بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 14 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 14 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
صناعة الخطباء
صفحة 1 من اصل 1
صناعة الخطباء
إن أثر الخطبة في الناس يختلف باختلاف صدق أصحابها وصدق عاطفتهم الجياشة وتفاعلهم القلبي بالمعاني التي يذكرون الناس بها فكلما كان التفاعل أعظم كان الأثر أكبر. وهذا من أسرار التأثير الذي نجده في بعض الخطب دون بعض، فبعضها تغير حياة الإنسان وسلوكه، وبعضها لا تجاوز الآذان ، ولا تحرك ساكنا ، وصاحبها كالنائحة المستأجرة التي تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها ..
د. مصطفى مخدوم
إن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع وسيد الأيام كما روى مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ).
وقد جعله الإسلام عيدا بالنسبة للمسلمين كما قال صلى الله عليه وسلم (إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء يوم الجمعة فليغتسل) رواه ابن ماجه بسند صحيح.
ومن خصائص هذا اليوم أن المسلمين يجتمعون فيه للصلاة والموعظة في المساجد ، وهذا اجتماع لم يفرضه نظام ولا عرف ولكن فرضه القرآن الكريم في قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) فأمر الأمة بترك العمل الدنيوي والاجتماع على الذكر والعبادة.
ولهذا سمي يوم الجمعة أخذا من الجمع والاجتماع بين المسلمين في هذا اليوم.
أ- شرف المنبر:
كما أن منبر المسجد يمتاز بعلو المكان عادة فهو يمتاز بعلو المكانة والشرف أيضا ، وذلك من وجوه:
1- أنه موقع توجه منه الأمة ، ويشكل من خلاله الرأي العام في المجتمع الإسلامي، وتحرك الأمة نحو المواقف والأفكار التي يمليها شريعتها.
2- أنه موقع تبوأه أشراف الأمة بدأً بالنبي صلى الله عليه وسلم ومرورا بالخلفاء الراشدين وانتهاءً بالعلماء والصالحين.
3- أنه موقع تجتمع إليه الأمة في كل أسبوع مرة على الأقل في لقاء روحاني دعا إليه رب العالمين .
وهذا الاجتماع الجماهيري كما ذكرت لم يفرضه قانون أو نظام أو مصلحة دنيوية ولكن دعا إليه رب العالمين وأمر الأمة بإيقاف حركتها الدنيوية للتوجه إلى الخطباء والإنصات لتوجيهاتهم (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع).
ب- مسؤولية المنبر:
إن المنبر مسؤولية وأمانة يجب أداؤها على الوجه الأكمل عملا بقوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) وقوله: ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا لله والرسول وتخونوا أماناتكم...).
قيل لعبد الملك بن مروان: عجل إليك يا أمير المسلمين ! فقال: (كيف لا يعجل وأنا أعرض عقلي على الناس كل جمعة).
بل تكاد تكون خطبة الجمعة هي القناة الوحيدة، والمصدر الفريد للتلقي المعرفي المتعلق بالدين لدى كثير من العامة الذين شغلتهم الحياة وأعباؤها عن التعلم والتفقه ، فهم للأسف لا يحضرون المساجد إلا يوم الجمعة، وكذلك في جانب التواصل الاجتماعي كما نلاحظ هذا في الغرب فإن لقاء الجمعة يكاد يكون هو وسيلة التواصل الاجتماعي الوحيد لدى كثير من الأقليات المسلمة في تلك البلاد.
ولذلك كله كانت العناية بخطبة الجمعة من أهم الأمور التي تجب ملاحظتها إذا أردنا تحقيق الوعي المعرفي والتواصل الاجتماعي بين المسلمين.
أهداف المنبر:
وهذا الاجتماع الأسبوعي له مقاصد منها :
1 - تذكير المسلمين بالله تعالى وإصلاح قلوبهم بالذكر والعبادة كما يدل عليه قوله تعالى(فاسعوا إلى ذكر الله) قال الإمام القرافي : (لما كانت القلوب تصدأ بالغفلات ..كما يصدأ الحديد اقتضت الحكمة الإلهية جلاءها في كل أسبوع بمواعظ الخطب وأمر بالاجتماع).
2 - الحفاظ على هوية الأمة وشخصيتها الإسلامية بتعميق المعرفة بالإسلام وتعلم آدابه وشرائعه من خلال الخطبة ، ولهذا جعل الدهلوي -رحمه الله- من وسائل نصب الخطباء في المساجد حفظ الملة والدين.
3- الإسهام في معالجة مشكلات الأمة وقضاياها في ضوء التعاليم الإسلامية .
لكن هذه الخطب لن تؤدي أثرها المطلوب إلا بتوافر جملة من المعاني والمواصفات المعنوية ومنها:
أولا : الصدق والتفاعل العاطفي بالخطبة ومعانيها.
إن أثر الخطبة في الناس يختلف باختلاف صدق أصحابها وصدق عاطفتهم الجياشة وتفاعلهم القلبي بالمعاني التي يذكرون الناس بها فكلما كان التفاعل أعظم كان الأثر أكبر.
