بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 11 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 11 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
موقف المنافقين من الجهاد
صفحة 1 من اصل 1
موقف المنافقين من الجهاد
الاستاذ الدكتور/ عبد الستار فتح الله سعيد
فلهذه المحاضرة عناصر تبدأ أولاً بالتمهيد عن الجهاد الإسلامي وأقسامه، وليس موضوعنا الحديث عن الجهاد الإسلامي في ضوء القرآن؛ لأنه موضوعٌ كبيرٌ واسع النطاق، جدير بأن يفرد بالبحث والنظر، ولكننا نذكره هنا بإيجاز لبيان موقف المنافقين منه، ولبيان ردود القرآن عليهم، وهي طويلة مستفيضة، بل تمثل واحدة من أخطر قضايا القرآن وموضوعاته.
والجهاد مصطلحٌ إسلاميٌّ معناه: بذل الجهد وإفراغ الوسع في سبيل الله -عز وجل- وهذا معنى شامل يضم ثلاثة أقسام:
وهذا ميدانٌ أساسيٌّ في دين الله تعالى يقوم على التزام الإيمان، الذي فصّله القرآن وبُعِثَ به محمدٌ ^ وهذا يستوجب الجهاد النفسي الطويل لاكتساب التزكية الأخلاقية، وللتطهر من أدران الجاهلية، ولإفراد الله تعالى وحده بالعبادة والطاعة، وقال تعالى في ذلك: ]والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[(العنكبوت: 69) وهذه آية مكية في آخر سورة العنكبوت ذكرت الجهاد قبل أن يفرض جهاد السلاح؛ لأن المراد جهاد النفس والتربية، والصبر الطويل في سبيل الله -عز وجل.
وهو جهادٌ يقوم على الفهم، والعلم، والتطبيق، والعمل الشامل، ثم دعوة الناس إلى هذا الحق قدر الوسع والاجتهاد،في بلاغ حقائق الدين الإلهي التي قررها الله لعباده في كتابه الكريم، كما قال تعالى في سورة الفرقان: ]فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[(الفرقان: 52) والمراد الجهاد بالقرآن، وقال بعض المفسرين معنى ]جِهَادًا كَبِيرًا[ أي: عظيمًا تامًّا لا يخالطه فتور، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف، والمجاهدة تكون باللسان وباليد، وفي الحديث: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم))الحديث رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم -والله تعالى أعلم.
وهو الجهاد الحربي الذي فرضه الله تعالى على المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، وبعد احتمال المسلمين احتمالًا باهظًا لإيذاء المشركين في مكة ثلاثة عشر عامًا، شُرِّدَ فيها المسلمون إلى الحبشة تارة، وإلى البوادي، ثم إلى المدينة، حيث هيأ الله تعالى لهم دارًا تحميهم وأنصارًا من الأوس والخزرج، ولكن العرب رمتهم عن قوس واحدة بقيادة زعماء الشرك في مكة، ثم انضم إليهم اليهود بقوتهم، وحصونهم، وأموالهم، وغدرهم المشهور، ونقضهم العهود، واحترافهم الجدل الديني لهدم الإسلام.
وفي هذا الجو العاصف فرض الله تعالى جهاد الحرب والسلاح دفعًا للظلم، وكفًّا للعدوان، وردعًا للوحوش المتربصة بالدين الجديد وبرسوله وأتباعه أجمعين قال تعالى: ]أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ$ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله[(الحج: 39، 40) وقال تعالى: ]وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[(البقرة:190(
وحين انتصر المسلمون في معركة بدر الكبرى التي وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، ظهر أنهم قوة بازغة يخشى الناس بأسها، فدخل كثير من الناس في الإسلام خوفًا أو طمعًا، ومن هنا نشأت حركة النفاق والمنافقين، وأصبحوا بمرور الوقت عدوًا ثالثًا من داخل المسلمين أنفسهم، وأصبحت فريضة الجهاد الحربي وما تمثله من أعباء الصدام والخروج للغزوات والسرايا، وما تخلّفه من جرحى وشهداء، وما تتطلبه من نفقات وأموال وأسفار، أصبح كل ذلك محكًّا دائمًا لاختبار المسلمين، وتكليفًا ثقيلًا على نفوس المنافقين، وفضحًا دائمًا لدعواهم الإيمان والإخلاص كذبًا وخداعًا.
فلقد أظهر المنافقون الإسلام وأبطنوا الكفر، فكان من البدهي القطعي أن يتخبطوا في ظلمات الأقوال والأفعال؛ لأنهم فقدوا نور الإيمان، وصدق الله تعالى: ]ومَنْ لَمْ يَجْعَلْ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ[(النور: 40).
وقد رأينا كيف تمرد على أحكام الله وشريعته كثيرٌ منهم، فكيف بشريعة الجهاد بمعناه الشامل، وهو يقتضي البذل والتضحية بالنفس وبالمال، ويقتضي التربية النفسيةعلى مكارم الأخلاق والصفات، وحملها على ما تكره من مجاهدة ومكابدة، وقد بين الله تعالى ذلك، فقال في قوله الكريم: ]كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وهُوَ شَرٌّ لَكُمْ والله يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[(البقرة: 216).
وقد أحب المنافقون الشر كله من الكفر بعد الإيمان، ومن خلل الأخلاق كالكذب والقسم الفاجر، والكسل والفتور في العبادات، وفي ذكر الله، ولولا الرياء ما فعلوا خيرًا، أي أنهم نبذوا الجهاد بمعناه النفسي والاجتماعي، ومن باب أولى نبذوه بمعناه الحربي القتالي الذي هو ضرورة وقتية عاجلة لحماية الإسلام والمسلمين من أعدائهم الغلاظ الشداد في كل أنحاء الجزيرة العربية، وخاصة اليهود المخالطين لهم في المدينة المنورة عاصمة الإسلام يومئذٍ.
ومن هنا تنزل القرآن تباعًا يدعوهم إلى الجهاد والإخلاص، ويبين لهم ما فيه من عظيم الأجر والثواب، وينذرهم بخطورة موقفهم وتمردهم، وما سيؤدي إليه من عواقب وخيمة، ثم هو في كل موقفٍ لهم يتنزّل بالحق ليكشف أسرارهم، ويفضح تآمرهم، ويندد بخيانتهم لله ولرسوله والمؤمنين، وقعودهم عن الجهاد، وفرارهم من المعارك، وجبنهم عن القتال، وشحهم بالمال، وهو عصب الحروب والجيوش.
وهذا أمر واسع النطاق في القرآن كما سنبين -إن شاء الله تعالى- وعلى سبيل المثال نبدأ بأول موقف بارزللمنافقين في الجهاد ورد القرآن عليه: فقد دخل المنافقون الإسلام بعد بدر الكبرى بزعامة عبد الله بن أُبي بن سلول، وبعد نحو سنة واحدة وقع أخطر موقف لهم في معركة أُحد التي كانت في منتصف شوال من السنة الثالثة، وأنزل الله تعالى نحو (خمسين آية)في سورة آل عمران تعقيبًا على المعركة وما حدث قبلها وبعدها، وخص المنافقين بكثيرٍ من هذه الآيات بيانًا لصفاتهم، وكشفًا لمكنونات صدورهم، وتحذيرًا للمؤمنين الصادقين منهم، وتنديدًا صارمًا بانسحاب زعيم المنافقين بثلث الجيش قبل المعركة، قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ودُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ$ هَاأَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ ولا يُحِبُّونَكُمْ وتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ$ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا[(آل عمران:118- 120)
والآيات الكريمة تحذر المؤمنين من المنافقين عامة عربًا كانوا أو يهودًا في المدينة، وقد تشابكت مصالح الطائفتين وصاروا جبهة واحدة في الحقد على الإسلام والمسلمين، وقد حددت الآيات الكريمة مجموعة من خصال المنافقين المدمرة التي توجب على المؤمنين عدم اتخذاهم بطانة يقربونهم ويفشون أسرارهم أمامهم، فهم لا يقصرون في بث الشر والفساد في داخلكم، ويحبون إعناتكم وغاية إضراركم، وقد ظهرت علامات هذه العداوة في فلتات ألسنتهم، وما تخفي صدورهم أكبر، فهم لا يحبونكم، بل يخادعونكم إذا لقوكم، فإذا خلوا بعيدًا عنكم انفجرت أحقادهم عليكم، وعضوا أطراف أصابعهم من شدة الغيظ الذي في قلوبهم منكم، وذلك لما يرون من ائتلاف المؤمنين ومن صلاح ذات بينهم.
ثم ذكر الله تعالى للمؤمنين لازمة من لوازم النفاق اللصيقة بهم، التي تفضح ما في صدورهم من عداوة المؤمنين، وهي أنهم يصابون بالهم والنكد من كل حسنة تصيب المؤمنين، من نصرٍ أو غنيمة أو ما إلى ذلك، فإن أصابت المؤمنين سيئة ظهر على المنافقين الفرح والسرور شماتة فيهم، وتنفيسًا عن وحر صدورهم وهي التي تغلي بالبغضاء، وكانت هذه الآيات البيّنات تمهيدًا لحديث القرآن عن معركة أُحد، وما حدث فيها من مواقف المؤمنين والمنافقين قبل المعركة وبعدها، وقد كان للمنافقين في هذه المعركة الخطيرة موقفان:
الأول: موقف جدلي يقوم على التشكيك في العقيدة، وعلى الظنون الفاسدة في القضاء والقدر الإلهي، الذي هو من صلب الإيمان الصحيح المطلوب من المؤمنين.
الموقف الثاني: موقف عملي واقعي بالغ السوء لتخاذلهم عن المعركة نفسها، والجبن والفرار منها تحت مختلف الدعاوى والأكاذيب.
ولقد قدم القرآن الكريم الحديث في سورة آل عمران عن موقفهم الجدلي رغم أنه كان بعد المعركة؛ لأن الحديث عن العقيدة أهم من كل شيء، ولأنها تأسيسٌ وتأصيلٌ لكل ما يأتي بعدها، قال تعالى: ]ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ[(آل عمران: من الآية 154) وهم المؤمنون الصادقون من المهاجرين والأنصار.
ثم قال تعالى عن المنافقين: ]وطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ[(آل عمران:154)أي: يظنون بالله تعالى ظنًّا باطلًا مثل ظن أهل الجاهلية المشركين، بأن الله تعالى قد يخلف موعده أو يخذل دينه ورسوله والمؤمنين، وأن مَنْ قُتِلَ من المسلمين قُتلوا بسبب خروجهم لملاقاة العدو ولو ظلوا في المدينة لما قُتلوا، وهذا إرجافٌ خطيرٌ وتشكيكٌ مريبٌ في قضاء الله وقدره، ولو شاع بين المسلمين لثبطهم عن الجهاد والاستشهاد، ولو فعلوا لاجتاحهم الأعداء من كل الجهات.
ولذلك فصل القرآن ما قال المنافقون ورد عليهم بحزمٍ بالغٍ تصحيحًا للاعتقاد، ونفيًا للشكوك والأراجيف، وتأصيلًا لأحكام الجهاد والاستشهاد في سبيل الله تعالى، قال سبحانه: ]يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ولِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ ولِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[، (آل عمران:154).
وقد جاء في رواياتالتفسير: ]وطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ[(آل عمران:154) يعني: لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف، وهم المنافقون ليس لهم هَمٌّإلا أنفسهم،أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق.
]يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ[(آل عمران:154) أي: اعتقدوا بأن مشركي قريش لما ظهروا على المسلمين في تلك الساعة أنها الفاصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن المنافقين أهل الريب والشكوك في كل موقف يُمتحن فيه المسلمون.
أما قولهم: ]لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا[(آل عمران:154) فهذا تشكيك مباشر في قدر الله تعالى، ونقض مباشر لقرار النبي ^ الذي تم بعد مشاورة أصحابه بالخروج لقتال المشركين خارج المدينة، فغضب بذلك زعيم المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول ورجع بنحو ثلث الجيش بحجة أن النبي ^ خالف رأيه الذي أشار فيه إلى قتال المشركين داخل المدينة ذاتها، وكان هذا الموقف قبل بداية المعركة والعدو على الأبواب، ولكن الله تعالى أغنى عنهم ونصر المؤمنين على قلَّتهم نصرًا مؤزرًا، حتى خالف الرماة وصية الرسول ^ وتركوا حراسة ظهر المسلمين، حينئذٍ انقضت خيول المشركين على المسلمين من خلفهم، فوقع الاضطراب في صفوف المسلمين، وقُتِلَ منهم نحو سبعين، ثم أنزل الله تعالى في المنافقين قوله تعالى: ]ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ$ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[(آل عمران: 167، 168)
وهكذا مضى القرآن الكريم يتنزل في المنافقين تعليمًا أو تعقيبًا، تعليمًا لهم بالحق، وإرشادًاللصالحات، وتحذيرًا من السيئات، واستنكارًا لخصائص السوء الشائعة فيهم، أو تعقيبًا على مواقفهم من الجهاد بأقوالهم المسمومة، وأفعالهم المذمومة، وتنديدًا بخيانتهم المتكررة.
فمن الأول -أعني (موقف التعليم)، والإرشاد، والتحذير، والاستنكار- مثاله قوله تعالى في سورة محمد، وتسمى أيضًا سورة القتال، يقول تعالى: ]وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ$ طَاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَو صَدَقُوا الله لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ$ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ$ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ الله فَأَصَمَّهُمْ وأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ$ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا$ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ$ وأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ[(محمد: 20- 26).
والآياتالكريمة تقص أن بعض المؤمنين الصادقين تشوقوا إلي الوحي ونزول القرآن،لما يعلمون أنه خيرهم في الدنيا والآخرة، فإذا أنزل الله تعالى سورة محكمة لا لبس في معانيها، تأمر بالجهاد وتحض على قتال أعداء الله المعتدين،حينئذٍ يفرح المؤمنون الذين كانوا يتشوقون للوحي الإلهي الجليل، أما الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون فتشخص أبصارهم جبنًا وهلعًا،كالذي أصبته غاشية الموت وسكرته،لخلو قلوبهم من الإيمان الصحيح، ولكراهيتهم الجهاد والبذل في سبيل شيءٍ لا يؤمنون به، وهذه خصلة ثابتة في المنافقين سجلها عليهم القرآن في مواطن كثيرة؛ ولهذا دعتهم الآيات الكريمة إلى مقاومة هذهالآفة المدمرة؛ فقال تعالى: ]فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ[ أي: أقرب وأتم لهم أن يوطنوا أنفسهم على طاعة الله ورسوله، وأن يقولوا قولًا حسنًا إلى أن يحين الجهاد الفعلي فيقوموا به حتى يصدقوا الله ورسوله، فيكون لهم خير الدنيا والآخرة، والآيات في معانيها أسراركثيرة جدًّا.
من النوع الثاني أعني (موقف التعقيب)على مواقف المنافقين بعد حصولها في معارك الجهاد من الجبن، والهلع إلى الإرجاف والتخذيل، إلى القعود والنكوص عنالجهاد، أو الفرار من المعارك في أخطر المواطن وأصعبها على المؤمنين الصادقين، هذا النوع كثيرٌ جدًّا في القرآن لكثرة مواقف المنافقين الفاسدة،التي تجاوز حد الجناية والخيانة والإجرام، سواء في معارك المسلمين مع المشركين، أو في معارك المسلمين مع اليهود الغادرين، أو في معارك المسلمين مع الروم، وحلفاء الروم من القبائل العربية الموالية لهم،أو المعتنقة لدينهم النصراني، وسنتحدث عنها تفصيلًا -إن شاء الله.
ومن الأمثلة الجامعة لهذا النوع: التعقيب القرآني على موقف المنافقين في غزوة الأحزاب، ولقد كانت (غزوة الأحزاب)في السنة (الخامسة الهجرية)وبينها وبين معركة أُحد سنتان، وقد حشد لها مشركو مكة، وأعراب البوادي، ويهود بني قريظة الذين خانوا عهد رسول الله ^ وكان الجميع يريدون هدم المدينة واستباحة الإسلام، وكان يزيدون عن عشرة آلاف مقاتل أي نحو أربعة أضعاف المسلمين، وقد أمر النبي ^ المسلمين بحفر الخندق ليفصل بين المسلمين وجيوش الكفار،الذين نزلوا شرقي المدينة وفي أعاليها، وكانوا جميعًا بتحريض اليهود الغادرين يستهدفون اجتياح المدينة عاصمة الإسلام، وقَتْلَرسول الله ^ وكبار المؤمنين، وسبي النساء، أي أنها لم تكن معركة عابرة كغيرها من المعارك، وإنما هي معركة لتصفية الحساب النهائي مع المسلمين؛ لذلك فأي معاونة للكفار في هذا الوقت،أو تخذيل وانهزام فإنه يكون أشنع الخيانات وأبشع الجنايات، ولما فعل المنافقون ذلك نزل القرآن الكريم يندد بهم في عبارات بالغة الصرامة والحسم، قال تعالى في سورة الأحزاب: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا[(الأحزاب:9) أي أنه لولا فضل الله وحده لما نجوتم من هول هذه المعركة،التي تعاون فيها المشركون والأعراب واليهود والمنافقون.
ثم يصف القرآن الكريم ضخامة جيوش الأعداء،وإحاطتها بالمسلمين، وشدة البلاء على المحاصرين من المؤمنين، فقال: ]إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ومِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا $ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا[(الأحزاب:10-11) وفي هذا الجو العاصف لا يقول المنافقون كلمة خير للمواساة أو يصمتون، وإنما ينفجر كفرهم وأحقادهم، وتتبدى أحوالهم من الجبن والخور، ويتحايلون للفرار من تبعات الجهاد في أخطر مراحله، وينقضون كل العهود والمواثيق، ويعوقون المجاهدين بالأراجيف وبث الفتن والأكاذيب،فضلًا عن منظرهم المثبط لكل عزيمة حين يحيط بهمالخوف، فينظرون نظر المغشي عليه من الموت قال تعالى: ]وإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وعَدَنَا الله ورَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا$ وإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ومَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا$ ولَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا ومَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا$ ولَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا الله مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولًا$ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلًا$ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنْ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ولا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله ولِيًّا ولا نَصِيرًا$ قَدْ يَعْلَمُ الله الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ والْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ولا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلًا$ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا[(الأحزاب:12-19(
والآيات جديرة بالتأمل؛ لأنها تسجل أحوال وأقوال نمطٍ من البشر أفسدهم النفاق ومرض القلوب،حتى صاروا مسوخًا شائهة لا يرتقون إلى مرتبة الإيمان، ولا يلحقون بحمية الكفار الذين غزوهم في ديارهم؛ ولذلك قالوا أسوأ الأقوال قالوا: ]مَا وعَدَنَا الله ورَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا[ أي: أوهامًا باطلة في زعمهم، وقالوا: كان محمدٌ يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا الآن لا يقدر علىالذهاب إلى الغائط، هذا غاية السخرية، ثم أخذوا يفرون من المعركة جماعات، ]وإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ[ أي بيوتنا مكشوفة للصوص، والغزاة فأذن لنا لنرجع إليها للدفاع عن أولادنا، وقد كذَّبهم الله تعالى فقال: ]ومَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا[ وقد ذكّرهم الله تعالى بأصول الإيمان، وأنه لا فرار من قدر الله، ولا عصمة ولا حفظ لأحدٍ إلا بالله وحده، ثم بين تعالى جبنهم وهلعهم حين يشتد الخوف، فإذا ذهب الخوف انطلقت ألسنتهم بالدعاوى الكاذبة، وبطلب الغنائم في حرصٍ وإلحاحٍ، كما قال عنهمقتادة -رضي الله عنه-: أما عند البأس فأجبن قومٍ وأخذله للحق، وأما عند الغنيمة فأشح قومٍ وأسوأه مقاسمة، يقولون: اعطونا اعطونا فقد شهدنا معكم، وهم مع ذلك أشحةٌ على الخير،قد جمعوا الجبن والكذب والبخل، فهم كما قال الشاعر في أمثالهم:
أي: في السِّلم كأنهم حُمُر علظة وجهالة، وفي الحرب كالنساء الحُيّض جبنا وخوفا، كما قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره.
وقد أوجز القرآن الكريم سبب كل هذهالخسائس والنقائص في كلمات معدودة فقال: ]أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا[ ولذلك سجلت الآيات الكريمة ثمار الإيمان من اليقين في الله، والثقة به، والتوكل عليه، والإقبال على الجهاد والاستشهاد طاعة لأمر الله، وتصديقًا بوعده، وصبرًا على قضائه وقدره، ورجاءً في حسن جزائه وجنته؛ ابتداء بالرسول ^ كما قال تعالى: ]لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ الله كَثِيرًا[(الأحزاب:21).
وانتهاء بالمواقف النبيلة للمؤمنين، والتي تناقض ما نراه من مواقف المنافقين الذين لم يذوقوا حلاوة الإيمان، قال تعالى: ]ولَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وعَدَنَا الله ورَسُولُهُ وصَدَقَ الله ورَسُولُهُ ومَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وتَسْلِيمًا$ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[(الأحزاب:22، 23) والمعنى: قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والشدائد،التي يعقبها نصر الله وفرجه القريب، وصدق الله ورسوله في الأمرين: الابتلاء، والنصر القريب، وكان مصداق ذلك أن الأحزاب هُزِمُوا، كما قال تعالى: ]ورَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وكَانَ الله قَوِيًّا عَزِيزًا[(الأحزاب:25)
([1]) راجع:
أ- آيات القرآن الكريم المنسوبة لسورها والمرقمة بأعدادها، مع مراجعة المعاني في تفسير ابن كثير كل آية في موضعها.
ب- تفسير تنوير الأذهان من تفسير روح البيان، جـ3، صـ86.
([2]) راجع:
أ- تفسير ابن كثير في كل آية بسورتها ورقمها.
ب- سيرة النبي ^ لابن هشام، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، جـ3، صـ7، وما بعدها، جـ4، صـ169، وما بعدها، مطبعة حجازي، القاهرة.
([3]) راجع:
أ- الآيات القرآنية الكريمة بسورها وأرقامها، تفسير ابن كثير في كل آية بسورتها ورقمها.
ب- سيرة الرسول ^ مقتبسة من القرآن، للشيخ محمد عزة دروزة، جـ2، صـ176 وما بعدها.
أستاذ التفسير وعلوم القرآن
بجامعتي الأزهر وأم القرى (سابقا)
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وأصحابه أجمعين، أما بعد:
1- تمهيد عن الجهاد الإسلاميوأقسامه: ([1])
فلهذه المحاضرة عناصر تبدأ أولاً بالتمهيد عن الجهاد الإسلامي وأقسامه، وليس موضوعنا الحديث عن الجهاد الإسلامي في ضوء القرآن؛ لأنه موضوعٌ كبيرٌ واسع النطاق، جدير بأن يفرد بالبحث والنظر، ولكننا نذكره هنا بإيجاز لبيان موقف المنافقين منه، ولبيان ردود القرآن عليهم، وهي طويلة مستفيضة، بل تمثل واحدة من أخطر قضايا القرآن وموضوعاته.
والجهاد مصطلحٌ إسلاميٌّ معناه: بذل الجهد وإفراغ الوسع في سبيل الله -عز وجل- وهذا معنى شامل يضم ثلاثة أقسام:
الأول: جهاد النفس والتربية
وهذا ميدانٌ أساسيٌّ في دين الله تعالى يقوم على التزام الإيمان، الذي فصّله القرآن وبُعِثَ به محمدٌ ^ وهذا يستوجب الجهاد النفسي الطويل لاكتساب التزكية الأخلاقية، وللتطهر من أدران الجاهلية، ولإفراد الله تعالى وحده بالعبادة والطاعة، وقال تعالى في ذلك: ]والَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وإِنَّ الله لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[(العنكبوت: 69) وهذه آية مكية في آخر سورة العنكبوت ذكرت الجهاد قبل أن يفرض جهاد السلاح؛ لأن المراد جهاد النفس والتربية، والصبر الطويل في سبيل الله -عز وجل.
النوع الثاني من الجهاد: جهاد الدعوة والبلاغ
وهو جهادٌ يقوم على الفهم، والعلم، والتطبيق، والعمل الشامل، ثم دعوة الناس إلى هذا الحق قدر الوسع والاجتهاد،في بلاغ حقائق الدين الإلهي التي قررها الله لعباده في كتابه الكريم، كما قال تعالى في سورة الفرقان: ]فَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا[(الفرقان: 52) والمراد الجهاد بالقرآن، وقال بعض المفسرين معنى ]جِهَادًا كَبِيرًا[ أي: عظيمًا تامًّا لا يخالطه فتور، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف، والمجاهدة تكون باللسان وباليد، وفي الحديث: ((جاهدوا المشركين بأموالكم وأنفسكم وألسنتكم))الحديث رواه أحمد، وأبو داود، والنسائي، والحاكم -والله تعالى أعلم.
القسم الثالث: جهاد السلاح والقتال
وهو الجهاد الحربي الذي فرضه الله تعالى على المسلمين بعد الهجرة إلى المدينة المنورة، وبعد احتمال المسلمين احتمالًا باهظًا لإيذاء المشركين في مكة ثلاثة عشر عامًا، شُرِّدَ فيها المسلمون إلى الحبشة تارة، وإلى البوادي، ثم إلى المدينة، حيث هيأ الله تعالى لهم دارًا تحميهم وأنصارًا من الأوس والخزرج، ولكن العرب رمتهم عن قوس واحدة بقيادة زعماء الشرك في مكة، ثم انضم إليهم اليهود بقوتهم، وحصونهم، وأموالهم، وغدرهم المشهور، ونقضهم العهود، واحترافهم الجدل الديني لهدم الإسلام.
وفي هذا الجو العاصف فرض الله تعالى جهاد الحرب والسلاح دفعًا للظلم، وكفًّا للعدوان، وردعًا للوحوش المتربصة بالدين الجديد وبرسوله وأتباعه أجمعين قال تعالى: ]أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وإِنَّ الله عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ$ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا الله[(الحج: 39، 40) وقال تعالى: ]وقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ ولا تَعْتَدُوا إِنَّ الله لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ[(البقرة:190(
وحين انتصر المسلمون في معركة بدر الكبرى التي وقعت في شهر رمضان من السنة الثانية للهجرة، ظهر أنهم قوة بازغة يخشى الناس بأسها، فدخل كثير من الناس في الإسلام خوفًا أو طمعًا، ومن هنا نشأت حركة النفاق والمنافقين، وأصبحوا بمرور الوقت عدوًا ثالثًا من داخل المسلمين أنفسهم، وأصبحت فريضة الجهاد الحربي وما تمثله من أعباء الصدام والخروج للغزوات والسرايا، وما تخلّفه من جرحى وشهداء، وما تتطلبه من نفقات وأموال وأسفار، أصبح كل ذلك محكًّا دائمًا لاختبار المسلمين، وتكليفًا ثقيلًا على نفوس المنافقين، وفضحًا دائمًا لدعواهم الإيمان والإخلاص كذبًا وخداعًا.
2- موقف القرآن الكريم من تمرد المنافقين على الجهاد الإسلامي[2])
فلقد أظهر المنافقون الإسلام وأبطنوا الكفر، فكان من البدهي القطعي أن يتخبطوا في ظلمات الأقوال والأفعال؛ لأنهم فقدوا نور الإيمان، وصدق الله تعالى: ]ومَنْ لَمْ يَجْعَلْ الله لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ[(النور: 40).
وقد رأينا كيف تمرد على أحكام الله وشريعته كثيرٌ منهم، فكيف بشريعة الجهاد بمعناه الشامل، وهو يقتضي البذل والتضحية بالنفس وبالمال، ويقتضي التربية النفسيةعلى مكارم الأخلاق والصفات، وحملها على ما تكره من مجاهدة ومكابدة، وقد بين الله تعالى ذلك، فقال في قوله الكريم: ]كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وهُوَ شَرٌّ لَكُمْ والله يَعْلَمُ وأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ[(البقرة: 216).
وقد أحب المنافقون الشر كله من الكفر بعد الإيمان، ومن خلل الأخلاق كالكذب والقسم الفاجر، والكسل والفتور في العبادات، وفي ذكر الله، ولولا الرياء ما فعلوا خيرًا، أي أنهم نبذوا الجهاد بمعناه النفسي والاجتماعي، ومن باب أولى نبذوه بمعناه الحربي القتالي الذي هو ضرورة وقتية عاجلة لحماية الإسلام والمسلمين من أعدائهم الغلاظ الشداد في كل أنحاء الجزيرة العربية، وخاصة اليهود المخالطين لهم في المدينة المنورة عاصمة الإسلام يومئذٍ.
ومن هنا تنزل القرآن تباعًا يدعوهم إلى الجهاد والإخلاص، ويبين لهم ما فيه من عظيم الأجر والثواب، وينذرهم بخطورة موقفهم وتمردهم، وما سيؤدي إليه من عواقب وخيمة، ثم هو في كل موقفٍ لهم يتنزّل بالحق ليكشف أسرارهم، ويفضح تآمرهم، ويندد بخيانتهم لله ولرسوله والمؤمنين، وقعودهم عن الجهاد، وفرارهم من المعارك، وجبنهم عن القتال، وشحهم بالمال، وهو عصب الحروب والجيوش.
الموقف الأول والرد القرآني:
وهذا أمر واسع النطاق في القرآن كما سنبين -إن شاء الله تعالى- وعلى سبيل المثال نبدأ بأول موقف بارزللمنافقين في الجهاد ورد القرآن عليه: فقد دخل المنافقون الإسلام بعد بدر الكبرى بزعامة عبد الله بن أُبي بن سلول، وبعد نحو سنة واحدة وقع أخطر موقف لهم في معركة أُحد التي كانت في منتصف شوال من السنة الثالثة، وأنزل الله تعالى نحو (خمسين آية)في سورة آل عمران تعقيبًا على المعركة وما حدث قبلها وبعدها، وخص المنافقين بكثيرٍ من هذه الآيات بيانًا لصفاتهم، وكشفًا لمكنونات صدورهم، وتحذيرًا للمؤمنين الصادقين منهم، وتنديدًا صارمًا بانسحاب زعيم المنافقين بثلث الجيش قبل المعركة، قال تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا ودُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ومَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ$ هَاأَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ ولا يُحِبُّونَكُمْ وتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ$ إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا[(آل عمران:118- 120)
والآيات الكريمة تحذر المؤمنين من المنافقين عامة عربًا كانوا أو يهودًا في المدينة، وقد تشابكت مصالح الطائفتين وصاروا جبهة واحدة في الحقد على الإسلام والمسلمين، وقد حددت الآيات الكريمة مجموعة من خصال المنافقين المدمرة التي توجب على المؤمنين عدم اتخذاهم بطانة يقربونهم ويفشون أسرارهم أمامهم، فهم لا يقصرون في بث الشر والفساد في داخلكم، ويحبون إعناتكم وغاية إضراركم، وقد ظهرت علامات هذه العداوة في فلتات ألسنتهم، وما تخفي صدورهم أكبر، فهم لا يحبونكم، بل يخادعونكم إذا لقوكم، فإذا خلوا بعيدًا عنكم انفجرت أحقادهم عليكم، وعضوا أطراف أصابعهم من شدة الغيظ الذي في قلوبهم منكم، وذلك لما يرون من ائتلاف المؤمنين ومن صلاح ذات بينهم.
ثم ذكر الله تعالى للمؤمنين لازمة من لوازم النفاق اللصيقة بهم، التي تفضح ما في صدورهم من عداوة المؤمنين، وهي أنهم يصابون بالهم والنكد من كل حسنة تصيب المؤمنين، من نصرٍ أو غنيمة أو ما إلى ذلك، فإن أصابت المؤمنين سيئة ظهر على المنافقين الفرح والسرور شماتة فيهم، وتنفيسًا عن وحر صدورهم وهي التي تغلي بالبغضاء، وكانت هذه الآيات البيّنات تمهيدًا لحديث القرآن عن معركة أُحد، وما حدث فيها من مواقف المؤمنين والمنافقين قبل المعركة وبعدها، وقد كان للمنافقين في هذه المعركة الخطيرة موقفان:
الأول: موقف جدلي يقوم على التشكيك في العقيدة، وعلى الظنون الفاسدة في القضاء والقدر الإلهي، الذي هو من صلب الإيمان الصحيح المطلوب من المؤمنين.
الموقف الثاني: موقف عملي واقعي بالغ السوء لتخاذلهم عن المعركة نفسها، والجبن والفرار منها تحت مختلف الدعاوى والأكاذيب.
ولقد قدم القرآن الكريم الحديث في سورة آل عمران عن موقفهم الجدلي رغم أنه كان بعد المعركة؛ لأن الحديث عن العقيدة أهم من كل شيء، ولأنها تأسيسٌ وتأصيلٌ لكل ما يأتي بعدها، قال تعالى: ]ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ[(آل عمران: من الآية 154) وهم المؤمنون الصادقون من المهاجرين والأنصار.
ثم قال تعالى عن المنافقين: ]وطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ[(آل عمران:154)أي: يظنون بالله تعالى ظنًّا باطلًا مثل ظن أهل الجاهلية المشركين، بأن الله تعالى قد يخلف موعده أو يخذل دينه ورسوله والمؤمنين، وأن مَنْ قُتِلَ من المسلمين قُتلوا بسبب خروجهم لملاقاة العدو ولو ظلوا في المدينة لما قُتلوا، وهذا إرجافٌ خطيرٌ وتشكيكٌ مريبٌ في قضاء الله وقدره، ولو شاع بين المسلمين لثبطهم عن الجهاد والاستشهاد، ولو فعلوا لاجتاحهم الأعداء من كل الجهات.
ولذلك فصل القرآن ما قال المنافقون ورد عليهم بحزمٍ بالغٍ تصحيحًا للاعتقاد، ونفيًا للشكوك والأراجيف، وتأصيلًا لأحكام الجهاد والاستشهاد في سبيل الله تعالى، قال سبحانه: ]يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنْ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ ولِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ ولِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ[، (آل عمران:154).
وقد جاء في رواياتالتفسير: ]وطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ[(آل عمران:154) يعني: لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف، وهم المنافقون ليس لهم هَمٌّإلا أنفسهم،أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق.
]يَظُنُّونَ بِالله غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ[(آل عمران:154) أي: اعتقدوا بأن مشركي قريش لما ظهروا على المسلمين في تلك الساعة أنها الفاصلة، وأن الإسلام قد باد وأهله، وهذا شأن المنافقين أهل الريب والشكوك في كل موقف يُمتحن فيه المسلمون.
أما قولهم: ]لَوْ كَانَ لَنَا مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا[(آل عمران:154) فهذا تشكيك مباشر في قدر الله تعالى، ونقض مباشر لقرار النبي ^ الذي تم بعد مشاورة أصحابه بالخروج لقتال المشركين خارج المدينة، فغضب بذلك زعيم المنافقين عبد الله بن أُبي بن سلول ورجع بنحو ثلث الجيش بحجة أن النبي ^ خالف رأيه الذي أشار فيه إلى قتال المشركين داخل المدينة ذاتها، وكان هذا الموقف قبل بداية المعركة والعدو على الأبواب، ولكن الله تعالى أغنى عنهم ونصر المؤمنين على قلَّتهم نصرًا مؤزرًا، حتى خالف الرماة وصية الرسول ^ وتركوا حراسة ظهر المسلمين، حينئذٍ انقضت خيول المشركين على المسلمين من خلفهم، فوقع الاضطراب في صفوف المسلمين، وقُتِلَ منهم نحو سبعين، ثم أنزل الله تعالى في المنافقين قوله تعالى: ]ولِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ الله أَوْ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ$ الَّذِينَ قَالُوا لإِخْوَانِهِمْ وقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمْ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ[(آل عمران: 167، 168)
3- الموقف القرآني بين التعليم والتعقيب[3])
وهكذا مضى القرآن الكريم يتنزل في المنافقين تعليمًا أو تعقيبًا، تعليمًا لهم بالحق، وإرشادًاللصالحات، وتحذيرًا من السيئات، واستنكارًا لخصائص السوء الشائعة فيهم، أو تعقيبًا على مواقفهم من الجهاد بأقوالهم المسمومة، وأفعالهم المذمومة، وتنديدًا بخيانتهم المتكررة.
فمن الأول -أعني (موقف التعليم)، والإرشاد، والتحذير، والاستنكار- مثاله قوله تعالى في سورة محمد، وتسمى أيضًا سورة القتال، يقول تعالى: ]وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ$ طَاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَو صَدَقُوا الله لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ$ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ$ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمْ الله فَأَصَمَّهُمْ وأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ$ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا$ إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ$ وأَمْلَى لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأَمْرِ والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ[(محمد: 20- 26).
والآياتالكريمة تقص أن بعض المؤمنين الصادقين تشوقوا إلي الوحي ونزول القرآن،لما يعلمون أنه خيرهم في الدنيا والآخرة، فإذا أنزل الله تعالى سورة محكمة لا لبس في معانيها، تأمر بالجهاد وتحض على قتال أعداء الله المعتدين،حينئذٍ يفرح المؤمنون الذين كانوا يتشوقون للوحي الإلهي الجليل، أما الذين في قلوبهم مرض وهم المنافقون فتشخص أبصارهم جبنًا وهلعًا،كالذي أصبته غاشية الموت وسكرته،لخلو قلوبهم من الإيمان الصحيح، ولكراهيتهم الجهاد والبذل في سبيل شيءٍ لا يؤمنون به، وهذه خصلة ثابتة في المنافقين سجلها عليهم القرآن في مواطن كثيرة؛ ولهذا دعتهم الآيات الكريمة إلى مقاومة هذهالآفة المدمرة؛ فقال تعالى: ]فَأَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وقَوْلٌ مَعْرُوفٌ[ أي: أقرب وأتم لهم أن يوطنوا أنفسهم على طاعة الله ورسوله، وأن يقولوا قولًا حسنًا إلى أن يحين الجهاد الفعلي فيقوموا به حتى يصدقوا الله ورسوله، فيكون لهم خير الدنيا والآخرة، والآيات في معانيها أسراركثيرة جدًّا.
من النوع الثاني أعني (موقف التعقيب)على مواقف المنافقين بعد حصولها في معارك الجهاد من الجبن، والهلع إلى الإرجاف والتخذيل، إلى القعود والنكوص عنالجهاد، أو الفرار من المعارك في أخطر المواطن وأصعبها على المؤمنين الصادقين، هذا النوع كثيرٌ جدًّا في القرآن لكثرة مواقف المنافقين الفاسدة،التي تجاوز حد الجناية والخيانة والإجرام، سواء في معارك المسلمين مع المشركين، أو في معارك المسلمين مع اليهود الغادرين، أو في معارك المسلمين مع الروم، وحلفاء الروم من القبائل العربية الموالية لهم،أو المعتنقة لدينهم النصراني، وسنتحدث عنها تفصيلًا -إن شاء الله.
ومن الأمثلة الجامعة لهذا النوع: التعقيب القرآني على موقف المنافقين في غزوة الأحزاب، ولقد كانت (غزوة الأحزاب)في السنة (الخامسة الهجرية)وبينها وبين معركة أُحد سنتان، وقد حشد لها مشركو مكة، وأعراب البوادي، ويهود بني قريظة الذين خانوا عهد رسول الله ^ وكان الجميع يريدون هدم المدينة واستباحة الإسلام، وكان يزيدون عن عشرة آلاف مقاتل أي نحو أربعة أضعاف المسلمين، وقد أمر النبي ^ المسلمين بحفر الخندق ليفصل بين المسلمين وجيوش الكفار،الذين نزلوا شرقي المدينة وفي أعاليها، وكانوا جميعًا بتحريض اليهود الغادرين يستهدفون اجتياح المدينة عاصمة الإسلام، وقَتْلَرسول الله ^ وكبار المؤمنين، وسبي النساء، أي أنها لم تكن معركة عابرة كغيرها من المعارك، وإنما هي معركة لتصفية الحساب النهائي مع المسلمين؛ لذلك فأي معاونة للكفار في هذا الوقت،أو تخذيل وانهزام فإنه يكون أشنع الخيانات وأبشع الجنايات، ولما فعل المنافقون ذلك نزل القرآن الكريم يندد بهم في عبارات بالغة الصرامة والحسم، قال تعالى في سورة الأحزاب: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا[(الأحزاب:9) أي أنه لولا فضل الله وحده لما نجوتم من هول هذه المعركة،التي تعاون فيها المشركون والأعراب واليهود والمنافقون.
ثم يصف القرآن الكريم ضخامة جيوش الأعداء،وإحاطتها بالمسلمين، وشدة البلاء على المحاصرين من المؤمنين، فقال: ]إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ ومِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وإِذْ زَاغَتْ الأَبْصَارُ وبَلَغَتْ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وتَظُنُّونَ بِالله الظُّنُونَا $ هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا[(الأحزاب:10-11) وفي هذا الجو العاصف لا يقول المنافقون كلمة خير للمواساة أو يصمتون، وإنما ينفجر كفرهم وأحقادهم، وتتبدى أحوالهم من الجبن والخور، ويتحايلون للفرار من تبعات الجهاد في أخطر مراحله، وينقضون كل العهود والمواثيق، ويعوقون المجاهدين بالأراجيف وبث الفتن والأكاذيب،فضلًا عن منظرهم المثبط لكل عزيمة حين يحيط بهمالخوف، فينظرون نظر المغشي عليه من الموت قال تعالى: ]وإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ والَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وعَدَنَا الله ورَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا$ وإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ ومَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا$ ولَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لآتَوْهَا ومَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلاَّ يَسِيرًا$ ولَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا الله مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الأَدْبَارَ وكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولًا$ قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمْ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنْ الْمَوْتِ أَوْ الْقَتْلِ وإِذًا لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلًا$ قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنْ الله إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً ولا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ الله ولِيًّا ولا نَصِيرًا$ قَدْ يَعْلَمُ الله الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ والْقَائِلِينَ لإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا ولا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلًا$ أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنْ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرًا[(الأحزاب:12-19(
والآيات جديرة بالتأمل؛ لأنها تسجل أحوال وأقوال نمطٍ من البشر أفسدهم النفاق ومرض القلوب،حتى صاروا مسوخًا شائهة لا يرتقون إلى مرتبة الإيمان، ولا يلحقون بحمية الكفار الذين غزوهم في ديارهم؛ ولذلك قالوا أسوأ الأقوال قالوا: ]مَا وعَدَنَا الله ورَسُولُهُ إِلاَّ غُرُورًا[ أي: أوهامًا باطلة في زعمهم، وقالوا: كان محمدٌ يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا الآن لا يقدر علىالذهاب إلى الغائط، هذا غاية السخرية، ثم أخذوا يفرون من المعركة جماعات، ]وإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا ويَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ[ أي بيوتنا مكشوفة للصوص، والغزاة فأذن لنا لنرجع إليها للدفاع عن أولادنا، وقد كذَّبهم الله تعالى فقال: ]ومَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَارًا[ وقد ذكّرهم الله تعالى بأصول الإيمان، وأنه لا فرار من قدر الله، ولا عصمة ولا حفظ لأحدٍ إلا بالله وحده، ثم بين تعالى جبنهم وهلعهم حين يشتد الخوف، فإذا ذهب الخوف انطلقت ألسنتهم بالدعاوى الكاذبة، وبطلب الغنائم في حرصٍ وإلحاحٍ، كما قال عنهمقتادة -رضي الله عنه-: أما عند البأس فأجبن قومٍ وأخذله للحق، وأما عند الغنيمة فأشح قومٍ وأسوأه مقاسمة، يقولون: اعطونا اعطونا فقد شهدنا معكم، وهم مع ذلك أشحةٌ على الخير،قد جمعوا الجبن والكذب والبخل، فهم كما قال الشاعر في أمثالهم:
أفي السِّلم أعيار جفاءً وغلظةً | وفي الحرب أمثال النساءِ الفواركِ |
أي: في السِّلم كأنهم حُمُر علظة وجهالة، وفي الحرب كالنساء الحُيّض جبنا وخوفا، كما قال ابن كثير -رحمه الله- في تفسيره.
وقد أوجز القرآن الكريم سبب كل هذهالخسائس والنقائص في كلمات معدودة فقال: ]أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا[ ولذلك سجلت الآيات الكريمة ثمار الإيمان من اليقين في الله، والثقة به، والتوكل عليه، والإقبال على الجهاد والاستشهاد طاعة لأمر الله، وتصديقًا بوعده، وصبرًا على قضائه وقدره، ورجاءً في حسن جزائه وجنته؛ ابتداء بالرسول ^ كما قال تعالى: ]لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو الله والْيَوْمَ الآخِرَ وذَكَرَ الله كَثِيرًا[(الأحزاب:21).
وانتهاء بالمواقف النبيلة للمؤمنين، والتي تناقض ما نراه من مواقف المنافقين الذين لم يذوقوا حلاوة الإيمان، قال تعالى: ]ولَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وعَدَنَا الله ورَسُولُهُ وصَدَقَ الله ورَسُولُهُ ومَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَانًا وتَسْلِيمًا$ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ ومِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ ومَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا[(الأحزاب:22، 23) والمعنى: قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختبار والشدائد،التي يعقبها نصر الله وفرجه القريب، وصدق الله ورسوله في الأمرين: الابتلاء، والنصر القريب، وكان مصداق ذلك أن الأحزاب هُزِمُوا، كما قال تعالى: ]ورَدَّ الله الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وكَفَى الله الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وكَانَ الله قَوِيًّا عَزِيزًا[(الأحزاب:25)
([1]) راجع:
أ- آيات القرآن الكريم المنسوبة لسورها والمرقمة بأعدادها، مع مراجعة المعاني في تفسير ابن كثير كل آية في موضعها.
ب- تفسير تنوير الأذهان من تفسير روح البيان، جـ3، صـ86.
([2]) راجع:
أ- تفسير ابن كثير في كل آية بسورتها ورقمها.
ب- سيرة النبي ^ لابن هشام، تحقيق محمد محيي الدين عبد الحميد، جـ3، صـ7، وما بعدها، جـ4، صـ169، وما بعدها، مطبعة حجازي، القاهرة.
([3]) راجع:
أ- الآيات القرآنية الكريمة بسورها وأرقامها، تفسير ابن كثير في كل آية بسورتها ورقمها.
ب- سيرة الرسول ^ مقتبسة من القرآن، للشيخ محمد عزة دروزة، جـ2، صـ176 وما بعدها.
مواضيع مماثلة
» من صفات المنافقين
» وفاة زعيم المنافقين
» صلاة الجماعة في المسجد واجبة والتخلف من غير عذر صفة المنافقين
» رؤيا الجهاد :
» تنبيه الغافلين من مزالق المنافقين باستهزائهم بالدين واهله المؤمنين
» وفاة زعيم المنافقين
» صلاة الجماعة في المسجد واجبة والتخلف من غير عذر صفة المنافقين
» رؤيا الجهاد :
» تنبيه الغافلين من مزالق المنافقين باستهزائهم بالدين واهله المؤمنين
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin