بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 18 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 18 زائر :: 1 روبوت الفهرسة في محركات البحثلا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
وحدة الأمة الإسلامية :
صفحة 1 من اصل 1
وحدة الأمة الإسلامية :
الحلقة [ 92 ] : الباب التاسع : القتال داخل الدائرة الإسلامية
الفصل الأول : الاقتتال بين الدول الإسلامية (1 من 2)
• وحدة الأمة الإسلامية :
من القتال الداخلي الممنوع شرعًا: اقتتال البلاد الإسلامية، أو الدول القُطرية الإسلامية بعضها مع بعض، كما نرى في زمننا هذا، بعد أن سقطت الخلافة الإسلامية، وانفرط عقد الوحدة الإسلامية، ولم يعُد للمسلمين مؤسَّسةٌ تعبِّر عن وحدتهم الإسلامية، المتمثِّلة في ثلاثة أمور:
1. وحدة المرجعية، وهي الشريعة الإسلامية.
2. وحدة الدار، أي دار الإسلام. فهي دار واحدة وإن اختلفت الأوطان.
3. وحدة القيادة، الممثَّلة في الخليفة والإمام الأعظم، الذي يمثِّل الوحدة السياسية للأمة.
وبعد سقوط الخلافة، وتهديم هذه القلعة التاريخية منذ سنة 1924م، انقسمت الأمة الواحدة والدولة الواحدة، إلى عدد من الدول أو الدويلات الصغيرة، تتنازع فيما بينها لأسباب شتَّى لا يقرُّها الإسلام، كما سنبيِّن بعد قليل.
وقد بيَّنا وأكَّدنا: أن اقتتال المسلمين بعضهم مع بعض: أمر يرفضه الإسلام، وينكره أشدَّ الإنكار، لأنه ينافي (الأخوة الإسلامية) القائمة على أساس الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. فجعل الأخوة صِنو الإيمان. وهذه الأخوة، تقتضي تكافل المسلمين وتعاونهم وتناصرهم في السلم والحرب، وأن يكونوا يدا على مَن سواهم، لا أن يقاتل بعضهم بعضا، كما كان أهل الجاهلية يفعلون.
• من صور الاقتتال بين الدول الإسلامية :
وهذا الاقتتال بين الدول أو البلاد الإسلامية بعضها وبعض له صُور متعدِّدة، كلُّها مرفوض في نظر عقيدة الإسلام، وشريعة الإسلام، وأخلاق الإسلام. نذكر منها:
• ( 1 ) قتال العصبية:
صورة قتال العصبية، كقتال قبيلة مع قبيلة، أو قوم مع قوم، أو إقليم مع إقليم، كلُّ جماعة تتعصَّب لقبيلتها أو قومها أو إقليمها، ضدَّ مَن يخالفها في ذلك، وليس هذا القتال من أجل مبدأ أو فكرة، أو حقٍّ مضيَّع.
وهذا قتال يبرأ منه الإسلام كلَّ البراءة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَن قاتل تحت راية عُمَّية، يغضب لعَصَبَة، أو يدعو إلى عَصَبَة، أو ينصر عَصَبَة، فقُتِل، فقِتلَته جاهلية"[1] ، وفي حديث آخر: "ليس منا مَن دعا إلى عصبية، أو قاتل على عصبية، أو مات على عصبية"[2] .
وهكذا كانت حروب العرب في الجاهلية، بين القبائل بعضها وبعض، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، كحرب داحس والغبراء، بين عَبْس وذُبْيان، وحرب البسوس، بين بكر وتَغْلِب، وحرب الأوس والخزرج قبل الإسلام، إلى غيرها من الحروب، التي ينتصر فيها ابن القبيلة لقبيلته في الحقِّ والباطل، ويستجيبون فيها لشيخ القبيلة في اليسر والعسر.
كان شعارهم: انصر أخاك ظالما أو مظلوما. على معناها الظاهري، قبل أن يعدِّل الرسول مفهومها، "تنصره ظالما: تمنعه من الظلم، فذلك نصر له"[3] .
ومما يدخل في هذه العصبية الجاهلية: النعرات التي تثيرها القوى المعادية للإسلام، لإشعال نار الفتنة بينهم، وتأجيج الصراعات التي لا يستفيد منها أحد غير تلك القوى المتربِّصة بالمسلمين جميعا.
من ذلك ما نراه بين الحين والحين من صراع قد يؤدِّي إلى اقتتال بين العروق المختلفة في المجتمعات الإسلامية، كما نرى بين الحين والحين، بين العرب والأكراد، أو بين الأكراد والأتراك، أو بين العرب والفرس، أو بين العرب والأمازيغ ... إلى غيرها من العروق والأجناس التي توجد في داخل كثير من البلاد الإسلامية .
• ( 2 ) قتال التنازع على الحدود الإقليمية:
ومن القتال المحرَّم، الذي عرَفناه في عصرنا على نطاق واسع: قتال الدول الإسلامية بعضها مع بعض من أجل الحدود السياسية بين الأقطار، وهو من آثار الاستعمار ومكايده، فهو لم يكَد يترك بلدا إلا وترك فيها مشاكل حدودية بينها وبين جيرانها.
فقد ذكرنا أن أقطار المسلمين لعدَّة قرون كانت أجزاء أو ولايات في دولة واحدة كبرى، تجمعهم عقيدة الإسلام مرتكزا، وشريعة الإسلام مرجعا، كما تضمُّهم دار الإسلام وطنا، وخلافة الإسلام قيادة ورئاسة، حتى مكر الماكرون من اليهود وغيرهم بالخلافة، وما زالوا يكيدون لها حتى أسقطوها في سنة 1924م على يد كمال أتاتورك، واقتسم المتربِّصون من الأوربيين الاستعماريين (تركة الرجل المريض) - كما كانوا يسمُّون بلاد الخلافة العثمانية - فيما بينهم.
وبعد ذلك قامت فيها دول أو دويلات قُطرية صغيرة على أساس عِرقي أو لغوي أو إقليمي، أو غير ذلك، وترك الاستعمار الذي ورث الخلافة، وأشرف على تقسيم تركتها، واستفاد منها: مشكلات معلَّقة بين هذه الدول وبعض، قابلة للانفجار وإثارة النـزاعات فيما بينها، التي قد تؤدِّي إلى صراع مسلَّح في بعض الأحيان، ومعظم هذه النـزاعات يتعلَّق بالحدود الإقليمية بين الدول بعضها وبعض، برًّا وبحرًا. وغالبا ما يكون فيها جَور من قُطر على آخر، لتكون سببا في تأجيج الصراع بين البلدين.
وإذا كان الأصل هو وحدة المسلمين، فإنه لا مناص من الاعتراف بواقع التجزئة القائم، بحُكم الضرورة التي لا يمكن الاستغناء عنها، مع وجوب السعي الدائم إلى وحدة الأمة. ويلزم الدول الإقليمية التي تكوَّنت بعد إسقاط الخلافة: أن تنظِّم العَلاقة بينها (بعقد اتفاقيات ملزمة) بتعيين الحدود، منعا لأسباب النزاع، وسعيا إلى الاستقرار واستتباب الأمن. وتكون هذه الاتفاقيات أو المعاهدات ملزمة لأصحابها، كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34].
وقال: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل:92،91].
• ( 3 ) القتال على الملك:
ومن القتال الذي يقع - للأسف - بين المسلمين في عصرنا: القتال على الملك، أعني: أن دولة تريد أن توسِّع ملكها على حساب دولة مجاورة لها، وكلتاهما مُسلِمة.
كما رأينا في غزو العراق للكويت[4] ، فهي حرب لا هدف لها إلا الملك، بالعدوان على دولة أخرى، أضعف عدَّة وأقلَّ عددا، ابتغاء ابتلاعها والسيطرة عليها.
ورغم هذا، وجدنا الكويتيين الذين بقوا في البلاد ولم يغادروها، استطاعوا أن ينظِّموا مقاومة وطنية، تزعج الغزاة وتقضُّ مضاجعهم، وهذا هو الواجب: أن يدافع المظلوم عن نفسه، ويأخذ على يد الظالم، ولو بقتاله، ولا يضرُّه أن يكون الذي يقاتله مسلما؛ لأنه مسلم ظالم، ولا يجوز أن يُترك الظالم بدون دفع.
وقد ترتَّب على هذا الغزو الظالم الأحمق: ما سمي (حرب الخليج الثانية) عام 1991م، ودخول أمريكا برًّا وبحرا وجوًّا إلى المنطقة، بإذن من حُكَّامها، بل بطلبهم!
ودخلت أمريكا ومعها ما سمَّته (قوَّات التحالف): المنطقة العربية، وجرَّبت فيها أسلحتها الجديدة، وتخلَّصت من أسلحتها القديمة، ودمَّرت المنطقة بإذن أهلها، وبأموالهم، لتعيد بناءها بعد ذلك بأموالهم أيضا، وتمكِّن لنفسها في هذه البلاد، بعد أن كانت تحرَّرت منها إلى حدٍّ كبير، فقد عادت إليها لتبقى وتستمرَّ إلى ما شاء الله!
وقبل حرب الخليج الثانية هذه: كانت حرب الخليج الأولى[5] ، وهي التي شنَّ فيها صدام حسين الغارة على جارته إيران، منتهزا انشغالها في أول الأمر بتوطيد الثورة، وبتجميع القوة، ورفع الأنقاض، وإقامة البناء، واستمرَّت الحرب ثماني سنوات تحصد الألوف من الفريقين، حتى توقَّفت في (8 محرم 1409هـ الموافق 20 أغسطس 1988م).
ومن القتال على الملك: ما جرى بين فصائل الجهاد الأفغانية، بعد انتصارهم على الاتحاد السوفيتي، فقد أمسى إخوة الجهاد، ورفقاء السلاح بالأمس: أعداء اليوم، يقاتل بعضهم بعضا، ويضرب بعضهم بعضا بالصواريخ، ويصنع ببلده ما كان يصنعه الروس الكفَّار! وقد قلتُ لهم: إنكم أحسنتم أن تموتوا في سبيل الله، ولم تحسنوا أن تعيشوا في سبيل الله!
كان هذا من أجل مَن يقطف ثمرة النصر؟ وبعبارة أخرى أصرح: مَن يكون له الحُكم والملك؟ وهذا القتال - وإن لم يكن بين دول - هو قتال بين فصائل توشك أن تكون دولة.
وكم أصيب المسلمون في تاريخهم الطويل من جرَّاء التنازع على المُلك والسلطان، وما تمزيق الدولة الإسلامية الكبرى إلا من وراء الحركات الانفصالية عن الدولة الأم، وأول دوافعها: حبُّ الملك.
• تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الحرص على الإمارة :
هذا مع تحذير النبي صلى الله عليه وسلم، أمته من الحرص على الإمارة، وسؤالها وطلبها. فقد قال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرة: "لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتَها من غير مسألة: أُعنتَ عليها، وإن أُعطيتها عن مسألة: وُكلتَ إليها"[6] .
وقال لأبي ذر - وقد سأله أن يولِّيه على عمل - فضرب بيده على منكبه وقال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها"[7] .
وعن عوف بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي؟". فناديت بأعلى صوتي: وما هي يا رسول الله؟ قال: "أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا مَن عدل. وكيف يعدل مع قريبه؟!"[8] .
وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامة وحسرة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة"[9] .
• ماذا بعد وقوع الاقتتال؟
فإذا وقع الاقتتال. بالفعل، فقد وقع المنكر المحظور، ولكن ليس في إحدى الطائفتين إمامُ عَدْلٍ مبغي عليه، والآخر باغٍ، فكل منها مكافئ للآخر في دعواه، ولكن يجب أن يعالج هذا الاقتتال في ضوء الآيتين الكريمتين من سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10،9].
فالآيتان تخاطبان الأمة وتطالبانها: أن تتدخَّل للإصلاح ووقف نزف الدماء، ولكن مَن الذي يمثِّل الأمة هنا إذا لم يكن لها إمام مبايَع واجب الطاعة؟ والآية تشير إلى ضرورة نصب الإمام لحاجة الأمة إليه في حلِّ نزاعاتها، وإيقاف صراعاتها. ولهذا قال العلماء: إن نصب الإمام الأعظم فرض كفاية على الأمة[10] .
فالقتال - بحُكم سورة الحجرات - مشروع هنا في حالتين:
الأولى: نقض الصلح المُبرَم بين الطائفتين المتنازعتين، بعد الاتفاق عليه، بغيا من إحدى الطائفتين على الأخرى وهنا يجب قتال الطائفة التي نكثت العهد، ونقضت الصلح، وفي هذا تقول الآية الكريمة: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9].
والحالة الثانية: رفض إحدى الطائفتين الاستجابة لدعوة الصلح الذي أمر الله به، فهذا ضرب من البغي والعلو في الأرض. وإذا كان القرآن قد أمر بالاستجابة لدعوة السلم إذا طلبها المشركون المحاربون، كما قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61]. فكيف إذا كانت الدعوة إلى السلم والإصلاح بين المسلمين بعضهم وبعض؟
وإذا رفضت الطائفتان المتقاتلتان كلتاهما الدعوة إلى الإصلاح، وأصرَّتا على الاستمرار في سفك الدماء، بدون ضرورة ولا عذر مقبول، فإن الطائفتين كِلتيهما تعتبران باغيتين. وعلى جماعة أهل الحلِّ والعقد في الأمة أن تصفهما بذلك بصراحة، وتبيِّن حقيقتهما للأمة: أنهما باغيتان.
وعلى الأمة - ممثَّلة في هيئاتها ومؤسَّساتها المعبِّرة عنها - أن تقاتل الطائفة الباغية أو الطائفتين الباغيتين، ملتـزمة الآداب والأحكام المقرَّرة بخصوص قتال المسلم للمسلم، كما سنبين ذلك في قتال أهل البغي. من وجوب دفعهم بالأسهل فالأسهل، كما هو مقرَّر في أحكام دفع الصائل. فمَن اندفع بالكلام، فلا مبِّرر لدفعه بالعصا، ومن اندفع بالعصا فلا ضرورة لدفعه بالسيف، ومَن انهزم وفرَّ بعد شهر السيف، فلا يتبع، ومَن استسلم رحَّبنا به، ومَن جرح فلا يجوز الإجهاز عليه، ومن أُسر فلا يجوز قتله بحال. ولا يجوز قتلهم بما يعم إتلافه كالضرب بالمنجنيق ونحوه.
ولا يجوز الاستعانة بالكفار عليهم، لأنهم لا يلتـزمون في حربهم ما يلتزمه المسلمون، من اجتناب التعرُّض للمُولِّي والمنهزم، واجتناب التعرُّض للجرحى أو للأسرى بسوء.
• محكمة العدل الإسلامية:
فإذا لم يكن هناك إمام، فلا بد لأولي الأمر في البلاد الإسلامية بمعونة أهل الحلِّ والعقد: أن يعملوا على إيجاد مؤسسات يلجأ المسلمون إليها لحلِّ هذا النـزاع بالسلم بدل الدم. وذلك مثل: إنشاء (محكمة عدل إسلامية عالمية)، مهمتها حلُّ النـزاعات بين المسلمين عن طريق القضاء المُلزِم للطرفين، على غرار (محكمة العدل الدولية)، التي احتكم إليها بعض الدول الإسلامية في النـزاع بين بعضهم وبعض، مثل: قطر والبحرين.
ولا بد من تعزيز هذه المَحكمة بقوة عسكرية إسلامية، مكوَّنة من جميع البلاد الإسلامية، أو من عدد كبير منها. لوضع أحكام هذه المَحكمة موضع التنفيذ، وإلزام الدولة المحكوم عليها بوجوب تنفيذها، وإلا تعرَّضت لعقوبات مختلفة. فهي أشبه بمجلس الأمن في الأمم المتحدة.
مثل هذه المَحكمة يمكن أن تقوم بحلِّ النزاعات المُعلَّقة بين الدول، والوقاية من أن تتحوَّل هذه النزاعات إلى صراعات مسلَّحة، وتستطيع المَحكمة أن تفسر بعض ما يُختلف فيه من المعاهدات والاتفاقيات، فإذا حدث خلاف بين دولتين في تفسير بعض بنود الاتفاقية، أو في أيِّ موضوع بين بلدين كما وقع بين قطر والبحرين، وكما هو واقع بين المغرب والبوليساريو، أو بين مصر والسودان في مثلث حلايب، أو بين تركيا وسوريا حول بعض الأقاليم، أو غيرها من الدول، فإن الواجب أن تكون هناك (محكمة إسلامية دولية) يُرجع إليها في النزاع بين الطرفين أو الأطراف المختلفة.
• وجوب الرجوع إلى التحكيم للمحافظة على الأسرة :
فقد أوجب الله على المسلمين أن يرجعوا إلى (التحكيم) عند الشقاق بين الزوجين، فقال سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].
فإذا كان هذا التحكيم واجبا للحفاظ على هذه الوحدة الصغيرة (الأسرة)، أفلا يكون التحكيم واجبا للحفاظ على وحدة الأمة، أو - على الأقلِّ - وحدة شعوبها وأقطارها، فلا يهلكها التصارع فيما بينها، في حين يجب عليها أن تتوحَّد وتتآلف وتتكاتف، ويكون بعضها لبعضها كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا.
• التحكيم عند قتل المحرم صيدا :
بل رأينا القرآن الكريم يرشد إلى التحكيم في أمر أقلَّ من هذا شأنا وهو حينما يقتل المسلم صيدا وهو محرِم، فعليه أن يدفع قيمته كما يحكم به اثنان عدلان من المؤمنين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95].
• إفحام ابن عباس للخوارج :
وهذا مما حاجَّ به حَبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: جماعة الخوارج الذين انشقوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، واتهموه بأنه حكَّم الرجال في دين الله، والقرآن يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57، يوسف:40، يوسف:67].
فأفحمهم ابن عباس بأن القرآن أمر بالتحكيم في شأن الزوجين، وفي صيد الحرم، أفلا يشرع التحكيم في الخلاف بين فريقين كبيرين من أبناء الأمة [11]؟
وعلى (منظمة المؤتمر الإسلامي): أن تطوِّر نفسها واختصاصاتها وإمكاناتها، وعلى قادة الأمة أن يساعدوها، بحيث يكون من أجهزتها مثل هذه (المَحكمة) الإسلامية، وأن يكون قضاتها من كبار العلماء بالشريعة ومقاصدها، وبالعصر وتطوُّراته، وبالقوانين الدولية وغيرها، وأن يكونوا من الثقات المشهود لهم بالاستقامة ونصرة الحقِّ، وألا تأخذهم في الحقِّ لومة لائم.
والعجيب أني بعد أن كتبتُ هذه السطور وجدتُ أن هذه المَحكمة - من الناحية النظرية - موجودة، وصدر بها قرار من وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي، وأن مقرَّها الكويت، وفي هذا القانون بيان تشكيلها، واختصاصها ... إلخ[12] .
---------
هوامش :
[1] رواه مسلم في الإمارة (1848)، وأحمد في المسند (7944)، والنسائي في تحريم الدم (4114)، وابن ماجه في الفتن (3948)، عن أبي هريرة.
[2] رواه أبو داود في الأدب (5121) عن جبير بن مطعم، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود (1095).
[3] رواه البخاري عن أنس، وقد سبق تخريجه ص111.
[4] بدأت في: عاشر المحرم 1411هـ الموافق 2 أغسطس 1990م.
[5] بدأت في: 13 ذي القعدة 1400هـ الموافق 22 سبتمبر 1980م.
[6] متفق عليه: رواه البخاري في كفارات الأيمان (6722)، ومسلم في الإمارة (1652)، كما رواه أحمد في المسند (20618)، وأبو داود في الخراج والإمارة (2929)، والترمذي في النذور والأيمان (1529)، والنسائي في آداب القضاة (5384)، عن عبد الرحمن بن سَمُرة.
[7] رواه مسلم في الإمارة (1825)، والطيالسي في المسند (1/66)، وابن أبي شيبة في السير (33207)، والحاكم في معرفة الصحابة (4/103)، وصحَّح إسناده، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الكبرى كتاب آداب القاضي (10/95)، عن أبي ذر.
[8] رواه الطبراني في الأوسط (7/26)، وفي الكبير (18/71)، عن عوف بن مالك، وقال المنذري في الترغيب: ورواته رواة الصحيح (المنتقى:1174)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال الكبير رجال الصحيح (5/363).
[9] رواه البخاري في الأحكام (7148)، والنسائي في البيعة (4211)، وابن حبان في السير (10/334)، والبيهقي في الكبرى جماع أبواب موقف الإمام والمأموم (3/129)، عن أبي هريرة.
[10] الإنصاف للمرداوي (10/310).
[11] رواه أحمد في المسند عن علي وقد سبق تخريجه ص1071
[12] انظر: الملحق السابع (محكمة العدل الإسلامية).
----------( يُتبع )----------
الفصل الأول : الاقتتال بين الدول الإسلامية (1 من 2)
• وحدة الأمة الإسلامية :
من القتال الداخلي الممنوع شرعًا: اقتتال البلاد الإسلامية، أو الدول القُطرية الإسلامية بعضها مع بعض، كما نرى في زمننا هذا، بعد أن سقطت الخلافة الإسلامية، وانفرط عقد الوحدة الإسلامية، ولم يعُد للمسلمين مؤسَّسةٌ تعبِّر عن وحدتهم الإسلامية، المتمثِّلة في ثلاثة أمور:
1. وحدة المرجعية، وهي الشريعة الإسلامية.
2. وحدة الدار، أي دار الإسلام. فهي دار واحدة وإن اختلفت الأوطان.
3. وحدة القيادة، الممثَّلة في الخليفة والإمام الأعظم، الذي يمثِّل الوحدة السياسية للأمة.
وبعد سقوط الخلافة، وتهديم هذه القلعة التاريخية منذ سنة 1924م، انقسمت الأمة الواحدة والدولة الواحدة، إلى عدد من الدول أو الدويلات الصغيرة، تتنازع فيما بينها لأسباب شتَّى لا يقرُّها الإسلام، كما سنبيِّن بعد قليل.
وقد بيَّنا وأكَّدنا: أن اقتتال المسلمين بعضهم مع بعض: أمر يرفضه الإسلام، وينكره أشدَّ الإنكار، لأنه ينافي (الأخوة الإسلامية) القائمة على أساس الإيمان: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} [الحجرات: 10]. فجعل الأخوة صِنو الإيمان. وهذه الأخوة، تقتضي تكافل المسلمين وتعاونهم وتناصرهم في السلم والحرب، وأن يكونوا يدا على مَن سواهم، لا أن يقاتل بعضهم بعضا، كما كان أهل الجاهلية يفعلون.
• من صور الاقتتال بين الدول الإسلامية :
وهذا الاقتتال بين الدول أو البلاد الإسلامية بعضها وبعض له صُور متعدِّدة، كلُّها مرفوض في نظر عقيدة الإسلام، وشريعة الإسلام، وأخلاق الإسلام. نذكر منها:
• ( 1 ) قتال العصبية:
صورة قتال العصبية، كقتال قبيلة مع قبيلة، أو قوم مع قوم، أو إقليم مع إقليم، كلُّ جماعة تتعصَّب لقبيلتها أو قومها أو إقليمها، ضدَّ مَن يخالفها في ذلك، وليس هذا القتال من أجل مبدأ أو فكرة، أو حقٍّ مضيَّع.
وهذا قتال يبرأ منه الإسلام كلَّ البراءة، فقد قال صلى الله عليه وسلم: "مَن قاتل تحت راية عُمَّية، يغضب لعَصَبَة، أو يدعو إلى عَصَبَة، أو ينصر عَصَبَة، فقُتِل، فقِتلَته جاهلية"[1] ، وفي حديث آخر: "ليس منا مَن دعا إلى عصبية، أو قاتل على عصبية، أو مات على عصبية"[2] .
وهكذا كانت حروب العرب في الجاهلية، بين القبائل بعضها وبعض، كما أشرنا إلى ذلك من قبل، كحرب داحس والغبراء، بين عَبْس وذُبْيان، وحرب البسوس، بين بكر وتَغْلِب، وحرب الأوس والخزرج قبل الإسلام، إلى غيرها من الحروب، التي ينتصر فيها ابن القبيلة لقبيلته في الحقِّ والباطل، ويستجيبون فيها لشيخ القبيلة في اليسر والعسر.
كان شعارهم: انصر أخاك ظالما أو مظلوما. على معناها الظاهري، قبل أن يعدِّل الرسول مفهومها، "تنصره ظالما: تمنعه من الظلم، فذلك نصر له"[3] .
ومما يدخل في هذه العصبية الجاهلية: النعرات التي تثيرها القوى المعادية للإسلام، لإشعال نار الفتنة بينهم، وتأجيج الصراعات التي لا يستفيد منها أحد غير تلك القوى المتربِّصة بالمسلمين جميعا.
من ذلك ما نراه بين الحين والحين من صراع قد يؤدِّي إلى اقتتال بين العروق المختلفة في المجتمعات الإسلامية، كما نرى بين الحين والحين، بين العرب والأكراد، أو بين الأكراد والأتراك، أو بين العرب والفرس، أو بين العرب والأمازيغ ... إلى غيرها من العروق والأجناس التي توجد في داخل كثير من البلاد الإسلامية .
• ( 2 ) قتال التنازع على الحدود الإقليمية:
ومن القتال المحرَّم، الذي عرَفناه في عصرنا على نطاق واسع: قتال الدول الإسلامية بعضها مع بعض من أجل الحدود السياسية بين الأقطار، وهو من آثار الاستعمار ومكايده، فهو لم يكَد يترك بلدا إلا وترك فيها مشاكل حدودية بينها وبين جيرانها.
فقد ذكرنا أن أقطار المسلمين لعدَّة قرون كانت أجزاء أو ولايات في دولة واحدة كبرى، تجمعهم عقيدة الإسلام مرتكزا، وشريعة الإسلام مرجعا، كما تضمُّهم دار الإسلام وطنا، وخلافة الإسلام قيادة ورئاسة، حتى مكر الماكرون من اليهود وغيرهم بالخلافة، وما زالوا يكيدون لها حتى أسقطوها في سنة 1924م على يد كمال أتاتورك، واقتسم المتربِّصون من الأوربيين الاستعماريين (تركة الرجل المريض) - كما كانوا يسمُّون بلاد الخلافة العثمانية - فيما بينهم.
وبعد ذلك قامت فيها دول أو دويلات قُطرية صغيرة على أساس عِرقي أو لغوي أو إقليمي، أو غير ذلك، وترك الاستعمار الذي ورث الخلافة، وأشرف على تقسيم تركتها، واستفاد منها: مشكلات معلَّقة بين هذه الدول وبعض، قابلة للانفجار وإثارة النـزاعات فيما بينها، التي قد تؤدِّي إلى صراع مسلَّح في بعض الأحيان، ومعظم هذه النـزاعات يتعلَّق بالحدود الإقليمية بين الدول بعضها وبعض، برًّا وبحرًا. وغالبا ما يكون فيها جَور من قُطر على آخر، لتكون سببا في تأجيج الصراع بين البلدين.
وإذا كان الأصل هو وحدة المسلمين، فإنه لا مناص من الاعتراف بواقع التجزئة القائم، بحُكم الضرورة التي لا يمكن الاستغناء عنها، مع وجوب السعي الدائم إلى وحدة الأمة. ويلزم الدول الإقليمية التي تكوَّنت بعد إسقاط الخلافة: أن تنظِّم العَلاقة بينها (بعقد اتفاقيات ملزمة) بتعيين الحدود، منعا لأسباب النزاع، وسعيا إلى الاستقرار واستتباب الأمن. وتكون هذه الاتفاقيات أو المعاهدات ملزمة لأصحابها، كما قال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً} [الإسراء:34].
وقال: {وَلا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ} [النحل:92،91].
• ( 3 ) القتال على الملك:
ومن القتال الذي يقع - للأسف - بين المسلمين في عصرنا: القتال على الملك، أعني: أن دولة تريد أن توسِّع ملكها على حساب دولة مجاورة لها، وكلتاهما مُسلِمة.
كما رأينا في غزو العراق للكويت[4] ، فهي حرب لا هدف لها إلا الملك، بالعدوان على دولة أخرى، أضعف عدَّة وأقلَّ عددا، ابتغاء ابتلاعها والسيطرة عليها.
ورغم هذا، وجدنا الكويتيين الذين بقوا في البلاد ولم يغادروها، استطاعوا أن ينظِّموا مقاومة وطنية، تزعج الغزاة وتقضُّ مضاجعهم، وهذا هو الواجب: أن يدافع المظلوم عن نفسه، ويأخذ على يد الظالم، ولو بقتاله، ولا يضرُّه أن يكون الذي يقاتله مسلما؛ لأنه مسلم ظالم، ولا يجوز أن يُترك الظالم بدون دفع.
وقد ترتَّب على هذا الغزو الظالم الأحمق: ما سمي (حرب الخليج الثانية) عام 1991م، ودخول أمريكا برًّا وبحرا وجوًّا إلى المنطقة، بإذن من حُكَّامها، بل بطلبهم!
ودخلت أمريكا ومعها ما سمَّته (قوَّات التحالف): المنطقة العربية، وجرَّبت فيها أسلحتها الجديدة، وتخلَّصت من أسلحتها القديمة، ودمَّرت المنطقة بإذن أهلها، وبأموالهم، لتعيد بناءها بعد ذلك بأموالهم أيضا، وتمكِّن لنفسها في هذه البلاد، بعد أن كانت تحرَّرت منها إلى حدٍّ كبير، فقد عادت إليها لتبقى وتستمرَّ إلى ما شاء الله!
وقبل حرب الخليج الثانية هذه: كانت حرب الخليج الأولى[5] ، وهي التي شنَّ فيها صدام حسين الغارة على جارته إيران، منتهزا انشغالها في أول الأمر بتوطيد الثورة، وبتجميع القوة، ورفع الأنقاض، وإقامة البناء، واستمرَّت الحرب ثماني سنوات تحصد الألوف من الفريقين، حتى توقَّفت في (8 محرم 1409هـ الموافق 20 أغسطس 1988م).
ومن القتال على الملك: ما جرى بين فصائل الجهاد الأفغانية، بعد انتصارهم على الاتحاد السوفيتي، فقد أمسى إخوة الجهاد، ورفقاء السلاح بالأمس: أعداء اليوم، يقاتل بعضهم بعضا، ويضرب بعضهم بعضا بالصواريخ، ويصنع ببلده ما كان يصنعه الروس الكفَّار! وقد قلتُ لهم: إنكم أحسنتم أن تموتوا في سبيل الله، ولم تحسنوا أن تعيشوا في سبيل الله!
كان هذا من أجل مَن يقطف ثمرة النصر؟ وبعبارة أخرى أصرح: مَن يكون له الحُكم والملك؟ وهذا القتال - وإن لم يكن بين دول - هو قتال بين فصائل توشك أن تكون دولة.
وكم أصيب المسلمون في تاريخهم الطويل من جرَّاء التنازع على المُلك والسلطان، وما تمزيق الدولة الإسلامية الكبرى إلا من وراء الحركات الانفصالية عن الدولة الأم، وأول دوافعها: حبُّ الملك.
• تحذير النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الحرص على الإمارة :
هذا مع تحذير النبي صلى الله عليه وسلم، أمته من الحرص على الإمارة، وسؤالها وطلبها. فقد قال صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن بن سَمُرة: "لا تسأل الإمارة، فإنك إن أُعطيتَها من غير مسألة: أُعنتَ عليها، وإن أُعطيتها عن مسألة: وُكلتَ إليها"[6] .
وقال لأبي ذر - وقد سأله أن يولِّيه على عمل - فضرب بيده على منكبه وقال: "يا أبا ذر، إنك ضعيف، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا من أخذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها"[7] .
وعن عوف بن مالك، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن شئتم أنبأتكم عن الإمارة وما هي؟". فناديت بأعلى صوتي: وما هي يا رسول الله؟ قال: "أولها ملامة، وثانيها ندامة، وثالثها عذاب يوم القيامة، إلا مَن عدل. وكيف يعدل مع قريبه؟!"[8] .
وعن أبي هريرة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وإنها ستكون ندامة وحسرة يوم القيامة، فنعمت المرضعة، وبئست الفاطمة"[9] .
• ماذا بعد وقوع الاقتتال؟
فإذا وقع الاقتتال. بالفعل، فقد وقع المنكر المحظور، ولكن ليس في إحدى الطائفتين إمامُ عَدْلٍ مبغي عليه، والآخر باغٍ، فكل منها مكافئ للآخر في دعواه، ولكن يجب أن يعالج هذا الاقتتال في ضوء الآيتين الكريمتين من سورة الحجرات: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات:10،9].
فالآيتان تخاطبان الأمة وتطالبانها: أن تتدخَّل للإصلاح ووقف نزف الدماء، ولكن مَن الذي يمثِّل الأمة هنا إذا لم يكن لها إمام مبايَع واجب الطاعة؟ والآية تشير إلى ضرورة نصب الإمام لحاجة الأمة إليه في حلِّ نزاعاتها، وإيقاف صراعاتها. ولهذا قال العلماء: إن نصب الإمام الأعظم فرض كفاية على الأمة[10] .
فالقتال - بحُكم سورة الحجرات - مشروع هنا في حالتين:
الأولى: نقض الصلح المُبرَم بين الطائفتين المتنازعتين، بعد الاتفاق عليه، بغيا من إحدى الطائفتين على الأخرى وهنا يجب قتال الطائفة التي نكثت العهد، ونقضت الصلح، وفي هذا تقول الآية الكريمة: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات:9].
والحالة الثانية: رفض إحدى الطائفتين الاستجابة لدعوة الصلح الذي أمر الله به، فهذا ضرب من البغي والعلو في الأرض. وإذا كان القرآن قد أمر بالاستجابة لدعوة السلم إذا طلبها المشركون المحاربون، كما قال تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} [الأنفال: 61]. فكيف إذا كانت الدعوة إلى السلم والإصلاح بين المسلمين بعضهم وبعض؟
وإذا رفضت الطائفتان المتقاتلتان كلتاهما الدعوة إلى الإصلاح، وأصرَّتا على الاستمرار في سفك الدماء، بدون ضرورة ولا عذر مقبول، فإن الطائفتين كِلتيهما تعتبران باغيتين. وعلى جماعة أهل الحلِّ والعقد في الأمة أن تصفهما بذلك بصراحة، وتبيِّن حقيقتهما للأمة: أنهما باغيتان.
وعلى الأمة - ممثَّلة في هيئاتها ومؤسَّساتها المعبِّرة عنها - أن تقاتل الطائفة الباغية أو الطائفتين الباغيتين، ملتـزمة الآداب والأحكام المقرَّرة بخصوص قتال المسلم للمسلم، كما سنبين ذلك في قتال أهل البغي. من وجوب دفعهم بالأسهل فالأسهل، كما هو مقرَّر في أحكام دفع الصائل. فمَن اندفع بالكلام، فلا مبِّرر لدفعه بالعصا، ومن اندفع بالعصا فلا ضرورة لدفعه بالسيف، ومَن انهزم وفرَّ بعد شهر السيف، فلا يتبع، ومَن استسلم رحَّبنا به، ومَن جرح فلا يجوز الإجهاز عليه، ومن أُسر فلا يجوز قتله بحال. ولا يجوز قتلهم بما يعم إتلافه كالضرب بالمنجنيق ونحوه.
ولا يجوز الاستعانة بالكفار عليهم، لأنهم لا يلتـزمون في حربهم ما يلتزمه المسلمون، من اجتناب التعرُّض للمُولِّي والمنهزم، واجتناب التعرُّض للجرحى أو للأسرى بسوء.
• محكمة العدل الإسلامية:
فإذا لم يكن هناك إمام، فلا بد لأولي الأمر في البلاد الإسلامية بمعونة أهل الحلِّ والعقد: أن يعملوا على إيجاد مؤسسات يلجأ المسلمون إليها لحلِّ هذا النـزاع بالسلم بدل الدم. وذلك مثل: إنشاء (محكمة عدل إسلامية عالمية)، مهمتها حلُّ النـزاعات بين المسلمين عن طريق القضاء المُلزِم للطرفين، على غرار (محكمة العدل الدولية)، التي احتكم إليها بعض الدول الإسلامية في النـزاع بين بعضهم وبعض، مثل: قطر والبحرين.
ولا بد من تعزيز هذه المَحكمة بقوة عسكرية إسلامية، مكوَّنة من جميع البلاد الإسلامية، أو من عدد كبير منها. لوضع أحكام هذه المَحكمة موضع التنفيذ، وإلزام الدولة المحكوم عليها بوجوب تنفيذها، وإلا تعرَّضت لعقوبات مختلفة. فهي أشبه بمجلس الأمن في الأمم المتحدة.
مثل هذه المَحكمة يمكن أن تقوم بحلِّ النزاعات المُعلَّقة بين الدول، والوقاية من أن تتحوَّل هذه النزاعات إلى صراعات مسلَّحة، وتستطيع المَحكمة أن تفسر بعض ما يُختلف فيه من المعاهدات والاتفاقيات، فإذا حدث خلاف بين دولتين في تفسير بعض بنود الاتفاقية، أو في أيِّ موضوع بين بلدين كما وقع بين قطر والبحرين، وكما هو واقع بين المغرب والبوليساريو، أو بين مصر والسودان في مثلث حلايب، أو بين تركيا وسوريا حول بعض الأقاليم، أو غيرها من الدول، فإن الواجب أن تكون هناك (محكمة إسلامية دولية) يُرجع إليها في النزاع بين الطرفين أو الأطراف المختلفة.
• وجوب الرجوع إلى التحكيم للمحافظة على الأسرة :
فقد أوجب الله على المسلمين أن يرجعوا إلى (التحكيم) عند الشقاق بين الزوجين، فقال سبحانه: {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا} [النساء:35].
فإذا كان هذا التحكيم واجبا للحفاظ على هذه الوحدة الصغيرة (الأسرة)، أفلا يكون التحكيم واجبا للحفاظ على وحدة الأمة، أو - على الأقلِّ - وحدة شعوبها وأقطارها، فلا يهلكها التصارع فيما بينها، في حين يجب عليها أن تتوحَّد وتتآلف وتتكاتف، ويكون بعضها لبعضها كالبنيان يشدُّ بعضه بعضا.
• التحكيم عند قتل المحرم صيدا :
بل رأينا القرآن الكريم يرشد إلى التحكيم في أمر أقلَّ من هذا شأنا وهو حينما يقتل المسلم صيدا وهو محرِم، فعليه أن يدفع قيمته كما يحكم به اثنان عدلان من المؤمنين، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ} [المائدة:95].
• إفحام ابن عباس للخوارج :
وهذا مما حاجَّ به حَبر الأمة عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: جماعة الخوارج الذين انشقوا على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، واتهموه بأنه حكَّم الرجال في دين الله، والقرآن يقول: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ} [الأنعام:57، يوسف:40، يوسف:67].
فأفحمهم ابن عباس بأن القرآن أمر بالتحكيم في شأن الزوجين، وفي صيد الحرم، أفلا يشرع التحكيم في الخلاف بين فريقين كبيرين من أبناء الأمة [11]؟
وعلى (منظمة المؤتمر الإسلامي): أن تطوِّر نفسها واختصاصاتها وإمكاناتها، وعلى قادة الأمة أن يساعدوها، بحيث يكون من أجهزتها مثل هذه (المَحكمة) الإسلامية، وأن يكون قضاتها من كبار العلماء بالشريعة ومقاصدها، وبالعصر وتطوُّراته، وبالقوانين الدولية وغيرها، وأن يكونوا من الثقات المشهود لهم بالاستقامة ونصرة الحقِّ، وألا تأخذهم في الحقِّ لومة لائم.
والعجيب أني بعد أن كتبتُ هذه السطور وجدتُ أن هذه المَحكمة - من الناحية النظرية - موجودة، وصدر بها قرار من وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي، وأن مقرَّها الكويت، وفي هذا القانون بيان تشكيلها، واختصاصها ... إلخ[12] .
---------
هوامش :
[1] رواه مسلم في الإمارة (1848)، وأحمد في المسند (7944)، والنسائي في تحريم الدم (4114)، وابن ماجه في الفتن (3948)، عن أبي هريرة.
[2] رواه أبو داود في الأدب (5121) عن جبير بن مطعم، وضعَّفه الألباني في ضعيف أبي داود (1095).
[3] رواه البخاري عن أنس، وقد سبق تخريجه ص111.
[4] بدأت في: عاشر المحرم 1411هـ الموافق 2 أغسطس 1990م.
[5] بدأت في: 13 ذي القعدة 1400هـ الموافق 22 سبتمبر 1980م.
[6] متفق عليه: رواه البخاري في كفارات الأيمان (6722)، ومسلم في الإمارة (1652)، كما رواه أحمد في المسند (20618)، وأبو داود في الخراج والإمارة (2929)، والترمذي في النذور والأيمان (1529)، والنسائي في آداب القضاة (5384)، عن عبد الرحمن بن سَمُرة.
[7] رواه مسلم في الإمارة (1825)، والطيالسي في المسند (1/66)، وابن أبي شيبة في السير (33207)، والحاكم في معرفة الصحابة (4/103)، وصحَّح إسناده، ووافقه الذهبي، والبيهقي في الكبرى كتاب آداب القاضي (10/95)، عن أبي ذر.
[8] رواه الطبراني في الأوسط (7/26)، وفي الكبير (18/71)، عن عوف بن مالك، وقال المنذري في الترغيب: ورواته رواة الصحيح (المنتقى:1174)، وقال الهيثمي في مجمع الزوائد: رجال الكبير رجال الصحيح (5/363).
[9] رواه البخاري في الأحكام (7148)، والنسائي في البيعة (4211)، وابن حبان في السير (10/334)، والبيهقي في الكبرى جماع أبواب موقف الإمام والمأموم (3/129)، عن أبي هريرة.
[10] الإنصاف للمرداوي (10/310).
[11] رواه أحمد في المسند عن علي وقد سبق تخريجه ص1071
[12] انظر: الملحق السابع (محكمة العدل الإسلامية).
----------( يُتبع )----------
مواضيع مماثلة
» && أخي المعالج : النية فى علاج الأمة الإسلامية && ) !!!
» أجمعوا على تأكيد "الهوية الإسلامية" لمصر.. "الدعوة السلفية" و"الجماعة الإسلامية" وحزب "النور" و"الإخوان" يبدون تحفظات على بنود بوثيقة الأزهر
» وحدة الوطن
» انا اتعرفت على وحدة عن طريق الماسنجر
» قطز مجدد الأمة
» أجمعوا على تأكيد "الهوية الإسلامية" لمصر.. "الدعوة السلفية" و"الجماعة الإسلامية" وحزب "النور" و"الإخوان" يبدون تحفظات على بنود بوثيقة الأزهر
» وحدة الوطن
» انا اتعرفت على وحدة عن طريق الماسنجر
» قطز مجدد الأمة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin