[size=24][size=16]الحمد لله و الصلاة والسلام على رسول الله نبينا محمد و على آله وصحبه و سلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين ، ثم أما بعد :-
أحبتي في الله : موعدنا اليوم مع حديث من أحاديث المصطفى صلوات ربي وسلامه
عليه ، حديث من أحاديث الفتن و أشراط الساعة ، ألا وهو حديث انحسار الفرات
عن جبل من ذهب ، ولاشك أن الذي يحدث في العراق اليوم بداية لتحقق هذه
النبوءة الكبيرة ، حيث لم يبقى سوى انحسار الفرات عن ذلك الكنز و ذلك الجبل
حتى تبدأ معها أحداث أخرى ..
روى البخاري في صحيحه في كتاب الفتن ( 8 / 100 ) باب خروج النار ، و مسلم
في كتاب الفتن ( برقم 2894 ) باب لا تقوم الساعة حتى يحسر الفرات عن جبل من
ذهب ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
لا تقوم الساعة حتى يُحْسَر الفرات عن جبل من ذهب يقتتل الناس عليه ،
فيقتل من كل مائة تسعة وتسعون ، فيقول كل رجل منهم : لعلي أكون أنا أنجو .
و في رواية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يوشك الفرات أن يحسر
عن كنز من ذهب فمن حضره فلا يأخذ منه شيئاً . نفس المراجع السابقة ، ورواه
أيضاً أبو داود ( برقم 4313 ) والترمذي ( برقم 2572 ) .
و عن عبد الله بن الحارث بن نوفل رضي الله عنه قال : كنت واقفاً مع أبي بن
كعب ، فقال : لا يزال الناس مختلفة أعناقهم في طلب الدنيا ؟ قلت : أجل ،
قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : يوشك الفرات أن ينحسر
عن جبل من ذهب ، فإذا سمع به الناس ساروا إليه ، فيقول من عنده : لئن
تركنا الناس يأخذون منه ليذهبن به كله ، قال : فيقتتلون عليه ، فيقتل من كل
مائة تسعة و تسعون . مسلم ( برقم 2895 ) .
و عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا
تذهب الدنيا حتى ينجلي فراتكم عن جزيرة من ذهب ، فيقتتلون عليه ، فيقتل من
كل مائة تسعة و تسعون . رواه حنبل بن إسحاق في كتابه الفتن ( ص 216 ) بسند
صحيح .
أخرج هذا الحديث بالإضافة إلى الإمامين البخاري و مسلم ، كل من عبدالرزاق
في مصنفه ( 11/ 382 ) عن أبي هريرة ، و الإمام أحمد في مسنده ( 2 / 306 )
عن معمر ، و في ( 2 /332 ) من طريق زهير ، و كذلك في ( 5 /139 140 ) عن
طريق كعب . وأبو داود في سننه ( 4/ 493) والترمذي في سننه ( 4 / 699 ) ،
وابن ماجة في سننه ( 2 / 1343 ) . كما أورده كل من الإمام أبي عمرو الداني
في كتابه السنن الواردة في أكثر من موضع . وأيضاً أورده الإمام الحافظ نعيم
بن حماد في الفتن في أكثر من موضع ، و أورده ابن كثير في كتابه النهاية في
الفتن والملاحم .
و قد جاءت ألفاظ أخرى شاذة للحديث المذكور ، وهي : ليحسرن الفرات عن جبل من
ذهب حتى يقتتل عليه الناس ، فيقتل من كل عشرة تسعة . أخرجه ابن ماجة في
سننه ( 2 / 1343 ) ، والإمام أحمد في مسنده ( 2 / 261 ، 346 ، 415 ) . قال
البوصيري : إسناده صحيح و رجاله ثقات : زوائد ابن ماجة ( 2 / 306 ) . و
الحديث أورده الحافظ في الفتح ( 13 / 81 ) ، و قال : و هي رواية شاذة ،
والمحفوظ ما تقدم من حديث أبي هريرة عند مسلم ، و شاهد من حديث أبي بن كعب :
من كل مائة تسعة و تسعون . و قال الألباني عنه : حسن صحيح دون قوله : من
كل عشرة تسعة ، فإنه شاذ . صحيح ابن ماجة ( 2 / 377 ) .
و كذلك وردت رواية أخرى عند نعيم بن حماد في الفتن ( برقم 921 ) من طريق
آخر عن يحيى بن أبي عمرو عن أبي هريرة مرفوعاً ، و فيه : من كل تسعة سبعة ،
و هو منقطع لأن يحيى روايته عن الصحابة مرسلة ، كما في التقريب ( ص 378 ) ،
و شيخ نعيم مبهم .
شرح الحديث :-
أولاً : تعريف نهر الفرات : هو
بالضم ثم التخفيف ، و آخره تاء مثناة من فوق ، والفرات في أصل كلام العرب
أعذب المياه ، و مخرج الفرات فيما زعموا من أرمينية ثم من قاليقلا قرب خلاط
و يدور بتلك الجبال حتى يدخل أرض الروم إلى ملطية ، و يصب فيها أنهاراً
صغار ، ثم يمر بالرقة ثم يصير أنهاراً لتسقي زروع السواد بالعراق ، و يلتقي
بدجلة قرب واسط ، فيصيران نهراً واحداً عظيماً يصب في بحر الهند الخليج
العربي - ، أنظر : معجم البلدان ( 4 / 241 242 ) .
ثانياً : الكلام على المعنى الإجمالي للحديث :
يقول الإمام
النووي رحمه الله - في معنى انحسار الفرات : ومعنى انحساره ، انكشافه لذهاب
مائه ، وقد يكون بسبب تحول مجراه ، فإن هذا الكنز أو هذا الجبل مطمور
بالتراب ، و هو غير معروف ، فإذا ما تحول مجرى النهر لسبب من الأسباب ، و
مر قريباً من هذا الجبل كشفه ، و الله أعلم بالصواب . أهـ . شرح صحيح مسلم (
18 / 98 ) .
يقول الحافظ ابن حجر عن سبب تسميته بالكنز ، في الحديث الأول ، و عن سبب
تسميته بجبل من ذهب في الحديث الثاني : و سبب تسميته كنزاً باعتبار حاله
قبل أن ينكشف ، و تسميته جبلاً للإشارة إلى كثرته . الفتح ( 13 / 80 ) .
أما معنى أن يقتتل عليه الناس فيقتل من كل مائة تسعة و تسعون و لا ينجو إلا
واحد ، الظاهر من معنى هذا الحديث أن القتال يقع بين المسلمين أنفسهم ،
لأن قتال المسلمين مع أعدائهم من يهود ونصارى وغيرهم يسمى ملاحم .
ثالثاً : بيان زمن حدوث ذلك :
و قد اختلف
الأئمة في تحديد زمن حدوث ذلك ، فذهب الإمام البخاري إلى أنه يقع مع خروج
النار ، و يظهر ذلك من صنيعه أي من صنيع الإمام البخاري - ، إذ أدخل حديث
حسر الفرات تحت باب خروج النار ، و أورد حديث أبي هريرة و حارثة بن وهب و
لفظ حديث حارثة هو : تصدقوا ، فسيأتي عليكم زمان يمشي الرجل بصدقته ، فيقول
الذي يأتيه بها : لو جئت بها بالأمس ؛ لقبلتها فأما الآن فلا حاجة لي بها
فلا يجد من يقبلها عقب الباب المذكور مباشرة تحت باب لم يترجم له بشيء ،
مما يدل على أنه متعلق به ، فهو كالفصل منه ، و من ثم يؤخذ السبب في عدم
قبول الناس ما يعرض عليهم من الأموال ، و كذلك سبب النهي عن أخذ شيء مما
يحسر عنه الفرات ، و هو انشغالهم بأمر الحشر ، بحيث لا يلتفت أحد منهم إلى
المال بل يقصد أن يتخفف منه ما استطاع . الفتح ( 13 / 81 82 ) .
و ذهب الحليمي في المنهاج في شعب الإيمان إلى أنه يقع في زمن عيسى بن مريم
عليهما السلام ، فإنه ذكر حديث حسر الفرات ثم قال : فيشبه أن يكون هذا
الزمان الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المال يفيض فيه فلا يقبله
أحد ، و ذلك في زمان عيسى عليه السلام ، و لعل سبب هذا الفيض العظيم ذلك
الجبل مع ما يغنمه المسلمون من أموال المشركين ، والله أعلم . المنهاج ( 1 /
430 ) .
و ذكر القرطبي نفس كلام الحليمي و أقره على ذلك ، أنظر التذكرة ( ص 750 ) .
و هناك حديث يؤيد هذا القول ، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة
مرفوعاً ، و فيه : والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً
عدلاً .. .. إلى أن قال : و يفيض المال حتى لا يقبله أحد . البخاري كتاب
الأنبياء باب نزول عيسى عليه السلام ( 6 / 490 191 ) .
أما ابن حجر فإنه لم يحدد لحديث حسر الفرات عن جبل من ذهب زمن معين ، لكنه
ذكر ما ذهب إليه البخاري من أنه يقع عند الحشر ، و ذلك أثناء تعرضه لبيان
الحكمة التي لأجلها نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الأخذ منه ، و قد عد
ذلك أي حسر الفرات عن جبل من ذهب صاحب الإشاعة ، من الأمارات التي تدل على
قرب خروج المهدي . الإشاعة ( ص 91 ) ، و الذي دفعه إلى القول بذلك ما رواه
ابن ماجة من حديث ثوبان مرفوعاً : يقتتل عند كنزكم ثلاثة ، كلهم ابن خليفة .
ثم ذكر الحديث في المهدي ، فإن كان المراد بالكنز الذي في حديث أبي هريرة ،
دل على أنه إنما يقع عند ظهور المهدي قبل نزول عيسى و خروج النار ، و لكن
ليس هناك ما يعين ذلك . الفتح ( 13 / 81 ) .
و يبدو لي والله أعلم أن الأنسب حمل هذه الأحاديث على محمل واحد و هو أن
ذلك يقع بعد نزول عيسى عليه السلام ، حين تخرج الأرض بركتها حتى تشبع
الرمانة الواحدة أهل البيت كلهم ، ولا يبقى في الأرض كافر ، كما جاء في
حديث النواس . ( مسلم ( 4 / 2250- 2255 ) ، في سياق طويل عن قصة الدجال و
يأجوج و مأجوج ونزول عيسى عليه السلام ) .
رابعاً : سبب النهي عن أخذ شيء منه :
أما الحكمة
التي لأجلها ورد النهي عن الأخذ من ذلك الجبل الذي يحسر عنه الفرات ، فقد
ذكر العلماء في بيان الحكمة من ذلك عدة أسباب :-
1 - أن النهي لتقارب الأمر و ظهور أشراطه ، فإن الركون إلى الدنيا والاستكثار منها مع ذلك جهل واغترار .
2 - أن النهي عن أخذه لما ينشا عنه من الفتنة والاقتتال عليه .
3 -
لأنه لا يجري به مجرى المعدن ، فإذا أخذه أحدهم ثم لم يجد من يخرج حق الله
إليه لم يوفق بالبركة من الله تعالى فيه ، فكان الانقباض عنه أولى . ذكره
الحليمي احتمالاً في المنهاج ( 1/ 430 )
4 -
إنما نهى عن الأخذ منه أنه للمسلمين فلا يؤخذ إلا بحقه ، ذكره ابن التين ،
وقال كما حكى عنه الحافظ ابن حجر : و من أخذه و كثر المال ندم لأخذه ما لا
ينفعه ، و إذا ظهر جبل من ذهب ، كَسَدَ الذهب ، و يبدو أن الإمام البخاري
ذهب إلى اختيار القول الأول ، إذ أورد هذا الحديث تحت باب خروج النار مما
يوحي بأنه يرى أن النهي عن الأخذ ورد لأنه عند الحشر و مع خروج النار ، وهو
وقت انشغال الناس بأمر الحشر ، فإذا أخذ منه أحد لا يستفيد منه سوى الندم .
و ذهب القرطبي إلى اختيار القول الثاني ، و قال : و هو الذي يدل عليه
الحديث . التذكرة ( ص 750 ) . كذلك ذهب إلى اختياره الحافظ ابن حجر واستدل
بحديث أبي بن كعب مرفوعاً : يوشك أن يحسر الفرات عن جبل من ذهب ... ، و ذكر
الحديث . و بهذا الحديث أبطل ما ذهب إليه ابن التين ، و قال : إنما يتم ما
زعم من الكساد لو اقتسمه الناس بينهم بالتسوية و وسعهم كلهم ، فاستغنوا
أجمعين ، فحينئذ تبطل الرغبة فيه ، و أما إذا حواه قوم دون قوم ، فحال من
لم يحصل له منه شيء باق على حاله ، و عَقّبَ على القول بأن النهي ورد لكونه
يقع مع خروج النار ، فقال : ولا مانع أن يكون عند خروج النار للحشر ، لكن
ليس ذلك السبب في النهي عن الأخذ منه والله أعلم . الفتح ( 13 / 81 ) .
خامساً : شبهة والرد عليها :
و ذهب بعض
المتأخرين محمد فهيم أبو عبية في تحقيقه لكتاب الفتن والملاحم لأبن كثير -
في حسر الفرات ، إلى معناه حسره عن الذهب البترولي الأسود .
الجواب : و ليس المقصود بهذا الجبل من ذهب النفط أو البترول الأسود ، و ذلك من وجوه :-
1- أن النص جاء فيه جبل من ذهب نصاً لا يحتمل التأويل ، والبترول ليس بذهب على الحقيقة فإن الذهب هو المعدن المعروف .
2- أن
النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن ماء النهر ينحسر عن جبل من ذهب ، فيراه
الناس ، و النفط أو البترول يستخرج من باطن الأرض بالآلات من مسافات بعيدة .
3 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم خص الفرات بهذا دون غيره من البحار والأنهار ،
والنفط نراه يستخرج من البحار كما يستخرج من الأرض ، و في أماكن كثيرة
متعددة .
4 -
أن النبي صلى الله عليه وسلم أخبر أن الناس سيقتتلون عند هذا الكنز ، و لم
يحصل أنهم اقتتلوا عند خروج النفط من الفرات أو غيره ، بل إن النبي صلى
الله عليه وسلم نهى من حضر هذا الكنز أن يأخذ منه شيئاً ؛ كما هي الرواية
الأخرى عن أبي بن كعب رضي الله عنه ، ومن حمله على النفط ، فإنه يلزمه على
قوله هذا النهي عن الأخذ من النفط ، ولم يقل به أحد . أنظر : إتحاف الجماعة
( 2 / 185 186 ) فقد ذكر الشيخ حمود التويجري وجوهاً كثيرة للرد على هذه
الشبهة [/size].
[/size]