وهذا من أسرار التأثير الذي نجده في بعض الخطب دون بعض، فبعضها تغير حياة الإنسان وسلوكه، وبعضها لا تجاوز الآذان ، ولا تحرك ساكنا ، وصاحبها كالنائحة المستأجرة التي تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالا عمليا للتفاعل القلبي الصادق بمعاني الخطبة والحماسة لها ولهذا قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش) رواه مسلم.
وهذه آثار طبيعية ناشئة عن الصدق والتفاعل العاطفي دون تكلف.
والخطيب يكتسب هذه المعاني العالية بالمعاملة الخاصة بينه وبين الله تعالى، وبأعمال السّر، وخبيئة الصالحين... وقيام الليل ومجالس الذكر...والعمل بالعلم كما قال ابن حبان في صحيحه : (ذكر وصف الخطباء الذين يتكلون على القول دون العمل) ثم روى حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ليلة أسري به رجالا تقرض شفاههم بمقارض من نار فقال: من هؤلاء ؟ فقال جبريل: هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب) .
ثانيا : توافر الأهلية اللازمة والمؤهلات الخاصة.
إن كل عمل يتطلب نوعا من المؤهلات المعنوية والمواصفات الحسية بحيث يكون الشخص أقرب إلى النجاح وتحقيق المقصود وخاصة إذا كان من الأعمال القيادية ، ومنها بلا شك خطبة الجمعة ودعوة الناس، وبالتالي فخطبة الجمعة ليست كلأ مباحا لكل أحد ولا حقا متاحا لكل من قرأ وكتب. قال الإمام الغزالي: (الوعظ زكاة نصابه الاتعاظ، فمن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة) ؟!.
وعند استعراض التاريخ نجد أنه لم يكن يتصدر لخطابة الناس وتوجيههم إلا العلماء الراسخون الذين جمعوا بين الفقه بالدين والخبرة بالحياة والحكمة في التعامل مع الناس وحسن البيان وصدق التدين من أمثال ابن الجوزي والعز بن عبدالسلام.
إن الخطأ يكمن في أن تتحول الخطابة والإمامة إلى مجرد وسيلة للتكسب وتحصيل الرزق وتحسين الدخل المادي!! مع أن المكافآت الموضوعة للأئمة والخطباء في أكثر العالم الإسلامي لا تشجع على التنافس... فهذه النظرة المادية تفتح الباب ليعتلي المنابر من ليس أهلا لها لضعفهم العملي وفقرهم الفكري والبياني وضعف رصيدهم من التجربة والحنكة، فتكون الضحية هي الأمة المجتمعة في المساجد ما بين شخص يجد في فترة الخطبة فرصة للقيلولة وآخر يجد فيها فترة عصيبة تولد القرحة في المعدة أو رفع الضغط!!.
وبرنامج صناعة الخطباء يجب أن يكون له جوانب ثلاثة رئيسية:
أ- التأهيل العلمي والمعرفي بإعطائهم جرعات علمية قوية تؤهلهم لفهم القضايا واستيعابها، ويشمل ذلك العلم بالشريعة والعلم بالحياة.
ب- التأهيل الروحي والأخلاقي بحيث يمتلك الخطيب الشحنة الإيمانية والجرعة الأخلاقية اللازمة للتأثير في الناس .
ت- التأهيل المهاري والفني المرتبط بأساليب الإقناع وطرائق الخطابة كتنويع نبرات الصوت ونحوه . يقول الجاحظ: (رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحها رواية الكلام) .
ثالثا : الإعداد الجيد للخطبة .
إن من أهم نجاح الخطبة الإعداد لها بصورة جيدة من باب قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) رواه أبو يعلى.
وهذا الإعداد الجيد فيه احترام لرسالة المنبر، واحترام للناس وتقدير لأوقاتهم فإنهم تركوا حركتهم الدنيوية من أجل الفائدة والذكر، وإذا لم يتحقق هذا المقصود فنكون قد تسببنا في تضييع أوقات ثمينة للأمة دون تحقيق الثمرة المرجوة.
لقد كان زهير بن أبي سلمة يصوغ قصيدته أربعة أشهر ثم يهذبها أربعة أشهر ثم يعرضها على نقاد الشعر في أربعة أشهر ثم يعلنها على الناس ولذا سميت قصيدته بالحوليات.
رابعا : الأصالة والموضوعية.
فالخطبة يجب أن تستند على معلومات صحيحة وبيانات موثقة، لا الخرافات والأساطير والإشاعات والأحاديث الموضوعة، وإنما يستقي الخطيب معلوماته من المصادر الموثوق بها، وينبوع الوحي الصافي، ثم يضفي عليه من إشراقاته البيانية وأنواره الفكرية ما يعمق الفكرة في قلوب الناس ويولد التأثير فيها.
وهو في عرضه للأفكار مثل صاحب السلعة الواثق من سلامة بضاعته، فهو يحسن عرضها ويتأنق في صورتها حتى تتقبلها أذواق الناس، وإن كان الخطيب لا يروج بضاعة مادية ولكنه يشوق القلوب إلى الخير والهدى.
وكان رئيس الرؤساء في بغداد قد أمر الخطباء والوعاظ ألا يرووا حديثا حتى يعرضوه على الخطيب البغدادي، فما صححه أوردوه في خطبهم ، وما لم يصححه لم يذكروه.
خامسا : المعاصرة و مراعاة هموم الناس.
إن المقصود من الخطبة في الأساس هو تذكير الناس وتوجيههم لعلاج مشكلاتهم، وإرشادهم لتحقيق الحياة الفاضلة في واقعهم ، ومن هنا كان لزاما على الخطباء العناية بهموم الناس ومشكلاتهم العملية وعلاجها في ضوء الإسلام.
لقد كان الأنبياء دعاة إلى الإيمان ومصلحين ومشاركين في حل المشكلات الحياتية والأخطاء السلوكية، فهذا شعيب عليه السلام قد عني ضمن دعوته الإصلاحية بمشكلة انحراف ضمائر التجار والتطفيف في الكيل فقال: (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ) وضمائر التجار إذا انحرفت نشأت عنها أزمات عامة مثل الغلاء والاحتكار والتضخم والربا...
وعالج لوط عليه السلام مشكلة الشذوذ الجنسي فقال: (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم بل أنتم قوم عادون) .
وتصدى يوسف عليه السلام لمعالجة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعرض لها الشعب المصري، واستطاع من خلال خطة اقتصادية محكمة أن يتجاوز العاصفة والأزمة الاقتصادية.
إن من الخطأ أن يتجاهل الخطباء مشكلات الناس وقضايا المجتمع وينصب حديثهم في قضايا نظرية أو مسائل مكررة ملّ الناس من كثرة الحديث عنها، وهم يساهمون في ذلك من حيث لا يشعرون في تخدير الأمة واستمرار أزماتها وتخلفها.. فهم كالطبيب الذي يحدث المريض المصاب بالسرطان مثلا عن الصداع وتسوس الأسنان!! .
سادسا : مراعاة ظروف الناس وتقدير أحوالهم.
إن الخطيب الناجح هو الذي يراعي ظروف الناس، ويدرك أن رواد المسجد فيهم المريض والكبير والضعيف وذو الحاجة...فلا يجعل من الخطبة سببا لتنفير الناس عن الخير...وهذا أصل عام في الخطاب والتعامل مع الآخرين سواءً في ميدان العبادة أم ميدان الخطبة كما جاء في الحديث: (إذا أم أحدكم فليخفف فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل في الصلاة وأريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز رحمة بأمه).
ومن هنا جعل تقصير الخطبة من علامات فقه الخطيب وحكمته كما قال صلى الله عليه وسلمإن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة ، وإن من البيان لسحرا) رواه مسلم؛ فتقصير الخطبة مستحب شرعا ولكن كما قال النووي: (يكون قصرها معتدلا ولا يبالغ بحيث يمحقها).
وإنما الخطيب مثل الطبيب يصف للناس القدر الكافي من الدواء الذي يحصل به المقصود.
قال جابر بن سمرة رضي الله عنهكنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا) ، بل ذهب ابن حبان إلى وجوبه كما عنون لذلك في صحيحه 7/41
سابعا : الانطلاق من قاعدة الترغيب والرحمة بالناس .
إن الخطيب الناجح هو الذي يدرك أن رسالته رسالة رحمة و هداية و تسامح وليست رسالة عنف وإكراه واستعلاء, فيخاطب الناس من هذا المنطلق ويترفق بهم في التوجيه عملا بقوله تعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقوله تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر..) .
ولما أراد الله تعالى تكميل موسى عليه السلام أرسله لصحبة العبد الصالح الخضر لأنه جمع بين وصفين هما (العلم والرحمة)كما قال سبحانه : ( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدن علما ) فأمره بصحبة هذا النبي الصالح لأنه جمع بين هذين الوصفين الكريمين وهما العلم والرحمة.
إن المبالغة في استخدام أسلوب الترهيب والتخويف بالنار واللعنة ينفر الناس من الدين، ويعطي الحاضرين انطباعا شديدا قاسيا عن الدين بخلاف أسلوب الترغيب والتشويق فإنه يحرك النفوس ويجعلها أقرب لتقبل التوجيه، حتى إن الجرجاني وغيره لما عرفوا الخطابة قالوا: هي (ترغيب الناس فيما ينفعهم معاشا ومعاداً) فجعل حقيقة الخطابة هي الترغيب.
وعند التأمل في الخطاب النبوي نجد الغالب فيه هو الترغيب بذكر الأجر والثواب وفضائل الأعمال كما يدل عليه استعراض كتب السنة الشريفة .
ثامنا : البيان وحسن التعبير.
من معالم الخطبة الناجحة وأسباب تأثيرها تميز الخطيب بحسن البيان، وجمال التعبير وسلامة الخطيب من اللحن وعيوب اللسان والصوت، فقد كان أهل الحي يذمون بذلك كما قال الصاحب بن عباد:
يا أهل سارية السلام عليكم ** قد قلّ في أرضيكم الخطباء
حتى غدا الفأفأء يخطب فيكم ** ومن العجائب خاطب فأفأء
إن الله تعالى لما خاطب الناس بالقرآن خاطبهم بلسان فصيح وعبارات جزلة، وألفاظ بليغة، حتى صار القرآن معجزا بلاغيا حتى اعترف بذلك خصوم القرآن ومنهم الوليد بن المغيرة فقال: (والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطراوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه) والطلاوة –بالضم والفتح- الحسن والرونق.
وقد استحب الفقهاء أن تكون الخطبة فصيحة بليغة لأنها أقوى في التأثير، ولا يلقيها بالألفاظ المبتذلة ولا الوحشية التي لا يفهمها الناس، ولا يبالغ حتى يُغرب في الألفاظ فلا يفهمه الناس ولذا قال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله) رواه البخاري.
ونحن لا نطالب الخطباء أن يصلوا إلى مستوى الجاحظ وابن قتيبة وواصل بن عطاء الذي كان يتجنب حرف الراء في خطبه كلها!! ولكننا نريد قدراً وسطا على الأقل من البيان وجمال التعبير، وذلك يحصل بالقراءة في كتب الأدب والشعر والبلاغة فإنها تكسب لسان الخطيب فصاحة وجمالا.
تاسعا : الثقافة الواسعة المتنوعة.
إن الخطيب يعرض على الناس عقله كما قال عبد الملك بن مروان، فإن كان قليل العلم ضعيف الثقافة لم يؤثر في الناس، واهتزت ثقافة الناس به فلا بد من العلم والمعرفة وإلا صار كالأعمى الذي يقود الآخرين، وفي الحديث: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء...).
والعلم الذي يحتاج إليه الخطيب نوعان:
1- علم بالشريعة والدين الذي ينطلق منه لهداية الناس.
2- علم بالحياة والأحياء وواقع الناس ، فهو كالطبيب الذي يجب أن يكون على دراية بالمريض حتى يحسن علاجه.
ويدخل في ذلك أنواع من العلوم والمعارف كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم التاريخ حتى يساعده ذلك على حسن التوجيه كما قال الخطيب البغدادي في حق الفقيه المفتي : (يجب عليه أن يتعلق من كل علم بطرف...).
نقد واقع الخطباء :
إن الخطباء في المساجد هم دعاة الإسلام وحماة الشريعة، ونواب النبي في توجيه أمته، ولهذا يكن لهم الجمهور الحب والاحترام والتقدير، ولكن ذلك لا يعني ادعاء العصمة لهم فهم بشر يصيبون ويخطئون ، وفي كثير منهم ألوان من القصور وأنواع من التعقيد وعدم التأثير.
ولهذا كان من حقهم علينا النصيحة والنقد الهادف لممارساتهم في الخطبة ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.
وقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم نقد الخطيب عمليا فقال لخطيب من الخطباء : (بئس الخطيب أنت) لما قال: (من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى) رواه النسائي برقم5530 وأبو داود برقم1099 وفي راوية أبي داود ولكن قل: ( ومن يعص الله ورسوله فقد غوى) ورواه مسلم.
واختلف العلماء في سبب الذم هنا على أقوال:
1- التشريك في الضمير لأنه يقتضي التسوية فأمره بالعطف تعظيما لله تعالى بتقديم اسمه كما في الحديث الآخر: ( لا يقل أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان). وهذا قول القاضي عياض وغيره، وقال العظيم أبادي: (يمكن أنه ينكر عليه لأنه كان يعتقد التسوية فنبهه على فساده) عون المعبود 3/314.
2- الاختصار في مواطن البسط والإيضاح، فالخطبة يقصد بها الاتعاظ وهذا يقتضي الإيضاح واجتناب الرموز كما جاء في خطبة الحاجة، وأما ما ورد من استعماله في بعض الأحاديث فلأنه في مقام التعليم والأحكام، وهذا اختيار النووي في شرح مسلم 6/159.
3- أنه من الخصائص بذلك الخطيب دون غيره بئس الخطيب أنت) لما قال: (من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى)رواه النسائي برقم5530 وأبو داود برقم1099 وفي راوية أبي داود ولكن قل: ( ومن يعص الله ورسوله فقد غوى) ورواه مسلم.
4- أنه واقعة عين لا عموم لها.
5- أنه بسبب الوقف والسكوت عنه (ومن يعصهما) ثم قال فقد غوى ، وبه قال يوسف الحنفي في المعتقد.
ولكن نقد الخطباء يجب أن ينطلق من دافع المحبة للمنصوح والرغبة في تكميله وليس من دافع العداوة والرغبة في تنقيصه ، وهذا أمر يرجع إلى نوايا القلوب التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب.
ومن الإنصاف أن نقرر بأن عدم انتفاع الناس بالخطب ليس بالضرورة أن يكون سببه قصور الخطباء، ولكن قد يكون بسبب موانع لدى بعض السامعين وضعف تركيزهم وقسوة قلوبهم كما قال الشاعر:
وما قبلت نفسي من الخير لفظة ** وإن طال ما فاه
د. مصطفى مخدوم
إن يوم الجمعة أفضل أيام الأسبوع وسيد الأيام كما روى مسلم في الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة ).
وقد جعله الإسلام عيدا بالنسبة للمسلمين كما قال صلى الله عليه وسلم (إن هذا يوم عيد جعله الله للمسلمين فمن جاء يوم الجمعة فليغتسل) رواه ابن ماجه بسند صحيح.
ومن خصائص هذا اليوم أن المسلمين يجتمعون فيه للصلاة والموعظة في المساجد ، وهذا اجتماع لم يفرضه نظام ولا عرف ولكن فرضه القرآن الكريم في قوله (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع) فأمر الأمة بترك العمل الدنيوي والاجتماع على الذكر والعبادة.
ولهذا سمي يوم الجمعة أخذا من الجمع والاجتماع بين المسلمين في هذا اليوم.
أ- شرف المنبر:
كما أن منبر المسجد يمتاز بعلو المكان عادة فهو يمتاز بعلو المكانة والشرف أيضا ، وذلك من وجوه:
1- أنه موقع توجه منه الأمة ، ويشكل من خلاله الرأي العام في المجتمع الإسلامي، وتحرك الأمة نحو المواقف والأفكار التي يمليها شريعتها.
2- أنه موقع تبوأه أشراف الأمة بدأً بالنبي صلى الله عليه وسلم ومرورا بالخلفاء الراشدين وانتهاءً بالعلماء والصالحين.
3- أنه موقع تجتمع إليه الأمة في كل أسبوع مرة على الأقل في لقاء روحاني دعا إليه رب العالمين .
وهذا الاجتماع الجماهيري كما ذكرت لم يفرضه قانون أو نظام أو مصلحة دنيوية ولكن دعا إليه رب العالمين وأمر الأمة بإيقاف حركتها الدنيوية للتوجه إلى الخطباء والإنصات لتوجيهاتهم (يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع).
ب- مسؤولية المنبر:
إن المنبر مسؤولية وأمانة يجب أداؤها على الوجه الأكمل عملا بقوله تعالى (إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها) وقوله: ( يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا لله والرسول وتخونوا أماناتكم...).
قيل لعبد الملك بن مروان: عجل إليك يا أمير المسلمين ! فقال: (كيف لا يعجل وأنا أعرض عقلي على الناس كل جمعة).
بل تكاد تكون خطبة الجمعة هي القناة الوحيدة، والمصدر الفريد للتلقي المعرفي المتعلق بالدين لدى كثير من العامة الذين شغلتهم الحياة وأعباؤها عن التعلم والتفقه ، فهم للأسف لا يحضرون المساجد إلا يوم الجمعة، وكذلك في جانب التواصل الاجتماعي كما نلاحظ هذا في الغرب فإن لقاء الجمعة يكاد يكون هو وسيلة التواصل الاجتماعي الوحيد لدى كثير من الأقليات المسلمة في تلك البلاد.
ولذلك كله كانت العناية بخطبة الجمعة من أهم الأمور التي تجب ملاحظتها إذا أردنا تحقيق الوعي المعرفي والتواصل الاجتماعي بين المسلمين.
أهداف المنبر:
وهذا الاجتماع الأسبوعي له مقاصد منها :
1 - تذكير المسلمين بالله تعالى وإصلاح قلوبهم بالذكر والعبادة كما يدل عليه قوله تعالى(فاسعوا إلى ذكر الله) قال الإمام القرافي : (لما كانت القلوب تصدأ بالغفلات ..كما يصدأ الحديد اقتضت الحكمة الإلهية جلاءها في كل أسبوع بمواعظ الخطب وأمر بالاجتماع).
2 - الحفاظ على هوية الأمة وشخصيتها الإسلامية بتعميق المعرفة بالإسلام وتعلم آدابه وشرائعه من خلال الخطبة ، ولهذا جعل الدهلوي -رحمه الله- من وسائل نصب الخطباء في المساجد حفظ الملة والدين.
3- الإسهام في معالجة مشكلات الأمة وقضاياها في ضوء التعاليم الإسلامية .
لكن هذه الخطب لن تؤدي أثرها المطلوب إلا بتوافر جملة من المعاني والمواصفات المعنوية ومنها:
أولا : الصدق والتفاعل العاطفي بالخطبة ومعانيها.
إن أثر الخطبة في الناس يختلف باختلاف صدق أصحابها وصدق عاطفتهم الجياشة وتفاعلهم القلبي بالمعاني التي يذكرون الناس بها فكلما كان التفاعل أعظم كان الأثر أكبر.
وهذا من أسرار التأثير الذي نجده في بعض الخطب دون بعض، فبعضها تغير حياة الإنسان وسلوكه، وبعضها لا تجاوز الآذان ، ولا تحرك ساكنا ، وصاحبها كالنائحة المستأجرة التي تبيع عبرتها وتبكي شجو غيرها.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مثالا عمليا للتفاعل القلبي الصادق بمعاني الخطبة والحماسة لها ولهذا قال جابر بن عبدالله رضي الله عنه (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خطب احمرت عيناه وعلا صوته واشتد غضبه كأنه منذر جيش) رواه مسلم.
وهذه آثار طبيعية ناشئة عن الصدق والتفاعل العاطفي دون تكلف.
والخطيب يكتسب هذه المعاني العالية بالمعاملة الخاصة بينه وبين الله تعالى، وبأعمال السّر، وخبيئة الصالحين... وقيام الليل ومجالس الذكر...والعمل بالعلم كما قال ابن حبان في صحيحه : (ذكر وصف الخطباء الذين يتكلون على القول دون العمل) ثم روى حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى ليلة أسري به رجالا تقرض شفاههم بمقارض من نار فقال: من هؤلاء ؟ فقال جبريل: هؤلاء الخطباء من أمتك يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب) .
ثانيا : توافر الأهلية اللازمة والمؤهلات الخاصة.
إن كل عمل يتطلب نوعا من المؤهلات المعنوية والمواصفات الحسية بحيث يكون الشخص أقرب إلى النجاح وتحقيق المقصود وخاصة إذا كان من الأعمال القيادية ، ومنها بلا شك خطبة الجمعة ودعوة الناس، وبالتالي فخطبة الجمعة ليست كلأ مباحا لكل أحد ولا حقا متاحا لكل من قرأ وكتب. قال الإمام الغزالي: (الوعظ زكاة نصابه الاتعاظ، فمن لا نصاب له كيف يخرج الزكاة) ؟!.
وعند استعراض التاريخ نجد أنه لم يكن يتصدر لخطابة الناس وتوجيههم إلا العلماء الراسخون الذين جمعوا بين الفقه بالدين والخبرة بالحياة والحكمة في التعامل مع الناس وحسن البيان وصدق التدين من أمثال ابن الجوزي والعز بن عبدالسلام.
إن الخطأ يكمن في أن تتحول الخطابة والإمامة إلى مجرد وسيلة للتكسب وتحصيل الرزق وتحسين الدخل المادي!! مع أن المكافآت الموضوعة للأئمة والخطباء في أكثر العالم الإسلامي لا تشجع على التنافس... فهذه النظرة المادية تفتح الباب ليعتلي المنابر من ليس أهلا لها لضعفهم العملي وفقرهم الفكري والبياني وضعف رصيدهم من التجربة والحنكة، فتكون الضحية هي الأمة المجتمعة في المساجد ما بين شخص يجد في فترة الخطبة فرصة للقيلولة وآخر يجد فيها فترة عصيبة تولد القرحة في المعدة أو رفع الضغط!!.
وبرنامج صناعة الخطباء يجب أن يكون له جوانب ثلاثة رئيسية:
أ- التأهيل العلمي والمعرفي بإعطائهم جرعات علمية قوية تؤهلهم لفهم القضايا واستيعابها، ويشمل ذلك العلم بالشريعة والعلم بالحياة.
ب- التأهيل الروحي والأخلاقي بحيث يمتلك الخطيب الشحنة الإيمانية والجرعة الأخلاقية اللازمة للتأثير في الناس .
ت- التأهيل المهاري والفني المرتبط بأساليب الإقناع وطرائق الخطابة كتنويع نبرات الصوت ونحوه . يقول الجاحظ: (رأس الخطابة الطبع، وعمودها الدربة، وجناحها رواية الكلام) .
ثالثا : الإعداد الجيد للخطبة .
إن من أهم نجاح الخطبة الإعداد لها بصورة جيدة من باب قوله صلى الله عليه وسلم: (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه) رواه أبو يعلى.
وهذا الإعداد الجيد فيه احترام لرسالة المنبر، واحترام للناس وتقدير لأوقاتهم فإنهم تركوا حركتهم الدنيوية من أجل الفائدة والذكر، وإذا لم يتحقق هذا المقصود فنكون قد تسببنا في تضييع أوقات ثمينة للأمة دون تحقيق الثمرة المرجوة.
لقد كان زهير بن أبي سلمة يصوغ قصيدته أربعة أشهر ثم يهذبها أربعة أشهر ثم يعرضها على نقاد الشعر في أربعة أشهر ثم يعلنها على الناس ولذا سميت قصيدته بالحوليات.
رابعا : الأصالة والموضوعية.
فالخطبة يجب أن تستند على معلومات صحيحة وبيانات موثقة، لا الخرافات والأساطير والإشاعات والأحاديث الموضوعة، وإنما يستقي الخطيب معلوماته من المصادر الموثوق بها، وينبوع الوحي الصافي، ثم يضفي عليه من إشراقاته البيانية وأنواره الفكرية ما يعمق الفكرة في قلوب الناس ويولد التأثير فيها.
وهو في عرضه للأفكار مثل صاحب السلعة الواثق من سلامة بضاعته، فهو يحسن عرضها ويتأنق في صورتها حتى تتقبلها أذواق الناس، وإن كان الخطيب لا يروج بضاعة مادية ولكنه يشوق القلوب إلى الخير والهدى.
وكان رئيس الرؤساء في بغداد قد أمر الخطباء والوعاظ ألا يرووا حديثا حتى يعرضوه على الخطيب البغدادي، فما صححه أوردوه في خطبهم ، وما لم يصححه لم يذكروه.
خامسا : المعاصرة و مراعاة هموم الناس.
إن المقصود من الخطبة في الأساس هو تذكير الناس وتوجيههم لعلاج مشكلاتهم، وإرشادهم لتحقيق الحياة الفاضلة في واقعهم ، ومن هنا كان لزاما على الخطباء العناية بهموم الناس ومشكلاتهم العملية وعلاجها في ضوء الإسلام.
لقد كان الأنبياء دعاة إلى الإيمان ومصلحين ومشاركين في حل المشكلات الحياتية والأخطاء السلوكية، فهذا شعيب عليه السلام قد عني ضمن دعوته الإصلاحية بمشكلة انحراف ضمائر التجار والتطفيف في الكيل فقال: (أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين وزنوا بالقسطاس المستقيم ) وضمائر التجار إذا انحرفت نشأت عنها أزمات عامة مثل الغلاء والاحتكار والتضخم والربا...
وعالج لوط عليه السلام مشكلة الشذوذ الجنسي فقال: (أتأتون الذكران من العالمين وتذرون ما خلق لكم ربكم بل أنتم قوم عادون) .
وتصدى يوسف عليه السلام لمعالجة الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تعرض لها الشعب المصري، واستطاع من خلال خطة اقتصادية محكمة أن يتجاوز العاصفة والأزمة الاقتصادية.
إن من الخطأ أن يتجاهل الخطباء مشكلات الناس وقضايا المجتمع وينصب حديثهم في قضايا نظرية أو مسائل مكررة ملّ الناس من كثرة الحديث عنها، وهم يساهمون في ذلك من حيث لا يشعرون في تخدير الأمة واستمرار أزماتها وتخلفها.. فهم كالطبيب الذي يحدث المريض المصاب بالسرطان مثلا عن الصداع وتسوس الأسنان!! .
سادسا : مراعاة ظروف الناس وتقدير أحوالهم.
إن الخطيب الناجح هو الذي يراعي ظروف الناس، ويدرك أن رواد المسجد فيهم المريض والكبير والضعيف وذو الحاجة...فلا يجعل من الخطبة سببا لتنفير الناس عن الخير...وهذا أصل عام في الخطاب والتعامل مع الآخرين سواءً في ميدان العبادة أم ميدان الخطبة كما جاء في الحديث: (إذا أم أحدكم فليخفف فإن فيهم المريض والكبير وذا الحاجة).
وقال صلى الله عليه وسلم: (إني لأدخل في الصلاة وأريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز رحمة بأمه).
ومن هنا جعل تقصير الخطبة من علامات فقه الخطيب وحكمته كما قال صلى الله عليه وسلمإن طول صلاة الرجل وقصر خطبته مئنة من فقهه فأطيلوا الصلاة واقصروا الخطبة ، وإن من البيان لسحرا) رواه مسلم؛ فتقصير الخطبة مستحب شرعا ولكن كما قال النووي: (يكون قصرها معتدلا ولا يبالغ بحيث يمحقها).
وإنما الخطيب مثل الطبيب يصف للناس القدر الكافي من الدواء الذي يحصل به المقصود.
قال جابر بن سمرة رضي الله عنهكنت أصلي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت صلاته قصدا وخطبته قصدا) ، بل ذهب ابن حبان إلى وجوبه كما عنون لذلك في صحيحه 7/41
سابعا : الانطلاق من قاعدة الترغيب والرحمة بالناس .
إن الخطيب الناجح هو الذي يدرك أن رسالته رسالة رحمة و هداية و تسامح وليست رسالة عنف وإكراه واستعلاء, فيخاطب الناس من هذا المنطلق ويترفق بهم في التوجيه عملا بقوله تعالى : (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) وقوله تعالى (فبما رحمة من الله لنت لهم و لو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر..) .
ولما أراد الله تعالى تكميل موسى عليه السلام أرسله لصحبة العبد الصالح الخضر لأنه جمع بين وصفين هما (العلم والرحمة)كما قال سبحانه : ( فوجدا عبدا من عبادنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدن علما ) فأمره بصحبة هذا النبي الصالح لأنه جمع بين هذين الوصفين الكريمين وهما العلم والرحمة.
إن المبالغة في استخدام أسلوب الترهيب والتخويف بالنار واللعنة ينفر الناس من الدين، ويعطي الحاضرين انطباعا شديدا قاسيا عن الدين بخلاف أسلوب الترغيب والتشويق فإنه يحرك النفوس ويجعلها أقرب لتقبل التوجيه، حتى إن الجرجاني وغيره لما عرفوا الخطابة قالوا: هي (ترغيب الناس فيما ينفعهم معاشا ومعاداً) فجعل حقيقة الخطابة هي الترغيب.
وعند التأمل في الخطاب النبوي نجد الغالب فيه هو الترغيب بذكر الأجر والثواب وفضائل الأعمال كما يدل عليه استعراض كتب السنة الشريفة .
ثامنا : البيان وحسن التعبير.
من معالم الخطبة الناجحة وأسباب تأثيرها تميز الخطيب بحسن البيان، وجمال التعبير وسلامة الخطيب من اللحن وعيوب اللسان والصوت، فقد كان أهل الحي يذمون بذلك كما قال الصاحب بن عباد:
يا أهل سارية السلام عليكم ** قد قلّ في أرضيكم الخطباء
حتى غدا الفأفأء يخطب فيكم ** ومن العجائب خاطب فأفأء
إن الله تعالى لما خاطب الناس بالقرآن خاطبهم بلسان فصيح وعبارات جزلة، وألفاظ بليغة، حتى صار القرآن معجزا بلاغيا حتى اعترف بذلك خصوم القرآن ومنهم الوليد بن المغيرة فقال: (والله إن لقوله لحلاوة، وإن عليه لطراوة، وإن أعلاه لمثمر، وأسفله لمغدق، وإنه ليعلو ولا يعلى عليه) والطلاوة –بالضم والفتح- الحسن والرونق.
وقد استحب الفقهاء أن تكون الخطبة فصيحة بليغة لأنها أقوى في التأثير، ولا يلقيها بالألفاظ المبتذلة ولا الوحشية التي لا يفهمها الناس، ولا يبالغ حتى يُغرب في الألفاظ فلا يفهمه الناس ولذا قال علي رضي الله عنه: (حدثوا الناس بما يعرفون أتحبون أن يكذب الله ورسوله) رواه البخاري.
ونحن لا نطالب الخطباء أن يصلوا إلى مستوى الجاحظ وابن قتيبة وواصل بن عطاء الذي كان يتجنب حرف الراء في خطبه كلها!! ولكننا نريد قدراً وسطا على الأقل من البيان وجمال التعبير، وذلك يحصل بالقراءة في كتب الأدب والشعر والبلاغة فإنها تكسب لسان الخطيب فصاحة وجمالا.
تاسعا : الثقافة الواسعة المتنوعة.
إن الخطيب يعرض على الناس عقله كما قال عبد الملك بن مروان، فإن كان قليل العلم ضعيف الثقافة لم يؤثر في الناس، واهتزت ثقافة الناس به فلا بد من العلم والمعرفة وإلا صار كالأعمى الذي يقود الآخرين، وفي الحديث: (إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من صدور الناس، ولكن يقبضه بقبض العلماء...).
والعلم الذي يحتاج إليه الخطيب نوعان:
1- علم بالشريعة والدين الذي ينطلق منه لهداية الناس.
2- علم بالحياة والأحياء وواقع الناس ، فهو كالطبيب الذي يجب أن يكون على دراية بالمريض حتى يحسن علاجه.
ويدخل في ذلك أنواع من العلوم والمعارف كعلم النفس وعلم الاجتماع وعلم التاريخ حتى يساعده ذلك على حسن التوجيه كما قال الخطيب البغدادي في حق الفقيه المفتي : (يجب عليه أن يتعلق من كل علم بطرف...).
نقد واقع الخطباء :
إن الخطباء في المساجد هم دعاة الإسلام وحماة الشريعة، ونواب النبي في توجيه أمته، ولهذا يكن لهم الجمهور الحب والاحترام والتقدير، ولكن ذلك لا يعني ادعاء العصمة لهم فهم بشر يصيبون ويخطئون ، وفي كثير منهم ألوان من القصور وأنواع من التعقيد وعدم التأثير.
ولهذا كان من حقهم علينا النصيحة والنقد الهادف لممارساتهم في الخطبة ، كما قال صلى الله عليه وسلم: (الدين النصيحة قلنا لمن يا رسول الله ؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم) رواه مسلم.
وقد مارس النبي صلى الله عليه وسلم نقد الخطيب عمليا فقال لخطيب من الخطباء : (بئس الخطيب أنت) لما قال: (من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى) رواه النسائي برقم5530 وأبو داود برقم1099 وفي راوية أبي داود ولكن قل: ( ومن يعص الله ورسوله فقد غوى) ورواه مسلم.
واختلف العلماء في سبب الذم هنا على أقوال:
1- التشريك في الضمير لأنه يقتضي التسوية فأمره بالعطف تعظيما لله تعالى بتقديم اسمه كما في الحديث الآخر: ( لا يقل أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان). وهذا قول القاضي عياض وغيره، وقال العظيم أبادي: (يمكن أنه ينكر عليه لأنه كان يعتقد التسوية فنبهه على فساده) عون المعبود 3/314.
2- الاختصار في مواطن البسط والإيضاح، فالخطبة يقصد بها الاتعاظ وهذا يقتضي الإيضاح واجتناب الرموز كما جاء في خطبة الحاجة، وأما ما ورد من استعماله في بعض الأحاديث فلأنه في مقام التعليم والأحكام، وهذا اختيار النووي في شرح مسلم 6/159.
3- أنه من الخصائص بذلك الخطيب دون غيره بئس الخطيب أنت) لما قال: (من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى)رواه النسائي برقم5530 وأبو داود برقم1099 وفي راوية أبي داود ولكن قل: ( ومن يعص الله ورسوله فقد غوى) ورواه مسلم.
4- أنه واقعة عين لا عموم لها.
5- أنه بسبب الوقف والسكوت عنه (ومن يعصهما) ثم قال فقد غوى ، وبه قال يوسف الحنفي في المعتقد.
ولكن نقد الخطباء يجب أن ينطلق من دافع المحبة للمنصوح والرغبة في تكميله وليس من دافع العداوة والرغبة في تنقيصه ، وهذا أمر يرجع إلى نوايا القلوب التي لا يطلع عليها إلا علام الغيوب.
ومن الإنصاف أن نقرر بأن عدم انتفاع الناس بالخطب ليس بالضرورة أن يكون سببه قصور الخطباء، ولكن قد يكون بسبب موانع لدى بعض السامعين وضعف تركيزهم وقسوة قلوبهم كما قال الشاعر:
وما قبلت نفسي من الخير لفظة ** وإن طال ما فاه
مواضيع مماثلة
» صناعة النجاح
» مائة حديث ضعيف على السنة بعض الخطباء
» فهذه (100) حديث من الأحاديث الضعيفة والموضوعة وهي منتشرة بين الخطباء والوعاظ
» مائة حديث ضعيف على السنة بعض الخطباء
» فهذه (100) حديث من الأحاديث الضعيفة والموضوعة وهي منتشرة بين الخطباء والوعاظ
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin