هذه المرة هنا إشكال ولكن مع جوابه.
سأل سائل: هل لديك دليل من القرآن ، فقط من القرآن، على أن في طاقة البشر أن يحفظوا وحي الله المنزل من الضياع والتحريف؟
الجواب: نعم، الدليل هو قوله تعالى (إنا انزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا والربانيون والأحبار بما استحفظوا من كتاب الله وكانوا عليه شهداء) ، فالتوارة وحي الله المنزل على بني إسرائيل والاية واضحة وصريحة أنهم "استحفظوا" ، والسين والتاء هنا للطلب كما هو معلوم في اللغة، أي طُلب منهم أن يحفظوا وحي الله ويكونوا عليه شهداء، ولو كان هذا مستحيلاً أو لا طاقة لهم به، لكن هذا من العبث الذي ينزه عنه الله تعالى، ولم يكن الله ليكلّف عباده أمراً ممتنع في ذاته ثم يذمهم عليه ويحاسبهم به، لأنه قال (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها) ، فصح بالدليل من القرآن أن حفظ الوحي في وسع البشر لأن الله كلّف بني إسرائيل ذلك، فكل ما كلّف الله به فهو في وسع البشر، ولكن سبب ضياع الوحي وتعرضه للتحريف جاء من جهة إهمالهم وخيانتهم، لا من جهة كون الوحي يحتاج دائماً إلى حفظ خاص من الله تعالى، إذ لو كان الأمر كذلك لما استحفظهم من أول الأمر لأن الله كما أخبر عن نفسه (بعباده خبير بصير). فمن مجموع ما سبق يقال: السنة وحي يمكن حفظه ونقله ، لا يمتنع ذلك بل ولم يمتنع ذلك، ولكن قد يقول قائل: إذا كانت السنة وحياً فهل نقلت إلينا كلها، لم يترك منها شيء؟ فيقال: بيننا وبينك القرآن الذي ارتضيته حكماً - ونعم بكلام الله حكماً - ففيه أن الله قد يوحي بوحي فيذهب بما يشاء منه ويبقي ما يشاء ، قال تعالى (سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله) ، وقال (ما ننسخ من آية أو ننسيها) ، فإذا كان يجوز أن يُنسي الله محمداً وأمته من بعده شيئاً من قرآنه ، بعد أن عرفوه وتلوه ، فالسنة كذلك من باب أولى يجوز عليها ما جاز على القرآن، فلا يبقى مع الأمة من القرآن والسنة إلا ما تحتاج إليه ، وتحتكم به، وما سوى ذلك مما علم الله أن الأمة ليست بحاجة إليه أو فيه فتنة لها أو للناس و غير ذلك، فقد أنساهم الله إياه، وكون الله قادر على أن ينسي عباده ما يشاء هو أمر مقرر في القرآن، فإن الله يتحكم في جميع حالات الإنسان النفسية قال تعالى (وأنه هو أضحك وأبكى) وهذه من ألزم الخصائص النفسية للإنسان ، فكذلك النسيان، يُنسي الله من يشاء ويذكّر الله من يشاء، لذلك قال الله عن وظيفة نبيه (فذكّر إنما أنت مذكّر) ، والشاهد أن القرآن نفسه دل أن في مقدور البشر حفظ وصون الوحي متى أخلصوا وصدقوا ، والوحي ليس له صورة واحدة فقد يكون بكتاب وقد يكون علماً بغير كتاب، فما نطق به الرسول مما هو تشريع فهو وحي وإن لم يجيء في القرآن ، والأدلة على ذلك من القرآن يمكن أن تفرد في موضوع طويل مستقل.
رد باقتباس