بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 26 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 26 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
باب بدء الوحي له 2
صفحة 1 من اصل 1
باب بدء الوحي له 2
وذكر بعضهم أن لها ثلاثين اسما. وذكرها الاستاذ الشيخ أبو الحسن البكري في تفسيره الوسيط، قال السهيلي: ويكره أن يقال لها أم الكتاب: أي لما ورد «لا يقولنّ أحدكم أم الكتاب وليقل فاتحة الكتاب» قال الحافظ السيوطي : ولا أصل له في شيء من كتب الحديث، وإنما أخرجه ابن الضريس بهذا اللفظ عن ابن سيرين. وقد ثبت في الأحاديث الصحيحة تسميتها بذلك هذا كلامه، ولا يخفى أنه جاء في تسمية الفاتحة ذكر المضاف تارة وهو سورة كذا وإسقاطه أخرى. وتارة جوّزوا الأمرين معا، وهو يشكل على أن تسمية السور توقيفي.
ثم رأيت في الإتقان قال: قال الزركشي في البرهان: ينبغي البحث عن تعداد الأسامي هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن كان الثاني فيمكن الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضي اشتقاق أسمائها وهو بعيد هذا كلامه. ويلزم القول بأنها إنما نزلت في المدينة أن مدة إقامته بمكة كان يصلي بغير الفاتحة. قال في أسباب النزول: وهذا مما لا تقبله العقول: أي لأنه لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة: أي ويدل لذلك ما رواه الشيخان «لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب» وفي رواية «لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب» والمراد في كل ركعة، لقوله للمسيىء صلاته «إذا استقبلت القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت» إلى أن قال: «ثم اصنع ذلك ـ أي القراء بأم القرآن ـ في كل ركعة » وجاء على شرط الشيخين «أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها منها عوضا» ويدل لذلك أيضا وصف القول بأنها إنما نزلت بالمدينة بأنه هفوة من قائله، لأنه تفرد بهذا القول، والعلماء على خلافه: أي لأن نزولها كان بعد فترة الوحي بعد نزول {يا أيها المدثر} ويلزم على كونها نزلت بعد المدثر أنه صلى بغير الفاتحة في مدة فترة الوحي: أي لأن المدثر نزلت بعد فترة الوحي على ما سيأتي.
وقد يقال: لا ينافيه ما تقدم من أنه لم يحفظ أنه لم يكن في الإسلام صلاة بغير الفاتحة، لجواز أن يراد صلاة من الصلوات الخمس، وما تقدم مما يدل على تعين الفاتحة في الصلاة يجوز أن يكون صدر منه بعد فرض الصلوات الخمس.
وفي الإمتاع إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة، يدل على أنها نزلت بالمدينة.
فقد أخرج مسلم عن ابن عباس قال: «بينما جبريل قاعد عند النبي سمع نغيضا أو صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما من قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة » هذا كلامه فليتأمل وجه الدلالة من هذا على أنه سيأتي عن الكامل للهذلي ما يصرح بأن خواتيم البقرة نزلت عليه ليلة الإسراء بقاب قوسين.
ومما يدل على أن البسملة آية منها نزولها معها أي كما في بعض الروايات، وإلا فالرواية المتقدمة تدل على أنها لم تنزل معها.
ويدل لكون البسملة آية من الفاتحة أيضا ما أخرجه الدارقطني وصححه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم: إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها».
وقد أخرج الدارقطني عن علي أنه سئل عن السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين، فقيل له إنما هي ست آيات، فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم آية } وقيل لها السبع المثاني، لأنها سبع آيات وتثنى في الصلاة. وقيل المثاني كل القرآن، لأنه يثني فيه صفات المؤمنين والكفار والمنافقين وقصص الأنبياء والوعد والوعيد.
قال بعضهم: والوجه أن يقال المراد بالسبع المثاني السبع الطوال: أي كما أنها المراد بقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} على ما تقدم، وهي البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والسابعة يونس. وقيل براءة وقيل الكهف.
وعن أم سلمة : «أن النبي عدّ البسملة آية من الفاتحة » وبهذا يعلم ما في تفسير البيضاوي عن أم سلمة من «أنه عدّ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين آية » فقد ذكر بعض الحفاظ أن هذا اللفظ لم يرد عن أم سلمة، والذي رواه جماعة من الحفاظ عن أم سلمة بألفاظ تدل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية وحدها.
منها أنها ذكرت أن النبي كان يصلي في بيتها، فيقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين} وفي رواية عنها «أن النبي كان يقرأ في الصلوات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين» والاستدلال على أن البسملة آية من الفاتحة بكونها نزلت معها يقتضي أن البسملة ليست آية من {اقرأ باسم ربك} ومن ثم قال الحافظ الدمياطي: نزول اقرأ بدون بسملة يدل على أن البسملة ليست آية من كل سورة، واستدل به: أي بعدم نزولها في أول سورة اقرأ أيضا كما قال الإمام النووي من يقول إن البسملة ليست بقرآن في أوائل السور: أي وإنما أنزلت وكتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها، وهذا القول ينسب لقول إمامنا الشافعي في القديم وهو قول قدماء الحنفية.
قال: وجواب المثبتين أي لقرآنيتها في ذلك أنها نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة: أي سورة اقرأ.
وجوابهم أيضا بأن الإجماع من الصحابة والسلف على إثباتها في مصاحفهم مع مبالغتهم في تجريدها عن كتابة غير القرآن فيها حتى إنهم لم يكتبوا آمين فيها، واستدل أيضا لعدم قرآنيتها في أوائل السور بعدم تواترها في محلها.
ورد بأن عدم تواترها في محلها لا يقتضي سلب القرآنية عنها. وردّ هذا الردّ بأن الإمام الكافيجي قال: المختار عند المحققين من علماء السنة وجوب التواتر: أي في القرآن في محله ووضعه وترتيبه أيضا كما يجب تواتره في أصله: أي وفي الفتوحات: البسملة من القرآن بلا شك عند العلماء بالله، وتكرارها في السورة كتكرار ما تكرر في القرآن من سائر الكلمات، وهو بظاهره يؤيد ما ذهب إليه إمامنا من أنها آية من أول كل سورة، ومحتمل لما قاله السهيلي حيث قال: نقول إنها آية من كتاب الله مقترنة مع السورة.
وفي كلام أبي بكر بن العربي: وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة وما سبقه إلى هذا القول أحد، فإنه لم يعدّها أحد آية من سائر السور.
ونقل عن إمامنا الشافعي أنها آية من أول الفاتحة دون بقية السور. فعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم، وأول البقرة ال?م قال بعضهم: وهو يدل على أن البسملة آية من أول الفاتحة دون بقية السور، فإنها ليست آية من أولها، بل هي آية في أولها إعادة لها وتكريرا لها، وربما يوافق ذلك قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وخص بالبسملة والفاتحة هذا كلامه وكونه خص بالبسملة يخالف قوله في الإتقان عن الدارقطني «إن النبي قال لبعض أصحابه لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم» كما سيأتي، وسيأتي ما فيه.
قيل وإنما تركت البسملة أول براءة لعدم المناسبة بين الرحمة التي تدل عليها البسملة، والتبرىء الذي يدل عليه أول براءة. ورده في الفتوحات، بأنها جاءت في أوائل السور المبدوءة بويل قال: وأين الرحمة من الويل.
وذكر بعضهم أن الأنفال وبراءة سورة واحدة: أي فعن ابن عباس قال: سألت عثمان بن عفان لمَ لم يكتبوا بين براءة والأنفال سطر {بسم الله الرحمن الرحيم}؟ فقال: كانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل بالمدينة، وكانت قصتها شبيهة بالأخرى فظننت أنهما سورة واحدة.
وفي كلام بعض المفسرين عن طاوس وعمر بن عبد العزيز. أنهما كانا يقولان: إن الضحى وألم نشرح سورة واحدة، فكانا يقرآنهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وذلك لأنهما رأيا أن أولها مشبه لقوله {ألم يجدك يتيما} وليس كذلك، لأن تلك حال اغتمامه بإيذاء الكفار، فهي حال محنة وضيق، وهذه حال انشراح الصدر وتطيب القلب فكيف يجتمعان؟ هذا كلامه.
وذكر أئمتنا أنه يكفي في وجوب الإتيان بالبسملة في الفاتحة في الصلاة الظن المفيد له خبر الآحاد، ولعدم التواتر بذلك لا يكفر من نفي كونها آية من الفاتحة بإجماع المسلمين، وقد جهر بها كما رواه جمع من الصحابة قال ابن عبد البر بلغت عدتهم أحدا وعشرين صحابيا.
وأما ما رواه مسلم عن أنس قال: «صليت مع النبي وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» أجيب عنه بأنه لم نيف إلا السماع، ويجوز أنهم تركوا الجهر بها في بعض الأوقات بيانا للجواز. ويؤيده قول بعضهم: كانوا يخفون البسملة.
وأما ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم «أن رسول الله وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» فمعناه بسورة الحمد لا بغيرها من القرآن. ولا يبعد هذا الحمل ما في رواية عبد الله بن مغفل أنه قال: «سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أي بني إياك والحدث، فإني صليت مع النبي ومع أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقوله، فإذا قرأت فقل الحمد لله رب العالمين، فإنه لما لم يسمع فهم أنهم لم يأتوا بها رأسا، فقال ذلك، وكذا يقال فيما روي «كانوا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم» فعلى تقدير ثبوت تلك الرواية وصحتها يجوز أن يكون الراوي فهم مما تقدم ترك البسملة فروي بالمعنى فأخطأ.
ومما استدل به على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ما جاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة: ـ أي الفاتحة ـ بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال مجدني عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: فوّض إليّ عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذه بيني وبين عبد ولعبدي ما سأل، فيقول عبدي: اهدنا الصراط المستقيم» إلى آخرها.
قال أبو بكر بن العربي المالكي: فانتفى بذلك أن تكون بسم الله الرحمن الرحيم آية منها من وجهين: أحدهما أنه لم يذكرها في القسمة. والثاني أنها صارت في القسمة لما كانت نصفين بل يكون ما لله فيها أكثر مما للعبد، لأن بسم الله ثناء على الله تعالى لا شيء للعبد فيه، ثم ذكر أن التعبير بالصلاة عن الفاتحة يدل على أن الفاتحة من فروضها، وأطال في ذلك، وسيأتي في الحديبية أنه كان يكتب: باسمك اللهم موافقة للجاهلية. قيل كتب ذلك في أربعة كتب. وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت، فلما أنزل {بسم الله مجراها ومرساها} كتب {بسم الله} ثم لما نزل {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} كتب {بسم الله الرحمن} ثم نزلت {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} كتب {بسم الله الرحمن الرحيم} كذا نقل عن الشعبي «أن النبي لم يكتب {بسم الله الرحمن الرحيم} حتى نزلت سورة النمل» وهذا يفيد أن البسملة لم تنزل قبل ذلك في شيء من أوائل السور، ويؤيده قول السهيلي: ثم كان بعد ذلك: أي بعد نزول {وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} ينزل جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة: أي تمييزا لها عن غيرها. وقد ثبت في سواد المصحف الإجماع من الصحابة على ذلك، هذا كلامه، فليتأمل ما فيه، فإنه قد يدل للقول بأن البسملة نزلت أول الفاتحة على ما في بعض الروايات.
ونقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل أمة على أن الله سبحانه وتعالى افتتح جميع كتبه ببسم الله الرحمن الرحيم.
وفي الإتقان عن الدارقطني «أن النبي : قال لبعض الصحابة لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم» وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى أن البسملة من خصائصه. وقوله: «على نبي بعد سليمان غيري» يشكل عليه أن عيسى بين سليمان وبينه وكتابه الإنجيل وهو من جملة كتب الله المنزلة.
وعن النقاش أن البسملة لما نزلت سبحت الجبال، فقالت قريش: سحر محمدا الجبال قال السهيلي: إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود، وقد كانت الجبال تسبح مع داود، والله أعلم.
ثم لم يلبث ورقة أن توفي. قال سبط ابن الجوزي: وهو آخر من مات في الفترة، ودفن بالحجون فلم يكن مسلما، ويؤيده ما جاء في رواية في سندها ضعف عن ابن عباس أنه مات على نصرانيته. وهذا يدل على أن من أدرك النبوة وصدّق بنبوّته ولم يدرك الرسالة بناء على تأخرها لا يكوم مسلما بل من أهل الفترة، فلما توفي ورقة قال رسول الله: «لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب الحرير» أي والقس بكسر القاف: رئيس النصارى، وبفتحها تتبع الشيء ( ).
هذا، وفي القاموس: القس مثلث القاف: تتبع الشيء وطلبه كالتقسس، وبالفتح صاحب الإبل الذي لا يفارقها، ورئيس النصارى في العلم. وفي رواية «أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس» وفي رواية «قد رأيته، فرأيت عليه ثيابا بيضا، وأحسبه ـ أي أظنه ـ لو كان من أهل النار لم تكن عليه ثياب بيض».
أقول: صريح الرواية الثالثة أنه لم يره في الجنة، فقد تعددت الرؤية. وأما الرواية الثانية فلا تخالف الرواية الأولى لأن السندس من أفراد الحرير، فلا دلالة في ذلك على التعدد، والله أعلم. وفي رواية «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين ( ) لأنه آمن بي وصدقني»: أي قبل الدعوة التي هي الرسالة، وحينئذ يكون معنى قوله له: «جنة أو جنتين» هيئت له جنة أو جنتان، ولا مانع أن يكون بعض أهل الفترة من أهل الجنة، إذ لو كان مسلما حقيقة بأن أدرك الدعوة وصدّق به لم يقل فيه: «وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» وجزم ابن كثير بإسلامه.
قال بعضهم: وهو الراجح عند جهابذة الأئمة: أي بناء على أنه أدرك الدعوة إلى الله تعالى التي هي الرسالة.
ففي الإمتاع أن ورقة مات في السنة الرابعة من المبعث، ويوافقه ما يأتي عن سيرة ابن إسحاق، وعن كتاب الخميس. وحينئذ يكون قوله: «لأنه آمن بي وصدقني» واضحا، لكن ينازع في ذلك قوله: «وأحسبه لو كان أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» وسيأتي عن الذهبي ما يخالفه.
ويخالفه أيضا ما تقدم عن سبط ابن الجوزي أنه من أهل الفترة. وعن يحيى بن بكير قال: سألت جابر بن عبد الله، يعني عن ابتداء الوحي، فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، فنظرت عن يساري فلم أر شيئا فنظرت من خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض» أي وفي رواية «فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي» زاد في رواية «متربعا عليه» وفي لفظ «على عرش بين السماء والأرض» فرعبت منه، فأتيت خديجة فقلت: دثروني دثروني» أي وفي رواية «زملوني زملوني، وصبوا عليّ ماء بارد فدثروني وصبوا عليّ ماء باردا فنزلت هذه الآية {يا أيها المدثر} أي الملتف بثيابه {قم فأنذر وربك فكبر}»، ولم يقل بعد فأنذر وبشر لأنه كما بعث بالنذارة بعث بالبشارة لأن البشارة، إنما تكون لمن آمن ولم يكن أحد آمن قبل، وهذا يدل على أن هذه الآية أول ما نزل: أي قبل اقرأ وأن النبوّة والرسالة مقترنان.
قال الإمام النووي: والقول بأن أول ما نزل {يا أيها المدثر} ضعيف باطل، وإنما نزلت بعد فترة الوحي: أي ومما يدل على ذلك قوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» ومما يدل على ذلك أيضا ما في البخاري أن في رواية جابر أنه حدث عن فترة الوحي أي لا عن ابتداء الوحي. فما تقدم من قول بعضهم يعني عن ابتداء الوحي فيه نظر، وكذا في قول الراوي عن جابر «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت» لأن جواره بحراء كان قبل فترة الوحي، إلا أن يقال جابر جاء عنه روايتان: واحدة في ابتداء الوحي، وأخرى في فترة الوحي، وبعض الرواة خلط، فإن صدر الرواية يدل على أن ذلك كان عند ابتداء الوحي، وعجزها بدل على أن ذلك كان في فترة الوحي.
هذا، ويجوز أن يكون جاور بحراء في مدة فترة الوحي. ويؤيد ذلك ما في البيهقي عن مرسل عبيد بن عمير «أنه كان يجاور في كل سنة شهرا وهو رمضان، وكان ذلك في مدة فترة الوحي» وسيأتي الجمع بين الروايات في أول ما نزل. وعن إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير «أنه حدث عن خديجة أنها قالت لرسول الله : أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال نعم» أي وذلك قبل أن يأتيه بالقرآن: أي بشيء منه، وهو {اقرأ باسم ربك} بناء على أنه أول ما نزل. ولا ينافي ذلك قولها: «هذا الذي يأتيك إذا جاءك» لأن المعنى الذي يتراءى لك إذا رأيته، فجاءه جبريل ، فقال لها رسول الله : يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني: أي قد رأيته، لكن سيأتي عن ابن حجر الهيتمي أن ذلك كان بعد البعثة / «قالت: قم يا بن عمي فاجلس على فخذي، فقام رسول الله فجلس على فخذها، قالت: هل تراه؟ قال نعم، قالت، فتحول فاجلس في حجري، فتحول رسول الله فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال نعم، فألقت خمارها ورسول الله جالس في حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال لا، قالت: يا ابن عمي اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان» وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:
وأتاه في بيتها جبرئيل ** ولذي اللب في الأمور ارتياء
أماطت عنها الخمار لتدري ** أهو الوحي أم هو الإغماء
اختفى عند كشفها الرأس جبريـ ** ـل فما عاد أو أعيد الغطاء
استبانت خديجة أنه الكنـ ** ـز الذي حاولته والكيمياء
أي وأتاه. قال ابن حجر: أي بعد البعثة أي النبوة، واجتماعه به في بيتها حامل الوحي جبريل، ولصاحب العقل الكامل في الأحوال التي قد تشتبه استبصار، فبسبب كمال استبصارها أزالت عن رأسها ما يغطى به الرأس لتعلم عين اليقين أن هذا الذي يعرض له هل هو حامل الوحي الذي كان يأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله أو هو الإغماء الذي هو بعض الأمراض الجائزة عليهم، عليهم الصلاة والسلام.
وفيه أنه ينبغي أن يكون المراد به الإغماء الناشىء عن لمة الجن، فيكون من الكهان لا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي قال بسببه لخديجة لقد خشيت على نفسي، وسيأتي أنه كان يعتريه وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن ما كان يعتريه عند نزول الوحي عليه: أي من الإغماء إلى آخره، فبسبب إزالتها ما تغطى به رأسها عنها اختفى فلم يعد إلى أن أعادت غطاء رأسها عليه، فاستبانت: علمت علم اليقين أن ما يعرض له هو الوحي: أي لا الجني، لأن الملك لا يرى الرأس المكشوف من المرأة بخلاف الجني. وشبه الناظم ذلك بالشيء النفيس والأمر العظيم، لأن كلا من الكنز والكيمياء لا يظفر به إلا القليل من الناس لعزتهما.
أقول: وفي الخصائص الكبرى ما يدل لما قلناه من أن أول ما فعلته خديجة كان عند ترائيه له، وقبل اجتماعه به.
وقلو بعضهم إن ذلك من خديجة كان بإرشاد من ورقة؟ فإنه قال لها اذهبي إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى، فإذا رآه فتحسري، فإن لم يكن من عند الله لا يراه: أي فتراءى له وهو في بيت خديجة ففعلت، قالت: فلما تحسرت تغيب جبريل فلم يره، فرجعت فأخبرت ورقة، فقال إنه ليأتيه الناموس الأكبر.
وفي فتح الباري أن في سيرة ابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام: أي وفي كلام صاحب كتاب الخميس في الصحيحين أن البوحي تتابع في حياة ورقة وأنه آمن به، وتقدم أنه الموافق لما في الإمتاع من أنه مات في السنة الرابعة من البعثة، وتقدم أنه مخالف لما تقدم عن سبط ابن الجوزي، ومخالف أيضا لقول الذهبي: الأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة، أي بناء على تأخرها، ويدل لتأخرها ما تقدم من قول ورقة: «يا ليتني فيها جذع» فقد تقدم أن المراد يا ليتني أكون في زمن الدعوة: أي ومن أدرك النبوة ولم يدرك البعثة لا يكون مسلما، بل هو كما تقدم من أهل الفترة لأن الإيمان النافع عند الله تعالى الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار التصديق بالقلب، بما علم بالضرورة أنه من دين محمد أي بما أرسل به وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكن من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع.
وقيل لا بد مع ذلك من الإقرار بالشهادتين للتمكن منه وحيث أدرك الرسالة فقد أسلم، وحينئذ يكون صحابيا.
ونقل بعضهم عن الحافظ ابن حجر أنه في الإصابة تردد في ثبوت الصحبة لورقة بن نوفل قال: لكن المفهوم من كلامه في شرح النخبة ثبوتها، وأنه يفرق بينه وبين بحيرا، بأن ورقة أدرك البعثة، وأنه لم يدرك الدعوة بخلاف بحيرا وهو ظاهر، والتعريف السابق يشمله هذا كلامه.
وتعريفه السابق للصحابي: هو من اجتمع بالنبي مؤمنا. وعبارة شرح النخبة: هل يخرج أي من تعريف الصحابي من لقي النبي مؤمنا به من لقيه مؤمنا بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة محل نظر.
ولا يخفى عليك أن ما في شرح النخبة لا يدل لهذا البعض على أنه تقدم أن ابن حجر في الإصابة قال في بحيرا: ما أدري أدرك البعثة أم لا؟
ولا يخفى عليك ما تقدم عن ابن حجر من أن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة، فإنه يقتضي أن البعثة عبارة عن النبوّة لا عن الرسالة، وأن الرسالة هي الدعوة لا البعثة.
وروى ابن إسحاق عن شيوخه «أنه كان يرقي من العين وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن، فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه قبل ذلك» هذا يدل على «أنه كان يصيبه قبل نزول القرآن ما يشبه الإغماء بعد حصول الرعدة، وتغميض عينيه، وتربد وجهه، ويغط كغطيط البكر، فقالت له خديجة: أوجه إليك من يرقيك؟ قال: أما الآن فلا» ولم أقف على من كان يرقيه ولا على ما كان يرقى به.
واشتهر على بعض الألسنة أن آمنة، يعني أمه رقت النبي من العين، ولعل مستند ذلك ما تقدم عن أمه أنها لما كانت حاملا به جاءه الملك، وقال لها قولي إذا ولدتيه: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد والظاهر أنها قالت ذلك.
وعن أسماء بنت عميس أنها قالت: «يا رسول الله إن ابني جعفر أي ولديها من جعفر بن أبي طالب تصيبهما العين أفنسترقي لهما؟ قال نعم، لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين».
فإن قيل بهذه الأمور علم أن جبريل ملك لا جني، فمن أين علم أنه يتكلم عن الله تعالى؟ أجيب بأنه على تسليم أن قول ورقة المذكور وما تقدم عنه لا يفيده العلم، فقد يقال: خلق الله تعالى فيه علما ضروريا بعد ذلك علم به أنه جبريل، وأنه يتكلم عن الله تعالى، كما خلق في جبريل علما ضروريا بأن الموحي إليه هو الله.
وقد ذكر بعض المفسرين أنه كان له عدوّ من شياطين الجن يقال له الأبيض، كان يأتيه في صورة جبريل. واعترض بأنه يلزم عليه عدم الوثوق بالوحي.
وأجيب عنه بمثل ما هنا، وهو أن الله تعالى جعل في النبي علما ضروريا يميز به بين جبريل وبين هذا الشيطان، ولعل هذا الشيطان غير قرينه الذي أسلم.
وفي كلام ابن العماد: وشيطان الأنبياء يسمى الأبيض، والأنبياء معصومون منه، وهذا الشيطان هو الذي أغوى به برصيصا الراهب العابد بعد عبادته خمسمائة سنة، وهو المعنيّ بقوله تعالى: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك} هذا كلامه والله أعلم.
وعن ابن عباس عن النبي قال: «كان من الأنبياء من يسمع الصوت: أي ولا يرى مصوّتا، فيكون بذلك نبيا» قال بعضهم: يحتمل أن يكون صوتا خلقه الله تعالى في الجو: أي ليس من جنس الكلام، وخلق لذلك النبي فهم المراد منه عند سماعه.
ويحتمل أن يكون من جنس الكلام المعهود يتضمن كون ذلك الشخص صار نبيا. قال: «وإن جبريل يأتيني فيكلمني كما يأتي أحدكم صاحبه فيكلمه ويبصره من غير حجاب» أي وفي رواية «كنت أراه أحيانا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال».
ولا يخفى أن هاتين الحالتين كل منهما حالة من حالات الوحي. وحينئذ إما أن يكون جبريل على صورة دحية الكلبي، وهو بكسر الدال المهملة على المشهور وحكي فتحها، أو على صورة غيره، ومنه ما وقع في حديث عمر «بينما نحن عند رسول الله ذات يوم طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد» الحديث. ورواية البخاري تدل على أنه لم يعرفه إلا في آخر الأمر، وورد «ما جاءني ـ يعني جبريل ـ في صورة لم أعرفها إلا في هذه المرة ».
وفي صحيح ابن حبان «والذي نفسي بيده ما اشتبه عليّ منذ أتاني قبل مرّته هذه، وما عرفته حتى ولى» وبهذا يعلم ما في كلام الإمام السبكي حيث قسم الوحي إلى ثلاثة أقسام، حيث قال في تائيته:
ولازمك الناموس إما بشكله ** وإما بنفث أو بحلية دحية
فليتأمل قيل وكان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة.
فإن قيل إذا جاء جبريل على صورة الآدمي دحية أو غيره هل هي الروح تتشكل بذلك الشكل؟ وعليه هل يصير جسده الأصلي حيا من غير روح، أو يصير ميتا؟
أجيب بأن الجائي يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لأنه يجوز أن الله تعالى جعل في الملائكة قدرة على التطور والتشكل بأي شكل أرادوه كالجن، فيكون الجسد واحدا، ومن ثم قال الحافظ ابن حجر: إن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط.
وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة أنه لا مانع ولا بعد أن الحق سبحانه وتعالى يظهر في صورة عليّ وأولاده: أي الأئمة الاثني عشر، وهم الحسن والحسين وابن الحسين زين العابدين وابنه محمد الباقر وابن محمد الباقر جعفر الصادق وابن جعفر الصادق موسى الكاظم وابن موسى الكاظم علي الرضا وابن علي الرضا محمد الجواد وابن محمد الجواد علي التقي. والحادي عشر حسن العسكري. والثاني عشر ولد حسن العسكري وهو المهدي صاحب الزمان، وهو حي باق إلى أن يجتمع بسيدنا عيسى على ما فيه. فقد قال عبد الله بن سبأ يوما لعلي : أنت أنت، يعني أنت الإله، فنفاه عليّ إلى المدائن وقال: لا تساكني في بلد أبدا. وكان عبد الله بن سبأ هذا يهوديا، كان من أهل صنعاء، وأمه يهودية سوداء، ومن ثم كان يقال له ابن السوداء، وكان أوّل من أظهر سب الشيخين ونسبهما للافتيات على سيدنا علي .
ولما قيل لسيدنا علي لولا أنك تضمر ما أعلن به هذا ما اجترأ على ذلك، فقال علي: معاذ الله أني أضمر لهما ذلك، لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، فأرسل إلى ابن سبأ فأظهر الإسلام في أول خلافة عثمان، وقيل في أول خلافة عمر، وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام وخذلان أهله.
وكان يقول قبل إظهاره الإسلام في يوشع بن نون بمثل ما قال في عليّ. وكان يقول في عليّ إنه حي لم يقتل، وإن فيه الجزء الإلهي، وإنه يجيء في السحاب، والرعد صوته والبرق سوطه، وإنه ينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا كما ملئت جورا وظلما. وعبدالله هذا كان يظهر أمر الرجعة: أي أنه يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى. وكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد، وقد قال الله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وأظهر أمر الوصية: أي أن عليا أوصى له بالخلافة، وكان هو السبب في إثارة الفتنة التي قتل فيها عثمان كما سيأتي.
ومن غلاة الشيعة من قال بألوهية أصحاب الكساء الخمسة: محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين .
ومنهم من قال «بألوهية جعفر الصادق وألوهية آبائه» وهم الحسين وابنه زين العابدين وابن زين العابدين محمد الباقر، وهؤلاء الشيعة موافقون في ذلك لمن يقول بالحلول، وهم الحلاجية أصحاب حسين بن منصور الحلاج. كانوا إذا رأوا صورة جميلة زعموا أن معبودهم حل فيها.
وممن زعم الحلول حتى ادعى الألوهية المقنع عطاء الخراساني، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة ادعى أن الله حل في صورة آدم، ثم في صورة نوح ثم إلى أن حل في صورته هو، فاقتنن به خلق كثير بسبب التمويهات التي أظهرها لهم، فإنه كان يعرف شيئا من السحر والتيرنجيات، فقد أظهر قمرا يراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب. ولما اشتهر أمره ثار عليه الناس وقصدوه ليقتلوه. وجاؤوا إلى القلعة التي كان متحصنا بها. فلما علم ذلك أسقى أهله سما فماتوا ومات، ودخل الناس تلك القلعة فقتلوا من بقي حي بها من أتباعه.
والقول بالاتحاد كفر، فقد قال العز بن عبد السلام: من زعم أن الإله يحل في شيء من أجسام الناس أو غيرهم فهو كافر، وأشار إلى أنه كافر إجماعا من غير خلاف. وأنه لا يجري فيه الخلاف الذي جرى في تكفير المجسمة، ومن ثم ذكر القاضي عياض في الشفاء أن من ادعى حلول الباري في أحد الأشخاص كان كافرا بإجماع المسلمين.
وقول بعض العارفين وهو أبو يزيد البسطامي: سبحاني ما أعظم شأني، وقوله: «إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون. وقوله: وأنا ربي الأعلى، وقوله: أنا الحق وهو أنا وأنا هو: ليس من دعوى الحلول في شيء، وإنما قوله: سبحاني إني أنا الله، محمول على الحكاية: أي قال ذلك على لسان الحق من باب حديث «إن الله تعالى قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده» وقوله أنا ربي الأعلى وأنا الحق الخ. إنما قال ذلك لأنه انتهى سلوكه إلى الله تعالى، بحيث استغرق في بحر التوحيد، بحيث غاب عن كل ما سواه سبحانه، وصار لا يرى في الوجود غيره سبحانه وتعالى، الذي هو مقام الفناء ومحو النفس وتسليم الأمر كله له تعالى، وترك الإرادة منه والاختيار.
فالعارف إذا وصل إلى هذا المقام ربما قصرت عبارته عن بيان ذلك الحال الذي نازله فصدرت عنه تلك العبارة الموهمة للحلول.
وقد اصطلحوا على تسمية هذا المقام الذي هو مقام الفناء بالاتحاد. ولا مشاحة في الاصطلاح لأنه اتحد مراده بمراد محبوبه، فصار المرادان واحدا لفناء إرادة المحب في مراد المحبوب، فقد فني عن هوى نفسه وحظوظها فصار لا يحب إلا الله ولا يبغض إلا الله، ولا يوالي إلا الله، ولا يعادي إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يرجو إلا لله، ولا يستعين إلا بالله فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
وفي كلام سيدي عليّ حيث أطلق القول بالاتحاد في كلام القوم من الصوفية، فمرادهم فناء مرادهم في مراد الحق جل وعلا، كما يقول بين فلان وفلان اتحاد إذا عمل كل منهما على وفق مراد الآخر {ولله المثل الأعلى} هذا كلامه ورضي عنا به، وهذا مقام غير مقام الوحدة المطلقة الخارجة عن دائرة العقل التي ذكر السعد والسيد أن القول بها باطل وضلال: أي لأنه يلزم عليها القول بالجمع بين الضدين.
فقد قال بعض العلماء: حضرة الجمع عبارة عن شهود اجتماع الرب، والعبد في حال فناء العبد، فيكون العبد معدوما موجودا في آن واحد، ولا يدرك ذلك إلا من أشهده الله الجمع بين الضدين، ومن لم يشهد ذلك أنكره. ويجوز أن يكون الجسد للملك متعددا، وعليه فمن الممكن أن يجعل الله لروح الملك قوة يقدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الأبدال، لأنهم يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر مشبها لشبحهم الأصلي يدلا عنه.
وقد ذكر ابن السبكي في الطبقات أن كرامات الأولياء أنواع، وعد منها أن يكون لهم أجساد متعددة، قال: وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال، ومنه قصة قضيب البان وغيره: أي كواقعة الشيخ عبد القادر الطحطوطي نفعنا الله تعالى به.
فقد ذكر الجلال السيوطي أنه رفع إليه سؤال في رجل حلف بالطلاق أن وليّ الله الشيخ عبد القادر الطحطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها، فهل يقع الطلاق على أحدهما! قال: فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبد القادر فسأله عن ذلك، فقال: ولو قال أربعة إني بت عندهم لصدقوا فأتيت أنه لا حنث على واحد منهما لأن تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان.
وقد قيل في الأبدال: إنهم إنما سموا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه، ويقال عالم المثال كما تقدم، فهو عالم متوسط بين عالم الأجساد وعالم الأرواح، فهو ألطف من عالم الأجساد، وأكثف من عالم الأرواح، فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال. قال: وهذا الجواب أولى مما تكلفه بعضهم في الجواب عن جبريل، بأنه كان يندمج بعضه في بعض أي الذي أجاب به الحافظ ابن حجر.
ومما يدل على وجود المثال رؤيته للجنة والنار في عرض الحائط وقول ابن عباس في قوله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربه} بأنه مثل له يعقوب بمصر وهو بالشام.
ومن ذلك ما اشتهر أن الكعبة شوهدت تطوف ببعض الأولياء في غير مكانها. وممن وقع له ذلك أبو يزيد البسطامي والشيخ عبد القادر الجيلي والشيخ إبراهيم المتبولي نفعنا الله تعالى ببركاتهم، ولعل مجيء جبريل على صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر، فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها، إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه.
قال الشيخ الأكبر : دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة، فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد في صورته إعلاما من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال، وهي التي لك عندي، فيكون ذلك بشرى له ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر، فتكون تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحركه ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه، وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة الجميلة، إلا أن يدعي أن من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره، وتكون واقعة سيدنا عمر سابقة على ذلك، لكن تقدم أنه كان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة: أي بالوعيد والزجر فليتأمل.
وفي البرهان للزركشي في التنزيل أي تلقي القرآن طريقان:
أحدهما أن رسول الله انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل: أي لأن الأنبياء يحصل لهم الانسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة الإلهية من غير اكتساب فيما هو أقرب من لمح البصر.
والثاني أن الملك انخلع من الملكية إلى البشرية حتى أخذه رسول الله منه هذا كلامه. والراجح أن المنزّل اللفظ، والمعنى تلقفه جبريل من الله تعالى تلقفا روحانيا، أو أن الله تعالى خلق تلك الألفاظ أي الأصوات الدالة عليها في الجو وأسمعها جبريل، وخلق فيه علما ضروريا أنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى، وأوحاه إليه كذلك، أو حفظه جبريل من اللوح المحفوظ ونزل به.
واعلم أن من حالات الوحي النفث: أي أنه كان ينفث في روعه الكلام نفثا قال: «إن روح القدس» أي المخلوق من الطهارة يعني جبريل «نفث» أي ألقى. والنفث في الأصل: النفخ اللطيف الذي لا ريق معه «في روعي» بضم الراء: أي قلبي «أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» أي عاملوا بالجميل في طلبكم، وتتمته «ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله» أي كالكذب «فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته».
وفي كلام ابن عطاء الله: الإجمال في الطلب يحتمل وجوها كثيرة:
منها أن لا يطلبه مكبا عليه مشتغلا عن الله تعالى به. ومنها أن يطلبه من الله تعالى ولا يعين قدرا ولا وقتا، لأن من طلب وعين قدرا أو وقتا فقد تحكم على ربه وأحاطت الغفلة بقلبه. ومنها أن يطلب وهو شاكر لله إن أعطى، وشاهد حسن اختياره إذا منع.
ومنها أن يطلب من الله تعالى ما فيه رضاه، ولا يطلب ما فيه حظوظ دنياه.
ومنها أن يطلب ولا يستعجل الإجابة. وفي حديث ضعيف «اطلبوا الحوائج بعزة النفس، فإن الأمور تجري بالمقادير».
ومن حالات الوحي أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس: وهي أشد الأحوال عليه: أي لما قيل إنه كان يأتيه في هذه الحالة بالوعيد والنذارة.
أقول: روى الشيخان عن عائشة «أن الحارث بن هشام ، وهو أخو أبي جهل لأبويه، وكان يضرب به المثل في السؤدد حتى قال الشاعر:
أحسبت أن أباك حين تسبني ** في المجد كان الحارث بن هشام
أولى قريش بالمكارم والندى ** في الجاهلية كان والإسلام
أسلم يوم الفتح، وسيأتي أنه استجار في ذلك اليوم بأم هانىء أخت علي بن أبي طالب وأراد عليّ قتله، فذكرت ذلك للنبي فقال: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء» وحسن إسلامه، وشهد حنينا، وكان من المؤلفة كما سيأتي «سأل رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ أي حامله الذي هو جبريل، قال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ، فيقصم ـ بالفاء ـ أي يقلع عني وقد وعيت ما قال» وفي رواية «يأتيني أحيانا له صلصة كصلصلة الجرس، وأحيانا يتمثل لي الملك الذي هو حامل الوحي رجلا» أي يتصور بصورة الرجل. وفي رواية «في صورة الفتي، فيكلمني فأعي ما يقول» وروي أنه في الحالة الثانية ينفلت منه ما يعيه بخلاف الحالة الأولى.
ونص هذه الرواية «كان الوحي يأتيني على نحوين، يأتيني جبريل فيلقيه عليّ كما يلقي الرجل على الرجل، فذلك ينفلت مني. ويأتيني في شيء مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني».
قيل وإنما كان ينفلت منه في الحالة الأولى لشدة تأنسه بحامله، لأنه يأتي إليه في صورة يعهدها ويخاطبه بلسان يعهده، فلا يثبت فيما ألقي إليه بخلافه في الحالة الثانية، لأن سماع مثل هذا الصوت الذي يفزع منه القلب مع عدم رؤية أحد يخاطبه إذا علم أنه وحي اضطر إلى التثبت في ذلك، وقولنا: أي حامله يخالف قول الحافظ ابن حجر حيث ذكر أن قوله مثل صلصة الجرس بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.
وفيه أن ذلك لا يناسب قوله وقد وعيت ما قال، وقول بعضهم: الصلصلة المذكورة هي صوت الملك بالوحي، وقوله: «يأتيني أحيانا له صلصلة كصلصلة الجرس، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا» وكان يجد ثقلا عند نزول الوحي، ويتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان، وربما غط كغطيط البكر محمرة عيناه.
وعن زيد بن ثابت «كان إذا نزل الوحي على رسول الله ثقل لذلك. ومرة وقع فخذه على فخذي، فوالله ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله. وربما أوحي إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينفصم وربما بركت».
أي وجاء «أنه لما نزلت سورة المائدة عليه كان على ناقته فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها».
وفي رواية «فاندق كتف راحلته العضباء من ثقل السورة » ولا يخالفه ما قبله لأنه جاز أن يكون حصل لها ذلك فكان سببا لنزوله ثم رأيت في رواية ما يصرح بذلك.
وجاء «ما من مرة يوحي إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض منه» وعن أسماء بنت عميس «كان رسول الله إذ انزل عليه الوحي يكاد يغشى عليه» وفي رواية «يصير كهيئة السكران».
أقول: أي يقرب من حال المغشي عليه لتغيره عن حالته المعهودة تغيرا شديدا حتى تصير صورته صورة السكران: أي مع بقاء عقله وتمييزه.
ولا ينافي ذلك قول بعضهم: ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا، لأنه يجوز أن يكون مع ذلك على عقله وتمييزه على خلاف العادة، وهذا هو اللائق بمقامه، وحينئذ لا ينتفض وضوؤه.
ثم رأيت صاحب الوفاء قال: فإن قال قائل ما كان يجري عليه من البرحاء حين نزول الوحي هل ينتفض وضوؤه؟
والجواب لا، لأنه كان محفوظا في منامه، تنام عيناه ولا ينام قلبه، فإذا كان النوم الذي يسقط فيه الوكاء لا ينقض وضوؤه فالحالة التي أكرم فيها بالمسارة وإلقاء الهدى إلى قلبه أولى، لكون طباعه فيها معصومة من الأذى هذا كلامه. وما ذكرناه أولى، لما تقرر أن الإغماء أبلغ من النوم فليتأمل.
وفي كلام الشيخ محيي الدين ما يدل على أنه وجميع من يأتيه الوحي من الأنبياء كان إذا جاءه الوحي يستلقي على ظهره حيث قال: سبب اضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي إليهم أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني عن تدبيره، فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده، فرجع إلى أصله وهو لصوقه بالأرض.
وعن أبي هريرة «كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي صدع فيغلف رأسه بالحناء» قيل وهو محمل قول بعض الصحابة إنه كان يخضب بالحناء، وإلا فهو لم يخضب، لأنه لم يبلغ سنا يخضب فيه.
وفيه أنه أمر بالخضاب للشباب، فقد جاء «اختضبوا بالحناء، فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم» وفي مسلم عن أبي هريرة : «كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى ينقضي الوحي» وفي لفظ «كان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة » وفي رواية «كرب لذلك وتربد له وجهه، وغمض عينيه، وربما غط كغطيط البكر».
وعن زيد بن ثابت : «كان إذا نزل على رسول الله السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة، وإذا أنزل عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قدر لينها».
وعن عمر بن الخطاب : «كان إذا نزل على رسول الله الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل».
وذكر الحافظ ابن حجر أن دوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس: أي المتقدم ذكرها، لأن سماع الدوي بالنسبة للحاضرين. والصلصلة بالنسبة إلى النبي، فالراوي شبه بدويّ النحل، والنبي شبه بصلصلة الجرس: أي فالمراد بهما شيء واحد، والله أعلم.
ومن حالاته: أي حالات الوحي أي حامله أنه كان يأتيه على صورته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح.
أقول: فيوحى إليه في تلك الحالة كما هو المتبادر. وفيه أنه جاء عن عائشة وابن مسعود «أن النبي لم ير جبريل على صورته التي خلقه الله عليها إلا مرتين: حين سأله أن يريه نفسه، فقال: وددت أني رأيتك في صورتك: أي وذلك بحراء أوائل البعثة بعد فترة الوحي بالأفق الأعلى من الأرض، وهذه المرة هي المعنية بقوله تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين} وبقوله تعالى {فاستوى وهو بالأفق الأعلى} «طلع جبريل من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب، فخرّ النبي مغشيا عليه، فنزل جبريل في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه» الحديث. والأخرى ليلة الإسراء المعنية بقوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى} وسيأتي الكلام على ذلك.
وفي الخصائص الصغرى: خص برؤيته جبريل في صورته التي خلقه الله عليها: أي لم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا.
وذكر السهيلي أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة الملكية وقوة روحانية، وليست كأجنحة الطير. ولا ينافي ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسدّ ما بين المشرق والمغرب، هذا كلامه فليتأمل.
ولعله لا ينافيه ما تقدم عن الحافظ ابن حجر من أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه.
والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط؟ والله أعلم.
ومن حالات الوحي أي نفسه أي الموحى به لا حامله الذي هو جبريل أن الله تعالى أوحى إليه بلا واسطة ملك؟ بل من وراء حجاب يقظة أو من غير حجاب بل كفاحا، وذلك ليلة المعراج. واسم الإشارة يحتمل أن يكون لنوعين وقع كل منهما ليلة الإسراء.
ويحتمل أن يكون نوعا واحدا، وأن الأول بناء على القول بعدم الرؤية. والثاني بناء على القول بالرؤية. وحينئذ لا يناسب عدّ ذلك نوعين كما فعل الشامي، ومن ثم نسب ابن القيم هذا النوع الثاني لبعضهم كالمتبرىء منه حيث قال: وقد زاد بعضهم مرتبة ثانية، وهي تكليم الله تعالى له كفاحا بغير حجاب هذا كلامه، لأن ابن القيم ممن لا يقول بوجود الرؤية؟ فما زاده بعضهم بناء على القول بوجود الرؤية كما علمت. وحينئذ يكون هذا ليلة المعراج، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا}.
وقول ابن القيم السادسة: أي من حالات الوحي ما أوحاه الله تعالى إليه، وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها، لأن ذلك إنما هو ليلة المعراج بغير واسطة ملك، وهذا محتمل لأن يكون من غير حجاب، وأن يكون من وراء الحجاب، فهي لم تخرج عما تقدم.
وكذا قوله السابعة: أي من حالات الوحي كلام الله تعالى منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم موسى: أي من وراء حجاب، فهي لم تخرج عما تقدم. وحينئذ يكون كلمه في ليلة المعراج بواسطة الملك وكلمه بغير واسطة الملك من وراء حجاب ومشافهة من غير حجاب. وصاحب المواهب نقل عن الولي العراقي كلاما فيه الاعتراض على ابن القيم بغير ما ذكر، والجواب عنه، وأقره مع ما في ذلك الكلام من النظر الظاهر الذي لا يكاد يخفى، والله أعلم.
قال الحافظ السيوطي: وليس في القرآن من هذا النوع: أي مما شافهه به الحق تعالى من غير حجاب شيء فيما أعلم.
نعم يمكن أن يعدّ منه آخر سورة البقرة: أي آمن الرسول إلى آخر الآيات، لأنها نزلت كما في الكامل للهذلي بقاب قوسين.
وروى الديلمي «قيل يا رسول الله أي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك؟ قال آخر سورة البقرة، فإنها من كنز الرحمن من تحت العرش، ولم تترك خيرا في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه» ولعل هذا لا يعارض ما جاء في فضل آية الكرسي من قوله، وقد قيل له: «يا رسول الله أي آية في كتاب الله تعالى أعظم؟ قال آية الكرسي أعظم» وما جاء عن الحسن مرسلا. أفضل القرآن البقرة، وأفضل آية فيه آية الكرسي» وفي رواية أعظم آية فيها آية الكرسي» وفي الجامع الصغير «آية الكرسي ربع القرآن».
ونزل في ذلك الموطن الذي هو قاب قوسين بعض سورة الضحى، وبعض سورة ألم نشرح. قال: «سألت ربي مسألة وودت أني لم أكن سألته، سألت ربي اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، فقال: يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك، وضالا فهديتك، وعائلا فأغنيتك، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا وتذكر معي» انتهى.
أقول: قد يقال لا يلزم من النزول في قاب قوسين أن يكون مشافهة من غير حجاب وقوله: «فقال محمد ألم أجدك إلى آخره» ليس هذا نص التلاوة، وإن هذا ظاهر في أن المتلوّ الدال على ما ذكر نزل قبل ذلك، وأن هذا تذكير به، والله أعلم.
ومن حالات الوحي أنه أوحى إليه بلا واسطة ملك مناما كما في حديث معاذ «أتاني ربي» وفي لفظ «رأيت ربي في أحسن صورة ـ أي خلقة ـ فقال: فيما يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي رب، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماء والأرض» أي وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي ، فهذا علم حاصل ل
ثم رأيت في الإتقان قال: قال الزركشي في البرهان: ينبغي البحث عن تعداد الأسامي هل هو توقيفي أو بما يظهر من المناسبات؟ فإن كان الثاني فيمكن الفطن أن يستخرج من كل سورة معاني كثيرة تقتضي اشتقاق أسمائها وهو بعيد هذا كلامه. ويلزم القول بأنها إنما نزلت في المدينة أن مدة إقامته بمكة كان يصلي بغير الفاتحة. قال في أسباب النزول: وهذا مما لا تقبله العقول: أي لأنه لم يحفظ أنه كان في الإسلام صلاة بغير الفاتحة: أي ويدل لذلك ما رواه الشيخان «لا صلاة لمن يقرأ بفاتحة الكتاب» وفي رواية «لا تجزىء صلاة لا يقرأ فيها الرجل بفاتحة الكتاب» والمراد في كل ركعة، لقوله للمسيىء صلاته «إذا استقبلت القبلة فكبر ثم اقرأ بأم القرآن ثم اقرأ بما شئت» إلى أن قال: «ثم اصنع ذلك ـ أي القراء بأم القرآن ـ في كل ركعة » وجاء على شرط الشيخين «أم القرآن عوض عن غيرها، وليس غيرها منها عوضا» ويدل لذلك أيضا وصف القول بأنها إنما نزلت بالمدينة بأنه هفوة من قائله، لأنه تفرد بهذا القول، والعلماء على خلافه: أي لأن نزولها كان بعد فترة الوحي بعد نزول {يا أيها المدثر} ويلزم على كونها نزلت بعد المدثر أنه صلى بغير الفاتحة في مدة فترة الوحي: أي لأن المدثر نزلت بعد فترة الوحي على ما سيأتي.
وقد يقال: لا ينافيه ما تقدم من أنه لم يحفظ أنه لم يكن في الإسلام صلاة بغير الفاتحة، لجواز أن يراد صلاة من الصلوات الخمس، وما تقدم مما يدل على تعين الفاتحة في الصلاة يجوز أن يكون صدر منه بعد فرض الصلوات الخمس.
وفي الإمتاع إنزال الملك يبشره بالفاتحة وبالآيتين من سورة البقرة، يدل على أنها نزلت بالمدينة.
فقد أخرج مسلم عن ابن عباس قال: «بينما جبريل قاعد عند النبي سمع نغيضا أو صوتا من فوقه فرفع رأسه فقال: هذا باب من السماء فتح اليوم لم يفتح قط إلا اليوم، فنزل منه ملك، فقال هذا ملك نزل إلى الأرض لم ينزل قط إلا اليوم، فسلم وقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما من قبلك: فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة » هذا كلامه فليتأمل وجه الدلالة من هذا على أنه سيأتي عن الكامل للهذلي ما يصرح بأن خواتيم البقرة نزلت عليه ليلة الإسراء بقاب قوسين.
ومما يدل على أن البسملة آية منها نزولها معها أي كما في بعض الروايات، وإلا فالرواية المتقدمة تدل على أنها لم تنزل معها.
ويدل لكون البسملة آية من الفاتحة أيضا ما أخرجه الدارقطني وصححه والبيهقي عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «إذا قرأتم الحمد لله فاقرؤوا بسم الله الرحمن الرحيم: إنها أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني، وبسم الله الرحمن الرحيم إحدى آياتها».
وقد أخرج الدارقطني عن علي أنه سئل عن السبع المثاني فقال: الحمد لله رب العالمين، فقيل له إنما هي ست آيات، فقال: {بسم الله الرحمن الرحيم آية } وقيل لها السبع المثاني، لأنها سبع آيات وتثنى في الصلاة. وقيل المثاني كل القرآن، لأنه يثني فيه صفات المؤمنين والكفار والمنافقين وقصص الأنبياء والوعد والوعيد.
قال بعضهم: والوجه أن يقال المراد بالسبع المثاني السبع الطوال: أي كما أنها المراد بقوله تعالى: {ولقد آتيناك سبعا من المثاني} على ما تقدم، وهي البقرة، وآل عمران، والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والسابعة يونس. وقيل براءة وقيل الكهف.
وعن أم سلمة : «أن النبي عدّ البسملة آية من الفاتحة » وبهذا يعلم ما في تفسير البيضاوي عن أم سلمة من «أنه عدّ بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين آية » فقد ذكر بعض الحفاظ أن هذا اللفظ لم يرد عن أم سلمة، والذي رواه جماعة من الحفاظ عن أم سلمة بألفاظ تدل على أن بسم الله الرحمن الرحيم آية وحدها.
منها أنها ذكرت أن النبي كان يصلي في بيتها، فيقرأ {بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين} وفي رواية عنها «أن النبي كان يقرأ في الصلوات بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين» والاستدلال على أن البسملة آية من الفاتحة بكونها نزلت معها يقتضي أن البسملة ليست آية من {اقرأ باسم ربك} ومن ثم قال الحافظ الدمياطي: نزول اقرأ بدون بسملة يدل على أن البسملة ليست آية من كل سورة، واستدل به: أي بعدم نزولها في أول سورة اقرأ أيضا كما قال الإمام النووي من يقول إن البسملة ليست بقرآن في أوائل السور: أي وإنما أنزلت وكتبت للفصل والتبرك بالابتداء بها، وهذا القول ينسب لقول إمامنا الشافعي في القديم وهو قول قدماء الحنفية.
قال: وجواب المثبتين أي لقرآنيتها في ذلك أنها نزلت في وقت آخر كما نزل باقي السورة: أي سورة اقرأ.
وجوابهم أيضا بأن الإجماع من الصحابة والسلف على إثباتها في مصاحفهم مع مبالغتهم في تجريدها عن كتابة غير القرآن فيها حتى إنهم لم يكتبوا آمين فيها، واستدل أيضا لعدم قرآنيتها في أوائل السور بعدم تواترها في محلها.
ورد بأن عدم تواترها في محلها لا يقتضي سلب القرآنية عنها. وردّ هذا الردّ بأن الإمام الكافيجي قال: المختار عند المحققين من علماء السنة وجوب التواتر: أي في القرآن في محله ووضعه وترتيبه أيضا كما يجب تواتره في أصله: أي وفي الفتوحات: البسملة من القرآن بلا شك عند العلماء بالله، وتكرارها في السورة كتكرار ما تكرر في القرآن من سائر الكلمات، وهو بظاهره يؤيد ما ذهب إليه إمامنا من أنها آية من أول كل سورة، ومحتمل لما قاله السهيلي حيث قال: نقول إنها آية من كتاب الله مقترنة مع السورة.
وفي كلام أبي بكر بن العربي: وزعم الشافعي أنها آية من كل سورة وما سبقه إلى هذا القول أحد، فإنه لم يعدّها أحد آية من سائر السور.
ونقل عن إمامنا الشافعي أنها آية من أول الفاتحة دون بقية السور. فعن الربيع قال: سمعت الشافعي يقول: أول الحمد بسم الله الرحمن الرحيم، وأول البقرة ال?م قال بعضهم: وهو يدل على أن البسملة آية من أول الفاتحة دون بقية السور، فإنها ليست آية من أولها، بل هي آية في أولها إعادة لها وتكريرا لها، وربما يوافق ذلك قول الجلال السيوطي في الخصائص الصغرى: وخص بالبسملة والفاتحة هذا كلامه وكونه خص بالبسملة يخالف قوله في الإتقان عن الدارقطني «إن النبي قال لبعض أصحابه لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم» كما سيأتي، وسيأتي ما فيه.
قيل وإنما تركت البسملة أول براءة لعدم المناسبة بين الرحمة التي تدل عليها البسملة، والتبرىء الذي يدل عليه أول براءة. ورده في الفتوحات، بأنها جاءت في أوائل السور المبدوءة بويل قال: وأين الرحمة من الويل.
وذكر بعضهم أن الأنفال وبراءة سورة واحدة: أي فعن ابن عباس قال: سألت عثمان بن عفان لمَ لم يكتبوا بين براءة والأنفال سطر {بسم الله الرحمن الرحيم}؟ فقال: كانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة، وكانت براءة من آخر ما نزل بالمدينة، وكانت قصتها شبيهة بالأخرى فظننت أنهما سورة واحدة.
وفي كلام بعض المفسرين عن طاوس وعمر بن عبد العزيز. أنهما كانا يقولان: إن الضحى وألم نشرح سورة واحدة، فكانا يقرآنهما في ركعة واحدة ولا يفصلان بينهما ببسم الله الرحمن الرحيم، وذلك لأنهما رأيا أن أولها مشبه لقوله {ألم يجدك يتيما} وليس كذلك، لأن تلك حال اغتمامه بإيذاء الكفار، فهي حال محنة وضيق، وهذه حال انشراح الصدر وتطيب القلب فكيف يجتمعان؟ هذا كلامه.
وذكر أئمتنا أنه يكفي في وجوب الإتيان بالبسملة في الفاتحة في الصلاة الظن المفيد له خبر الآحاد، ولعدم التواتر بذلك لا يكفر من نفي كونها آية من الفاتحة بإجماع المسلمين، وقد جهر بها كما رواه جمع من الصحابة قال ابن عبد البر بلغت عدتهم أحدا وعشرين صحابيا.
وأما ما رواه مسلم عن أنس قال: «صليت مع النبي وأبي بكر وعمر وعثمان فلم أسمع أحدا منهم يقرأ بسم الله الرحمن الرحيم» أجيب عنه بأنه لم نيف إلا السماع، ويجوز أنهم تركوا الجهر بها في بعض الأوقات بيانا للجواز. ويؤيده قول بعضهم: كانوا يخفون البسملة.
وأما ما رواه البخاري وأبو داود والترمذي وغيرهم «أن رسول الله وأبا بكر وعمر كانوا يفتتحون الصلاة بالحمد لله رب العالمين» فمعناه بسورة الحمد لا بغيرها من القرآن. ولا يبعد هذا الحمل ما في رواية عبد الله بن مغفل أنه قال: «سمعني أبي وأنا أقرأ بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أي بني إياك والحدث، فإني صليت مع النبي ومع أبي بكر وعمر فلم أسمع أحدا منهم يقوله، فإذا قرأت فقل الحمد لله رب العالمين، فإنه لما لم يسمع فهم أنهم لم يأتوا بها رأسا، فقال ذلك، وكذا يقال فيما روي «كانوا يقرؤون بسم الله الرحمن الرحيم» فعلى تقدير ثبوت تلك الرواية وصحتها يجوز أن يكون الراوي فهم مما تقدم ترك البسملة فروي بالمعنى فأخطأ.
ومما استدل به على أن البسملة ليست آية من الفاتحة ما جاء عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «قال الله تبارك وتعالى: قسمت الصلاة: ـ أي الفاتحة ـ بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي ولعبدي ما سأل فإذا قال: الحمد لله رب العالمين قال الله تعالى: حمدني عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم قال مجدني عبدي، وإذا قال: مالك يوم الدين، قال: فوّض إليّ عبدي، وإذا قال: إياك نعبد وإياك نستعين، قال: هذه بيني وبين عبد ولعبدي ما سأل، فيقول عبدي: اهدنا الصراط المستقيم» إلى آخرها.
قال أبو بكر بن العربي المالكي: فانتفى بذلك أن تكون بسم الله الرحمن الرحيم آية منها من وجهين: أحدهما أنه لم يذكرها في القسمة. والثاني أنها صارت في القسمة لما كانت نصفين بل يكون ما لله فيها أكثر مما للعبد، لأن بسم الله ثناء على الله تعالى لا شيء للعبد فيه، ثم ذكر أن التعبير بالصلاة عن الفاتحة يدل على أن الفاتحة من فروضها، وأطال في ذلك، وسيأتي في الحديبية أنه كان يكتب: باسمك اللهم موافقة للجاهلية. قيل كتب ذلك في أربعة كتب. وأول من كتبها أمية بن أبي الصلت، فلما أنزل {بسم الله مجراها ومرساها} كتب {بسم الله} ثم لما نزل {ادعوا الله أو ادعوا الرحمن} كتب {بسم الله الرحمن} ثم نزلت {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} كتب {بسم الله الرحمن الرحيم} كذا نقل عن الشعبي «أن النبي لم يكتب {بسم الله الرحمن الرحيم} حتى نزلت سورة النمل» وهذا يفيد أن البسملة لم تنزل قبل ذلك في شيء من أوائل السور، ويؤيده قول السهيلي: ثم كان بعد ذلك: أي بعد نزول {وإنه بسم الله الرحمن الرحيم} ينزل جبريل ببسم الله الرحمن الرحيم مع كل سورة: أي تمييزا لها عن غيرها. وقد ثبت في سواد المصحف الإجماع من الصحابة على ذلك، هذا كلامه، فليتأمل ما فيه، فإنه قد يدل للقول بأن البسملة نزلت أول الفاتحة على ما في بعض الروايات.
ونقل أبو بكر التونسي إجماع علماء كل أمة على أن الله سبحانه وتعالى افتتح جميع كتبه ببسم الله الرحمن الرحيم.
وفي الإتقان عن الدارقطني «أن النبي : قال لبعض الصحابة لأعلمنك آية لم تنزل على نبي بعد سليمان غيري: بسم الله الرحمن الرحيم» وبهذا يعلم ما في الخصائص الصغرى أن البسملة من خصائصه. وقوله: «على نبي بعد سليمان غيري» يشكل عليه أن عيسى بين سليمان وبينه وكتابه الإنجيل وهو من جملة كتب الله المنزلة.
وعن النقاش أن البسملة لما نزلت سبحت الجبال، فقالت قريش: سحر محمدا الجبال قال السهيلي: إن صح ما ذكره فإنما سبحت الجبال خاصة لأن البسملة إنما نزلت على آل داود، وقد كانت الجبال تسبح مع داود، والله أعلم.
ثم لم يلبث ورقة أن توفي. قال سبط ابن الجوزي: وهو آخر من مات في الفترة، ودفن بالحجون فلم يكن مسلما، ويؤيده ما جاء في رواية في سندها ضعف عن ابن عباس أنه مات على نصرانيته. وهذا يدل على أن من أدرك النبوة وصدّق بنبوّته ولم يدرك الرسالة بناء على تأخرها لا يكوم مسلما بل من أهل الفترة، فلما توفي ورقة قال رسول الله: «لقد رأيت القس يعني ورقة في الجنة وعليه ثياب الحرير» أي والقس بكسر القاف: رئيس النصارى، وبفتحها تتبع الشيء ( ).
هذا، وفي القاموس: القس مثلث القاف: تتبع الشيء وطلبه كالتقسس، وبالفتح صاحب الإبل الذي لا يفارقها، ورئيس النصارى في العلم. وفي رواية «أبصرته في بطنان الجنة وعليه السندس» وفي رواية «قد رأيته، فرأيت عليه ثيابا بيضا، وأحسبه ـ أي أظنه ـ لو كان من أهل النار لم تكن عليه ثياب بيض».
أقول: صريح الرواية الثالثة أنه لم يره في الجنة، فقد تعددت الرؤية. وأما الرواية الثانية فلا تخالف الرواية الأولى لأن السندس من أفراد الحرير، فلا دلالة في ذلك على التعدد، والله أعلم. وفي رواية «لا تسبوا ورقة فإني رأيت له جنة أو جنتين ( ) لأنه آمن بي وصدقني»: أي قبل الدعوة التي هي الرسالة، وحينئذ يكون معنى قوله له: «جنة أو جنتين» هيئت له جنة أو جنتان، ولا مانع أن يكون بعض أهل الفترة من أهل الجنة، إذ لو كان مسلما حقيقة بأن أدرك الدعوة وصدّق به لم يقل فيه: «وأحسبه لو كان من أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» وجزم ابن كثير بإسلامه.
قال بعضهم: وهو الراجح عند جهابذة الأئمة: أي بناء على أنه أدرك الدعوة إلى الله تعالى التي هي الرسالة.
ففي الإمتاع أن ورقة مات في السنة الرابعة من المبعث، ويوافقه ما يأتي عن سيرة ابن إسحاق، وعن كتاب الخميس. وحينئذ يكون قوله: «لأنه آمن بي وصدقني» واضحا، لكن ينازع في ذلك قوله: «وأحسبه لو كان أهل النار لم يكن عليه ثياب بيض» وسيأتي عن الذهبي ما يخالفه.
ويخالفه أيضا ما تقدم عن سبط ابن الجوزي أنه من أهل الفترة. وعن يحيى بن بكير قال: سألت جابر بن عبد الله، يعني عن ابتداء الوحي، فقال: لا أحدثك إلا ما حدثنا به رسول الله قال: «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت فنوديت فنظرت عن يميني فلم أر شيئا، فنظرت عن يساري فلم أر شيئا فنظرت من خلفي فلم أر شيئا، فرفعت رأسي فرأيت شيئا بين السماء والأرض» أي وفي رواية «فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي» زاد في رواية «متربعا عليه» وفي لفظ «على عرش بين السماء والأرض» فرعبت منه، فأتيت خديجة فقلت: دثروني دثروني» أي وفي رواية «زملوني زملوني، وصبوا عليّ ماء بارد فدثروني وصبوا عليّ ماء باردا فنزلت هذه الآية {يا أيها المدثر} أي الملتف بثيابه {قم فأنذر وربك فكبر}»، ولم يقل بعد فأنذر وبشر لأنه كما بعث بالنذارة بعث بالبشارة لأن البشارة، إنما تكون لمن آمن ولم يكن أحد آمن قبل، وهذا يدل على أن هذه الآية أول ما نزل: أي قبل اقرأ وأن النبوّة والرسالة مقترنان.
قال الإمام النووي: والقول بأن أول ما نزل {يا أيها المدثر} ضعيف باطل، وإنما نزلت بعد فترة الوحي: أي ومما يدل على ذلك قوله: «فإذا الملك الذي جاءني بحراء» ومما يدل على ذلك أيضا ما في البخاري أن في رواية جابر أنه حدث عن فترة الوحي أي لا عن ابتداء الوحي. فما تقدم من قول بعضهم يعني عن ابتداء الوحي فيه نظر، وكذا في قول الراوي عن جابر «جاورت بحراء، فلما قضيت جواري هبطت» لأن جواره بحراء كان قبل فترة الوحي، إلا أن يقال جابر جاء عنه روايتان: واحدة في ابتداء الوحي، وأخرى في فترة الوحي، وبعض الرواة خلط، فإن صدر الرواية يدل على أن ذلك كان عند ابتداء الوحي، وعجزها بدل على أن ذلك كان في فترة الوحي.
هذا، ويجوز أن يكون جاور بحراء في مدة فترة الوحي. ويؤيد ذلك ما في البيهقي عن مرسل عبيد بن عمير «أنه كان يجاور في كل سنة شهرا وهو رمضان، وكان ذلك في مدة فترة الوحي» وسيأتي الجمع بين الروايات في أول ما نزل. وعن إسماعيل بن أبي حكيم مولى الزبير «أنه حدث عن خديجة أنها قالت لرسول الله : أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال نعم» أي وذلك قبل أن يأتيه بالقرآن: أي بشيء منه، وهو {اقرأ باسم ربك} بناء على أنه أول ما نزل. ولا ينافي ذلك قولها: «هذا الذي يأتيك إذا جاءك» لأن المعنى الذي يتراءى لك إذا رأيته، فجاءه جبريل ، فقال لها رسول الله : يا خديجة، هذا جبريل قد جاءني: أي قد رأيته، لكن سيأتي عن ابن حجر الهيتمي أن ذلك كان بعد البعثة / «قالت: قم يا بن عمي فاجلس على فخذي، فقام رسول الله فجلس على فخذها، قالت: هل تراه؟ قال نعم، قالت، فتحول فاجلس في حجري، فتحول رسول الله فجلس في حجرها، قالت: هل تراه؟ قال نعم، فألقت خمارها ورسول الله جالس في حجرها ثم قالت: هل تراه؟ قال لا، قالت: يا ابن عمي اثبت وأبشر فوالله إنه لملك ما هذا بشيطان» وإلى ذلك أشار صاحب الهمزية بقوله:
وأتاه في بيتها جبرئيل ** ولذي اللب في الأمور ارتياء
أماطت عنها الخمار لتدري ** أهو الوحي أم هو الإغماء
اختفى عند كشفها الرأس جبريـ ** ـل فما عاد أو أعيد الغطاء
استبانت خديجة أنه الكنـ ** ـز الذي حاولته والكيمياء
أي وأتاه. قال ابن حجر: أي بعد البعثة أي النبوة، واجتماعه به في بيتها حامل الوحي جبريل، ولصاحب العقل الكامل في الأحوال التي قد تشتبه استبصار، فبسبب كمال استبصارها أزالت عن رأسها ما يغطى به الرأس لتعلم عين اليقين أن هذا الذي يعرض له هل هو حامل الوحي الذي كان يأتي به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبله أو هو الإغماء الذي هو بعض الأمراض الجائزة عليهم، عليهم الصلاة والسلام.
وفيه أنه ينبغي أن يكون المراد به الإغماء الناشىء عن لمة الجن، فيكون من الكهان لا من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذي قال بسببه لخديجة لقد خشيت على نفسي، وسيأتي أنه كان يعتريه وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن ما كان يعتريه عند نزول الوحي عليه: أي من الإغماء إلى آخره، فبسبب إزالتها ما تغطى به رأسها عنها اختفى فلم يعد إلى أن أعادت غطاء رأسها عليه، فاستبانت: علمت علم اليقين أن ما يعرض له هو الوحي: أي لا الجني، لأن الملك لا يرى الرأس المكشوف من المرأة بخلاف الجني. وشبه الناظم ذلك بالشيء النفيس والأمر العظيم، لأن كلا من الكنز والكيمياء لا يظفر به إلا القليل من الناس لعزتهما.
أقول: وفي الخصائص الكبرى ما يدل لما قلناه من أن أول ما فعلته خديجة كان عند ترائيه له، وقبل اجتماعه به.
وقلو بعضهم إن ذلك من خديجة كان بإرشاد من ورقة؟ فإنه قال لها اذهبي إلى المكان الذي رأى فيه ما رأى، فإذا رآه فتحسري، فإن لم يكن من عند الله لا يراه: أي فتراءى له وهو في بيت خديجة ففعلت، قالت: فلما تحسرت تغيب جبريل فلم يره، فرجعت فأخبرت ورقة، فقال إنه ليأتيه الناموس الأكبر.
وفي فتح الباري أن في سيرة ابن إسحاق أن ورقة كان يمر ببلال وهو يعذب، وذلك يقتضي أنه تأخر إلى زمن الدعوة، وإلى أن دخل بعض الناس في الإسلام: أي وفي كلام صاحب كتاب الخميس في الصحيحين أن البوحي تتابع في حياة ورقة وأنه آمن به، وتقدم أنه الموافق لما في الإمتاع من أنه مات في السنة الرابعة من البعثة، وتقدم أنه مخالف لما تقدم عن سبط ابن الجوزي، ومخالف أيضا لقول الذهبي: الأظهر أنه مات بعد النبوة وقبل الرسالة، أي بناء على تأخرها، ويدل لتأخرها ما تقدم من قول ورقة: «يا ليتني فيها جذع» فقد تقدم أن المراد يا ليتني أكون في زمن الدعوة: أي ومن أدرك النبوة ولم يدرك البعثة لا يكون مسلما، بل هو كما تقدم من أهل الفترة لأن الإيمان النافع عند الله تعالى الذي يصير به الشخص مستحقا لدخول الجنة ناجيا من الخلود في النار التصديق بالقلب، بما علم بالضرورة أنه من دين محمد أي بما أرسل به وإن لم يقر بالشهادتين مع التمكن من ذلك حيث لم يطلب منه ذلك ويمتنع.
وقيل لا بد مع ذلك من الإقرار بالشهادتين للتمكن منه وحيث أدرك الرسالة فقد أسلم، وحينئذ يكون صحابيا.
ونقل بعضهم عن الحافظ ابن حجر أنه في الإصابة تردد في ثبوت الصحبة لورقة بن نوفل قال: لكن المفهوم من كلامه في شرح النخبة ثبوتها، وأنه يفرق بينه وبين بحيرا، بأن ورقة أدرك البعثة، وأنه لم يدرك الدعوة بخلاف بحيرا وهو ظاهر، والتعريف السابق يشمله هذا كلامه.
وتعريفه السابق للصحابي: هو من اجتمع بالنبي مؤمنا. وعبارة شرح النخبة: هل يخرج أي من تعريف الصحابي من لقي النبي مؤمنا به من لقيه مؤمنا بأنه سيبعث ولم يدرك البعثة محل نظر.
ولا يخفى عليك أن ما في شرح النخبة لا يدل لهذا البعض على أنه تقدم أن ابن حجر في الإصابة قال في بحيرا: ما أدري أدرك البعثة أم لا؟
ولا يخفى عليك ما تقدم عن ابن حجر من أن ورقة أدرك البعثة وأنه لم يدرك الدعوة، فإنه يقتضي أن البعثة عبارة عن النبوّة لا عن الرسالة، وأن الرسالة هي الدعوة لا البعثة.
وروى ابن إسحاق عن شيوخه «أنه كان يرقي من العين وهو بمكة قبل أن ينزل عليه القرآن، فلما نزل عليه القرآن أصابه نحو ما كان يصيبه قبل ذلك» هذا يدل على «أنه كان يصيبه قبل نزول القرآن ما يشبه الإغماء بعد حصول الرعدة، وتغميض عينيه، وتربد وجهه، ويغط كغطيط البكر، فقالت له خديجة: أوجه إليك من يرقيك؟ قال: أما الآن فلا» ولم أقف على من كان يرقيه ولا على ما كان يرقى به.
واشتهر على بعض الألسنة أن آمنة، يعني أمه رقت النبي من العين، ولعل مستند ذلك ما تقدم عن أمه أنها لما كانت حاملا به جاءه الملك، وقال لها قولي إذا ولدتيه: أعيذه بالواحد من شر كل حاسد والظاهر أنها قالت ذلك.
وعن أسماء بنت عميس أنها قالت: «يا رسول الله إن ابني جعفر أي ولديها من جعفر بن أبي طالب تصيبهما العين أفنسترقي لهما؟ قال نعم، لو كان شيء سابق القدر لسبقته العين».
فإن قيل بهذه الأمور علم أن جبريل ملك لا جني، فمن أين علم أنه يتكلم عن الله تعالى؟ أجيب بأنه على تسليم أن قول ورقة المذكور وما تقدم عنه لا يفيده العلم، فقد يقال: خلق الله تعالى فيه علما ضروريا بعد ذلك علم به أنه جبريل، وأنه يتكلم عن الله تعالى، كما خلق في جبريل علما ضروريا بأن الموحي إليه هو الله.
وقد ذكر بعض المفسرين أنه كان له عدوّ من شياطين الجن يقال له الأبيض، كان يأتيه في صورة جبريل. واعترض بأنه يلزم عليه عدم الوثوق بالوحي.
وأجيب عنه بمثل ما هنا، وهو أن الله تعالى جعل في النبي علما ضروريا يميز به بين جبريل وبين هذا الشيطان، ولعل هذا الشيطان غير قرينه الذي أسلم.
وفي كلام ابن العماد: وشيطان الأنبياء يسمى الأبيض، والأنبياء معصومون منه، وهذا الشيطان هو الذي أغوى به برصيصا الراهب العابد بعد عبادته خمسمائة سنة، وهو المعنيّ بقوله تعالى: {كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك} هذا كلامه والله أعلم.
وعن ابن عباس عن النبي قال: «كان من الأنبياء من يسمع الصوت: أي ولا يرى مصوّتا، فيكون بذلك نبيا» قال بعضهم: يحتمل أن يكون صوتا خلقه الله تعالى في الجو: أي ليس من جنس الكلام، وخلق لذلك النبي فهم المراد منه عند سماعه.
ويحتمل أن يكون من جنس الكلام المعهود يتضمن كون ذلك الشخص صار نبيا. قال: «وإن جبريل يأتيني فيكلمني كما يأتي أحدكم صاحبه فيكلمه ويبصره من غير حجاب» أي وفي رواية «كنت أراه أحيانا كما يرى الرجل صاحبه من وراء الغربال».
ولا يخفى أن هاتين الحالتين كل منهما حالة من حالات الوحي. وحينئذ إما أن يكون جبريل على صورة دحية الكلبي، وهو بكسر الدال المهملة على المشهور وحكي فتحها، أو على صورة غيره، ومنه ما وقع في حديث عمر «بينما نحن عند رسول الله ذات يوم طلع علينا رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر، لا يرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد» الحديث. ورواية البخاري تدل على أنه لم يعرفه إلا في آخر الأمر، وورد «ما جاءني ـ يعني جبريل ـ في صورة لم أعرفها إلا في هذه المرة ».
وفي صحيح ابن حبان «والذي نفسي بيده ما اشتبه عليّ منذ أتاني قبل مرّته هذه، وما عرفته حتى ولى» وبهذا يعلم ما في كلام الإمام السبكي حيث قسم الوحي إلى ثلاثة أقسام، حيث قال في تائيته:
ولازمك الناموس إما بشكله ** وإما بنفث أو بحلية دحية
فليتأمل قيل وكان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة.
فإن قيل إذا جاء جبريل على صورة الآدمي دحية أو غيره هل هي الروح تتشكل بذلك الشكل؟ وعليه هل يصير جسده الأصلي حيا من غير روح، أو يصير ميتا؟
أجيب بأن الجائي يجوز أن لا يكون هو الروح بل الجسد لأنه يجوز أن الله تعالى جعل في الملائكة قدرة على التطور والتشكل بأي شكل أرادوه كالجن، فيكون الجسد واحدا، ومن ثم قال الحافظ ابن حجر: إن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه. والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط.
وأخذ من ذلك بعض غلاة الشيعة أنه لا مانع ولا بعد أن الحق سبحانه وتعالى يظهر في صورة عليّ وأولاده: أي الأئمة الاثني عشر، وهم الحسن والحسين وابن الحسين زين العابدين وابنه محمد الباقر وابن محمد الباقر جعفر الصادق وابن جعفر الصادق موسى الكاظم وابن موسى الكاظم علي الرضا وابن علي الرضا محمد الجواد وابن محمد الجواد علي التقي. والحادي عشر حسن العسكري. والثاني عشر ولد حسن العسكري وهو المهدي صاحب الزمان، وهو حي باق إلى أن يجتمع بسيدنا عيسى على ما فيه. فقد قال عبد الله بن سبأ يوما لعلي : أنت أنت، يعني أنت الإله، فنفاه عليّ إلى المدائن وقال: لا تساكني في بلد أبدا. وكان عبد الله بن سبأ هذا يهوديا، كان من أهل صنعاء، وأمه يهودية سوداء، ومن ثم كان يقال له ابن السوداء، وكان أوّل من أظهر سب الشيخين ونسبهما للافتيات على سيدنا علي .
ولما قيل لسيدنا علي لولا أنك تضمر ما أعلن به هذا ما اجترأ على ذلك، فقال علي: معاذ الله أني أضمر لهما ذلك، لعن الله من أضمر لهما إلا الحسن الجميل، فأرسل إلى ابن سبأ فأظهر الإسلام في أول خلافة عثمان، وقيل في أول خلافة عمر، وكان قصده بإظهار الإسلام بوار الإسلام وخذلان أهله.
وكان يقول قبل إظهاره الإسلام في يوشع بن نون بمثل ما قال في عليّ. وكان يقول في عليّ إنه حي لم يقتل، وإن فيه الجزء الإلهي، وإنه يجيء في السحاب، والرعد صوته والبرق سوطه، وإنه ينزل بعد ذلك إلى الأرض فيملؤها عدلا كما ملئت جورا وظلما. وعبدالله هذا كان يظهر أمر الرجعة: أي أنه يرجع إلى الدنيا كما يرجع عيسى. وكان يقول: العجب ممن يزعم أن عيسى يرجع إلى الدنيا ويكذب برجعة محمد، وقد قال الله تعالى: {إن الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد} فمحمد أحق بالرجوع من عيسى. وأظهر أمر الوصية: أي أن عليا أوصى له بالخلافة، وكان هو السبب في إثارة الفتنة التي قتل فيها عثمان كما سيأتي.
ومن غلاة الشيعة من قال بألوهية أصحاب الكساء الخمسة: محمد وعليّ وفاطمة والحسن والحسين .
ومنهم من قال «بألوهية جعفر الصادق وألوهية آبائه» وهم الحسين وابنه زين العابدين وابن زين العابدين محمد الباقر، وهؤلاء الشيعة موافقون في ذلك لمن يقول بالحلول، وهم الحلاجية أصحاب حسين بن منصور الحلاج. كانوا إذا رأوا صورة جميلة زعموا أن معبودهم حل فيها.
وممن زعم الحلول حتى ادعى الألوهية المقنع عطاء الخراساني، وذلك في سنة ثلاث وستين ومائة ادعى أن الله حل في صورة آدم، ثم في صورة نوح ثم إلى أن حل في صورته هو، فاقتنن به خلق كثير بسبب التمويهات التي أظهرها لهم، فإنه كان يعرف شيئا من السحر والتيرنجيات، فقد أظهر قمرا يراه الناس من مسافة شهرين من موضعه ثم يغيب. ولما اشتهر أمره ثار عليه الناس وقصدوه ليقتلوه. وجاؤوا إلى القلعة التي كان متحصنا بها. فلما علم ذلك أسقى أهله سما فماتوا ومات، ودخل الناس تلك القلعة فقتلوا من بقي حي بها من أتباعه.
والقول بالاتحاد كفر، فقد قال العز بن عبد السلام: من زعم أن الإله يحل في شيء من أجسام الناس أو غيرهم فهو كافر، وأشار إلى أنه كافر إجماعا من غير خلاف. وأنه لا يجري فيه الخلاف الذي جرى في تكفير المجسمة، ومن ثم ذكر القاضي عياض في الشفاء أن من ادعى حلول الباري في أحد الأشخاص كان كافرا بإجماع المسلمين.
وقول بعض العارفين وهو أبو يزيد البسطامي: سبحاني ما أعظم شأني، وقوله: «إني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدون. وقوله: وأنا ربي الأعلى، وقوله: أنا الحق وهو أنا وأنا هو: ليس من دعوى الحلول في شيء، وإنما قوله: سبحاني إني أنا الله، محمول على الحكاية: أي قال ذلك على لسان الحق من باب حديث «إن الله تعالى قال على لسان عبده سمع الله لمن حمده» وقوله أنا ربي الأعلى وأنا الحق الخ. إنما قال ذلك لأنه انتهى سلوكه إلى الله تعالى، بحيث استغرق في بحر التوحيد، بحيث غاب عن كل ما سواه سبحانه، وصار لا يرى في الوجود غيره سبحانه وتعالى، الذي هو مقام الفناء ومحو النفس وتسليم الأمر كله له تعالى، وترك الإرادة منه والاختيار.
فالعارف إذا وصل إلى هذا المقام ربما قصرت عبارته عن بيان ذلك الحال الذي نازله فصدرت عنه تلك العبارة الموهمة للحلول.
وقد اصطلحوا على تسمية هذا المقام الذي هو مقام الفناء بالاتحاد. ولا مشاحة في الاصطلاح لأنه اتحد مراده بمراد محبوبه، فصار المرادان واحدا لفناء إرادة المحب في مراد المحبوب، فقد فني عن هوى نفسه وحظوظها فصار لا يحب إلا الله ولا يبغض إلا الله، ولا يوالي إلا الله، ولا يعادي إلا لله، ولا يعطي إلا لله، ولا يمنع إلا لله، ولا يرجو إلا لله، ولا يستعين إلا بالله فيكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما.
وفي كلام سيدي عليّ حيث أطلق القول بالاتحاد في كلام القوم من الصوفية، فمرادهم فناء مرادهم في مراد الحق جل وعلا، كما يقول بين فلان وفلان اتحاد إذا عمل كل منهما على وفق مراد الآخر {ولله المثل الأعلى} هذا كلامه ورضي عنا به، وهذا مقام غير مقام الوحدة المطلقة الخارجة عن دائرة العقل التي ذكر السعد والسيد أن القول بها باطل وضلال: أي لأنه يلزم عليها القول بالجمع بين الضدين.
فقد قال بعض العلماء: حضرة الجمع عبارة عن شهود اجتماع الرب، والعبد في حال فناء العبد، فيكون العبد معدوما موجودا في آن واحد، ولا يدرك ذلك إلا من أشهده الله الجمع بين الضدين، ومن لم يشهد ذلك أنكره. ويجوز أن يكون الجسد للملك متعددا، وعليه فمن الممكن أن يجعل الله لروح الملك قوة يقدر بها على التصرف في جسد آخر غير جسدها المعهود مع تصرفها في ذلك الجسد المعهود كما هو شأن الأبدال، لأنهم يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم شبحا آخر مشبها لشبحهم الأصلي يدلا عنه.
وقد ذكر ابن السبكي في الطبقات أن كرامات الأولياء أنواع، وعد منها أن يكون لهم أجساد متعددة، قال: وهذا الذي تسميه الصوفية بعالم المثال، ومنه قصة قضيب البان وغيره: أي كواقعة الشيخ عبد القادر الطحطوطي نفعنا الله تعالى به.
فقد ذكر الجلال السيوطي أنه رفع إليه سؤال في رجل حلف بالطلاق أن وليّ الله الشيخ عبد القادر الطحطوطي بات عنده ليلة كذا فحلف آخر بالطلاق أنه بات عنده تلك الليلة بعينها، فهل يقع الطلاق على أحدهما! قال: فأرسلت قاصدي إلى الشيخ عبد القادر فسأله عن ذلك، فقال: ولو قال أربعة إني بت عندهم لصدقوا فأتيت أنه لا حنث على واحد منهما لأن تعدد الصور بالتخيل والتشكل ممكن كما يقع ذلك للجان.
وقد قيل في الأبدال: إنهم إنما سموا أبدالا لأنهم قد يرحلون إلى مكان ويقيمون في مكانهم الأول شبحا آخر شبيها بشبحهم الأصلي بدلا عنه، ويقال عالم المثال كما تقدم، فهو عالم متوسط بين عالم الأجساد وعالم الأرواح، فهو ألطف من عالم الأجساد، وأكثف من عالم الأرواح، فالأرواح تتجسد وتظهر في صور مختلفة من عالم المثال. قال: وهذا الجواب أولى مما تكلفه بعضهم في الجواب عن جبريل، بأنه كان يندمج بعضه في بعض أي الذي أجاب به الحافظ ابن حجر.
ومما يدل على وجود المثال رؤيته للجنة والنار في عرض الحائط وقول ابن عباس في قوله تعالى: {لولا أن رأى برهان ربه} بأنه مثل له يعقوب بمصر وهو بالشام.
ومن ذلك ما اشتهر أن الكعبة شوهدت تطوف ببعض الأولياء في غير مكانها. وممن وقع له ذلك أبو يزيد البسطامي والشيخ عبد القادر الجيلي والشيخ إبراهيم المتبولي نفعنا الله تعالى ببركاتهم، ولعل مجيء جبريل على صورة دحية كان في المدينة بعد إسلام دحية وإسلامه كان بعد بدر، فإنه لم يشهدها وشهد المشاهد بعدها، إذ يبعد مجيئه على صورة دحية قبل إسلامه.
قال الشيخ الأكبر : دحية الكلبي كان أجمل أهل زمانه وأحسنهم صورة، فكان الغرض من نزول جبريل على سيدنا محمد في صورته إعلاما من الله تعالى أنه ما بيني وبينك يا محمد سفير إلا صورة الحسن والجمال، وهي التي لك عندي، فيكون ذلك بشرى له ولا سيما إذا أتى بأمر الوعيد والزجر، فتكون تلك الصورة الجميلة تسكن منه ما يحركه ذلك الوعيد والزجر هذا كلامه، وهو واضح لو كان لا يأتيه إلا على تلك الصورة الجميلة، إلا أن يدعي أن من حين أتاه على صورة دحية لم يأته على صورة آدمي غيره، وتكون واقعة سيدنا عمر سابقة على ذلك، لكن تقدم أنه كان إذا أتاه على صورة الآدمي يأتيه بالوعد والبشارة: أي بالوعيد والزجر فليتأمل.
وفي البرهان للزركشي في التنزيل أي تلقي القرآن طريقان:
أحدهما أن رسول الله انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملكية وأخذه من جبريل: أي لأن الأنبياء يحصل لهم الانسلاخ من البشرية إلى الملكية بالفطرة الإلهية من غير اكتساب فيما هو أقرب من لمح البصر.
والثاني أن الملك انخلع من الملكية إلى البشرية حتى أخذه رسول الله منه هذا كلامه. والراجح أن المنزّل اللفظ، والمعنى تلقفه جبريل من الله تعالى تلقفا روحانيا، أو أن الله تعالى خلق تلك الألفاظ أي الأصوات الدالة عليها في الجو وأسمعها جبريل، وخلق فيه علما ضروريا أنها دالة على ذلك المعنى القديم القائم بذاته تعالى، وأوحاه إليه كذلك، أو حفظه جبريل من اللوح المحفوظ ونزل به.
واعلم أن من حالات الوحي النفث: أي أنه كان ينفث في روعه الكلام نفثا قال: «إن روح القدس» أي المخلوق من الطهارة يعني جبريل «نفث» أي ألقى. والنفث في الأصل: النفخ اللطيف الذي لا ريق معه «في روعي» بضم الراء: أي قلبي «أن نفسا لن تموت حتى تستكمل أجلها ورزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب» أي عاملوا بالجميل في طلبكم، وتتمته «ولا يحملنكم استبطاء الرزق على أن تطلبوه بمعصية الله» أي كالكذب «فإن ما عند الله لن ينال إلا بطاعته».
وفي كلام ابن عطاء الله: الإجمال في الطلب يحتمل وجوها كثيرة:
منها أن لا يطلبه مكبا عليه مشتغلا عن الله تعالى به. ومنها أن يطلبه من الله تعالى ولا يعين قدرا ولا وقتا، لأن من طلب وعين قدرا أو وقتا فقد تحكم على ربه وأحاطت الغفلة بقلبه. ومنها أن يطلب وهو شاكر لله إن أعطى، وشاهد حسن اختياره إذا منع.
ومنها أن يطلب من الله تعالى ما فيه رضاه، ولا يطلب ما فيه حظوظ دنياه.
ومنها أن يطلب ولا يستعجل الإجابة. وفي حديث ضعيف «اطلبوا الحوائج بعزة النفس، فإن الأمور تجري بالمقادير».
ومن حالات الوحي أنه كان يأتيه في مثل صلصلة الجرس: وهي أشد الأحوال عليه: أي لما قيل إنه كان يأتيه في هذه الحالة بالوعيد والنذارة.
أقول: روى الشيخان عن عائشة «أن الحارث بن هشام ، وهو أخو أبي جهل لأبويه، وكان يضرب به المثل في السؤدد حتى قال الشاعر:
أحسبت أن أباك حين تسبني ** في المجد كان الحارث بن هشام
أولى قريش بالمكارم والندى ** في الجاهلية كان والإسلام
أسلم يوم الفتح، وسيأتي أنه استجار في ذلك اليوم بأم هانىء أخت علي بن أبي طالب وأراد عليّ قتله، فذكرت ذلك للنبي فقال: «قد أجرنا من أجرت يا أم هانىء» وحسن إسلامه، وشهد حنينا، وكان من المؤلفة كما سيأتي «سأل رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ أي حامله الذي هو جبريل، قال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده عليّ، فيقصم ـ بالفاء ـ أي يقلع عني وقد وعيت ما قال» وفي رواية «يأتيني أحيانا له صلصة كصلصلة الجرس، وأحيانا يتمثل لي الملك الذي هو حامل الوحي رجلا» أي يتصور بصورة الرجل. وفي رواية «في صورة الفتي، فيكلمني فأعي ما يقول» وروي أنه في الحالة الثانية ينفلت منه ما يعيه بخلاف الحالة الأولى.
ونص هذه الرواية «كان الوحي يأتيني على نحوين، يأتيني جبريل فيلقيه عليّ كما يلقي الرجل على الرجل، فذلك ينفلت مني. ويأتيني في شيء مثل صوت الجرس حتى يخالط قلبي، فذاك الذي لا ينفلت مني».
قيل وإنما كان ينفلت منه في الحالة الأولى لشدة تأنسه بحامله، لأنه يأتي إليه في صورة يعهدها ويخاطبه بلسان يعهده، فلا يثبت فيما ألقي إليه بخلافه في الحالة الثانية، لأن سماع مثل هذا الصوت الذي يفزع منه القلب مع عدم رؤية أحد يخاطبه إذا علم أنه وحي اضطر إلى التثبت في ذلك، وقولنا: أي حامله يخالف قول الحافظ ابن حجر حيث ذكر أن قوله مثل صلصة الجرس بين بها صفة الوحي لا صفة حامله.
وفيه أن ذلك لا يناسب قوله وقد وعيت ما قال، وقول بعضهم: الصلصلة المذكورة هي صوت الملك بالوحي، وقوله: «يأتيني أحيانا له صلصلة كصلصلة الجرس، وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا» وكان يجد ثقلا عند نزول الوحي، ويتحدر جبينه عرقا في البرد كأنه الجمان، وربما غط كغطيط البكر محمرة عيناه.
وعن زيد بن ثابت «كان إذا نزل الوحي على رسول الله ثقل لذلك. ومرة وقع فخذه على فخذي، فوالله ما وجدت شيئا أثقل من فخذ رسول الله. وربما أوحي إليه وهو على راحلته فترعد حتى يظن أن ذراعها ينفصم وربما بركت».
أي وجاء «أنه لما نزلت سورة المائدة عليه كان على ناقته فلم تستطع أن تحمله، فنزل عنها».
وفي رواية «فاندق كتف راحلته العضباء من ثقل السورة » ولا يخالفه ما قبله لأنه جاز أن يكون حصل لها ذلك فكان سببا لنزوله ثم رأيت في رواية ما يصرح بذلك.
وجاء «ما من مرة يوحي إلي إلا ظننت أن نفسي تقبض منه» وعن أسماء بنت عميس «كان رسول الله إذ انزل عليه الوحي يكاد يغشى عليه» وفي رواية «يصير كهيئة السكران».
أقول: أي يقرب من حال المغشي عليه لتغيره عن حالته المعهودة تغيرا شديدا حتى تصير صورته صورة السكران: أي مع بقاء عقله وتمييزه.
ولا ينافي ذلك قول بعضهم: ذكر العلماء أنه كان يؤخذ عن الدنيا، لأنه يجوز أن يكون مع ذلك على عقله وتمييزه على خلاف العادة، وهذا هو اللائق بمقامه، وحينئذ لا ينتفض وضوؤه.
ثم رأيت صاحب الوفاء قال: فإن قال قائل ما كان يجري عليه من البرحاء حين نزول الوحي هل ينتفض وضوؤه؟
والجواب لا، لأنه كان محفوظا في منامه، تنام عيناه ولا ينام قلبه، فإذا كان النوم الذي يسقط فيه الوكاء لا ينقض وضوؤه فالحالة التي أكرم فيها بالمسارة وإلقاء الهدى إلى قلبه أولى، لكون طباعه فيها معصومة من الأذى هذا كلامه. وما ذكرناه أولى، لما تقرر أن الإغماء أبلغ من النوم فليتأمل.
وفي كلام الشيخ محيي الدين ما يدل على أنه وجميع من يأتيه الوحي من الأنبياء كان إذا جاءه الوحي يستلقي على ظهره حيث قال: سبب اضطجاع الأنبياء على ظهورهم عند نزول الوحي إليهم أن الوارد الإلهي الذي هو صفة القيومية إذا جاءهم اشتغل الروح الإنساني عن تدبيره، فلم يبق للجسم من يحفظ عليه قيامه ولا قعوده، فرجع إلى أصله وهو لصوقه بالأرض.
وعن أبي هريرة «كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي صدع فيغلف رأسه بالحناء» قيل وهو محمل قول بعض الصحابة إنه كان يخضب بالحناء، وإلا فهو لم يخضب، لأنه لم يبلغ سنا يخضب فيه.
وفيه أنه أمر بالخضاب للشباب، فقد جاء «اختضبوا بالحناء، فإنه يزيد في شبابكم وجمالكم ونكاحكم» وفي مسلم عن أبي هريرة : «كان رسول الله إذا نزل عليه الوحي لم يستطع أحد منا يرفع طرفه إليه حتى ينقضي الوحي» وفي لفظ «كان إذا نزل عليه الوحي استقبلته الرعدة » وفي رواية «كرب لذلك وتربد له وجهه، وغمض عينيه، وربما غط كغطيط البكر».
وعن زيد بن ثابت : «كان إذا نزل على رسول الله السورة الشديدة أخذه من الشدة والكرب على قدر شدة السورة، وإذا أنزل عليه السورة اللينة أصابه من ذلك على قدر لينها».
وعن عمر بن الخطاب : «كان إذا نزل على رسول الله الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل».
وذكر الحافظ ابن حجر أن دوي النحل لا يعارض صلصلة الجرس: أي المتقدم ذكرها، لأن سماع الدوي بالنسبة للحاضرين. والصلصلة بالنسبة إلى النبي، فالراوي شبه بدويّ النحل، والنبي شبه بصلصلة الجرس: أي فالمراد بهما شيء واحد، والله أعلم.
ومن حالاته: أي حالات الوحي أي حامله أنه كان يأتيه على صورته التي خلقه الله تعالى عليها له ستمائة جناح.
أقول: فيوحى إليه في تلك الحالة كما هو المتبادر. وفيه أنه جاء عن عائشة وابن مسعود «أن النبي لم ير جبريل على صورته التي خلقه الله عليها إلا مرتين: حين سأله أن يريه نفسه، فقال: وددت أني رأيتك في صورتك: أي وذلك بحراء أوائل البعثة بعد فترة الوحي بالأفق الأعلى من الأرض، وهذه المرة هي المعنية بقوله تعالى: {ولقد رآه بالأفق المبين} وبقوله تعالى {فاستوى وهو بالأفق الأعلى} «طلع جبريل من المشرق فسدّ الأفق إلى المغرب، فخرّ النبي مغشيا عليه، فنزل جبريل في صورة الآدميين وضمه إلى نفسه، وجعل يمسح الغبار عن وجهه» الحديث. والأخرى ليلة الإسراء المعنية بقوله تعالى: {ولقد رآه نزلة أخرى عند سدرة المنتهى} وسيأتي الكلام على ذلك.
وفي الخصائص الصغرى: خص برؤيته جبريل في صورته التي خلقه الله عليها: أي لم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا نبينا.
وذكر السهيلي أن المراد بالأجنحة في حق الملائكة صفة الملكية وقوة روحانية، وليست كأجنحة الطير. ولا ينافي ذلك وصف كل جناح منها بأنه يسدّ ما بين المشرق والمغرب، هذا كلامه فليتأمل.
ولعله لا ينافيه ما تقدم عن الحافظ ابن حجر من أن تمثل الملك رجلا ليس معناه أن ذاته انقلبت رجلا، بل معناه أنه ظهر بتلك الصورة تأنيسا لمن يخاطبه.
والظاهر أن القدر الزائد لا يزول ولا يفنى، بل يخفى على الرائي فقط؟ والله أعلم.
ومن حالات الوحي أي نفسه أي الموحى به لا حامله الذي هو جبريل أن الله تعالى أوحى إليه بلا واسطة ملك؟ بل من وراء حجاب يقظة أو من غير حجاب بل كفاحا، وذلك ليلة المعراج. واسم الإشارة يحتمل أن يكون لنوعين وقع كل منهما ليلة الإسراء.
ويحتمل أن يكون نوعا واحدا، وأن الأول بناء على القول بعدم الرؤية. والثاني بناء على القول بالرؤية. وحينئذ لا يناسب عدّ ذلك نوعين كما فعل الشامي، ومن ثم نسب ابن القيم هذا النوع الثاني لبعضهم كالمتبرىء منه حيث قال: وقد زاد بعضهم مرتبة ثانية، وهي تكليم الله تعالى له كفاحا بغير حجاب هذا كلامه، لأن ابن القيم ممن لا يقول بوجود الرؤية؟ فما زاده بعضهم بناء على القول بوجود الرؤية كما علمت. وحينئذ يكون هذا ليلة المعراج، وعلى هذا جاء قوله تعالى: {وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا}.
وقول ابن القيم السادسة: أي من حالات الوحي ما أوحاه الله تعالى إليه، وهو فوق السماوات من فرض الصلوات وغيرها، لأن ذلك إنما هو ليلة المعراج بغير واسطة ملك، وهذا محتمل لأن يكون من غير حجاب، وأن يكون من وراء الحجاب، فهي لم تخرج عما تقدم.
وكذا قوله السابعة: أي من حالات الوحي كلام الله تعالى منه إليه بلا واسطة ملك كما كلم موسى: أي من وراء حجاب، فهي لم تخرج عما تقدم. وحينئذ يكون كلمه في ليلة المعراج بواسطة الملك وكلمه بغير واسطة الملك من وراء حجاب ومشافهة من غير حجاب. وصاحب المواهب نقل عن الولي العراقي كلاما فيه الاعتراض على ابن القيم بغير ما ذكر، والجواب عنه، وأقره مع ما في ذلك الكلام من النظر الظاهر الذي لا يكاد يخفى، والله أعلم.
قال الحافظ السيوطي: وليس في القرآن من هذا النوع: أي مما شافهه به الحق تعالى من غير حجاب شيء فيما أعلم.
نعم يمكن أن يعدّ منه آخر سورة البقرة: أي آمن الرسول إلى آخر الآيات، لأنها نزلت كما في الكامل للهذلي بقاب قوسين.
وروى الديلمي «قيل يا رسول الله أي آية في كتاب الله تحب أن تصيبك وأمتك؟ قال آخر سورة البقرة، فإنها من كنز الرحمن من تحت العرش، ولم تترك خيرا في الدنيا والآخرة إلا اشتملت عليه» ولعل هذا لا يعارض ما جاء في فضل آية الكرسي من قوله، وقد قيل له: «يا رسول الله أي آية في كتاب الله تعالى أعظم؟ قال آية الكرسي أعظم» وما جاء عن الحسن مرسلا. أفضل القرآن البقرة، وأفضل آية فيه آية الكرسي» وفي رواية أعظم آية فيها آية الكرسي» وفي الجامع الصغير «آية الكرسي ربع القرآن».
ونزل في ذلك الموطن الذي هو قاب قوسين بعض سورة الضحى، وبعض سورة ألم نشرح. قال: «سألت ربي مسألة وودت أني لم أكن سألته، سألت ربي اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، فقال: يا محمد ألم أجدك يتيما فآويتك، وضالا فهديتك، وعائلا فأغنيتك، وشرحت لك صدرك، ووضعت عنك وزرك، ورفعت لك ذكرك، فلا أذكر إلا وتذكر معي» انتهى.
أقول: قد يقال لا يلزم من النزول في قاب قوسين أن يكون مشافهة من غير حجاب وقوله: «فقال محمد ألم أجدك إلى آخره» ليس هذا نص التلاوة، وإن هذا ظاهر في أن المتلوّ الدال على ما ذكر نزل قبل ذلك، وأن هذا تذكير به، والله أعلم.
ومن حالات الوحي أنه أوحى إليه بلا واسطة ملك مناما كما في حديث معاذ «أتاني ربي» وفي لفظ «رأيت ربي في أحسن صورة ـ أي خلقة ـ فقال: فيما يختصم الملأ الأعلى يا محمد؟ قلت: أنت أعلم أي رب، فوضع كفه بين كتفي فوجدت بردها بين ثديي، فعلمت ما في السماء والأرض» أي وفي كلام الشيخ محيي الدين بن العربي ، فهذا علم حاصل ل
مواضيع مماثلة
» باب بدء الوحي له
» عدد كتاب الوحي،
» نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء
» الوحي" منتديات ملتقى الدعاه"
» لا تؤذيني في عائشة فإن الوحي لم ينزل علي
» عدد كتاب الوحي،
» نزول الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم في غار حراء
» الوحي" منتديات ملتقى الدعاه"
» لا تؤذيني في عائشة فإن الوحي لم ينزل علي
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin