بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 4 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 4 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
معالجة أحداث بني المصطلق1
صفحة 1 من اصل 1
معالجة أحداث بني المصطلق1
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم كتابه العزيز: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر: من الآية7)، والصلاة والسلام على خير النبيين والمرسلين القائل: "أيهَا النَّاسُ إنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ". (سنن الدارمي 1/21) وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ السيّرة النبوية من أشرف العلوم وأعزها وأسناها هدفاً ومطلباً، بها يَعْرِف الرجل المسلم أحوال دينه ونبيّه - صلى الله عليه وسلم - وما شرّفه الله تعالى به، وقد اعتنى المسلمون والمؤرخون والباحثون وكتّاب السيرة بها قديماً وحديثاً، فهم يدركون ما لسيرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من آثار حسنة في تربية النشء، وتنشئة جيل صالح لحمل رسالة الإسلام، فهي خير معلِّم ومثقِّف، ومهذب ومؤدب.
ولا شكّ أن القرآن الكريم هو الذي عمَّق الإحساس التاريخي عند العرب، بما ذَكَره من قصص السابقين، وتواريخ الأمم الماضية، ووصلهم بها، ليكون في قصصهم عبرة وعظة، ففي أحضان التاريخ نشأت السيرة وترعرعت، واتخذتْ سمتًا واضحًا وطريقاً بيّناً يقصده من أراد الأسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ [الأحزاب: 21].
وقد كتبت في السيرة النبوية قديماً وحديثاً مجلدات وكتب عدة ولا زال العلماء وطلبة العلم يولونها اهتماماً بالغاً، ويكرسون كلّ جهودهم العلمية في البحث والدراسة يتعلمون منها ويعلمونها غيرهم، ويتخذوا منها نبراساً يسيرون على ضوءه في تربية الأبناء والبنات، من أجل تنشئة جيل يؤمن بالله ورسوله ودين الإسلام.
وبحثي الموسوم "سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم -الحكيمة في معالجة أحداث بني المصطلق " هذا إنما هو عن جزئية من سيرة خير الأنام تتعلق بغزوة من غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي قادها بنفسه، ولم أتناولها من الناحية التاريخية فحسب بل درست الحوادث التي رافقت هذه الغزوة دراسة تحليلية وتعليلية لبيان معالجات النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، والغرض من هذا هو إبراز وإظهار دوره - صلى الله عليه وسلم - القيادي والسياسي وإدارته الحكيمة لها، واستخلاص الدروس والعبر منها.
وقد اعتمدت في بحثي هذا على العديد من المصادر الأصيلة والمراجع المعتمدة التي جمعت بين أصالة القديم وجِدّة الحديث، وقد قسمت البحث إلى أربعة مطالب، فكان المطلب الأول في بيان المعنى اللغوي لكلمتي المصطلق والمريسيع، وأما المطلب الثاني فخصصته في ذكر سنة وقوع هذه الغزوة والخلاف الواقع فيها عند رواد الحديث عنها، وأما المطلب الثالث فدرست فيه أسباب الغزوة، وأما المطلب الرابع فتناولت فيه الأحداث التي رافقت هذه الغزوة وسياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكيمة في معالجتها، ثم جعلت في نهاية هذا البحث خاتمة ذكرت فيها أهم ما توصلت إليه من نتائج، وزيادة على ذلك ذكرت المصادر والمراجع التي اعتمدت عليها.
وكل ما كان مني هو بفضل من الله ومنة منه تعالى: ﴿لا عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32].وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
المطلب الأول: التعريف اللغوي لكلمتي المُصْطَلِق والمريسيع:
المُصْطَلِق لغة: من صلق والصلقة و الصلق: الصياح، والولولة، والصوت الشديد يريد رفعه عند المصائب، وقيل هو ماء السماء[1].
وبنو المُصْطَلِق[2]: هم من خزاعة[3]، وهو لقب خزيمة[4] بن سعد بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة[5]، أما المُرَيْسيع: فعلى لفظ التصغير قرية من قرى وادي القرى.
ونقل البكري عن ابن إسحاق[6] قوله: من ناحية قديد إلى الشام، وهو اسم ماء من مياه خزاعة[7].
أما لغةً: فمأخوذ من قولهم وسعت عين الرجل إذا دمعت من فساد، وتقع المريسيع في ناحية قديد، وقال في القاموس أن المريسيع بئر أو ماء وإليه تنسب غزوة بني المصطلق[8].
وقبيلة "خزاعة" أزدية يمانية وكانوا يسكنون قديداً وعسفان على الطريق من المدينة إلى مكة فـ (قديد) تبعد عن مكة 120 كم، وعن المدينة 297كم تقريباً[9]، وعسفان تبعد 80 كم عن مكة، في حين تنتشر ديار خزاعة على الطريق من المدينة إلى مكة ما بين مر الظهران التي تبعد عن مكة 30 كم وبين الأبواء التي تبعد عن مكة 240 كم، وبذالك يتوسط بنو المصطلق ديار خزاعة، وموقعهم مهم بالنسبة للصراع بين المسلمين وقريش، وقد عرفت خزاعة بموقفها المسالم للمسلمين وربما كان لصلات النسب والمصالح مع الأنصار تأثير في تحسين هذه العلاقات رغم المحالفات القديمة بينهم وبين قريش ذات المصالح الدينية والتجارية، ورغم أن ديارهم كانت أقرب إلى مكة[10]، ولعل هذه العوامل أعاقت في الوقت نفسه انتشار الإسلام في خزاعة عامة وفي بني المصطلق خاصة الذين كانوا يستفيدون من الموقع التجاري ووجود صنم مناة في ديارهم معنويا ومادياً حيث يحج إليها العرب[11].
المطلب الثاني: سنة وقوع هذه الغزوة:
ليس غريباً أن تتعدد الأقوال ويحدث الخلاف عند أهل السير والتراجم في سنة وقوع هذه الغزوة، فقد جرى خلاف مثله في غزوات عدة مثل غزوة ذات الرقاع، والخندق، وبني قريظة وغيرها، ونظراً لأهمية الأحداث التي رافقت هذه الغزوة واشتهارها كان حريِّاً أن لا يكون مثل هذا الاختلاف.
وللاختصار سأذكر أقوالهم دون الخوض في أدلتهم، لأنها أشبعت بحثاً عند من كتب في هذا الباب لكنني سأحيل إلى المصادر والمراجع التي تناولته، فقد انقسموا إلى ثلاثة أقوال وهي على النحو الآتي:
1. قالوا: (إنها وقعت سنة أربع (هكذا رواه البخاري عن مغازي موسى بن عقبة (ت141هـ)[12]. قال الحافظ ابن حجر: (وكأنه سبق قلم أراد أن يكتب سنة خمس من الهجرة، فكتب سنة أربع، والذي في مغازي ابن عقبة من عدة طرق سنة خمس أخرجها الحاكم، وأبو سعيد النيسابوري، والبيهقي في الدلائل وغيرهم سنة خمس ولفظه عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب، ثم قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس)[13].
2. ومنهم من قال: (إنها وقعت سنة خمس)، وهو قول موسى بن عقبةـ وهو الصحيح الذي حكاه البخاري عن الزهري (ت 124هـ)، والواقدي، وابن سعد، والبيهقي، والطبرسي والذهبي، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر، وحسين الديار بكري، والحلبي[14]، وذكره قسم آخر من المحققين منهم: الشيخ عبدالله بن محمد (ت 1242هـ) والسيد الشريف أحمد زيني دحلان (ت1304هـ) وسيد قطب والبوطي والعمري والشيخ إبراهيم العلي[15].
ونقل الدكتور علي الصلابي أقوال العلماء بإيجاز دون التعليق أو الترجيح لكنه يستدرك بعد ذلك، فيثبت من خلال حادثة وفاة سيدنا سعد بن معاذ - رضي الله عنه -، فيقول: وقد كانت وفاة سعد بن معاذ في أعقاب غزوة بني قريظة، وغزوة بني قريظة كانت في ذي القعدة من السنة الخامسة على القول الراجح، فيتعين أن تكون غزوة بني المصطلق قبلها[16].
3. ومنهم من قال: (إنها وقعت سنة ست)، وهذا مروي عن محمد بن إسحاق، وخليفة بن خياط (ت240هـ)، واليعقوبي (ت292هـ) والطبري (ت310هـ)، وابن عبد البر (ت 463هـ)، وابن الأثير (ت630هـ)، وابن سيد الناس (ت734هـ)، وابن الوردي (ت749هـ)، وابن خلدون (ت 808هـ)، ومن المُحْدَثين أبي الحسن الندوي وأبي الأعلى المودودي[17]، وقال المباركفوري: كانت هذه الغزوة في شعبان سنة ست على أصح الأقوال[18].
والذي أميل إليه بعد عرض أقوال العلماء من أهل السير والتراجم: أنَّ غزوة بني المصطلق وقعت لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس للهجرة، لكثرة القائلين لهذا القول وقوة أدلتهم.
المطلب الثالث: أسباب غزوة بني المصطلق:
تعد غزوة بني المصطلق إحدى الغزوات الدفاعية التي قادها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المرحلة الدفاعية من عمر الدعوة الإسلامية الأولى، وكما نعلم أن هذه الغزوات إنما جاءت رداً على مؤامرة أو عدوان بدأه المشركون وإن أسباب غزوة بني المصطلق كما ذكرها أهل السير ترتكز على عامل أساسي ومهم هو؛ لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الحارث بن أبي ضرار سار في قومه وبعض من حالفه من العرب، يريدون حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ابتاعوا خيلاً وسلاحاً، وتهيّأوا للخروج، حينها بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريدة بن الحصيب الأسلمي[19] - رضي الله عنه -، ليستطلع له خبر القوم، فأتاهم حتى ورد عليهم ماءَهم، وقد تألبوا وجمعوا الجموع، ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبرهم، وبعد أن تأكد لديه - صلى الله عليه وسلم - صحة الخبر ندب الصحابة، وأسرع في الخروج، وخرج معه سبعمائة مقاتل وثلاثون فرساً، وكان منهم جماعة من المنافقين، واستعمل على المدينة (زيد بن حارثة - رضي الله عنه -)، وقيل: (أبا ذرالغفاري - رضي الله عنه -)، وقيل: (نُمَيْلَة بن عبد الله الليثي) [20] - رضي الله عنه -، وبلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فخافوا خوفاً شديداً، وتفرق عنه من كان معه من العرب، وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المريسيع وهو مكان الماء، فضرب عليه قبته، ومعه أم المؤمنين السيدة عائشة و السيدة أم سلمة رضي الله عنهما، وتهيأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - لملاقاة القوم، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راية المهاجرين مع (أبي بكر الصديق- رضي الله عنه -)، وراية الأنصار مع (سعد بن عبادة - رضي الله عنه -)، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فنادى في الناس: قولوا لا إله إلا الله، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، ففعل عمر - رضي الله عنه -، فأبوا، فكان أول من رمى رجل منهم بسهم، فرمى المسلمون ساعة بالنبل، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، أن يحملوا، فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان وقتل منهم عشرة، وأسر سائرهم ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد[21].
وزيادة على ما تقدم كانت هناك أسبابٌ أخرى جديرة بالاهتمام دعت بني المصطلق لهذا الجمع وهي كما يأتي:
1ـ تجرأ بني المصطلق على المسلمين نتيجة لغزوة أحد، كما تجرأت القبائل الأخرى المحيطة بالمدينة[22].
2ـ خشية بني المصطلق من انتقام المسلمين منهم لمشاركتهم في جيش قريش في غزوة أحد[23] ضمن الأحابيش[24].
3ـ سيطرة هذه القبيلة على الخط الرئيسي المؤدي إلى مكة، فكانت حاجزاً منيعاً من نفوذ المسلمين إلى مكة ورغبة بني المصطلق في بقاء الطريق التجاري مفتوحاً أمام قريش كي لا يهدده أحد لما في ذلك من مصالح محققة لهم[25].
وبناءً على ما تقدم من أسباب قامت قبيلة بني المصطلق بجمع الرجال، و السلاح وكذلك بتأليب القبائل الأخرى ضد المسلمين.
وبعد أن تأكد النبي- صلى الله عليه وسلم - من فعل بني المصطلق، وأنهم كانوا يبيتون الإغارة على المدينة ومن فيها، خرج عليه الصلاة والسلام لغزوهم، وهذا لوحده يعدُّ سبباً كافياً لحماية الدعوة الإسلامية وحماية المدينة المنورة من أي اعتداء
كما أنَّ هناك روايات صحيحة أخرى تفيد بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أغار عليهم وهم غارون على الماء ـ غافلون أي أخذهم على غرة ـ: أنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغاروا عليهم عند الماء، وسبوا ذراريهم، وأموالهم، وهو ثابت في الصحيحين: روى الإمام مسلم في كِتَاب الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ بَاب جَوَازِ الْإِغَارَةِ على الْكُفَّارِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ من غَيْرِ تَقَدُّمِ الْإِعْلَامِ بِالْإِغَارَةِ قوله: حدثنا يحيى بن يحيى التَّمِيمِيُّ حدثنا سُلَيْمُ بن أَخْضَرَ عن ابن عَوْنٍ قال كَتَبْتُ إلى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عن الدُّعَاءِ قبل الْقِتَالِ قال فَكَتَبَ إلي إنما كان ذلك في أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قد أَغَارَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - على بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى على الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى سَبْيَهُمْ...) الحديث[26]. كما رجح ابن عبد البر هذه الرواية بقوله: (..وأغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق وهم غارون وهم على ماء يقال له المريسيع... فقتل من قتل منهم وسبي النساء والذرية... وقيل: إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء يقال له المريسيع فاقتتلوا فهزمهم الله، والقول الأول أصح أنه أغار عليهم وهم غارون..)[27].
عند استعراض هذه الروايات يثبت لنا أن القول الصحيح ما قاله البخاري ومسلم وابن عبد البر والبيهقي وابن القيم والذهبي وغيرهم[28].
وعلق ابن حجر على هذا الأمر بقوله: فقد روى الإمام مسلم هذا الحديث من وجه آخر عن ابن عون وبيَّن فيه أن نافعا استدل بهذا الحديث على نسخ الأمر بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال، والحكم بكون الذي في السير أثبت مما في الصحيح مردود ولا سيما مع إمكان الجمع والله أعلم[29].
المطلب الرابع: الأحداث التي رافقت هذه الغزوة وسياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكيمة في معالجتها:
هذه الغزوة وإن لم تكن طويلة الأَمَد، من حيث الوجهة العسكريـة، إلا أنها وقعـت فيـها وقـائـع جسيمة أحدثـت البلبلـة والاضطراب فـي المجتمـع الإسلامي، وتمخضت عن افتضاح المنافقين وكشف مخططاتهم الدنيئة للنيل من شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وإشعال الفتنة وزرع الحقد بين المسلمين، بغية الوصول إلى مآربهم التي كشفت بفضل من الله سبحانه وتعالى ثم بحكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسياسيته وقيادته الفذة التي حالت دون ذلك حيث أعطت المجتمع الإسلامي صورة رائعة من النبل والكرامة وطهارة النفوس.
أولاً: موت ابن صبابة:
ذكر ابن هشام وابن عبد البر: أنه أصيب رجل من المسلمين من بني كلب بن عوف ابن عامر بن ليث بن بكر يقال له: هشام بن صبابة - رضي الله عنه - لمّا أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، وهو يرى ـ ظناً منه ـ أنه من العدو فقتله خطأً[30].
لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها. فقد سبقتها حادثه أليمة على نفوس المسلمين وهي مقتل (حسيل بن جابر اليماني)[31] والد (حذيفة اليماني) رضي الله عنهما حيث قُتِل خطأً في معركة أُحد عندما اختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه وهم لا يعرفونه[32]، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجربه فتصدق حذيفة - رضي الله عنه - بديِّته على المسلمين فزاده ذلك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبلاً ومكانةً.
أمّا ما حصل في قصة مقتل هشام بن صبابة - رضي الله عنه - فمختلف كلَّ الاختلاف لما فعله حذيفة اليماني - رضي الله عنه - في قصة مقتل أبيه - رضي الله عنه - وقد ذكره ابن إسحاق وغيره[33] فقالوا: وقدم مِقْيَس ابن صُبابة[34] من مكة مسلماً فيما يُظْهِر فقال: يا رسول الله جئتك مسلماً، وجئتك أطلب دِية أخي، الذي قُتِل خطأ، فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِديّة أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير كثير، ثم عَدَا على قاتل أخيه فَقَتَلَهُ ثم خرج إلى مكة مرتدَّاً فقال في شعر يقوله:
وقال مقيس بن صبابة أيضاً:
كما هو واضح وجلي من الأخبار التي ذكرها أهل السير والتراجم من أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عالج هذا الأمر فيما بعد، وبعد انتهاء المعركة والعودة إلى المدينة، وخاصة بعد مقدم مقيس بن صبابة المدينة حيث تظاهر بالإسلام أمام الصحابة - رضي الله عنهم -، وقدم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من فوره يعلن فيها إسلامه وما جاء به، حيث قال: يا رسول الله جئت مسلماً وجئت أطلب دِيَّة أخي، فما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاّ أن قَبِلَ بظاهر الأمر، فقبل منه إسلامه وأدّى إليه طلبه بأن أعطاه دِية أخيه هشام - رضي الله عنه -، ثم ذكرت الأخبار أنه مكث غير كثير فعدا على قاتل أخيه فقتله ثم لحق بقريش كافراً[39]، والذي ظهر من مكثه هذا أنه كان يخطط ويترصد ويتحين الفرصة كي يُنَفذ ما أعدَّ من مؤامرة دنيئة خسر فيها الدنيا والآخرة، فلأجل ما فعله أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله، فقتله فيما بعد عند فتح مكة؛ نميلة بن عبد الله رجل من قومه، ولهذا كان مقيس هذا من الأربعة الذين أهدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح دماءهم وان وجدوا متعلقين بأستار الكعبة[40].
وما أمر به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بحق مقيس علاج حكيم ودرس بليغ لمن خادع النبيَّ وقَتَلَ مؤمناً وارتد عن دين الله.
ثانياً: تنافر المهاجرين والأنصار:
ذكر أهل السير خبرهم في هذا التنافر على النحو الآتي: فبينما الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أجير له من بني غفار، يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا[41] فصرخ الجُهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث، فقال: أوَقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما أعدّنا وجلابيب قريش هذه إلاّ كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ؛أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك عند فراغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدوه، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: مُرْ به عَبّاد من بشر، فليقتله فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه! لا، ولكن أذِّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحل فيها فارتحل الناس[42].
معالجة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه المشكلة:
لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها التي تجرأ فيها المنافقون بالكلام وإثارة الفتن ضد المسلمين فقد فعلوا مثل هذا الأمر ولأول مرة قبل المصطلق عندما أثاروا فتنة عظيمة وضجة كبيرة حول قصة زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش رضي الله عنها في العام الخامس للهجرة.
ولما عَلِم أعداء الإسلام من مشركين ويهود في الخارج ومنافقين في الداخل بأنهم لا يستطيعون النيل من الإسلام والمسلمين فنذروا أنفسهم لخدمة "الجبت الطاغوت"، وإثارة الفتن من الداخل وكان على رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول في المدينة واليهود ومن والاهم في الخارج، وهنا برز دور النبي - صلى الله عليه وسلم - في التصدي لمثل هذه الفتن، ويبرز دور الصحابة الكرام بصدقهم وإخلاصهم وحبهم لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم - في التصدي لمثل هذه الفتن أيضاً.
المعالجة الأولى:
عالج النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المشكلة، وهي في مهدها بحيث تلافى هذه الظاهرة مباشرة وبأقوى ما يمكن، فدعاهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلح، فأذعنوا، وتم الصلح بين الفريقين وتخلى سنان بن وبر - رضي الله عنه - عن حقه وحبطت الفتنة في مهدها، نستخلص من هذا درساً بليغاً ألا وهو على الأمة الإسلامية في وقتنا الحاضر أن تعيه، وهو وقوع الخطأ منا، ولكن يجب أن لا نستمر عليه ولا نتركه دون حلٍ حتى يستفحل ويعسر تطويقه وحلّه إلاّ بشق النفس، بل قد يصل بنا الأمر إلى أن نعجز كل العجز عن إيجاد الحلول لإنهاء المشكلة، فلا غرابة أن تتحرك في أي بلد مسلم أو في المجتمع الإسلامي نوازع الجاهلية ونزاعاتها وتثور بعد كمون طويل ومن الممكن أن تؤدي إلى حمل السلاح، فمن الواجب على المسلم إن يدرك خطورة الموقف وكيفية علاجه بأسرع وقت ممكن، وأن لا يدب اليأس فينا ويحبط أمانينا عندما نرى مثل هذه الظواهر، وهنا تظهر حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحُنْكته السياسية في إدارة هذه الأمور والتصدي لها، وكذلك يظهر أثر الإيمان وقوة اليقين والثبات عند الصحابة ويظهر صدقهم وإخلاصهم.
ومن الأمور التي ظهرت في هذه الحادثة الوعي المتميز لزيد بن أرقم - رضي الله عنه - في صحة سماعه لحديث عبد الله بن أُبي ونقله إلى الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الذي كان سبباً في إحباط خطة رأس المنافقين[43]، لهذا يجب على المسلم أن يكون حريصاً وواعياً وراصداً لتحركات أهل الباطل ودسائسهم وما يبيِّتون للمسلمين من تدابير الإهلاك والمحق، ولا عليه من ضير أن يكون لنا كمؤمن آل فرعون، ويتصرف بحكمة ولا يتصرف تصرفاً خاصاً يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية تضرُّ بالمصلحة العامة لهذا يجب على المربين أن يُجهدوا أنفسهم في تربية الشباب على الوعي واليقظة وكيفية مواجهة مثل هذه الأمور وأن يسلكوا سلوك زيد بن أرقم - رضي الله عنه - لحسم معركة كاملة ضد المنافقين، ثم يأتي التصرف القيادي المتمثل بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أمام هذه المواقف كلها دوراً بارزاً متميزاً في معالجة الأمور كلها معالجة تتصف بالحكمة والدقة والقرارات الحاسمة في أحلك المواقف وأصعبها، وهذا هو المراد في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾[44].
لهذا نلاحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بنظر الاعتبار ثلاثة احتمالات قبل أن يتبنى هذا القول ويبني عليه[45].
الاحتمال الأول: أن يكون الناقل مغرضاً أو صاحب هوى كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لعلك غضبت عليه فقلت ما قلت، فقال زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: لا والله يا رسول الله لقد سمعت منه[46].
الاحتمال الثاني: أن يكون ناقل الكلام غير دقيق في نقله كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لعله أخطأ سمعك[47].
الاحتمال الثالث: أن يكون الفهم خاطئاً للكلام، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلعله شُبِّه عليك؟ قال: لا والله لقد سمعت منه يا رسول الله.
وربَّ سائل يسأل: ما فائدة هذه الاحتمالات التي وضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. فنقول: أما بالنسبة إلى الاحتمال الأول قوله: فلعلك غضبت عليه، فقلت ما قلت. أراد عليه الصلاة والسلام أن يتأكد من صدق القائل أنه ليس له غرض أو مصلحة أو هوى ضد المنقول عنه لأن الحكم السريع من القيادة والتصديق المباشر دون تحقيق كامل لأسباب هذه الأقوال قد يوقع في خطأ أكبر من القول نفسه، وقد يصدع هذا المغرض أو الحاقد أو الغاضب الصف كله إذا كان التسرع في قبول القول ضد أي إنسان لا يزال داخل الصف مهما كانت الاتهامات ضده[48].
وأما بالنسبة للاحتمال الثاني قوله: لعله أخطأ سمعك، فلا يستبعد أن يكون النقل خاطئاً فيؤدي إلى زيادة أو نقصان في الكلام يُغيِّر المعنى، ولا يصل إلى هذا المدى من الخطر، وبالتالي فيتهم القائل بشيء لا أصل له أو زِيد عليه فغيّر معناه.
وأما بالنسبة للاحتمال الثالث قوله: لعله شُبِّه عليك، فإنه أكثر الاحتمالات وقوعاً فعلى المسلم أن يفهم الكلام على غير قصده أو غير معناه، وبالتالي تتأزم الأمور لسوء تفاهم أو سوء فهم من طرف واحد ثم تبنى الأحكام كلها على ضوء هذا الفهم السيئ، ويتصدع الصف نتيجة أوهام لا حقائق، ونتيجة تفسيرات وفهوم لكلمات معينة لا نتيجة نقل أمين لمعناها.
لهذا يجب أن يكون المنهج النبوي هو المنار الذي يحتذى به في مثل هذه الوقائع وغيرها تجنباً للوقوع في الأخطاء[49].
ومن الأمور التي برزت في هذه الحادثة دور النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدم إعطاء الفرصة للعدو الخارجي بالتشهير بالصف الإسلامي أمام المحايدين، ولهذا السبب ولأسباب أخرى، دفعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم قتل عبد الله بن أبي سلول عندما طلب منه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: مُر به عبّاد بن بشر فليقتله[50]، فرفض النبي- صلى الله عليه وسلم - على الفور ونهاه، وقال: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه[51].
وقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم قتله يرتكز على مدلولات عدة منها:
1- اطمئنان النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قومه سوف ينفضون عنه جميعاً، فقد أصبح خطره محدوداً وأمره مفضوحاً للجميع.
2- يود النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يفسح له مجالاً للخروج من الصف ثم الانقضاض عليه بحيث يخرج ويتآمر مع اليهود والمشركين، وأسرار الصف عنده وأيُّ ضغط عليه قد يقوده إلى هذا الموقف، أي أن يكون مراقباً وتحركاته محسوبة أمام أعين المسلمين أولى من أن يخرج ويعمل مع غيرهم، فينقل أسرار الجماعة المسلمة إلى عدوها كما فعل أبو عامر الفاسق الذي خرج مع خمسين من قومه وانضم إلى أهل مكة، من أجل ذلك كان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - واضحاً لابنه عبد الله بن عبد الله - رضي الله عنه - حين قال له: بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.
3- عَلِم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عبد الله بن أُبي قد احترق نهائياً بعد نزول "سورة المنافقون" حيث صارت على كل لسان، وما من مسلم يتلو هذه السورة ويبقى عنده أدنى شك في تقييم ابن أُبي أو الثقة به إلاّ إذا كان منافقاً مثل عبد الله بن أُبي.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو "سورة المنافقون" كل يوم جمعة مع سورة الجمعة حتى تبقى معناً راسخة في أذهان المسلمين.
لهذا نستطيع القول أنَّ جبهة المنافقين التي كان يقودها عبد الله بن أُبي قد تصدعت تماماً بعد أن كانت قادرة على تصديع الصف الإسلامي كله فلم يُعد له ناصر أو معين وأصبح مكان الإذلال في قومه بعد أن كان في مكان الصدارة، بينما لو قُتل لتحركت الحَميَّة الجاهلية من جراء قتله وأحدثت كارثة نتيجة لذلك، وربما يراه البعض من ضعاف الإيمان مظلوماً شهيداً.
لقد بانت الحكمة والمعالجة السديدة من تصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا الموقف أن انفض الناس من حول عبد الله بن أُبي بن سلول بعد أن كاد يتوج عليهم ملكاً قبيل مجيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة.
لهذه الأسباب ولغيرها جاءت حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعظمة قيادته في اتخاذ القرارات الحاسمة والدقيقة في أحلك المواقف وأدقها[52].
ولو دققنا ملياً في ما قاله عبد الله بن أُبي لوجدنا أن هناك سبباً حقيقياً يكمن وراء ذلك ألا وهو حقيقة فضح الدوافع النفسية لهذا الموقف عنده، فحب الزعامة لديه قاده إلى هذا الموقع وأن فقدان المُلك هو الذي جعله في موقع الحرب لرسول الله برغم ما رأى من الآيات البيّنات والدلائل الباهرة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لهذا يجب على المسلم الواعي أن يتجنب سرطان النفوس وآفة العصر ألا وهي حب الزعامة والرياسة التي تؤدي إلى هلك الحرث والنسل.
إذن كانت معالجة النبي - صلى الله عليه وسلم - للموقف على جبهات عدة، وهو يود أن يستأصل هذه الظاهرة من الجذور، وهو أحوج ما تحتاجه القيادات الإسلامية في عصرنا الحالي للتأسي به والعمل على منهجه عليه الصلاة والسلام على نحو الآتي: التثبت و التحقق من الحادثة، وهو الواجب الأول[53].
1. الحد من انتشار الفتنة، لمّا علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالحادث قرر الرحيل فوراً قبل أن يستفحل الأمر، وانطلق بالناس طيلة يومهم حتى أمسوا، وطيلة ليلتهم حتى أصبحوا، وصدر يومهم الثاني حتى آذتهم الشمس، فلما نزل الناس لم يلبثوا حين مست جنوبهم الأرض أن ناموا من فرط تعبهم، وأنسى التعب فتنة ابن أبيّ، وعادوا إلى المدينة ومعهم الأسرى والغنائم..... وكان عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تحريكه قواته بعد غزوة بني المصطلق، لمّا علم بمحاولة عبد الله بن أبي إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار، واستمرار المسير الشاق لمدة ثلاثين ساعة....ـ كان عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إبداعاً ممتازاً إذ لولا مسارعته بالحركة مع قواته حتى أنهكها التعب لما استبعدنا بتاتاً نجاح عبد الله بن أبي في فتنته، إنَّ مزايا الإبداع من أعظم مزايا القائد الكفء[54].
2. اقتصار الأمر على مستويات معينة دون انتشاره إلى صفوف المسلمين ومعالجته بالحكمة الممكنة[55].
3. ويبرز موقف آخر من المواقف الشجاعة ذلك هو موقف الابن البار لوالده الذي كان يُعد مثلاً في خزاعة، وحين بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد قتل عبد الله بن أُبي بن سلول جاء مسرعاً، وعلى الفور، فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرَّ بوالده[56].
إنَّ تصرف عبد الله بن عبد الله بن أُبي - رضي الله عنه - نابع عن عمق إيمانه بالله ورسوله والعقيدة التي ترسخت فيه بعيداً عن العوامل العاطفية والنفسية وتصرفه هذا كان يريد به إرضاء الله والفوز بالجنة والنجاة من النار[57].
ثم جاء رد النبي - صلى الله عليه وسلم - كالبلسم الشافي للجروح التي تقطر دماً، فقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عبد الله - رضي الله عنه -: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا[58].
ولم يكتفِ عبد الله بن عبد الله - رضي الله عنه - بهذا القدر حتى وصلوا إلى المدينة فلم يسمح لأبيه أن يدخلها حتى يأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقر بأنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو العزيز وهو الذليل، بهذه السلوكيات وهذه التربية المحمدية يسجل لنا هذا الصحابي الجليل صدقه وإخلاص عمله لله وللرسول.
ثالثاً: حادثة الإفك[59]:
دبَّر المنافقون مؤامرة جديدة تضاف إلى مؤامراتهم العديدة للنيل من الدعوة الإسلامية والمسلمين، لكن هذه المرة كانت أكثر دقة في التصويب عُرِفت فيما بعد بحادثة الإفك[60]، بعد أن فشل كيدهم في المحاولة الأولى لإثارة العصبية الجاهلية، وسعوا إلى إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأهل بيته، فشنوا حرباً نفسية مريرة من خلال هذه الحادثة التي اختلقوها على أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتي ألمت ببيته الطاهر هذه النازلة الشديدة والمحنة العظيمة التي كان القصد منها النيل من شخص النبي صلى الله عليه وسلم ومن أهل بيته الأطهار.
هل تُعد حادثة الإفك مشكلة؟
يمكن تعريف المشكلة بأنها الشعور أو الإحساس بوجود صعوبة لا بد من تخطيها، أو عقبة لا بد من تجاوزها، لتحقيق هدف، أو يمكن القول إنها الاصطدام بواقع لا نريده، فكأننا نريد شيئا ثم نجد خلافه. وحتى نتمكن من مواجهة المشاكل والتغلب عليها لا بد من أن ننهج طريقة معينة نشعر فيها بوجود المشكلة، ونتعرف عليها ونُحدد طبيعتها، ثم نفكر في الحلول المتعددة، ثم نطبق الحل الأمثل، ونتأكد من ذلك، ثم نتفكر فيما حصل، وهذا يتطلب بذل الجهد في التفكير في مراحل متعددة وفي مواضيع كثيرة , وقد تحصل أحيانا بسرعة فائقة وقد تستغرق وقتا. لكن لا بد من التدرُّب والتمرُّس على ذلك واكتساب مهارات التفكير اللازمة لهذا الأمر[61].
الحمد لله رب العالمين، القائل في محكم كتابه العزيز: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ (الحشر: من الآية7)، والصلاة والسلام على خير النبيين والمرسلين القائل: "أيهَا النَّاسُ إنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ". (سنن الدارمي 1/21) وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:
فإنَّ السيّرة النبوية من أشرف العلوم وأعزها وأسناها هدفاً ومطلباً، بها يَعْرِف الرجل المسلم أحوال دينه ونبيّه - صلى الله عليه وسلم - وما شرّفه الله تعالى به، وقد اعتنى المسلمون والمؤرخون والباحثون وكتّاب السيرة بها قديماً وحديثاً، فهم يدركون ما لسيرة النبيّ - صلى الله عليه وسلم - من آثار حسنة في تربية النشء، وتنشئة جيل صالح لحمل رسالة الإسلام، فهي خير معلِّم ومثقِّف، ومهذب ومؤدب.
ولا شكّ أن القرآن الكريم هو الذي عمَّق الإحساس التاريخي عند العرب، بما ذَكَره من قصص السابقين، وتواريخ الأمم الماضية، ووصلهم بها، ليكون في قصصهم عبرة وعظة، ففي أحضان التاريخ نشأت السيرة وترعرعت، واتخذتْ سمتًا واضحًا وطريقاً بيّناً يقصده من أراد الأسوة برسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً﴾ [الأحزاب: 21].
وقد كتبت في السيرة النبوية قديماً وحديثاً مجلدات وكتب عدة ولا زال العلماء وطلبة العلم يولونها اهتماماً بالغاً، ويكرسون كلّ جهودهم العلمية في البحث والدراسة يتعلمون منها ويعلمونها غيرهم، ويتخذوا منها نبراساً يسيرون على ضوءه في تربية الأبناء والبنات، من أجل تنشئة جيل يؤمن بالله ورسوله ودين الإسلام.
وبحثي الموسوم "سياسة النبي - صلى الله عليه وسلم -الحكيمة في معالجة أحداث بني المصطلق " هذا إنما هو عن جزئية من سيرة خير الأنام تتعلق بغزوة من غزوات الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي قادها بنفسه، ولم أتناولها من الناحية التاريخية فحسب بل درست الحوادث التي رافقت هذه الغزوة دراسة تحليلية وتعليلية لبيان معالجات النبي - صلى الله عليه وسلم - لها، والغرض من هذا هو إبراز وإظهار دوره - صلى الله عليه وسلم - القيادي والسياسي وإدارته الحكيمة لها، واستخلاص الدروس والعبر منها.
وقد اعتمدت في بحثي هذا على العديد من المصادر الأصيلة والمراجع المعتمدة التي جمعت بين أصالة القديم وجِدّة الحديث، وقد قسمت البحث إلى أربعة مطالب، فكان المطلب الأول في بيان المعنى اللغوي لكلمتي المصطلق والمريسيع، وأما المطلب الثاني فخصصته في ذكر سنة وقوع هذه الغزوة والخلاف الواقع فيها عند رواد الحديث عنها، وأما المطلب الثالث فدرست فيه أسباب الغزوة، وأما المطلب الرابع فتناولت فيه الأحداث التي رافقت هذه الغزوة وسياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكيمة في معالجتها، ثم جعلت في نهاية هذا البحث خاتمة ذكرت فيها أهم ما توصلت إليه من نتائج، وزيادة على ذلك ذكرت المصادر والمراجع التي اعتمدت عليها.
وكل ما كان مني هو بفضل من الله ومنة منه تعالى: ﴿لا عِلْمَ لَنَا إِلاّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ [البقرة: 32].وآخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين.
المطلب الأول: التعريف اللغوي لكلمتي المُصْطَلِق والمريسيع:
المُصْطَلِق لغة: من صلق والصلقة و الصلق: الصياح، والولولة، والصوت الشديد يريد رفعه عند المصائب، وقيل هو ماء السماء[1].
وبنو المُصْطَلِق[2]: هم من خزاعة[3]، وهو لقب خزيمة[4] بن سعد بن كعب بن عمرو بن ربيعة بن حارثة[5]، أما المُرَيْسيع: فعلى لفظ التصغير قرية من قرى وادي القرى.
ونقل البكري عن ابن إسحاق[6] قوله: من ناحية قديد إلى الشام، وهو اسم ماء من مياه خزاعة[7].
أما لغةً: فمأخوذ من قولهم وسعت عين الرجل إذا دمعت من فساد، وتقع المريسيع في ناحية قديد، وقال في القاموس أن المريسيع بئر أو ماء وإليه تنسب غزوة بني المصطلق[8].
وقبيلة "خزاعة" أزدية يمانية وكانوا يسكنون قديداً وعسفان على الطريق من المدينة إلى مكة فـ (قديد) تبعد عن مكة 120 كم، وعن المدينة 297كم تقريباً[9]، وعسفان تبعد 80 كم عن مكة، في حين تنتشر ديار خزاعة على الطريق من المدينة إلى مكة ما بين مر الظهران التي تبعد عن مكة 30 كم وبين الأبواء التي تبعد عن مكة 240 كم، وبذالك يتوسط بنو المصطلق ديار خزاعة، وموقعهم مهم بالنسبة للصراع بين المسلمين وقريش، وقد عرفت خزاعة بموقفها المسالم للمسلمين وربما كان لصلات النسب والمصالح مع الأنصار تأثير في تحسين هذه العلاقات رغم المحالفات القديمة بينهم وبين قريش ذات المصالح الدينية والتجارية، ورغم أن ديارهم كانت أقرب إلى مكة[10]، ولعل هذه العوامل أعاقت في الوقت نفسه انتشار الإسلام في خزاعة عامة وفي بني المصطلق خاصة الذين كانوا يستفيدون من الموقع التجاري ووجود صنم مناة في ديارهم معنويا ومادياً حيث يحج إليها العرب[11].
المطلب الثاني: سنة وقوع هذه الغزوة:
ليس غريباً أن تتعدد الأقوال ويحدث الخلاف عند أهل السير والتراجم في سنة وقوع هذه الغزوة، فقد جرى خلاف مثله في غزوات عدة مثل غزوة ذات الرقاع، والخندق، وبني قريظة وغيرها، ونظراً لأهمية الأحداث التي رافقت هذه الغزوة واشتهارها كان حريِّاً أن لا يكون مثل هذا الاختلاف.
وللاختصار سأذكر أقوالهم دون الخوض في أدلتهم، لأنها أشبعت بحثاً عند من كتب في هذا الباب لكنني سأحيل إلى المصادر والمراجع التي تناولته، فقد انقسموا إلى ثلاثة أقوال وهي على النحو الآتي:
1. قالوا: (إنها وقعت سنة أربع (هكذا رواه البخاري عن مغازي موسى بن عقبة (ت141هـ)[12]. قال الحافظ ابن حجر: (وكأنه سبق قلم أراد أن يكتب سنة خمس من الهجرة، فكتب سنة أربع، والذي في مغازي ابن عقبة من عدة طرق سنة خمس أخرجها الحاكم، وأبو سعيد النيسابوري، والبيهقي في الدلائل وغيرهم سنة خمس ولفظه عن موسى بن عقبة عن ابن شهاب، ثم قاتل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بني المصطلق وبني لحيان في شعبان سنة خمس)[13].
2. ومنهم من قال: (إنها وقعت سنة خمس)، وهو قول موسى بن عقبةـ وهو الصحيح الذي حكاه البخاري عن الزهري (ت 124هـ)، والواقدي، وابن سعد، والبيهقي، والطبرسي والذهبي، وابن القيم، وابن كثير، وابن حجر، وحسين الديار بكري، والحلبي[14]، وذكره قسم آخر من المحققين منهم: الشيخ عبدالله بن محمد (ت 1242هـ) والسيد الشريف أحمد زيني دحلان (ت1304هـ) وسيد قطب والبوطي والعمري والشيخ إبراهيم العلي[15].
ونقل الدكتور علي الصلابي أقوال العلماء بإيجاز دون التعليق أو الترجيح لكنه يستدرك بعد ذلك، فيثبت من خلال حادثة وفاة سيدنا سعد بن معاذ - رضي الله عنه -، فيقول: وقد كانت وفاة سعد بن معاذ في أعقاب غزوة بني قريظة، وغزوة بني قريظة كانت في ذي القعدة من السنة الخامسة على القول الراجح، فيتعين أن تكون غزوة بني المصطلق قبلها[16].
3. ومنهم من قال: (إنها وقعت سنة ست)، وهذا مروي عن محمد بن إسحاق، وخليفة بن خياط (ت240هـ)، واليعقوبي (ت292هـ) والطبري (ت310هـ)، وابن عبد البر (ت 463هـ)، وابن الأثير (ت630هـ)، وابن سيد الناس (ت734هـ)، وابن الوردي (ت749هـ)، وابن خلدون (ت 808هـ)، ومن المُحْدَثين أبي الحسن الندوي وأبي الأعلى المودودي[17]، وقال المباركفوري: كانت هذه الغزوة في شعبان سنة ست على أصح الأقوال[18].
والذي أميل إليه بعد عرض أقوال العلماء من أهل السير والتراجم: أنَّ غزوة بني المصطلق وقعت لليلتين خلتا من شعبان سنة خمس للهجرة، لكثرة القائلين لهذا القول وقوة أدلتهم.
المطلب الثالث: أسباب غزوة بني المصطلق:
تعد غزوة بني المصطلق إحدى الغزوات الدفاعية التي قادها الرسول - صلى الله عليه وسلم - في المرحلة الدفاعية من عمر الدعوة الإسلامية الأولى، وكما نعلم أن هذه الغزوات إنما جاءت رداً على مؤامرة أو عدوان بدأه المشركون وإن أسباب غزوة بني المصطلق كما ذكرها أهل السير ترتكز على عامل أساسي ومهم هو؛ لما بلغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن الحارث بن أبي ضرار سار في قومه وبعض من حالفه من العرب، يريدون حرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد ابتاعوا خيلاً وسلاحاً، وتهيّأوا للخروج، حينها بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بريدة بن الحصيب الأسلمي[19] - رضي الله عنه -، ليستطلع له خبر القوم، فأتاهم حتى ورد عليهم ماءَهم، وقد تألبوا وجمعوا الجموع، ولقي الحارث بن أبي ضرار وكلمه، ورجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأخبره خبرهم، وبعد أن تأكد لديه - صلى الله عليه وسلم - صحة الخبر ندب الصحابة، وأسرع في الخروج، وخرج معه سبعمائة مقاتل وثلاثون فرساً، وكان منهم جماعة من المنافقين، واستعمل على المدينة (زيد بن حارثة - رضي الله عنه -)، وقيل: (أبا ذرالغفاري - رضي الله عنه -)، وقيل: (نُمَيْلَة بن عبد الله الليثي) [20] - رضي الله عنه -، وبلغ الحارث بن أبي ضرار ومن معه مسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليهم، فخافوا خوفاً شديداً، وتفرق عنه من كان معه من العرب، وانتهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المريسيع وهو مكان الماء، فضرب عليه قبته، ومعه أم المؤمنين السيدة عائشة و السيدة أم سلمة رضي الله عنهما، وتهيأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه - رضي الله عنهم - لملاقاة القوم، وجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - راية المهاجرين مع (أبي بكر الصديق- رضي الله عنه -)، وراية الأنصار مع (سعد بن عبادة - رضي الله عنه -)، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، فنادى في الناس: قولوا لا إله إلا الله، تمنعوا بها أنفسكم وأموالكم، ففعل عمر - رضي الله عنه -، فأبوا، فكان أول من رمى رجل منهم بسهم، فرمى المسلمون ساعة بالنبل، ثم أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أصحابه، أن يحملوا، فحملوا حملة رجل واحد، فما أفلت منهم إنسان وقتل منهم عشرة، وأسر سائرهم ولم يقتل من المسلمين إلا رجل واحد[21].
وزيادة على ما تقدم كانت هناك أسبابٌ أخرى جديرة بالاهتمام دعت بني المصطلق لهذا الجمع وهي كما يأتي:
1ـ تجرأ بني المصطلق على المسلمين نتيجة لغزوة أحد، كما تجرأت القبائل الأخرى المحيطة بالمدينة[22].
2ـ خشية بني المصطلق من انتقام المسلمين منهم لمشاركتهم في جيش قريش في غزوة أحد[23] ضمن الأحابيش[24].
3ـ سيطرة هذه القبيلة على الخط الرئيسي المؤدي إلى مكة، فكانت حاجزاً منيعاً من نفوذ المسلمين إلى مكة ورغبة بني المصطلق في بقاء الطريق التجاري مفتوحاً أمام قريش كي لا يهدده أحد لما في ذلك من مصالح محققة لهم[25].
وبناءً على ما تقدم من أسباب قامت قبيلة بني المصطلق بجمع الرجال، و السلاح وكذلك بتأليب القبائل الأخرى ضد المسلمين.
وبعد أن تأكد النبي- صلى الله عليه وسلم - من فعل بني المصطلق، وأنهم كانوا يبيتون الإغارة على المدينة ومن فيها، خرج عليه الصلاة والسلام لغزوهم، وهذا لوحده يعدُّ سبباً كافياً لحماية الدعوة الإسلامية وحماية المدينة المنورة من أي اعتداء
كما أنَّ هناك روايات صحيحة أخرى تفيد بأنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - أغار عليهم وهم غارون على الماء ـ غافلون أي أخذهم على غرة ـ: أنه لم يكن بينهم قتال، وإنما أغاروا عليهم عند الماء، وسبوا ذراريهم، وأموالهم، وهو ثابت في الصحيحين: روى الإمام مسلم في كِتَاب الْجِهَادِ وَالسِّيَرِ بَاب جَوَازِ الْإِغَارَةِ على الْكُفَّارِ الَّذِينَ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ الْإِسْلَامِ من غَيْرِ تَقَدُّمِ الْإِعْلَامِ بِالْإِغَارَةِ قوله: حدثنا يحيى بن يحيى التَّمِيمِيُّ حدثنا سُلَيْمُ بن أَخْضَرَ عن ابن عَوْنٍ قال كَتَبْتُ إلى نَافِعٍ أَسْأَلُهُ عن الدُّعَاءِ قبل الْقِتَالِ قال فَكَتَبَ إلي إنما كان ذلك في أَوَّلِ الْإِسْلَامِ قد أَغَارَ رسول اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - على بَنِي الْمُصْطَلِقِ وَهُمْ غَارُّونَ وَأَنْعَامُهُمْ تُسْقَى على الْمَاءِ فَقَتَلَ مُقَاتِلَتَهُمْ وَسَبَى سَبْيَهُمْ...) الحديث[26]. كما رجح ابن عبد البر هذه الرواية بقوله: (..وأغار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على بني المصطلق وهم غارون وهم على ماء يقال له المريسيع... فقتل من قتل منهم وسبي النساء والذرية... وقيل: إن بني المصطلق جمعوا لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فلما بلغه ذلك خرج إليهم فلقيهم على ماء يقال له المريسيع فاقتتلوا فهزمهم الله، والقول الأول أصح أنه أغار عليهم وهم غارون..)[27].
عند استعراض هذه الروايات يثبت لنا أن القول الصحيح ما قاله البخاري ومسلم وابن عبد البر والبيهقي وابن القيم والذهبي وغيرهم[28].
وعلق ابن حجر على هذا الأمر بقوله: فقد روى الإمام مسلم هذا الحديث من وجه آخر عن ابن عون وبيَّن فيه أن نافعا استدل بهذا الحديث على نسخ الأمر بالدعاء إلى الإسلام قبل القتال، والحكم بكون الذي في السير أثبت مما في الصحيح مردود ولا سيما مع إمكان الجمع والله أعلم[29].
المطلب الرابع: الأحداث التي رافقت هذه الغزوة وسياسة النبي - صلى الله عليه وسلم - الحكيمة في معالجتها:
هذه الغزوة وإن لم تكن طويلة الأَمَد، من حيث الوجهة العسكريـة، إلا أنها وقعـت فيـها وقـائـع جسيمة أحدثـت البلبلـة والاضطراب فـي المجتمـع الإسلامي، وتمخضت عن افتضاح المنافقين وكشف مخططاتهم الدنيئة للنيل من شخصية النبي - صلى الله عليه وسلم - وإشعال الفتنة وزرع الحقد بين المسلمين، بغية الوصول إلى مآربهم التي كشفت بفضل من الله سبحانه وتعالى ثم بحكمة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وسياسيته وقيادته الفذة التي حالت دون ذلك حيث أعطت المجتمع الإسلامي صورة رائعة من النبل والكرامة وطهارة النفوس.
أولاً: موت ابن صبابة:
ذكر ابن هشام وابن عبد البر: أنه أصيب رجل من المسلمين من بني كلب بن عوف ابن عامر بن ليث بن بكر يقال له: هشام بن صبابة - رضي الله عنه - لمّا أصابه رجل من الأنصار من رهط عبادة بن الصامت - رضي الله عنه -، وهو يرى ـ ظناً منه ـ أنه من العدو فقتله خطأً[30].
لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها. فقد سبقتها حادثه أليمة على نفوس المسلمين وهي مقتل (حسيل بن جابر اليماني)[31] والد (حذيفة اليماني) رضي الله عنهما حيث قُتِل خطأً في معركة أُحد عندما اختلفت عليه أسياف المسلمين فقتلوه وهم لا يعرفونه[32]، فأراد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يجربه فتصدق حذيفة - رضي الله عنه - بديِّته على المسلمين فزاده ذلك عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نبلاً ومكانةً.
أمّا ما حصل في قصة مقتل هشام بن صبابة - رضي الله عنه - فمختلف كلَّ الاختلاف لما فعله حذيفة اليماني - رضي الله عنه - في قصة مقتل أبيه - رضي الله عنه - وقد ذكره ابن إسحاق وغيره[33] فقالوا: وقدم مِقْيَس ابن صُبابة[34] من مكة مسلماً فيما يُظْهِر فقال: يا رسول الله جئتك مسلماً، وجئتك أطلب دِية أخي، الذي قُتِل خطأ، فأمر له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بِديّة أخيه هشام بن صبابة، فأقام عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - غير كثير، ثم عَدَا على قاتل أخيه فَقَتَلَهُ ثم خرج إلى مكة مرتدَّاً فقال في شعر يقوله:
شَفَى النفسَ أن قد مات بالقَاع مُسْنَداً
تُضَرِّج ثَوْبَيْه دماءُ الأخادع[35]
وكانتْ هُموم النَّفس من قبل قَتْله
تُلِمّ فَتَحْميني وِطَاء المَضَاجعِ[36]
حَلَلتُ به وترِي وأدركتُ ثُؤرَتي
وكنتُ إلى الأوثان أَولَ رَاجِع[37]
ثأرت به فِهراً وحمَّلتُ عَقْلَهُ
سرَاةَ بَني النَجَّار أَرْبَابَ فَارعِ[38]
تُضَرِّج ثَوْبَيْه دماءُ الأخادع[35]
وكانتْ هُموم النَّفس من قبل قَتْله
تُلِمّ فَتَحْميني وِطَاء المَضَاجعِ[36]
حَلَلتُ به وترِي وأدركتُ ثُؤرَتي
وكنتُ إلى الأوثان أَولَ رَاجِع[37]
ثأرت به فِهراً وحمَّلتُ عَقْلَهُ
سرَاةَ بَني النَجَّار أَرْبَابَ فَارعِ[38]
وقال مقيس بن صبابة أيضاً:
جَلَّلته ضَرْبةً باءت لها وشَلٌ
من ناقِع الجَوف يَعلوه ويَنْصَرمُ
فقلتُ والموتُ تَغْشاه أَسِرتّه
لا تأمنَنَّ بَني بَكْر إذا ظُلموا
كيف عالج النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - بحكمته البالغة هذا الموقف؟من ناقِع الجَوف يَعلوه ويَنْصَرمُ
فقلتُ والموتُ تَغْشاه أَسِرتّه
لا تأمنَنَّ بَني بَكْر إذا ظُلموا
كما هو واضح وجلي من الأخبار التي ذكرها أهل السير والتراجم من أن النبيّ - صلى الله عليه وسلم - عالج هذا الأمر فيما بعد، وبعد انتهاء المعركة والعودة إلى المدينة، وخاصة بعد مقدم مقيس بن صبابة المدينة حيث تظاهر بالإسلام أمام الصحابة - رضي الله عنهم -، وقدم إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - من فوره يعلن فيها إسلامه وما جاء به، حيث قال: يا رسول الله جئت مسلماً وجئت أطلب دِيَّة أخي، فما كان من النبي - صلى الله عليه وسلم - إلاّ أن قَبِلَ بظاهر الأمر، فقبل منه إسلامه وأدّى إليه طلبه بأن أعطاه دِية أخيه هشام - رضي الله عنه -، ثم ذكرت الأخبار أنه مكث غير كثير فعدا على قاتل أخيه فقتله ثم لحق بقريش كافراً[39]، والذي ظهر من مكثه هذا أنه كان يخطط ويترصد ويتحين الفرصة كي يُنَفذ ما أعدَّ من مؤامرة دنيئة خسر فيها الدنيا والآخرة، فلأجل ما فعله أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقتله، فقتله فيما بعد عند فتح مكة؛ نميلة بن عبد الله رجل من قومه، ولهذا كان مقيس هذا من الأربعة الذين أهدر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم الفتح دماءهم وان وجدوا متعلقين بأستار الكعبة[40].
وما أمر به النبيّ - صلى الله عليه وسلم - بحق مقيس علاج حكيم ودرس بليغ لمن خادع النبيَّ وقَتَلَ مؤمناً وارتد عن دين الله.
ثانياً: تنافر المهاجرين والأنصار:
ذكر أهل السير خبرهم في هذا التنافر على النحو الآتي: فبينما الناس على ذلك الماء وردت واردة الناس ومع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أجير له من بني غفار، يقال له جهجاه بن مسعود يقود فرسه، فازدحم جهجاه وسنان بن وبر الجهني حليف بني عوف بن الخزرج على الماء فاقتتلا[41] فصرخ الجُهني: يا معشر الأنصار، وصرخ جهجاه يا معشر المهاجرين، فغضب عبد الله بن أبي بن سلول وعنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم غلام حدث، فقال: أوَقد فعلوها، قد نافرونا وكاثرونا في بلادنا والله ما أعدّنا وجلابيب قريش هذه إلاّ كما قال الأول: سمن كلبك يأكلك أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجنَّ الأعز منها الأذل، ثم أقبل على من حضره من قومه فقال لهم: هذا ما فعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم وقاسمتموهم أموالكم ؛أما والله لو أمسكتم عنهم ما بأيديكم لتحولوا إلى غير داركم، فسمع ذلك زيد بن أرقم فمشى به إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وذلك عند فراغ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من عدوه، فأخبره الخبر وعنده عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: مُرْ به عَبّاد من بشر، فليقتله فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه! لا، ولكن أذِّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرتحل فيها فارتحل الناس[42].
معالجة النبي - صلى الله عليه وسلم - لهذه المشكلة:
لم تكن هذه الحادثة الأولى من نوعها التي تجرأ فيها المنافقون بالكلام وإثارة الفتن ضد المسلمين فقد فعلوا مثل هذا الأمر ولأول مرة قبل المصطلق عندما أثاروا فتنة عظيمة وضجة كبيرة حول قصة زواج النبي - صلى الله عليه وسلم - من زينب بنت جحش رضي الله عنها في العام الخامس للهجرة.
ولما عَلِم أعداء الإسلام من مشركين ويهود في الخارج ومنافقين في الداخل بأنهم لا يستطيعون النيل من الإسلام والمسلمين فنذروا أنفسهم لخدمة "الجبت الطاغوت"، وإثارة الفتن من الداخل وكان على رأسهم عبد الله بن أبي بن سلول في المدينة واليهود ومن والاهم في الخارج، وهنا برز دور النبي - صلى الله عليه وسلم - في التصدي لمثل هذه الفتن، ويبرز دور الصحابة الكرام بصدقهم وإخلاصهم وحبهم لله وللرسول - صلى الله عليه وسلم - في التصدي لمثل هذه الفتن أيضاً.
المعالجة الأولى:
عالج النبي - صلى الله عليه وسلم - هذه المشكلة، وهي في مهدها بحيث تلافى هذه الظاهرة مباشرة وبأقوى ما يمكن، فدعاهم - صلى الله عليه وسلم - إلى الصلح، فأذعنوا، وتم الصلح بين الفريقين وتخلى سنان بن وبر - رضي الله عنه - عن حقه وحبطت الفتنة في مهدها، نستخلص من هذا درساً بليغاً ألا وهو على الأمة الإسلامية في وقتنا الحاضر أن تعيه، وهو وقوع الخطأ منا، ولكن يجب أن لا نستمر عليه ولا نتركه دون حلٍ حتى يستفحل ويعسر تطويقه وحلّه إلاّ بشق النفس، بل قد يصل بنا الأمر إلى أن نعجز كل العجز عن إيجاد الحلول لإنهاء المشكلة، فلا غرابة أن تتحرك في أي بلد مسلم أو في المجتمع الإسلامي نوازع الجاهلية ونزاعاتها وتثور بعد كمون طويل ومن الممكن أن تؤدي إلى حمل السلاح، فمن الواجب على المسلم إن يدرك خطورة الموقف وكيفية علاجه بأسرع وقت ممكن، وأن لا يدب اليأس فينا ويحبط أمانينا عندما نرى مثل هذه الظواهر، وهنا تظهر حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وحُنْكته السياسية في إدارة هذه الأمور والتصدي لها، وكذلك يظهر أثر الإيمان وقوة اليقين والثبات عند الصحابة ويظهر صدقهم وإخلاصهم.
ومن الأمور التي ظهرت في هذه الحادثة الوعي المتميز لزيد بن أرقم - رضي الله عنه - في صحة سماعه لحديث عبد الله بن أُبي ونقله إلى الرسول الكريم - صلى الله عليه وسلم - الذي كان سبباً في إحباط خطة رأس المنافقين[43]، لهذا يجب على المسلم أن يكون حريصاً وواعياً وراصداً لتحركات أهل الباطل ودسائسهم وما يبيِّتون للمسلمين من تدابير الإهلاك والمحق، ولا عليه من ضير أن يكون لنا كمؤمن آل فرعون، ويتصرف بحكمة ولا يتصرف تصرفاً خاصاً يمكن أن يؤدي إلى نتائج سلبية تضرُّ بالمصلحة العامة لهذا يجب على المربين أن يُجهدوا أنفسهم في تربية الشباب على الوعي واليقظة وكيفية مواجهة مثل هذه الأمور وأن يسلكوا سلوك زيد بن أرقم - رضي الله عنه - لحسم معركة كاملة ضد المنافقين، ثم يأتي التصرف القيادي المتمثل بشخص النبي - صلى الله عليه وسلم - أمام هذه المواقف كلها دوراً بارزاً متميزاً في معالجة الأمور كلها معالجة تتصف بالحكمة والدقة والقرارات الحاسمة في أحلك المواقف وأصعبها، وهذا هو المراد في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً﴾[44].
لهذا نلاحظ أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أخذ بنظر الاعتبار ثلاثة احتمالات قبل أن يتبنى هذا القول ويبني عليه[45].
الاحتمال الأول: أن يكون الناقل مغرضاً أو صاحب هوى كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لعلك غضبت عليه فقلت ما قلت، فقال زيد بن أرقم - رضي الله عنه -: لا والله يا رسول الله لقد سمعت منه[46].
الاحتمال الثاني: أن يكون ناقل الكلام غير دقيق في نقله كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: لعله أخطأ سمعك[47].
الاحتمال الثالث: أن يكون الفهم خاطئاً للكلام، كقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: فلعله شُبِّه عليك؟ قال: لا والله لقد سمعت منه يا رسول الله.
وربَّ سائل يسأل: ما فائدة هذه الاحتمالات التي وضعها رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؟. فنقول: أما بالنسبة إلى الاحتمال الأول قوله: فلعلك غضبت عليه، فقلت ما قلت. أراد عليه الصلاة والسلام أن يتأكد من صدق القائل أنه ليس له غرض أو مصلحة أو هوى ضد المنقول عنه لأن الحكم السريع من القيادة والتصديق المباشر دون تحقيق كامل لأسباب هذه الأقوال قد يوقع في خطأ أكبر من القول نفسه، وقد يصدع هذا المغرض أو الحاقد أو الغاضب الصف كله إذا كان التسرع في قبول القول ضد أي إنسان لا يزال داخل الصف مهما كانت الاتهامات ضده[48].
وأما بالنسبة للاحتمال الثاني قوله: لعله أخطأ سمعك، فلا يستبعد أن يكون النقل خاطئاً فيؤدي إلى زيادة أو نقصان في الكلام يُغيِّر المعنى، ولا يصل إلى هذا المدى من الخطر، وبالتالي فيتهم القائل بشيء لا أصل له أو زِيد عليه فغيّر معناه.
وأما بالنسبة للاحتمال الثالث قوله: لعله شُبِّه عليك، فإنه أكثر الاحتمالات وقوعاً فعلى المسلم أن يفهم الكلام على غير قصده أو غير معناه، وبالتالي تتأزم الأمور لسوء تفاهم أو سوء فهم من طرف واحد ثم تبنى الأحكام كلها على ضوء هذا الفهم السيئ، ويتصدع الصف نتيجة أوهام لا حقائق، ونتيجة تفسيرات وفهوم لكلمات معينة لا نتيجة نقل أمين لمعناها.
لهذا يجب أن يكون المنهج النبوي هو المنار الذي يحتذى به في مثل هذه الوقائع وغيرها تجنباً للوقوع في الأخطاء[49].
ومن الأمور التي برزت في هذه الحادثة دور النبي - صلى الله عليه وسلم - في عدم إعطاء الفرصة للعدو الخارجي بالتشهير بالصف الإسلامي أمام المحايدين، ولهذا السبب ولأسباب أخرى، دفعت النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم قتل عبد الله بن أبي سلول عندما طلب منه عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - فقال: مُر به عبّاد بن بشر فليقتله[50]، فرفض النبي- صلى الله عليه وسلم - على الفور ونهاه، وقال: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه[51].
وقرار النبي - صلى الله عليه وسلم - بعدم قتله يرتكز على مدلولات عدة منها:
1- اطمئنان النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أن قومه سوف ينفضون عنه جميعاً، فقد أصبح خطره محدوداً وأمره مفضوحاً للجميع.
2- يود النبي - صلى الله عليه وسلم - أن لا يفسح له مجالاً للخروج من الصف ثم الانقضاض عليه بحيث يخرج ويتآمر مع اليهود والمشركين، وأسرار الصف عنده وأيُّ ضغط عليه قد يقوده إلى هذا الموقف، أي أن يكون مراقباً وتحركاته محسوبة أمام أعين المسلمين أولى من أن يخرج ويعمل مع غيرهم، فينقل أسرار الجماعة المسلمة إلى عدوها كما فعل أبو عامر الفاسق الذي خرج مع خمسين من قومه وانضم إلى أهل مكة، من أجل ذلك كان جواب النبي - صلى الله عليه وسلم - واضحاً لابنه عبد الله بن عبد الله - رضي الله عنه - حين قال له: بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا.
3- عَلِم النبي - صلى الله عليه وسلم - أن عبد الله بن أُبي قد احترق نهائياً بعد نزول "سورة المنافقون" حيث صارت على كل لسان، وما من مسلم يتلو هذه السورة ويبقى عنده أدنى شك في تقييم ابن أُبي أو الثقة به إلاّ إذا كان منافقاً مثل عبد الله بن أُبي.
وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يتلو "سورة المنافقون" كل يوم جمعة مع سورة الجمعة حتى تبقى معناً راسخة في أذهان المسلمين.
لهذا نستطيع القول أنَّ جبهة المنافقين التي كان يقودها عبد الله بن أُبي قد تصدعت تماماً بعد أن كانت قادرة على تصديع الصف الإسلامي كله فلم يُعد له ناصر أو معين وأصبح مكان الإذلال في قومه بعد أن كان في مكان الصدارة، بينما لو قُتل لتحركت الحَميَّة الجاهلية من جراء قتله وأحدثت كارثة نتيجة لذلك، وربما يراه البعض من ضعاف الإيمان مظلوماً شهيداً.
لقد بانت الحكمة والمعالجة السديدة من تصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لهذا الموقف أن انفض الناس من حول عبد الله بن أُبي بن سلول بعد أن كاد يتوج عليهم ملكاً قبيل مجيء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المدينة المنورة.
لهذه الأسباب ولغيرها جاءت حكمة النبي - صلى الله عليه وسلم - وعظمة قيادته في اتخاذ القرارات الحاسمة والدقيقة في أحلك المواقف وأدقها[52].
ولو دققنا ملياً في ما قاله عبد الله بن أُبي لوجدنا أن هناك سبباً حقيقياً يكمن وراء ذلك ألا وهو حقيقة فضح الدوافع النفسية لهذا الموقف عنده، فحب الزعامة لديه قاده إلى هذا الموقع وأن فقدان المُلك هو الذي جعله في موقع الحرب لرسول الله برغم ما رأى من الآيات البيّنات والدلائل الباهرة على صدق رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لهذا يجب على المسلم الواعي أن يتجنب سرطان النفوس وآفة العصر ألا وهي حب الزعامة والرياسة التي تؤدي إلى هلك الحرث والنسل.
إذن كانت معالجة النبي - صلى الله عليه وسلم - للموقف على جبهات عدة، وهو يود أن يستأصل هذه الظاهرة من الجذور، وهو أحوج ما تحتاجه القيادات الإسلامية في عصرنا الحالي للتأسي به والعمل على منهجه عليه الصلاة والسلام على نحو الآتي: التثبت و التحقق من الحادثة، وهو الواجب الأول[53].
1. الحد من انتشار الفتنة، لمّا علم الرسول - صلى الله عليه وسلم - بالحادث قرر الرحيل فوراً قبل أن يستفحل الأمر، وانطلق بالناس طيلة يومهم حتى أمسوا، وطيلة ليلتهم حتى أصبحوا، وصدر يومهم الثاني حتى آذتهم الشمس، فلما نزل الناس لم يلبثوا حين مست جنوبهم الأرض أن ناموا من فرط تعبهم، وأنسى التعب فتنة ابن أبيّ، وعادوا إلى المدينة ومعهم الأسرى والغنائم..... وكان عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - في تحريكه قواته بعد غزوة بني المصطلق، لمّا علم بمحاولة عبد الله بن أبي إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار، واستمرار المسير الشاق لمدة ثلاثين ساعة....ـ كان عمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - إبداعاً ممتازاً إذ لولا مسارعته بالحركة مع قواته حتى أنهكها التعب لما استبعدنا بتاتاً نجاح عبد الله بن أبي في فتنته، إنَّ مزايا الإبداع من أعظم مزايا القائد الكفء[54].
2. اقتصار الأمر على مستويات معينة دون انتشاره إلى صفوف المسلمين ومعالجته بالحكمة الممكنة[55].
3. ويبرز موقف آخر من المواقف الشجاعة ذلك هو موقف الابن البار لوالده الذي كان يُعد مثلاً في خزاعة، وحين بلغه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يريد قتل عبد الله بن أُبي بن سلول جاء مسرعاً، وعلى الفور، فقال: يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه، فو الله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبرَّ بوالده[56].
إنَّ تصرف عبد الله بن عبد الله بن أُبي - رضي الله عنه - نابع عن عمق إيمانه بالله ورسوله والعقيدة التي ترسخت فيه بعيداً عن العوامل العاطفية والنفسية وتصرفه هذا كان يريد به إرضاء الله والفوز بالجنة والنجاة من النار[57].
ثم جاء رد النبي - صلى الله عليه وسلم - كالبلسم الشافي للجروح التي تقطر دماً، فقال عليه الصلاة والسلام لعبد الله بن عبد الله - رضي الله عنه -: بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا[58].
ولم يكتفِ عبد الله بن عبد الله - رضي الله عنه - بهذا القدر حتى وصلوا إلى المدينة فلم يسمح لأبيه أن يدخلها حتى يأذن له النبي - صلى الله عليه وسلم - ويقر بأنَّ الرسول - صلى الله عليه وسلم - هو العزيز وهو الذليل، بهذه السلوكيات وهذه التربية المحمدية يسجل لنا هذا الصحابي الجليل صدقه وإخلاص عمله لله وللرسول.
ثالثاً: حادثة الإفك[59]:
دبَّر المنافقون مؤامرة جديدة تضاف إلى مؤامراتهم العديدة للنيل من الدعوة الإسلامية والمسلمين، لكن هذه المرة كانت أكثر دقة في التصويب عُرِفت فيما بعد بحادثة الإفك[60]، بعد أن فشل كيدهم في المحاولة الأولى لإثارة العصبية الجاهلية، وسعوا إلى إيذاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في نفسه وأهل بيته، فشنوا حرباً نفسية مريرة من خلال هذه الحادثة التي اختلقوها على أهل بيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والتي ألمت ببيته الطاهر هذه النازلة الشديدة والمحنة العظيمة التي كان القصد منها النيل من شخص النبي صلى الله عليه وسلم ومن أهل بيته الأطهار.
هل تُعد حادثة الإفك مشكلة؟
يمكن تعريف المشكلة بأنها الشعور أو الإحساس بوجود صعوبة لا بد من تخطيها، أو عقبة لا بد من تجاوزها، لتحقيق هدف، أو يمكن القول إنها الاصطدام بواقع لا نريده، فكأننا نريد شيئا ثم نجد خلافه. وحتى نتمكن من مواجهة المشاكل والتغلب عليها لا بد من أن ننهج طريقة معينة نشعر فيها بوجود المشكلة، ونتعرف عليها ونُحدد طبيعتها، ثم نفكر في الحلول المتعددة، ثم نطبق الحل الأمثل، ونتأكد من ذلك، ثم نتفكر فيما حصل، وهذا يتطلب بذل الجهد في التفكير في مراحل متعددة وفي مواضيع كثيرة , وقد تحصل أحيانا بسرعة فائقة وقد تستغرق وقتا. لكن لا بد من التدرُّب والتمرُّس على ذلك واكتساب مهارات التفكير اللازمة لهذا الأمر[61].
مواضيع مماثلة
» ]الأساليب النبوية في معالجة الأخطاء
» اساليب النبى فى معالجة الامور
» الاساليب النبويه فى معالجة الاخطاء 3
» هم أحداث شهر رجب التاريخية
» السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث حمل الان
» اساليب النبى فى معالجة الامور
» الاساليب النبويه فى معالجة الاخطاء 3
» هم أحداث شهر رجب التاريخية
» السيرة النبوية عرض وقائع وتحليل أحداث حمل الان
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin