
كثيرا ما يتصور الناس الحرية تحررا من قيود السجن أو القمع أو الحجز ، لكنهم يأتون أعمالا تقليدية تقيدهم بملء إرادتهم ، وهذا ما سنكتشفه في هذه القصة .
لا أذكر لماذا اخترت في ذلك اليوم الاستلقاء على الكرسي الطويل في القاعة الكبيرة وقت القيلولة .
كانت تلك القاعة مفضية إلى الحديقة ، ومشرفة عليها . فكنت أرى – وأنا مستلقي على الكرسي – كل ما في صحن الدار : الحديقة التي في الوسط ، الأشجار والأزهار المغروسة فيها ، الممشى العريض الذي يحيط بها ، الممر الجانبي الذي يؤدي إلى الباب الخارجي فشاطئ النهر ، والحمار الصغير المربوط إلى حديد هذا الشباك في الزاوية المقابلة للقاعة .
كنت لا أرى للحركة أثرا حتى في أخف الأزهار وأدق الأوراق ، فأخذت أعصابي تتخدّر بتأثير هذه الحرارة المستولية ، وهذا السكون الشامل..غير أني رأيت – بعد مدة – أن الحمار قد أخل بهذا السكون ، وتحرك من الزاوية التي كان مربوطا فيها ، وأخذ يمشي في الحديقة ، ثم توجه نحو الممر الذي يفضي إلى الباب .
لقد كان جحشا صغيرا ربيناه في الدار منذ بضعة أشهر ليركب عليه ولدي خلدون من حين إلى حين . فكان الخادم يوصله إلى شاطئ النهر كل يوم عدة مرات ثم يعيده ويربطه بحديد الشباك . ولما رأيته يتباعد عن قرنته المعهودة ظننت أن الحبل الذي كان يربطه قد انحل ، وحينما رأيته يقترب من الباب ، هممت أن أنهض من محلي لأنادي الخادم وأطلب إليه أن يمسك الحمار ويعيده إلى مربطه ، غير أني قلت لا حاجة إلى ذلك ، إنه سيذهب إلى الشاطئ بطبيعة الحال فلا يصعب على الخادم أن يمسكه حينما يستيقظ . وهكذا عدلت عن فكرتي وعدت إلى قيلولتي .
ولكن لم يمض على ذلك وقت طويل حتى سمعت وقع حوافر الحمار على أرض الحديقة ، ثم رأيته يدخل صحن الدار من حيث خرج . ويدور حول الحديقة إلى أن وصل إلى قرنة المطبخ ( حيث كان يُربط ) ووقف هناك كما يقف عادة حينما كان يربط إلى حديد الشباك .
فعلمت حينئذ أنه لم يكن مربوطا بحبل ما قبل خروجه من الدار أيضا وأنه كان يقف هناك بحكم العادة ، ويخرج إلى الشاطئ كلما شعر بعطش ، ثم يعود إلى مربطه من تلقاء نفسه ، بعد أن يستوفي حاجته من الماء .
لقد أثارت هذه الواقعة في ذهني سلسلة طويلة من الملاحظات ، إن هذا الجحش حر غير مقيد بقيد مرئي أو مادي ، وها هو واقف هناك كأنه مربوط بحبل قصير إلى الشباك .
وإن السائس الذي كان يقوده إلى الشاطئ ويعيده إلى الدار ، انقطع عن العمل منذ زمن ليس بالقصير ؛ ولكنه ترك محله – قبل ذلك – لقائد داخلي ؛ يقود ذلك الحمار كسائس غير مرئي إلى المحلات نفسها من الطرق نفسها ، وفي الأوقات نفسها .
ولكن هل هذه الحال خاصة بالحمار ؟ ألا تتشابه حريته هذه وحرية الإنسان في بعض الأحيان ؟
إن للحرية وجهتين : الحرية الداخلية والحرية الخارجية ؛ وبتعبير آخر الحرية المادية والحرية المعنوية .
فكم وكم من الناس ليسوا أحرارا إلا في ظواهر الأحوال ؟ وكم من هؤلاء يعيشون مقيدين بقيود داخلية معنوية ، تحدد لهم أعمالهم وأفعالهم من حيث لا يشعرون !
القصة للكاتب والمفكر ساطع الحصري ، سوري الجنسية ، ولد بصنعاء ، ويعتبر من كبار دعاة القومية العربية .