولكن الجميع بلا إمامِ
***
ليسوا بأحياء ولكنهم تسمعُ من أفواههم أحرفُ
وشتان ما بين السماوة والسما!
أيها الجيل: ليس بعد نبينا نبي، ولا بعد كتابنا كتاب، ولا بعد أمتنا أمة، الحلال بيِّن، والحرام بيِّن، لقد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائر يقلب جناحيه في السماء إلا وذكر لنا منه علماً وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا [النور:54]^ فاقصد البحر وخلِّ القنوات.
وإذا أتى نهر الله بطل نهر معقِلِ..
وفي طلعة الشمس ما يغنيك عن زُحَلِ
***
فاستذكرن آثارك الخوالدا ومجدك الفذ الصريح التالدا
واقتبس الأصول منه والسننْ ولتسمون بها الهضاب والفُننْ
وكن أخي في الرأي والإعدادِ من عصبة الزبير و المقدادِ
وشتان ما بين السماوة والسما..!
أعلى الصفحة
صدق التميز والمفاصلة مع الكفر وأهله عند الجيل الأول
Real Palyer الاستماع بواسطة
فإن عبودية الله لا تسمح بموالاة أي عدو لله: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ [المجادلة:22]^.
لقد تميز جيل الصحابة رضي الله عنهم عن المجتمع الجاهلي تميزاً واضحاً في كل شيء؛ ظاهراً وباطناً كما يقول سيد .
لقد كان الرجل حين يدخل في الإسلام يخلع على عتبته كل ماضيه في الجاهلية، ويبدأ عهداً جديداً منفصلاً كل الانفصال عن حياته الجاهلية، ويقف من كل ما عهده في جاهليته موقف الحذِر المتخوف الهائب المستريب.
متيقظاً في كل جارحة له مخصوصة قلبٌ وعينٌ تنظرُ
قد عاش عزلة شعورية كاملة بين ماضيه في جاهليته وغوايته، وحاضره في إسلامه وهدايته.. عزلة شعورية في صِلاته وروابطه الاجتماعية، حتى وهو يتعامل معهم في عالم التجارة اليومي.. انخلاع من البيئة الجاهلية وعرفها وتصوراتها، وعاداتها وتقاليدها، وانضمامه إلى المجتمع الإسلامي في ولائه وطاعته وتبعيته، في تخفف وانسلاخ من ضغط العادة والتقليد والتصور والقيم السائدة البائدة، فكان ذلك الجيل المتميز، حاله:
من كان منا فإنا منه ومن شذ رُدَّا
ليس الفتى من توارى إن الفتى مَن تصدَّى
ومن تسربل عزاً لم يستر الذل بُرْدا
......
مفاصلة عمر الفاروق للكفر وأهله
لما أسلم عمر رضي الله عنه وأرضاه قال المشركون: [[صبأت، فقال عمر : كذبتم! ولكني أسلمت وصدَّقت، فثاروا إليه، فما زال يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رءوسهم، وأعيى من التعب فقعد، فقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم! أحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا ]]^، وحاله: إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ [هود:54-55]^.
لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا
الله يعلم أنا لا نحبكمُ ولا نلومكمُ ألا تحبونا
كلٌ له نية في بغض صاحبه بالله نبغضكم دوماً وتقلونا
الله أكبر! ما كان بين إسلامه رضي الله عنه وبين أن قاتلهم وقاتلوه، وقال: [[ افعلوا ما بدا لكم ]]^ إلا سويعات عديدة، وحاله:
إذا كان قلبي لا يغار لدينه فما هو لي قلب ولا أنا صاحبه
إنه التميز والمفاصلة الحاسمة مع الباطل وأهله، ورفض الالتقاء في منتصف الطريق.
إنه الفاروق الذي جاءه أبو سفيان من أشراف قومه ليشفع له عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في شد عقد الحديبية ، فقال له ببراء من أعداء الله: [[أنا أشفع لكم؟! والله الذي لا إله إلا هو لو لم أجد إلا الذر لجاهدتكم به ]]^ حاله: كان العيش معهم والشفاعة لهم ممكنة.
ولكنهم ركبوا مسلكاً يحيد عن الجسد المشرقِ
وقد ولي الأمر منهم رجالٌ يخالف منطقهم منطقي
نأوا عن هدى الله في نهجهم وساروا وسرتُ فلم نلتقِ
إنه على بصيرة من دينه.. واثق بمنهجه.. موقن برسالته.. لو شك الناس -جميعًا- في الحق ما شك فيه؛ لأنه يفترض أنه خلق وحده، وكلف بالحق وحده، وسيحاسب عليه وحده.
وعلى مقادير الرجال فعالهم قطع المهند تابعٌ لحديدهِ
أعلى الصفحة
ثمامة بن أثال ومفاصلته للكفر وأهله
أخرج الشيخان {أن ثمامة سيد أهل اليمامة وقع في الأسر ورُبط في سارية في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأحسن النبي صلى الله عليه وسلم إساره، ثم قال: أطلقوا ثمامة ، فرغب في الإسلام، وتغيرت الصورة القاتمة التي كان يحملها عن الإسلام إلى صورة مشرقة استنارت بها بصيرته، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد، فاغتسل، ثم دخل المسجد وشهد الشهادتين، ثم قال: يا رسول الله! والله ما كان على وجه الأرض وجه ولا دين ولا بلد أبغض عندي من وجهك ودينك وبلدك، فقد أصبحت أحب الوجوه كلها، والدين كله، والبلاد كلها إلي، يا رسول الله! إن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة فما ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر }^.
انجلت الرغوة عن اللبن الصريح.. ولا يصح إلا الصحيح، محيت ألوان الغشاوة التي كانت مهيمنة على قلبه، فأعلن بدء تاريخ جديد يمحو به آثار ما سلف، ويتميز به ويفاصل في عزة وأنف.
رُوي أنه قدم مكة فلبى، فأخذته قريش، وقالوا: [[لقد اجترأت علينا.. والله لولا ما بيننا وبينك لقتلناك، أصبوت؟! قال: ما صبوت ولكني أسلمت لله، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ]]^. حاله:
ولقد وجدت ولاء قوم سُبةً فاجعل ولاءك للعزيز الأكرم
لم يكن بائع كلام، ولا مكثر أوهام، قام بتنفيذ التهديد، ومنع عنهم الحنطة حتى اضطروا خاضعين إلى أن يكتبوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ متوسلين قائلين: [[إنك تأمر بصلة الرحم، وقد قطعت أرحامنا.. قتلت آباءنا بالسيف وأبناءنا بالجوع ]]^ فكتب له رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسمح لهم بحمل الحنطة إلى مكة ، فامتثل وفعل، كيف ورسول الله قد أمر.
ولو تقطع جذع عن منابته ماتت على غصنها تلك العناقيدُ
مفاصلة حاسمة، وفكر نزيه، وتميز صريح، وهدىً صحيح، خاب من قال فلم يفعل، فما يفلح القائل حتى يفعل.
إنه التميز الذي جعل من ذلك الشاعر الذي كان يستعدي على المسلمين، ويسمهم بالسفه وسوء الاختيار قبل إسلامه، يستعلي على تلك الكلمات والموروثات التي كان يفاخر بها؛ قيل له بعد إسلامه: [[أنشدنا من شعرك؟ فقال: لقد أبدلني الله من الشعر الزهراوين: البقرة وآل عمران، لا أستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير ]]^ تميز محسوس، وتحول ملموس، ولا يكابر في المحسوس إلا ممسوس..
قد فاته أن الهداية بلسمٌ ومذاق طعم الشهد لن يتغيرا
أعلى الصفحة
التميز والمفاصلة عند الجيل الحاضر
معشر الإخوة! ولما حاد هذا الجيل عن تلك المفاصلة والعزلة، والتميز والترفع على مبادئ ومظاهر الجاهلية، تلوث وتأثر بقدر حيدته عن ذلك النهج، فمستقل ومستكثر، فلو نظرت إلى مدن الجيل وقراه من مرقب عال، وسَبَرت حاله في مجمله؛ لم تميز بينه وبين مجتمع المغضوب عليهم والضالين إلا في بعض المظاهر والشعارات والآثار واللوحات.. لهث وراء المادة في غير اقتصاد.. اكتساب من غير احتساب.. سهر في غير طاعة.. عمل بغير نية.. تجارة في لهو عن ذكر الله.. ولاء لعدو الله.. حرفة في جهل بدين الله.. وظيفة في الإخلاص لغير الله.. أحكام في مشاقة الله.. شغلٌ في ضلالة.. قعود في بطالة.. حياة في غفلة وجهالة وشتات وفرقة. أمة لمن تتميز.
فهي والأحداث تستهدفها تعشق اللهو وتهوى الطربا
أمة قد فت في ساعدها بغضُها الأهلَ وحبُّ الغُرَبا
***
أمتي من بعد طول الـ ـنوم صارت غفلويه
صدَّقت كل خِداعٍ من غوي وغوية
واستكانت لخداع الذْ ئب من غير رويه
نزلت من حصنها العا لي إلى أرض دنيه
لترى ما لدى النا صح من دنيا هنيه
ثم جاء الذئب فانقـ ضَ بأنياب قوية
كيف ينقض عليها؟ كيف يرميها ضحيه؟
وكتاب الله يهديـ ـها ألا هيا إِلَيَّه
كيف تمسي بخبيث الـ ـمكر لقمات هنيه
فرأى تقسيم أوصا لٍ لها في الجاهليه
ورمى أقوامها الكُثْـ ـر بداء الفوضويه
وبأفكار زُيوفٍ محدثات زخرفيه
بقي الحصن ولا حرْ اس يحمون الرعيه
ضحك الباغي عليها بأخاديع ذكيه
فاستجابت بغباء عمل الشاة الضحيه
ساقها الجزار للذ بح إلى أرض قصيه
وقف الباغي ينادي الـ ـقوم هل ثم بقيه؟
سوف لا أترككم إلْا شقياً أو شقيه
هذه روح القضية هل سنصحوا للبليه؟
بِمَ نصحو؟
بكتاب الله والسنْـ ـنَة والأيدي القويه
بولاءٍ وبراءٍ ومبادٍ عقديه
وجيوش تهزم البا غي وتسقيه المنيه
وعلى هذا! فلن تستقيم قيم الإسلام إلا بتميز ومفاصلة وبراءة، واستعلاء على القيم المنحرفة واعتزال لها، وعدم تعديل قيمنا وتصوراتنا لتلتقي معها على أي حال كان، وما يلقاها إلا الصابرون...
إنه الوقوف والصمود بوجه المجتمع المخالف، والمنطق السائد، والأفكار والتصورات، والانحرافات والنزوات، والواقف قد يشعر بالوهن ما لم يأوِ إلى ربه ومولاه..
واللهُ لن يترك المؤمن وحيداً حين يعلم صدقه يواجه الضغط، وينوء بالثقل، ويهزه الوهن: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11]^.
إن أعداء الله ومبادئهم كذوات السموم؛ نحن معها على افتراق وبراء وعداء حتى يدخلوا في ديننا.
هل لمحتم طيبة من حيةٍ؟! أو لمستم رقة من عقربِ؟!
إنَّا حين نسايرها ولو خطوة واحدة فإنا نفقد الطريق إلى العلياء، ونتيه في بيداء السماوة أذلاء، وحين نتميز ونفاصل ولا نلتقي إلا على نبع الوحي الصافي نكون بحق أجلاء الرفعة والعلاء، وأهل العطاء والسمو للسماء.
وشتان ما بين السماوة والسما..!
أعلى الصفحة
معرفة المنهج الصحيح لمنزلة الدنيا من الآخرة عند الجيل الأول
Real Palyer الاستماع بواسطة
علموا أن لذة الآخرة أعظم وأدوم وألَمَها كذلك، ولذة الدنيا أصغر وأحقر وألَمَها كذلك، فتركوا أدنى اللذتين لتحصيل أعلاهما، واحتملوا أيسر الألمين لدفع أعلاهما.. حسموا في قلوبهم كل أرجحة ولجلجة بين قيم الدنيا والآخرة.. خلَّصوا قلوبهم من وشيجة غريبة تحول بينهم وبين التجرد لله، والخلوص له وحده دون ما سواه، وحال أحدهم:
بما في فؤادي يبوح الفمُ ويجهل غير الذي أعلمُ
......
حقيقة الدنيا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم
نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم هن من البشر، ولهن مشاعر البشر على فضلهن وكرامتهن وقربهن من ينابيع النبوة.. لما رأين السعة والرخاء بما أفاء الله على رسوله وعلى المؤمنين؛ راجعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر النفقة، فلم يستقبل هذا الأمر بالرضا؛ لأنه كان يريد أن تظل حياته وحياة من يتصلون به على أفق سامٍ وضيءٍ، مبرئاً من كل ظل للدنيا وأوشابها، لا لحرمة السعة؛ ولكن للاستعلاء على جواذب الأرض الرخيصة.
يشقى الحريص أبداً بحرصه لو شرب الأنهار طراً ما ارتوى
لو ابتنى فوق الثريا سكناً هوى به الحرص إلى جوف الثرى
احتجب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقالوا: طلق نساءه حين اعتزلهن، وأنزل الله آية التخيير، فقال: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً [الأحزاب:28-29]^ بدأ صلوات الله وسلامه عليه بأحب نسائه إليه عائشة ليُعْلَم أن محبة الله فوق كل محبة، فتلا عليها الآية، وقال: {لا تعجلي حتى تستأمري أبويكِ، فقالت: أفيك أستأمر أبوي يا رسول الله؟! بل أختار الله ورسوله والدار الآخرة }^ فما عرض على امرأة غيرها من نسائه إلا اختارت الله ورسوله والدار الآخرة.
تالله ما عقل امرؤٌ قد با ع ما يبقى بما هو مضمحل فانِ
***
ليس من يجعل العقيدة نهجاً كالذي ينتمي إليها شعارا
هذا هو الميزان الدقيق في نفوس الأصحاب، استمدوه من كتاب الله وهدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعاشوه في واقع حياتهم، فحُقَّ لهم أن يسودوا ويقودوا.
فيوماً على نجد وغارات أهله ويوماً بأرض ذات شَت وعرعرٍ
صح عند مسلم عن جابر رضي الله عنه {أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بالسوق والناس حوله، فوجد جدياً أسك ميتاً، فتناوله بأصل أذنه، ثم قال: أيكم يحب أن يكون له هذا بدرهم؟ فقالوا: يا رسول الله! ما نحب أنه لنا بشيء، وما نصنع به؟ والله لو كان حياً لكان عيباً فيه أنه أسك فكيف وهو ميت؟! فقال صلى الله عليه وسلم: فوالله للدنيا أهون على الله من هذا عليكم }^.
هكذا يا معشر الإخوة! رباهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الزهد في الدنيا والرغبة في الأخرى، فتركهم من بعده جبالاً شُمَّاً، كلٌّ يسير مفرداً كأمة.
هادر كالأسد الزائر مرغٍ مزبدُ لهب ملتهم محتدم متقدُ
والله لأن تؤخذ المدية، فتوضع في حلق أحدهم لتنفذ من الجانب الآخر؛ أهون عنده من أن تكون الدنيا مقدَّمة على الآخرة، وهي عند الله أهون من جناح بعوضة. وحاله:
لا أشرئب إلى ما لم يكن طمعاً ولا أبيت على ما فات حسرانا
***
ليس الوقوف على الأبواب من خلقي ولا التمسح بالأعتاب من عملي
أعلى الصفحة
أبو عقيل الأنصاري وإيثاره الآخرة على الدنيا
لما كان يوم اليمامة ، واصطف الناس، وبدأ القتال، رُمِي أبو عقيل الأنصاري رضي الله عنه بسهم فوقع بين منكبه وفؤاده في غير مقتل، فأُخْرِج السهم ووهن له شقه الأيسر، وجُرَّ إلى الرَّحْل، ولما حمي القتال وانهزم المسلمون في أول المعركة، وهو واهن من جرحه، سمع معن بن عدي يصيح: [[يا للأنصار، الله.. الله.. والكرة على عدوكم، يقول ابن عمر رضي الله عنهم: فنهض أبو عقيل يريد قومة، فقلت: ما تريد.. ما فيك قتال؟! قال: قد نوَّه المنادي باسمي يا ابن عمر ، فقال ابن عمر : إنما يقول: يا للأنصار! ولا يعني: الجرحى، فقال أبو عقيل : لقد نوَّه المنادي باسمي وأنا من الأنصار، ولا والله الذي لا إله إلا هو لأجيبنه ولو حبواً ... ]]^.
إن الطيور وإن قصصت جناحهاتسمو بفطرتها إلى الطيرانِ
يقول ابن عمر : [[... فتحزم أبو عقيل وأخذ السيف باليمنى، ثم جعل ينادي: يا للأنصار! كرة كيوم حنين.. كرة كيوم حنين، يا خيل الله اثبتي، وبالجنة أبشري ... ]]^ .
يتقدم الصفوف محرضاً والحرب تقذف تياراً بتيارِ
***
كالماء أعذب ما يكون وإنه لأشد ما يصبو على النيرانِ
يقول ابن عمر : [[... فنظرت إليه وقد قطعت يده المجروحة من المنكب ووقعت على الأرض، وبه من الجراح أربعة عشر جرحاً كلها خلصت إلى مقتل، وهو صريع في آخر رمق، وقد هزم الله عدوه ونصر جنده، فوقفتُ عليه، وقلت: أبا عقيل فقال بلسانٍ ملتاث: لبيك! لمن العاقبة؟ قلت: أبشر قد قُتِل عدو الله، فرفع إصبعه إلى السماء يحمد الله، ثم لقي الله ... ]]^ .
صامتاً ليس يطيل الكَلِمَا وهو بالصمت يربي الأمما
***
فلولا احتقار الأسد شبهتها به ولكنها معدودة في البهائمِ
***
ما كان للزهرات لولا أنها هتكت حجاب الكُم أن تتوردا
قد قيدوك فما أطقت قيودهم والحر يأبى أن يعيش مقيدا
علم أن الدنيا بأسرها قليلة، وبقاءها من أولها إلى آخرها قليل، ونصيبه من هذا القليل قليل، ورأى غيره يبذل روحه ليظفر بقدر قليل من هذا القليل في بقاء قليل، فبذل أعز ما يبذله.. نفسَه، وحالُه: وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى [طه:84]^ .
لم يدخر نفساً ولا مالاً وقد باعهما لله والله اشترى
ما ضره ما أصابه يوم يجبر الله مصيبته بالجنة بمنِّه!
فبعد هذا الظل يا بلبل ماء وهوا
وجنة أخرى يطيـ ـب في رياضها الحيا
بهذه الموازين خرجوا من الجزيرة ليبلغوا رسالة الله، وليخرجوا الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام -على حد قول ربعي رضي الله عنه- فواجَهوا حضارات مادية رقت حواشيها، وطالت ذيولها، وبلغت في البذخ درجة الخيال.
كان أحدهم إذا انتطق بمنطقة قيمتها دون مائة ألف درهم يعير ويزدرى ويحتقر، وتتفاداه العيون، ويتوارى من القوم، كما يقول الندوي .
واجه الصحابة هذا كله فركلوه بأقدامهم، ما هو عندهم بشيء، إذْ هم في سجن الدنيا لما ينتظرونه عند الله من الكرامة، رأوا خبزاً رقاقاً لم يروا مثله في الرقة، فحسبوه مناديلاً، فأخذوه في أيديهم فإذا هي أرغفة، ما كانوا يظنون أن الخبز يكون في هذه الدرجة من الرقة والأناقة.
لا يشتهي أحدهم ما لا يجد، وإذا وجده لا يجعله غاية الجد والكد، يتسامون على المظاهر الجوفاء، ويترفعون عن الأخلاق الشوهاء، واعتزازهم بالله رب الأرض والسماء.
ركبوا العزائم واعتلوا بظهورها وسروا فما حنوا إلى نعمان
ساروا رويداً ثم جاءوا أولاً سير الدليل يؤم بالركبان
أعلى الصفحة
حقارة الدنيا عند عبادة بن الصامت
معشر الإخوة: إليكم صورة للمواجهة بين أهل الدنيا وأهل الآخرة؛ حُسمت فيها النتيجة لحزب الله أهل الآخرة قبل المواجهة المسلحة.
فلكل راضٍ بالهوان قرارة يحتلها ولكل راق سُلَّمُ
لما وصل عمرو بن العاص رضي الله عنه إلى مصر ، بعث إلى المقوقس حاكم مصر عشرة رجال على رأسهم عبادة بن الصامت رضي الله عنه، وجعله متكلم الوفد، وكان عبادة شديد السواد، مفرط الطول مهاباً، فلما دخلت رسل المسلمين على المقوقس هابهم، وقال: [[نحوا عني ذلك الأسود وقدموا غيره ليكلمني، فقال الوفد: إن هذا أفضلنا رأياً وعلماً، مقدَّمٌ علينا، نرجع جميعاً إلى قوله ورأيه، أمَّره الأمير علينا وأمرنا ألا نخالفه، وإن الأسود والأبيض عندنا سواء، لا يفضُل أحدٌ أحداً إلا بدينه وتقواه، فأومأ إلى عبادة أن يتكلم في رفق حتى لا يزعجه، فقال عبادة : إن فيمن خلفتُ من أصحابي ألف رجل كلهم مثلي، وأشد وأفظع سواداً مني، لو رأيتهم كنتَ أهيبَ لهم مني، ولقد ولَّيتُ وأدبر شبابي وإني مع ذلك -بحمد الله- ما أهاب مائة رجل من عدوي لو استقبلوني جميعاً، وأصحابي همُ هم، رغبتنا وهمتنا الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، والله ما يبالي أحدنا أكان له قناطير الذهب أم كان لا يملك إلا الدرهم، نعيم الدنيا ليس بنعيم، ورخاؤها ما هو برخاء، بذلك أمرنا الله وعهد إلينا نبينا، تقضَّى زمن الحل وهذا زمن العقد ]]^.
بعض المواقف يا رجال حرائرٌ والبعض يا بن الأكرمين إماءُ
وقع الكلام منه موقعاً عظيما، فقال لأصحابه: هل سمعتم مثل كلام هذا قط؟! لقد هبتُ منظره.. وإن قوله لأهيب عندي من منظره، وما أظن ملكهم إلا سيغلب الأرض كلها.
نعم:
كلماتهم قُضُبٌ وهن فواصلُ كل الضرائب تحتهن مفاصلُ
إنما الألفاظ نطقٌ ورسومْ والمعاني روح هاتيك الجسومْ
ثم أقبل على عبادة ليسلك معه طريق الإرهاب في قالب النصح، فيقول: قد سمعتُ مقالتك، ولَعَمْري إنكم ما ظهرتم على من ظهرتم إلا بحب الدنيا، ولقد توجه لقتالكم ما لا يحصى عدده من الروم ما يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم، فنفرض لكل رجل منكم دينارين، ولأميركم مائة، ولخليفتكم ألفاً، خذوها وانقلبوا إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قوة لكم به.
عجباً له من أسلوب شفقة الضرة على الضرة، إنه ليعلم أنهم ليسوا بطلاب دنيا، ولكنها محاولة رجل يائس أراد أن يصنع شيئاً يُعْذَر به أمام قومه.
يحاول الأقزام دائماً -معشر الإخوة- أن يستنزلوا العظماء من عليائهم ليشاركوهم تدني أفكارهم.. إنه يعرض هذه المساومة وهو يدرك ويعترف أن المسلمين بلغوا منزلة تخولهم لملك الأرض كلها، ومع ذا يعرض عروضه المتدنية على قوم حالهم:
اشترانا منا فقلنا ربحنا لا نقيل يا رب ولا نستقيلُ
لكن:
ومن يكُ أعوراً والقلب أعمى فكل الخلق في عينيه عورُ
تعجب عبادة من هذه العقلية التي لا تعرف رباً غير المال، وقال بصوت كله ثقة وإيمان: [[يا هذا! لا يغرنك مَن حولَك.. لا تغرنك نفسُك.. لا يغرنك أصحابُك، لعمر الله! ما هذا بالذي تخوفنا به، ولا والله ما هذا بالذي يردنا عما نحن فيه، ولئن قتلنا عن آخرنا كان أمكن لنا في رضوان الله وجنته، والله ما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من أن نقتل لتعلو كلمة الله، والله ما منا رجل إلا وهو يدعو الله صباح مساء أن يرزقه الشهادة في سبيله، وألا يرده إلى أرضه ولا إلى أهله إلا بنصر المسلمين، فانظر فليست إلا خصلة من ثلاث، اختر أيها شئت، ولا تطمع نفسك في باطل، بذلك أمرني الأمير، وبها أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مِن قبلُ إلينا، هذا ديننا الذي ندين الله به، فانظروا لأنفسكم ]]^.
فليس الليث من جوع يقادُ إلى جيف تحيط بها كلابُ
أنبقى في الحياة بلا لسان وقد نطقت بحاجتها الحميرُ
قال المقوقس : أفلا تجيبون إلى خصلة غير هؤلاء الثلاث؟ فوقع قول المقوقس على آذان صماء من عبادة ، ورفع يديه يشير إلى السماء مرة ويخفضها إلى الأرض أخرى.
ويبعثها حرة لا تضيقُ بكيد العواذل واللوم
يقول: [[لا ورب هذه السماء، لا ورب هذه الأرض، لا ورب كل شيء، ما لكم عندنا من خصلة غيرها، فاختاروا لأنفسكم ]]^.
نحن نهدي الخلق زهراً وثماراً وسوانا يبعث النار ضراما
كل نمرود إذا أوقد ناراً عادت النيران برداً وسلاما
عندها أذعن وبدأ يشاور أصحابه، فامتنعوا عن الإسلام، ثم امتنعوا عن الجزية، وقالوا: لئن دفعناها لم نَعدُ أن نكون لهم عبيداً، وللموت خير من هذا، فقال المقوقس : أجيبوني وأطيعوا القول، والله ما لكم بهم من طاقة، وإن لم تجيبوهم طائعين لتجيبُنَّهم إلى ما هو أعظم منها مكرهين، فأبوا وامتنعوا، فاقتحم المسلمون عليهم أحد حصونهم في هيمنة تكبير ارتجت لها الأرض معلنة: ألا كبرياء في الأرض إلا وكسرت شوكتها، وقلبت ظهراً لبطن، ولم يبق إلا كبرياء الله.
أدت رسالتَها المنابرُ وانبرى حد السلاح بدوره ليقولا
آن الأوان لأن نخاطر بالدمِ مَن لم يخاطر بالدما لم يسلمِ
ففتح حصنهم، وكسرت شوكتهم، وذَلوا، فلام المقوقس قومه، وقال: ألم أخبركم؟! أما والذي يُحْلَف به لتجيبنهم إلى ما أرادوا، فلو أن هؤلاء القوم استقبلوا الجبال لأزالوها، وما يقوى على قتالهم أحد، أطيعوني..
فأذعنوا.. وذَلوا.. وخنعوا.. ودفعوا الجزية عن يد وهم صاغرون.
فيا ناشد الحق في مجامع المبطلين! لا رد الله ضالتك، أتطلب الفَص من اللص، وتقيس في مورد النص.
يا قوم كفوا عن الشكوى لذي صمم لا يُسمع الصم إلا الصارم الذكرُ
لقد كان ذلك الجيل محتفظاً بشخصيته المتميزة القوية إزاء تلك الحضارات المادية الدنيوية في تلك المعارك السقيطة، ما فقدوا شيئاً من مبادئهم وقيمهم، عبروا دجلة المادة، وفرات البهرج، فلم تبتل ذيولهم فيها؛ لأنهم عبروها بإيمان بالله عميق، وموازين دقيقة، وقيم أهلتهم للعزة والقيادة، والسمو والريادة، فانتزعوا عجلة القيادة من القيم الهابطة، والمفاهيم والعقائد الفاسدة، والمثل المفترئة؛ لأن المواجهة كانت بين القيم والمفاهيم، والمألوف أن تسري سنة الله.. أن البقاء للأصلح: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ [الرعد:17]^.
أعلى الصفحة
الجيل الحاضر.. واغتراره بالدنيا
معشر الإخوة: ولما التفتت الأمة إلى غير تلك القيم ولم تزن الدنيا بميزانها الحق؛ رفعت الطين، ووضعت الدين، فقدت وهي على البر هويتها ومقوماتها، فإذا عموم أبنائها دون آحادهم عقولٌ في طلب الدنيا، بُلْه عما خلقوا له، طلاب أمانٍ، دين أحدهم لعقة على لسانه، عن الباقي مصروف، وبالفاني مشغوف، بالخوف من كل شيء إلا من مولاه معروف.. بالخزي محفوف، محب للدنيا.. كاره للموت، من خوف الموت بالموت وأشد من الموت.. يعتبر الدنيا رأس ماله، ومنتهى آماله، يود لو يعمر ألف سنة حتى إذا جاءه الموت خرج من الدنيا وهو حزين متلهف على ما يفارقه، كاره مستبشع ما يستقبله.. غثاء هباء، لا ينفع ولا يدفع ولا يرفع ولا يصفع ولا يشفع.
إنما تلك مسوخ ورثت نسبة الإسلام عن أم وجَدْ
وعندها:
تشابهت البهائم والعِبِدَّا علينا والموالي والصميمُ
أولئك الجيل فهموا الإسلام فهماً دقيقاً، فساروا بمفتاح السمو يفتحون المشارق والمغارب، لا يستعصي عليهم قُطر، ولا يستعصي عليهم مِصر.. الحصون تُفْتَح، والقلوب تُفْتَح، والقيم الصحيحة تسود، والموازين تُصَحَّح، فكانوا السماء.
ولما تخلفت هذه المفاهيم عند مَن بعدهم أصيبوا بمركَّب النقص، فكانوا السماوة.
وشتان ما بين السماوة والسماء.
ألا إن من السخافة أن يقال: إن السماوة والسماء واحد؛ لأن النسبة إليهما في اللغة واحدة (سماوي) لا يقول به إلا غبي أو صبي أو عقل وراءه خبي.
من رام شهداً فإن النحل مصدره ومن بغى السم فليطلب له الرقطا
سر السمو إلى السماء لذلك الجيل؛ هو تحررهم من كل سلطان سوى سلطان الله، يعدلون بعدل الله، ويزنون بميزان الله، ويعملون على اسم الله لا سواه.. يوالون الله ويعادون أعداء الله.. رقابة الله كمنت في ضمائرهم، والطمع في رضا الله والخوف منه أغناهم عن رقابة البشر وعقوبتهم، فصار المسلم حقاً هو الأعلى.
يقف موقف المجرد من كل قوة مادية، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى، يتداعى عليه الأعداء وهو كالطود ثابتاً لا يتزحزح، وهَبْها كانت القاضية.. فماذا يضيره؟
الناس يموتون وهو ورهطه يستشهدون، فيغادرون الأرض إلى رحمة الله حين يغادرها غيرهم إلى غضب الله.
هو الأعلى..
من الله يتلقى، وإليه يرجع، وعلى منهجه يسير.. يسود مجتمعه عقائد باطلة مغايرة لما هو عليه، فلا يفارقه شعوره بأنه الأعلى.
يضج الباطل ويرفع عقيرته التي قد تعشى معها الأبصار، وتغشى البصائر، فلا يفارقه الشعور رغم الضجيج.. لأنه الأعلى.
يغرق المجتمع في شهواته، ويمضي مع نزواته إلى الوحل والطين، فينظر من أُفُقِه العالي إلى الغارقين في الوحل.. اللاصقين بالطين، وهو مفرد وحيد، فلا تراوده نفسه على خلع ردائه الطاهر، والانغماس معهم في الوحل.. لأنه الأعلى بلذة الإيمان والتقوى.
يقف قابضاً على دينه كالقابض على الجمر، في مجتمع شارد عن القيم والدين، وهم يهزءون به ويسخرون، فيقول بقول من سبقه في موكب الإيمان العريق، والطريق الطويل: إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود:38]^ ويتلمح نهاية الموكب الفائز الوضيء، ونهاية القافلة البائسة في قول الله: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ [المطففين:34]^ عَلَى الأَرَائِكِ يَنظُرُونَ [المطففين:35]^ هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ [المطففين:36]^.
بهذا الشعور، وبتلك القيم.. ارتقت الأمة في نظامها وأخلاقها وحياتها وكل شئونها إلى قمة سامية سامقة، لم ترتفع إليها من قبل قط، ولم ترتفع إليها من بعد إلا في ظل منهاج ذلك الجيل.
فانهض فقد طلع الصباحُ ولاح محمر الأجيمْ
وشتان ما بين السماء والسماوة
أعلى الصفحة
عزة وشجاعة الجيل الأول
Real Palyer الاستماع بواسطة
......
عزة يزيد بن معاوية أمام قيصر
هاهو جيش معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وأرضاه بقيادة ابنه يزيد يقف على أطراف القسطنطينية قريباً من أسوارها -جيشٌ مغفور له كما ثبت في صحيح البخاري - وفي الجيش بعض أفراد ذلك الجيل على رأسهم: أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه وأرضاه، حل به مَرَض -مَرِض مرضاً شديداً- فأتاه يزيد ليعوده، ويقول له: [[ ما حاجتك أبا أيوب ؟ قال: ادفني عند أسوار القسطنطينية ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: {يدفن عند أسوار القسطنطينية رجل صالح }^ وإني لأرجو الله أن أكون أنا هو.
إن النفوس إذا سمت وتهذبت وتوجهت تعلو إلى جناتها
جاءته المنية هناك، ما ضيع وما قصر وما فرط رضي الله عنه وأرضاه.. القتال دائر، ويأمر يزيد بتكفينه، فيحمل على السرير.. تخرج به الكتائب لتنفذ وصيته، ويدفن عند الأسوار تحت سنابك الخيل، ينظر قيصرهم إلى سريره يُحْمَل تحت ظلال السيوف، فيرسل قيصر إلى يزيد : ما هذا الذي أرى؟ فيقول يزيد : [[ هذا صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد سألنا أن نقدمه في بلادك، ونحن والله الذي لا إله إلا هو منفذون وصيته أو نهلك جميعاً ونلحق بالله ]]^.
فيا لَلَّه!
إن لم يكن في حياة المرء من شرفٍ فإنه بالردى قد تشرف الرممُ
قال: عجباً! أين دهاؤك؟! وأين دهاء أبيك الذي يُنسب له؟! يرسلك أبوك فتأتي بصاحب نبيك -ونقول: صلى الله عليه وسلم- وتدفنه في بلادنا حتى إذا ما وليت أخرجناه للكلاب؟!
فقال يزيد في سمو وسماء وعزة: [[إنك كافر بالذي أكرمت هذا له، وإني والله ما أردت إيداعه بلادكم حتى أودع كلامي آذانكم، والله الذي لا إله إلا هو مَن أكرمتُ صاحبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم له، لئن بلغني أنه نُبِش قبرُه، أو مثل به، لا تركتُ في الأرض الإسلام نصرانياً إلا قتلته، ولا كنيسة إلا هدمتها ]]^.
جعل الخطام بأنف كل مخالفٍ حتى استقام له الذي لم يُخْطَمِ
فقال: لِلَّه أنت، أبوك كان أعلم بك، فوحق المسيح لأحفظنه بيدي إن لم أجد من يحفظه.
ولا عجب! فالحق قد أجاب، والذل قد وجب.
وموجة النهر في عين الجبان بها غول وحوت وتنين وتمساحُ
وشتان ما بين السماء والسماوة!
وتبقى الآحاد والفئات ممن استقت من ذلك النبع الصافي على تلك العزة في كل آن، محلقة سامية للسماء ناطقة تقول:
ومن لم يقوَّم بهدي الكتاب فبالسيف يا صحابي قُمْ
أعلى الصفحة
عزة أبي يوسف المراكشي أمام ملك كستانة
يكتب ملك كستانة في أواخر القرن السادس إلى السلطان المسلم أبي يوسف المراكشي يهدده ويعنفه، ويطلب منه تسليم بعض بلاد المسلمين، وكان فيما قال في غطرسة وكبرياء: أراك تماطل نفسك تقدم رجلاً وتؤخر أخرى، فما أدري الجبن بطَّأَ بك، أم التكذيب بما وعدك نبيك.
فلما قرأ أبو يوسف الكتاب تنمَّر، وغضب، وتربد وجهه، وأرغى وأزبد، ثم مزقه وكتب على رقعة منه بقلم.. يفتك الشعور ويفلق الصخور: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ [النمل:37]^ الجواب ما ترى لا ما تسمع.
فلا كتب إلا المشرفية عندنا ولا رسل إلا للخميس العرمرمِ
***
وقام قيام الليث فار غليله وقد برِّزت أنيابه ومخالبهْ
استنفر الناس، ودعا للجهاد، ورغب في السعادة، وحاله:
أججوها حمما وابعثوها حمما
قربوا مني القنا قد كسرت القلما
***
دوت بكل قبيلة ومحلة صيحاته فتجاوبت أصداؤها
سارع مائة ألف مسلم متطوع للبذل والتضحية، والذب عن بيضة المسلمين، وإعزاز دين رب العالمين؛ لينضموا إلى الجيش الذي يبلغ مائة ألف من الموحدين، حال الواحد منهم:
ارمِ بي كل عدو فأنا السهم السريع
وإلا:
فلا نعمت نفس ولا أفلح امرؤٌ ولا انهال هطَّال ولا لاح مشرقُ
مضى الليث إلى الأندلس بجيش يؤمن بالله، ويستقي من نبع وحي الله.. شعاره: تكبير الله، وهذا ما وعدنا الله، وصدق الله، وحسبنا الله.
فكانت الملحمة التي تنزل معها نصر الله على حزب الله، فقتلوا من العدو مائة وستة وأربعين ألف قتيل، وأسروا من أسروا نصراً من الله، وحقت كلمة الله: وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ [آل عمران:126]^.
معشر الإخوة والبنين! والله ما قام عبدٌ بالحق وكان قيامه لله وبالله إلا لم يقم له شيء، ولو كادته السماوات والأرض والجبال لكفاه الله مؤنتها، وجعل له منها فرجاً ومخرجاً، وإنما يؤتى من تفريطه وتقصيره.
فاعلم أيها السامي للسما:
مَن يخف سلطان ذي العرش المجيدْ خافه كل قريبٍ وبعيدْ
***
فما رميت ولكن الإله رمى فكيف يُهْزَم مَن بالله ينتصرُ
والله أكبر صوتٌ تقشعر له شمُّ الذرى وتكاد الأرض تنفطرُ
معشر الإخوة! نَصَر الله ذلك الجيل، لأنه أخذ بمقومات النصر، استقى من نبع الوحي، وطبق ونفذ، وتميز وفاصل، وضحى بالزائل، فكانوا السماء بحق، صدورُ محافل، وقادةُ جحافل، يقذفون بكلمة الحق مجلجلة على الباطل، فإذا الحق ظاهر، والباطل زاهق نافر، يقذفون بعزائمهم فإذا الكفر مكسور، والإيمان منصور.
إن تلك المقومات للسمو إلى السماء لم تبلَ ولم تمت؛ إنما هي كامنة، وتلك الشعل لم تنطفئ فهي في كنف القرآن والسنة آمنة، فلا يزال الله يغرس غرساً يستعملهم في طاعته إلى يوم القيامة، إنهم من كانوا على مثل ما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فكن أو لا تكون:
ومن يجد ترباً وماء غرسا وبذل المال وحاط الأنفُسا
***
فبادر أُخَيَّ لرفع اللواء على كل قِطْع ولا تحجمِ
وزف هدى الله للعالمين بآياتِ قرآنك المحكمِ
سمواً سماءً بوحي الإله وجاهد وصابر ولا تسأمِ
أعلى الصفحة
نصائح وتوجيهات إلى أفراد جيل هذا الزمان
Real Palyer الاستماع بواسطة
أيها الجيل: الفرد في هذا الزمان أشد حاجة لليقظة والانتباه مما كان عليه أسلافه المسلمون في العصور الماضية، لقد كان أسلافه يعيشون في وسط إسلامي تسوده الفضائل، ويعمه التواصي بالحق.. الرذائل فيه تتوارى عن أعين العلماء وسيوف الأمراء، أما اليوم فإن المدنية السفيهة الحديثة قد جعلت كفر جميع مذاهب الكفار، وشهواتهم وشبهاتهم، مسموعةً مُبْصَرةً مزخرفةً عن طريق الإذاعات والشبكات، والصحف والقنوات، تتسلق وتتسلل إلى أعماق القلوب الجوفاء والبيوتات، وترفع عقيرتها: إليَّ إليَّ! فعندي الفقه الطيب، تعني: فقه الإرجاء والتسيب، وينعق فيها الرويبضات التافهون في أمر العامة صارخين:
العلم ما ينقله الإعلامُ وليس ما يبثه الإسلامُ
والحق ما تطلقه الأبواقُ وليس ما تثبته الأخلاقُ
قد طوروا الخطاب للصِّغارِ باللحن والعُرْي وبالصَّغارِ
خابوا فهم حثالة الأنسالِ وعُصْبة الفساق والأنذالِِ
رهط الخنا والغي والمِحالِ مِن كل عِي ماذق تنبالِ
محارب لله لا يبالي كأنما صيغوا من الأوحالِ
أو من رجيع الحمر والبغالِ
لكن:
لكن ومهما نعقوا ومخرقوا عليهم ألف دليل ينطق
فانثر كنانتك أيها الجيل الراشد، والزم نبعك الصافي وتميزك ومفاصلتك، وسدد سهامك، وأشرع رماحك، وأعدَّ عدتك؛ فإن لم تجد فيها سلاح الحديد والنار فلن تراع.. معك السلاح الذي يفل الحديد، كتاب الله خير عدة وعديد، معك المادة التي تطفئ النار وهي اتحاد الصف على الإيمان، معك المِسَن الذي يشحذ هذين؛ وهو التقوى والصبر، فلن تضر.
فوالذي أكرمك بالإسلام.. إنهم ما قاتلوك بالحديد إلا ما يوازي ساعة من نهار؛ لكنهم قاتلوك في الوقت كله بما هو أعظم من الحديد.. قاتلوك: بالكتاب الذي يزرع الشك.. بالظن الذي يمرض اليقين.. بالصحيفة التي تنشر الرذيلة.. بالقلم الذي يشيع الفاحشة.. بالممثلة التي تظهر الفجور.. بالراقصة التي تغري بالتأنث الصخور.. بالمهازل التي تقتل الجد.. بالخمر والمخدر الذي يهدم البدن والعقل والمال والدين.. بمُعلمِ وعالمِ السوء الذي يفسد الفكر، وينقل الناس من الشهوة على وجل إلى الشبهة بلا وجل ولا خجل.. بالكماليات التي تثقل الحياة..
مواضيع مماثلة
» السماء والسماوة 1
» { قد نرى تقلب وجهك في السماء
» قد نري تقلب وجهك في السماء.،،
» احتفاء السماء بشهر رمضان
» شرح قول النبى للجاريه اين الله؟ قالت الجاريه فى السماء
» { قد نرى تقلب وجهك في السماء
» قد نري تقلب وجهك في السماء.،،
» احتفاء السماء بشهر رمضان
» شرح قول النبى للجاريه اين الله؟ قالت الجاريه فى السماء
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin