بحـث
الشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المواضيع الأخيرة
نوفمبر 2024
الأحد | الإثنين | الثلاثاء | الأربعاء | الخميس | الجمعة | السبت |
---|---|---|---|---|---|---|
1 | 2 | |||||
3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 |
10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 |
17 | 18 | 19 | 20 | 21 | 22 | 23 |
24 | 25 | 26 | 27 | 28 | 29 | 30 |
الحمدلله على نعمة الاسلام
ايها الاخوه الدعاه الى الله وكذا جميع الزائرين والزائرات مرحبا بكم واهلا نتمنى من الله ان نكون عند حسن ظنكم جميا والله الموفق الى الخير وهو حسبنا ونعم الوكيلالشيخ محمدشوقى
ُ مُنْتَدَيَاتُ مُلْتَقَى؛ الدُعَاةُ}ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ
وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن
ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ }النحل125.
المتواجدون الآن ؟
ككل هناك 25 عُضو متصل حالياً :: 0 عضو مُسجل, 0 عُضو مُختفي و 25 زائر لا أحد
أكبر عدد للأعضاء المتواجدين في هذا المنتدى في نفس الوقت كان 76 بتاريخ الأربعاء 30 أكتوبر 2024, 11:01 pm
( دفع الصائل وأحكامه في الفقه الإسلامي) .
صفحة 1 من اصل 1
( دفع الصائل وأحكامه في الفقه الإسلامي) .
فقد أعطى الله سبحانه وتعالى لكل إنسان الحق في الحياة ، والعيش الكريم ، وحذر من الاعتداء على شئ من حرماته بغير حق شرعي ، فليس لأحد مهما كانت مكانته وسلطانه أن يسلب إنسانا حقوقه التي جاءت الشريعة بحفظها ، ومن فعل ذلك فقد آذان الناس جميعا بالحرب فالإنسانية كلها متضامنة في رفع اليد التي تبسط لإيذاء الإنسان والتطاول عليه ظلما وعلوا في الأرض.
وإذا كان الأمر كذلك فقد جاءت الشريعة مقرة لحق الناس جماعات وأفرادا في الدفاع عن حرماتهم ، وحفظ أمنهم ، واسترداد حقوقهم المسلوبة ، ورد عدوان المعتدين ، وظلم الظالمين ، ولو أدى ذلك إلى سفك دمائهم ، وإزهاق أرواحهم ،وفي هذا غاية العدل والإنصاف ، الذي هو أساس الدين ، وركن الشريعة.
ومن هذا المنطلق آثرت أن يكون بحثي عن حق الإنسان في الدفاع عن نفسه وحرمته وماله ودينه وعنونت له بـ( دفع الصائل وأحكامه في الفقه الإسلامي) .
فصل: معنى دفع الصائل وأحكامه: وفي هذا الفصل مبحثان:
المبحث الأول: تعريف (دفع الصائل)
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف دفع الصائل لغة
(دفع الصائل) جملة مركبة من كلمتين (دفع) و (الصائل).
أما الأولى فجاء في معجم المقاييس: الدال والفاء والعين أصل واحد مشهور، يدل على تنحية الشيء، يقال دفعت الشيء أدفعه دفعًا، ودافع الله عنه السوء ودفاعًا[1].
ومن ذلك قولهم تدافع القوم في الحرب أي دفع بعضهم بعضًا، واستدفع الله الأسواء أي طلب منه أن يدفعها عنه[2].
وأما كلمة (الصائل) فاسم فاعل من الفعل صال أي استطال، وصال عليه وثب. وصولة بمعنى وثبة، يقال: ربَّ قول أشدُّ من صول، والمصاولة المواثبة، وكذلك الصيال والصيالة والصولان[3].
يقول ابن فارس: الصاد والواو واللام أصل صحيح يدل على قهر وعلو[4].
والصؤول من الرجال من يضرب الناس ويتطاول عليهم[5].
المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة بلفظتي (دفع) و (الصائل)
من الألفاظ ذات الصلة بلفظة (دَفْع) ما يلي:
1- لفظة (درء) من الفعل دَرَأ قال الرازي: (الدرء الدفع)[6] .
2- لفظة (ردُّ) من الفعل رَدَّ يقال ردّه عن وجهه ويرده ردًّا ورِدَّةً بالكسر صرفه[7].
3- لفظة (منْع) من الفعل مَنَعَ من الفعل مَنَعَ والمنع ضد الإعطاء[8].
ومن الألفاظ المتصلة بـ (المدافعة) (المجاهدة) أو (الجهاد) من الفعل جاهد ويقصد به بذل الوسع[9].
و (المقاتلة) من الفعل قاتل يقال: استقتل أي استمات بمعنى لم يبالِ بالموت لشجاعته[10].
وأما لفظة (الصائل) من الألفاظ المتصلة بمعنى الصول ما يلي:
1- لفظة (العادي) جاء في المختار: العادي العدو، وتعادى القوم، والعداوة، والعداء بالفتح والمد تجاوز الحد في الظلم و (المعتدي) مثله وهو من الفعل (اعتدى)[11].
2- لفظة (المتطاول) وهو اسم الفاعل من الفعل تطاول[12].
3- لفظة (الهاجم) و (المهاجم) يقول ابن فارس: (الهاء والجيم والميم أصل صحيح واحد يدل على ورود شيء بغتة... يقال: هجمت على القوم بغته، أهجم هجومًا... والهجمة من الإبل ما بين التسعين إلى المائة لأنها تهجم المورد نقوة)[13].
المطلب الثالث: تعريف (دفع الصائل) اصطلاحًا
عرِّف الصائل بأنه: كل قاصد من مسلم وذمي وعبد وحر وصبي ومجنون وبهيمة[14] يجوز دفعه على معصوم من نفس أو طرف أو منفعة أو بضع أو مال[15].
وقيل هو: الوثوب على معصوم بغير حق[16].
فعلى هذا يكون معنى دفع الصائل: منع أو درء أو ردُّ كل قاصد من مسلم... إلخ، وقد نص التعريف على أن الصائل قد يكون آدمي معصوم وإن كان عبدًا أو غير مكلف من صبي ومجنون، قد يكون الصائل مال ولذا قال (وبهيمة).
ولا يعني النص على كون الصائل قد يكون آدمي معصوم أنه لا يتصور كون الصائل آدمي غير معصوم كحربي ومرتد بل يتصور ومدافعته حينئذ آكد وإنما نص على المعصوم لزوال عصمته بالصول أما غيره فلا احترام ولا عصمة له أصلاً.
وأما قوله (يجوز دفعه) في التعريف الأول و (بغير حق) في التعريف الثاني ليخرج ما لا يجوز دفعه من الصائلين، وهو الصائل بحق ولذا قال في التعريف الثاني: الوثوب بغير حق، وهذا هو الذي تشرع مدافعته على ما سيأتي بيانه.
وأما قوله (على معصوم) قال البكري: (خرج الحربي والمرتد وتارك الصلاة فلا يجوز للشخص دفع الصائل عنهم)[17].
وفي آخر التعريف بيان لما قد يقع عليه الصول فقد يقع على نفس المصول عليه أو طرفه أو منفعة طرف، أو على عرضه، أو عرض حريمه، أو ماله.
ويمكن أن يضاف هنا إلى أنواع ما قد يصال عليه (الدين) كما لو اندفع آدمي أو غيره على مصحف لتمزيقه أو تدنيسه.
المبحث الثاني: أحكام دفع الصائل
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الصول
يطلق الصائل في كتب الفقهاء على المندفع بغير حق يقول شيخ الإسلام في فتاويه: وهذا الذي تسميه الفقهاء الصائل هو الظالم بلا تأويل[18].
ويقول الشيخ محمد مختار الشنقيطي: ثم إن هذا الصائل إذا هجم على الغير قد يهجم بحق، وقد يهجم بغير حق... كأن يكون الذي هجم عليه مطالبًا بحق الله أو بجريمة، وكلام العلماء ينص على حاله ما إذا كان الصائل بغير حق وليس المراد ما إذا كان بحق، فمن هجم على الغير وعنده حق في هذا الهجوم وله إذن شرعي فإنه يخرج من مسألتنا[19].
بل نص كثير من العلماء على أن الصائل الذي يدافع ويهدر دمه بصوله هو الصائل بغير حق ولذا بوّب الإمام مسلم لحديث عبدالله بن عمرو الآتي بباب: (الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وإن من قتل دون ماله فهو شهيد)[20].
كما نص على ذلك الإمام النووي عند شرحه الحديث[21].
ويقول الشوكاني في النيل: وأحاديث الباب فيها دليل على أنه تجوز مقاتلة من أراد أخذ مال إنسان... إذا كان الأخذ بغير حق[22].
كما نص على ذلك غيرهم[23].
فإذا كان الصول عند الفقهاء هو التطاول على الغير من المعصومين ظلمًا وعدوانًا فإن حكمه التحريم يدل على ذلك قوله تعالى:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[24] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[25]. وهذا في المال فغيره من باب أولى.
وكما دل الكتاب على تحريم الاعتداء على الآخرين دلت عليه السنة النبوية جاء في حديث نفيع بن الحارث -t- أن النبي r قال: «أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض».
إلى قوله r: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»[26].
بوّب له الإمام مسلم بباب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال.
يقول الإمام النووي: المراد بهذا كله -يقصد ما قدمه النبي r بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض، والتحذير من ذلك[27].
ويقول الحافظ ابن حجر: قوله: «فإن دماءكم...» هو على حذف مضاف، أي سفك دمائكم، وأخذ أموالكم، وثلب أعراضكم، والعِرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو سلفه[28].
وقد جاءت الأحاديث التي لا تحصى في بيان شدة قبح الظلم، وشناعة جرم من اقترفه، ووجوب احترام حق المسلم، والحث على الإحسان إليه والتحذير من إيذائه.
المطلب الثاني: الصائل
وفيه أربعة فروع:
الفرع الأول: حكم دفع الصائل.
الصائل لا يخلو من أن يكون آدميًا أو غير آدمي، والآدمي إما أن يكون معصومًا أو غير معصوم، وقد يكون مكلف أو غير مكلف، كما أن المصول عليه قد يكون نفسًا أو طرفًا أو منفعة أو عرضًا أو مالاً أو دينًا، والصول قد يكون بحق وقد يكون بغير حق.
ودفع الصائل مشروع في الجملة بل نقل بعضهم الاتفاق على ذلك.
جاء في المجموع: إذا قصده رجل في نفسه أو ماله أو أهله بغير حق، فيجوز للمصول عليه أن يدفع طالب قتله عن نفسه أو طرفه أو زوجة أو ولده، وماله، وإن أفضى الدفع إلى قتله، وسواء كان الصائل آدميًا مكلفًا كالبالغ العاقل، أو كان غير مكلف كالصبي والمجنون، أو كان بهيمة كالفحل الصائل والبعير الهائج... وإذا جاز دفعه بالقتل، وهو متفق عليه، كان نفسه هدرًا، مكلفًا أو غير مكلف[29].
ويقول الحافظ في الفتح: واتفقوا على جواز دفع الصائل ولو أتى على نفس المدفوع[30].
ونقل ابن قدامة الموفق المقدسي الإجماع على جواز دفع الصائل من البهائم وإن أفضى دفعها إلى قتلها يقول -رحمه الله-: وجملته أن الإنسان إذا صالت عليه بهيمة، فلم يمكنه دفعها إلا بقتلها، جاز له قتلها إجماعًا[31].
ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله- في فتاويه حاكيًا الإجماع على مشروعية دفع الصائل على النفس: وكذا إذا طلبوا -أي المحاربين- دمه كان له أن يدفعهم ولو بالقتل إجماعًا[32].
فإن قيل نصَّ على الإجماع في مشروعية الدفع عن الدم فماذا عن المال؟
أجيب بأنه -رحمه الله- ساق أيضًا الإجماع على مشروعية الدفع عن المال حيث يقول: ويجوز للمظلومين الذين تراد أموالهم قتال المحاربين بإجماع المسلمين[33].
كما نص كثير من العلماء على مشروعية دفع الصائل[34]، وأنه حق للمصول ويشمل ذلك ما إذا كان الصائل مكلفًا أو غير مكلف كصبي ومجنون وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام حين قال: وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرًا[35].
ولما أورد -يرحمه الله- قصة قتل موسى الغلام الواردة في سورة الكهف قال: وقصة الغلام مضمونها جواز قتل الصبي الصائل[36].
كما قرر كثير من العلماء شرعية قتل الصائل من غير المكلفين، ولهم في ذلك نصوص صريحة[37].
فإذا كان الصائل غير معصوم فدفعه أولى.
يقول شيخ الإسلام: الكافر الحربي الذي يستحل دماء المسلمين، وأموالهم، ويرى جواز قتالهم، أولى بالمحاربة من الفاسق الذي يعتقد تحريم ذلك[38].
بل أوجب بعض العلماء مدافعة الصائل من الكفار معصومًا أو غير معصوم.
يقول الشربيني: ويجب الدفع عن بضع... وعن نفسه إذا قصدها كافر ولو معصومًا أو غير معصوم لا حرمة له والمعصوم بطلت حرمته بصياله، ولأن الاستسلام للكافر ذل في الدين[39].
وذكر البكري نحوه[40]. وهو ما رجحه النووي -رحمه الله- في الروضة[41].
وهذا في الصائل من الكفار على أحد المسلمين، فإن كان الصول من مجتمع كافر على مجتمع من المسلمين فحينئذ يجب مدافعة الكفار وهو ما يعرف في اصطلاح الفقهاء بـ (قتال الدفع).
يقول شيخ الإسلام: فإما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين، وعلى غير المقصودين، لإعانتهم... فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار[42].
وهذا الموضوع كبير ويحتاج إلى بحث مستقل ولكنني أشرت إليه من باب إتمام عناصر الموضوع.
وكما يتنوع الصائل فإن المصول عليه يتنوع أيضًا إلى نفس ومنفعة وبضع ومال وسأتناول في الفرع الثالث من هذا الفصل هذا الموضوع بالتفصيل.
فإن ثبتت مشروعية دفع الصائل بما يندفع به وإن كان قتلاً باتفاق العلماء[43].
فكيف يجاب عن حديث ابن مسعود عن رسول الله r أنه قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»[44].
حيث نص الحديث على تحريم كل دم سوى من ذكرهم في الحديث وليس الصائل منهم.
قيل: ذكر ابن دقيق العيد أن هذا الحديث عام يُخص منه الصائل ونحوه، فيباح قتله، قال: وقد يجاب عن هذا: بأنه داخل في المفارق للجماعة، ويكون المراد لا يحل تعمد قتله قصدًا إلا في هؤلاء الثلاثة، والله أعلم[45].
وذكر الصنعاني، والعظيم آبادي، والحافظ في الفتح، والمباركفوري[46] نحوًا مما ذكر ابن دقيق العيد.
مسألة: حكم دفع الصائل بحق:
مدافعة الصائل بحق محرمة لأنها اعتداء بغير حق، وقد رأينا في زمننا هذا تعدي بعض ذوي التوجهات المنحرفة، والأفكار الضالة، يستبيحون الدماء المعصومة، والأرواح المحترمة لرجال السلطان، ومسؤولي الأمن وغيرهم وحجتهم (مشروعية دفع الصائل) ويصدِّر رؤوس الضلال منهم فتاويه على شبكة المعلومات بمثل هذه المصطلحات الفقهية، وما ذاك إلا تبريرًا لجرمهم، وتغطية لضلالهم، وللعبث والتغرير بعقول السفهاء والعامة ممن ليس لديهم قليل فقه ولا كثيره.
وقد تجد في تلكم الفتاوى بعض الأدلة الشرعية كحديث: «من قتل دون دمه... » وغيره ليقبل قولهم، وتروج أفكارهم.
والمتتبع لتاريخ الفرق الضالة يرى أنها كانت تتترس ببعض المصطلحات البراقة لخداع العامة فالخوارج رفعوا شعار التحاكم لله دون غيره، والروافض رفعوا شعار حب آل البيت، بل إن كل صاحب باطل لابد أن يستر باطله بحق ليُقبل ولذا فكل الغزاة والمستعمرين الذين نهبوا ثروات المسلمين كان شعارهم في حملاتهم تحقيق العدل والحرية والمساواة في بلاد المسلمين.
* وللرد على من استباح الدماء والأنفس المعصومة بقصد دفع الصائل أقول:
إن العلماء لما تناولوا مسألة الصائل نقلوا ما ذكره ابن المنذر من أن الذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلمًا بغير تفصيل إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه[47].
وإجماع المحدثين على عدم جواز دفع رسول السلطان وإن كان ظالمًا. فكيف إذا كان يريده بحق؟!
بل إن شيخ الإسلام -رحمه الله- عدّ جند السلطان الذين يدفعون عن المسلمين وأرضهم مجاهدون في سبيل الله يقول -رحمه الله- في معرض حديثه عن الصائل وأحكامه: ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلاً على طلب المحاربين... وللجند الذين يرسلهم في طلبهم، بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله، فيخرج فيه جند المسلمين... وينفق على المجاهدين[48] في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزاة[49].
فعلى هذا كل من صال بحق فيحرم قتله، ومع الحرمة يترتب وجوب الضمان من عدمه وإن كان هذا الصائل بهيمة ككلب الحراسة، إذ لو صال على من أقبل عليه فقتله المصول عليه لضمنه؛ لأن صوله بحق، والشرع رخص في كلب الحراسة.
الفرع الثاني: الأصل في مشروعية دفع الصائل والحكمة من ذلك:
اعتنى الإسلام بمصالح الإنسان الدنيوية كما اعتنى بأمور آخرته، وأتى بالتشريعات التي تكفل له صيانة حقوقه.
وقد قرر الإسلام كليات خمس وسعى في سائر تشريعاته لحفظها وهي النفس، والمال، والعقل، والعرض، والدين.
وذلك لأن حفظ هذه الكليات هو السبيل الوحيد لاستقرار المجتمع المسلم، وسعادة أفراده، وأما التفريط في حفظ أحد هذه الكليات فيعني اضطراب المجتمع، وضياع الأمن.
ولأن العقل البشري قاصر عاجز عن سن القوانين التي تمنحه الأمن والسعادة، ومفتقر أبدًا إلى تشريع إلهي يحفظ حقوقه، ويصونها، جاءت مشروعية دفاع المرء عن نفسه وماله وعرضه من كل اعتداء جائر، وإن كان المعتدي من أهل الإسلام؛ حفظا للأنفس المعصومة، وعناية بالدماء المحرمة، وحرصًا على صيانة الأعراض والأموال من أن تنتهك أو تغتصب.
وقد وردت نصوص كثيرة تبين مشروعية دفع الصائل ومن ذلك:
أولاً: من القرآن الكريم:
دل الكتاب على مشروعية رد المعتدي ومن النصوص في ذلك:
أ - قال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[50].
يقول القرطبي -يرحمه الله- عند تفسيره هذه الآية: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}
عموم متفق عليه، إما بالمباشرة، إن أمكن. وإما بالحكام، واختلف الناس في المكافأة هل تسمى عدوانًا أم لا؟ وقال: ليس في القرآن مجاز قال: المقابلة عدوان وهو عدوان مباح][51].
وهذه الآية أصل يعتمد عليه في مشروعية دفع الصائل يقول البكري -رحمه الله-: والأصل في الصيال قوله تعالى:{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}
ب- قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[52]
فالله I امتدح في هذه الآيات عباده الذين ينتصرون على من بغى عليهم لأنه تعالى يكره الذلة، وقد ذكر هؤلاء المنتصرين في معرض المدح؛ لأن التذلل لمن بغى ليس من صفات من جعل الله له العزة حيث قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}[53]
جـ- قال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين}[54].
فدلت الآيتان الأولى والثانية على مشروعية مقاتلة من بدأنا بالقتال.
ثانيًا: من السنة النبوية:
أ- ما جاء في الحديث الذي يرويه سعيد بن زيد -t- أن النبي r قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد»[55] ).
وفي المسند أن النبي r قال: «من مسلم يظلم بمظلمة فيقاتل فيقتل إلا قتل شهيدًا»[56].
ب- ما يرويه أبوهريرة أن رجلاً جاء إلى رسول الله r فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله»، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار»[57].
وما جاء في الحديث الأول حاصله أنه لما جعل المقتول لأجل الدفع شهيدًا دل التزامًا على أن له القتل والقتال كما أن من قتله أهل الحرب لما كان شهيدًا كان له القتل والقتال[58]، ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الثاني من الأمر بمقاتلة الصائل فإن كان ذلك في المال ففي غيره مما هو أخطر كالنفس والعرض تكون المقاتلة والمدافعة أولى.
يضاف إلى ما سبق ما عرفت به الشريعة من حرصها على إزالة الضرر عن الأفراد والجماعات ودرء الوسائل والأسباب المؤدية إليه حيث يقول الرسول r «لا ضرر ولا ضرار»[59] واستلهم العلماء من هذا الحديث قاعدة فقهية وهي قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» حيث ينهى الإسلام عن الضرر أيًا كان مصدره عن كل معصوم من آدمي وغيرهء[60].
وكما يدل النقل الصحيح على مشروعية الدفاع عن النفس يدل عليه العقل السليم.
إذ لو قيل بعدم مشروعية الدفاع عن النفس ورد الصائل لأدى ذلك إلى تلف المصول عليه وآذاه في نفسه وحرمته وماله، ولتسلط الناس بعضهم على بعضه، وأدى إلى الهرج والمرج. قال تعالى: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ }[61][62].
الفرع الثالث: أنواع المدفوع عنه، وحكم الدفع (مفصلاً) عن كل نوع:
المدفوع عنه إما أن يكون نفسًا أو طرفًا أو مالاً أو عرضًا أو دينًا، وقد بينتُ سابقًا مشروعية دفع الصائل في الجملة ولكن هل يدفع الصائل وجوبًا أم جوازًا؟
يختلف حكم الدفع -وإن كان مشروعًا- على حسب اختلاف المصول إليه ولذا كان لزامًا التطرق إلى كل نوع مما سبق والتفصيل في حكمه.
أولاً: أن يكون المدفوع عنه نفسًا.
إن كان الصائل بهيمة فقد أوجب بعض العلماء مدافعتها ولو بقتلها إذا لم تندفع بما هو أهون من ذلك.
يقول الإمام ابن العربي -رحمه الله-: إذا رأى مسلم فحلاً يصول على مسلم فإنه يلزمه أن يدفعه عنه وإن أدى إلى قتله، ولا ضمان على قاتله حينئذ سواء كان القاتل له هو الذي صال عليه الفحل أو معينًا له من الخلق[63].
ويقول الدسوقي -رحمه الله-: قد يقال ينبغي أن يكون الدفع هنا واجب لأنه لا يتوصل إلى نجاة نفسه إلا به لا سيما إذا كان الصائل غير آدمي[64].
ويقول عليش: إذا صال الجمل على الرجل فخافه على نفسه فقتله فلا شيء عليه... والمدافعة واجبة لا سيما إذا كان الصائل غير آدمي[65].
ويقول الشربيني -رحمه الله-: ويجب الدفع عن بضع... وعن نفسه إذا قصدها كافر... أو قصدها بهيمة[66].
ذكره تبعًا لما في الروضة[67] واحتج القائلون بالوجوب: أن البهيمة تذبح لاستبقاء الآدمي فلا وجه للاستسلام لها[68].
وبعض العلماء أطلق الجواز في مدافعة الصائل من البهائم ومن هؤلاء ابن قدامة، بل نقل -رحمه الله- الإجماع على جواز مدافعتها حيث يقول: وجملته أن الإنسان إذا صالت عليه بهيمة، فلم يمكنه دفعها إلا بقتلها، جاز له قتلها إجماعًا[69].
فإن كان الصائل آدميًا معصومًا: فإما أن يكون الصائل كافرًا من أهل الذمة ومثل هذا زالت عصمته وانتقض عهده بصوله وصار كالصائل الحربي الذي تجب مدافعته.
يقول الإمام مرعي بن يوسف الحنبلي فيما ينتقض به عهد أهل الذمة: فإن أبى من أهل الذمة بذل الجزية... أو قطع الطريق... أو تعدى على مسلم بقتل، أو فتنة عن دينه انتقض عهده[70].
يقول الشيخ إبراهيم بن ضويان معللاً ما ذكره الإمام مرعي: انتقض عهده؛ لعدم وفائه بمقتضى الذمة من أمن جانبه[71].
وقد نص بعض العلماء على وجوب مدافعة الكافر ولو معصومًا إذ غير المعصوم لا حرمة له، والمعصوم بطلت حرمته بصيالة والاستسلام للكافر ذل في الدين[72].
وأما إن كان الصائل آدميًا معصومًا فإن كان غير مكلف ففيه قولان:
القول الأول: لا يجب الدفع إذا قصدها مسلم ولو مجنون بل يجوز الاستسلام وقيل بل يسن [73].
القول الثاني: لا يجوز الاستسلام ويجب الدفع[74].
أدلتهم: استدل القائلون بعدم وجوب الدفع:
أن غير المكلف كالمكلف وقد ورد ما يدل على أن الاستسلام أولى يدل على ذلك قصة قابيل وهابيل[75].
استدل القائلون بوجوب الدفع وتحريم الاستسلام:
بقياس الآدمي غير المكلف على البهيمة بجامع عدم الإثم على الجميع[76].
وكأن المالكية -رحمهم الله- يلحقون غير المكلف من الآدميين بالبهيمة بجامع عدم فهم الخطاب[77]، ويمكن أن يستنبط من مجموع ما ذكروه أنهم يرون وجوب مدافعة الآدمي غير المكلف كما يجب مدافعة البهيمة. والراجح والله أعلم في هذه المسألة هو القول الثاني: إذ لا حجة فيما استدلوا به وقصة قابيل وهابيل لما سيأتي لاحقًا، ولو كانت القصة حجة؛ لكانت نصًا في المكلف ولا يلحق غيره به للفرق.
فإن كان الصائل آدمي مسلم فما حكم دفعه؟
لا يخلو إما أن يكون في فتنة أو في غيرها فإن كان في غير فتنة ففيه قولان:
القول الأول:
يلزمه الدفع، وهو قول الحنفية[78] ، وقول لبعض المالكية ورجحه منهم القرطبي وابن العز[79]، وهو وجه للشافعية [80]، وقيل قول للشافعية[81]، ورواية للإمام أحمد[82]. قال المرداوي في الإنصاف: «وهو المذهب»[83]، ورجحه ابن مفلح في الفروع حيث قال: «ويلزمه الدفع عن نفسه على الأصح»[84]
[1] في اللغة لابن فارس: باب الدال والعين وما يثلثهما من كتاب الدال، مادة (دفع) ص(360).
[2] مختار الصحاح لمحمد الرازي، باب الدال، مادة (دفع) ص(87).
[3] المرجع السابق، باب الصاد، مادة (صول) ص(156).
[4] المقاييس في اللغة، باب الصاد والواو وما يثلثهما من كتاب الصاد، مادة (صول) ص(582).
[5] لسان العرب لابن منظور، فصل الصاد، حرف اللام، مادة (صول) (13/411)، المجلد (7).
[6] مختار الصحاح، باب الدال، مادة (درأ) ص(84).
[7] المرجع السابق، باب الراء، مادة (ردد) ص(101).
[8] المرجع السابق، باب الميم، مادة (منع) ص(265).
[9] المختار، باب الجيم، مادة (جهد) ص(48).
[10] المختار، باب القاف، مادة (قتل) ص(218).
[11] المرجع السابق. باب العين، مادة (عدا) ص(176).
[12] المرجع السابق، باب الطاء، مادة (طال) ص(168).
[13] المقاييس، اللغة، باب الهاء والجيم وما يثلثهما، كتاب الهاء، مادة (هجم) ص(1065).
[14] روضة الطالبين (10/187)، المجموع (20/401).
[15] المجموع (20/401).
[16] إعانة الطالبين (4/170).
[17] إعانة الطالبين (4/171).
[18] مجموع فتاوى شيخ الإسلام (28/319).
[19] من موقع الشبكة الإسلامية على شبكة المعلومات من مجموعة دروس للشيخ يشرح بها (زاد المستنقع).
[20] شرح صحيح مسلم (2/343).
[21] المرجع السابق. والحديث يراد به حديث عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- وحيث قال، قال رسول الله r: «من قتل دون ماله فهو شهيد» أخرجه مسلم، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال... من كتاب الإيمان (359)، كما أخرجه في تحفة الأشراف (8611).
[22] نيل الأوطار للشوكاني (5/391).
[23] المجموع (20/403)، إعانة الطالبين (4/170)، تحفة الأحوذي (4/565)، سبل السلام (3/507)،.
[24] البقرة من الآية (188).
[25] النساء من الآية(29).
[26] أخرجه البخاري، باب من قال الأضحى يوم النحر من كتاب الأضاحي (5230)، ومسلم باب تغليظ تحريم.... من كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679).
[27] شرح صحيح مسلم (11/171).
[28] فتح الباري (1/192).
[29] المجموع (2/403).
[30] فتح الباري (12/245).
[31] المغني (12/530).
[32] مجموع الفتاوى (34/242).
[33] المرجع السابق (28/319).
[34] الهداية (4/448)، بداية المبتدي (4/448)، تنوير الأبصار (10/190)، الدر المختار (10/190)، حاشية ابن عابدين (10/192-193)، مختصر خليل (6/323)، جامع الأمهات (1/525)، مواهب الجليل (6/323)، حاشية الدسوقي (4/357)، الذخير (12/262)، الشرح الكبير (4/257)، التاج والإكليل (6/268)، منح الجليل (9/367)، روضة الطالبين (10/187)، الإقناع (2/545)، فتح المعين (4/171)، إعانة الطالبين (4/171)، الإنصاف (10/303)، المبدع (9/154)، المغني (12/530)، الفروع (10/162).
[35] مجموع الفتاوى (11/269).
[36] المرجع السابق (2/234).
[37] حاشية ابن عابدين (10/191)، الذخيرة (12/262)، حاشية الدسوقي (4/357)، الشرح الكبير (4/357)، جامع الأمهات (1/525)، روضة الطالبين (10/187)، إعانة الطالبين (4/173)، الإقناع (2/545)، الفروع (10/162)، المغني (12/530)، حاشية البعلي (10/162).
[38] مجموع الفتاوى (28/470).
[39] الإقناع (2/544).
[40] إعانة الطالبين (4/173)
وإذا كان الأمر كذلك فقد جاءت الشريعة مقرة لحق الناس جماعات وأفرادا في الدفاع عن حرماتهم ، وحفظ أمنهم ، واسترداد حقوقهم المسلوبة ، ورد عدوان المعتدين ، وظلم الظالمين ، ولو أدى ذلك إلى سفك دمائهم ، وإزهاق أرواحهم ،وفي هذا غاية العدل والإنصاف ، الذي هو أساس الدين ، وركن الشريعة.
ومن هذا المنطلق آثرت أن يكون بحثي عن حق الإنسان في الدفاع عن نفسه وحرمته وماله ودينه وعنونت له بـ( دفع الصائل وأحكامه في الفقه الإسلامي) .
فصل: معنى دفع الصائل وأحكامه: وفي هذا الفصل مبحثان:
المبحث الأول: تعريف (دفع الصائل)
وفيه ثلاثة مطالب:
المطلب الأول: تعريف دفع الصائل لغة
(دفع الصائل) جملة مركبة من كلمتين (دفع) و (الصائل).
أما الأولى فجاء في معجم المقاييس: الدال والفاء والعين أصل واحد مشهور، يدل على تنحية الشيء، يقال دفعت الشيء أدفعه دفعًا، ودافع الله عنه السوء ودفاعًا[1].
ومن ذلك قولهم تدافع القوم في الحرب أي دفع بعضهم بعضًا، واستدفع الله الأسواء أي طلب منه أن يدفعها عنه[2].
وأما كلمة (الصائل) فاسم فاعل من الفعل صال أي استطال، وصال عليه وثب. وصولة بمعنى وثبة، يقال: ربَّ قول أشدُّ من صول، والمصاولة المواثبة، وكذلك الصيال والصيالة والصولان[3].
يقول ابن فارس: الصاد والواو واللام أصل صحيح يدل على قهر وعلو[4].
والصؤول من الرجال من يضرب الناس ويتطاول عليهم[5].
المطلب الثاني: الألفاظ ذات الصلة بلفظتي (دفع) و (الصائل)
من الألفاظ ذات الصلة بلفظة (دَفْع) ما يلي:
1- لفظة (درء) من الفعل دَرَأ قال الرازي: (الدرء الدفع)[6] .
2- لفظة (ردُّ) من الفعل رَدَّ يقال ردّه عن وجهه ويرده ردًّا ورِدَّةً بالكسر صرفه[7].
3- لفظة (منْع) من الفعل مَنَعَ من الفعل مَنَعَ والمنع ضد الإعطاء[8].
ومن الألفاظ المتصلة بـ (المدافعة) (المجاهدة) أو (الجهاد) من الفعل جاهد ويقصد به بذل الوسع[9].
و (المقاتلة) من الفعل قاتل يقال: استقتل أي استمات بمعنى لم يبالِ بالموت لشجاعته[10].
وأما لفظة (الصائل) من الألفاظ المتصلة بمعنى الصول ما يلي:
1- لفظة (العادي) جاء في المختار: العادي العدو، وتعادى القوم، والعداوة، والعداء بالفتح والمد تجاوز الحد في الظلم و (المعتدي) مثله وهو من الفعل (اعتدى)[11].
2- لفظة (المتطاول) وهو اسم الفاعل من الفعل تطاول[12].
3- لفظة (الهاجم) و (المهاجم) يقول ابن فارس: (الهاء والجيم والميم أصل صحيح واحد يدل على ورود شيء بغتة... يقال: هجمت على القوم بغته، أهجم هجومًا... والهجمة من الإبل ما بين التسعين إلى المائة لأنها تهجم المورد نقوة)[13].
المطلب الثالث: تعريف (دفع الصائل) اصطلاحًا
عرِّف الصائل بأنه: كل قاصد من مسلم وذمي وعبد وحر وصبي ومجنون وبهيمة[14] يجوز دفعه على معصوم من نفس أو طرف أو منفعة أو بضع أو مال[15].
وقيل هو: الوثوب على معصوم بغير حق[16].
فعلى هذا يكون معنى دفع الصائل: منع أو درء أو ردُّ كل قاصد من مسلم... إلخ، وقد نص التعريف على أن الصائل قد يكون آدمي معصوم وإن كان عبدًا أو غير مكلف من صبي ومجنون، قد يكون الصائل مال ولذا قال (وبهيمة).
ولا يعني النص على كون الصائل قد يكون آدمي معصوم أنه لا يتصور كون الصائل آدمي غير معصوم كحربي ومرتد بل يتصور ومدافعته حينئذ آكد وإنما نص على المعصوم لزوال عصمته بالصول أما غيره فلا احترام ولا عصمة له أصلاً.
وأما قوله (يجوز دفعه) في التعريف الأول و (بغير حق) في التعريف الثاني ليخرج ما لا يجوز دفعه من الصائلين، وهو الصائل بحق ولذا قال في التعريف الثاني: الوثوب بغير حق، وهذا هو الذي تشرع مدافعته على ما سيأتي بيانه.
وأما قوله (على معصوم) قال البكري: (خرج الحربي والمرتد وتارك الصلاة فلا يجوز للشخص دفع الصائل عنهم)[17].
وفي آخر التعريف بيان لما قد يقع عليه الصول فقد يقع على نفس المصول عليه أو طرفه أو منفعة طرف، أو على عرضه، أو عرض حريمه، أو ماله.
ويمكن أن يضاف هنا إلى أنواع ما قد يصال عليه (الدين) كما لو اندفع آدمي أو غيره على مصحف لتمزيقه أو تدنيسه.
المبحث الثاني: أحكام دفع الصائل
وفيه مطلبان:
المطلب الأول: حكم الصول
يطلق الصائل في كتب الفقهاء على المندفع بغير حق يقول شيخ الإسلام في فتاويه: وهذا الذي تسميه الفقهاء الصائل هو الظالم بلا تأويل[18].
ويقول الشيخ محمد مختار الشنقيطي: ثم إن هذا الصائل إذا هجم على الغير قد يهجم بحق، وقد يهجم بغير حق... كأن يكون الذي هجم عليه مطالبًا بحق الله أو بجريمة، وكلام العلماء ينص على حاله ما إذا كان الصائل بغير حق وليس المراد ما إذا كان بحق، فمن هجم على الغير وعنده حق في هذا الهجوم وله إذن شرعي فإنه يخرج من مسألتنا[19].
بل نص كثير من العلماء على أن الصائل الذي يدافع ويهدر دمه بصوله هو الصائل بغير حق ولذا بوّب الإمام مسلم لحديث عبدالله بن عمرو الآتي بباب: (الدليل على أن من قصد أخذ مال غيره بغير حق كان القاصد مهدر الدم في حقه، وإن قتل كان في النار، وإن من قتل دون ماله فهو شهيد)[20].
كما نص على ذلك الإمام النووي عند شرحه الحديث[21].
ويقول الشوكاني في النيل: وأحاديث الباب فيها دليل على أنه تجوز مقاتلة من أراد أخذ مال إنسان... إذا كان الأخذ بغير حق[22].
كما نص على ذلك غيرهم[23].
فإذا كان الصول عند الفقهاء هو التطاول على الغير من المعصومين ظلمًا وعدوانًا فإن حكمه التحريم يدل على ذلك قوله تعالى:{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[24] وقوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}[25]. وهذا في المال فغيره من باب أولى.
وكما دل الكتاب على تحريم الاعتداء على الآخرين دلت عليه السنة النبوية جاء في حديث نفيع بن الحارث -t- أن النبي r قال: «أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض».
إلى قوله r: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا، وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم، فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض»[26].
بوّب له الإمام مسلم بباب: تغليظ تحريم الدماء والأعراض والأموال.
يقول الإمام النووي: المراد بهذا كله -يقصد ما قدمه النبي r بيان توكيد غلظ تحريم الأموال والدماء والأعراض، والتحذير من ذلك[27].
ويقول الحافظ ابن حجر: قوله: «فإن دماءكم...» هو على حذف مضاف، أي سفك دمائكم، وأخذ أموالكم، وثلب أعراضكم، والعِرض بكسر العين موضع المدح والذم من الإنسان، سواء كان في نفسه أو سلفه[28].
وقد جاءت الأحاديث التي لا تحصى في بيان شدة قبح الظلم، وشناعة جرم من اقترفه، ووجوب احترام حق المسلم، والحث على الإحسان إليه والتحذير من إيذائه.
المطلب الثاني: الصائل
وفيه أربعة فروع:
الفرع الأول: حكم دفع الصائل.
الصائل لا يخلو من أن يكون آدميًا أو غير آدمي، والآدمي إما أن يكون معصومًا أو غير معصوم، وقد يكون مكلف أو غير مكلف، كما أن المصول عليه قد يكون نفسًا أو طرفًا أو منفعة أو عرضًا أو مالاً أو دينًا، والصول قد يكون بحق وقد يكون بغير حق.
ودفع الصائل مشروع في الجملة بل نقل بعضهم الاتفاق على ذلك.
جاء في المجموع: إذا قصده رجل في نفسه أو ماله أو أهله بغير حق، فيجوز للمصول عليه أن يدفع طالب قتله عن نفسه أو طرفه أو زوجة أو ولده، وماله، وإن أفضى الدفع إلى قتله، وسواء كان الصائل آدميًا مكلفًا كالبالغ العاقل، أو كان غير مكلف كالصبي والمجنون، أو كان بهيمة كالفحل الصائل والبعير الهائج... وإذا جاز دفعه بالقتل، وهو متفق عليه، كان نفسه هدرًا، مكلفًا أو غير مكلف[29].
ويقول الحافظ في الفتح: واتفقوا على جواز دفع الصائل ولو أتى على نفس المدفوع[30].
ونقل ابن قدامة الموفق المقدسي الإجماع على جواز دفع الصائل من البهائم وإن أفضى دفعها إلى قتلها يقول -رحمه الله-: وجملته أن الإنسان إذا صالت عليه بهيمة، فلم يمكنه دفعها إلا بقتلها، جاز له قتلها إجماعًا[31].
ويقول شيخ الإسلام -رحمه الله- في فتاويه حاكيًا الإجماع على مشروعية دفع الصائل على النفس: وكذا إذا طلبوا -أي المحاربين- دمه كان له أن يدفعهم ولو بالقتل إجماعًا[32].
فإن قيل نصَّ على الإجماع في مشروعية الدفع عن الدم فماذا عن المال؟
أجيب بأنه -رحمه الله- ساق أيضًا الإجماع على مشروعية الدفع عن المال حيث يقول: ويجوز للمظلومين الذين تراد أموالهم قتال المحاربين بإجماع المسلمين[33].
كما نص كثير من العلماء على مشروعية دفع الصائل[34]، وأنه حق للمصول ويشمل ذلك ما إذا كان الصائل مكلفًا أو غير مكلف كصبي ومجنون وقد ذكر ذلك شيخ الإسلام حين قال: وقتل الصائل جائز وإن كان صغيرًا[35].
ولما أورد -يرحمه الله- قصة قتل موسى الغلام الواردة في سورة الكهف قال: وقصة الغلام مضمونها جواز قتل الصبي الصائل[36].
كما قرر كثير من العلماء شرعية قتل الصائل من غير المكلفين، ولهم في ذلك نصوص صريحة[37].
فإذا كان الصائل غير معصوم فدفعه أولى.
يقول شيخ الإسلام: الكافر الحربي الذي يستحل دماء المسلمين، وأموالهم، ويرى جواز قتالهم، أولى بالمحاربة من الفاسق الذي يعتقد تحريم ذلك[38].
بل أوجب بعض العلماء مدافعة الصائل من الكفار معصومًا أو غير معصوم.
يقول الشربيني: ويجب الدفع عن بضع... وعن نفسه إذا قصدها كافر ولو معصومًا أو غير معصوم لا حرمة له والمعصوم بطلت حرمته بصياله، ولأن الاستسلام للكافر ذل في الدين[39].
وذكر البكري نحوه[40]. وهو ما رجحه النووي -رحمه الله- في الروضة[41].
وهذا في الصائل من الكفار على أحد المسلمين، فإن كان الصول من مجتمع كافر على مجتمع من المسلمين فحينئذ يجب مدافعة الكفار وهو ما يعرف في اصطلاح الفقهاء بـ (قتال الدفع).
يقول شيخ الإسلام: فإما إذا أراد العدو الهجوم على المسلمين فإنه يصير دفعه واجبًا على المقصودين، وعلى غير المقصودين، لإعانتهم... فهذا دفع عن الدين والحرمة والأنفس، وهو قتال اضطرار[42].
وهذا الموضوع كبير ويحتاج إلى بحث مستقل ولكنني أشرت إليه من باب إتمام عناصر الموضوع.
وكما يتنوع الصائل فإن المصول عليه يتنوع أيضًا إلى نفس ومنفعة وبضع ومال وسأتناول في الفرع الثالث من هذا الفصل هذا الموضوع بالتفصيل.
فإن ثبتت مشروعية دفع الصائل بما يندفع به وإن كان قتلاً باتفاق العلماء[43].
فكيف يجاب عن حديث ابن مسعود عن رسول الله r أنه قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيّب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة»[44].
حيث نص الحديث على تحريم كل دم سوى من ذكرهم في الحديث وليس الصائل منهم.
قيل: ذكر ابن دقيق العيد أن هذا الحديث عام يُخص منه الصائل ونحوه، فيباح قتله، قال: وقد يجاب عن هذا: بأنه داخل في المفارق للجماعة، ويكون المراد لا يحل تعمد قتله قصدًا إلا في هؤلاء الثلاثة، والله أعلم[45].
وذكر الصنعاني، والعظيم آبادي، والحافظ في الفتح، والمباركفوري[46] نحوًا مما ذكر ابن دقيق العيد.
مسألة: حكم دفع الصائل بحق:
مدافعة الصائل بحق محرمة لأنها اعتداء بغير حق، وقد رأينا في زمننا هذا تعدي بعض ذوي التوجهات المنحرفة، والأفكار الضالة، يستبيحون الدماء المعصومة، والأرواح المحترمة لرجال السلطان، ومسؤولي الأمن وغيرهم وحجتهم (مشروعية دفع الصائل) ويصدِّر رؤوس الضلال منهم فتاويه على شبكة المعلومات بمثل هذه المصطلحات الفقهية، وما ذاك إلا تبريرًا لجرمهم، وتغطية لضلالهم، وللعبث والتغرير بعقول السفهاء والعامة ممن ليس لديهم قليل فقه ولا كثيره.
وقد تجد في تلكم الفتاوى بعض الأدلة الشرعية كحديث: «من قتل دون دمه... » وغيره ليقبل قولهم، وتروج أفكارهم.
والمتتبع لتاريخ الفرق الضالة يرى أنها كانت تتترس ببعض المصطلحات البراقة لخداع العامة فالخوارج رفعوا شعار التحاكم لله دون غيره، والروافض رفعوا شعار حب آل البيت، بل إن كل صاحب باطل لابد أن يستر باطله بحق ليُقبل ولذا فكل الغزاة والمستعمرين الذين نهبوا ثروات المسلمين كان شعارهم في حملاتهم تحقيق العدل والحرية والمساواة في بلاد المسلمين.
* وللرد على من استباح الدماء والأنفس المعصومة بقصد دفع الصائل أقول:
إن العلماء لما تناولوا مسألة الصائل نقلوا ما ذكره ابن المنذر من أن الذي عليه أهل العلم أن للرجل أن يدفع عما ذكر إذا أريد ظلمًا بغير تفصيل إلا أن كل من يحفظ عنه من علماء الحديث كالمجمعين على استثناء السلطان للآثار الواردة بالأمر بالصبر على جوره وترك القيام عليه[47].
وإجماع المحدثين على عدم جواز دفع رسول السلطان وإن كان ظالمًا. فكيف إذا كان يريده بحق؟!
بل إن شيخ الإسلام -رحمه الله- عدّ جند السلطان الذين يدفعون عن المسلمين وأرضهم مجاهدون في سبيل الله يقول -رحمه الله- في معرض حديثه عن الصائل وأحكامه: ولا يحل للسلطان أن يأخذ من أرباب الأموال جعلاً على طلب المحاربين... وللجند الذين يرسلهم في طلبهم، بل طلب هؤلاء من نوع الجهاد في سبيل الله، فيخرج فيه جند المسلمين... وينفق على المجاهدين[48] في هذا من المال الذي ينفق منه على سائر الغزاة[49].
فعلى هذا كل من صال بحق فيحرم قتله، ومع الحرمة يترتب وجوب الضمان من عدمه وإن كان هذا الصائل بهيمة ككلب الحراسة، إذ لو صال على من أقبل عليه فقتله المصول عليه لضمنه؛ لأن صوله بحق، والشرع رخص في كلب الحراسة.
الفرع الثاني: الأصل في مشروعية دفع الصائل والحكمة من ذلك:
اعتنى الإسلام بمصالح الإنسان الدنيوية كما اعتنى بأمور آخرته، وأتى بالتشريعات التي تكفل له صيانة حقوقه.
وقد قرر الإسلام كليات خمس وسعى في سائر تشريعاته لحفظها وهي النفس، والمال، والعقل، والعرض، والدين.
وذلك لأن حفظ هذه الكليات هو السبيل الوحيد لاستقرار المجتمع المسلم، وسعادة أفراده، وأما التفريط في حفظ أحد هذه الكليات فيعني اضطراب المجتمع، وضياع الأمن.
ولأن العقل البشري قاصر عاجز عن سن القوانين التي تمنحه الأمن والسعادة، ومفتقر أبدًا إلى تشريع إلهي يحفظ حقوقه، ويصونها، جاءت مشروعية دفاع المرء عن نفسه وماله وعرضه من كل اعتداء جائر، وإن كان المعتدي من أهل الإسلام؛ حفظا للأنفس المعصومة، وعناية بالدماء المحرمة، وحرصًا على صيانة الأعراض والأموال من أن تنتهك أو تغتصب.
وقد وردت نصوص كثيرة تبين مشروعية دفع الصائل ومن ذلك:
أولاً: من القرآن الكريم:
دل الكتاب على مشروعية رد المعتدي ومن النصوص في ذلك:
أ - قال تعالى:{فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}[50].
يقول القرطبي -يرحمه الله- عند تفسيره هذه الآية: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}
عموم متفق عليه، إما بالمباشرة، إن أمكن. وإما بالحكام، واختلف الناس في المكافأة هل تسمى عدوانًا أم لا؟ وقال: ليس في القرآن مجاز قال: المقابلة عدوان وهو عدوان مباح][51].
وهذه الآية أصل يعتمد عليه في مشروعية دفع الصائل يقول البكري -رحمه الله-: والأصل في الصيال قوله تعالى:{ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ}
ب- قال تعالى:{وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ * وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}[52]
فالله I امتدح في هذه الآيات عباده الذين ينتصرون على من بغى عليهم لأنه تعالى يكره الذلة، وقد ذكر هؤلاء المنتصرين في معرض المدح؛ لأن التذلل لمن بغى ليس من صفات من جعل الله له العزة حيث قال: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ}[53]
جـ- قال تعالى:{وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِين}[54].
فدلت الآيتان الأولى والثانية على مشروعية مقاتلة من بدأنا بالقتال.
ثانيًا: من السنة النبوية:
أ- ما جاء في الحديث الذي يرويه سعيد بن زيد -t- أن النبي r قال: «من قتل دون ماله فهو شهيد، ومن قتل دون أهله فهو شهيد، ومن قتل دون دينه فهو شهيد، ومن قتل دون دمه فهو شهيد»[55] ).
وفي المسند أن النبي r قال: «من مسلم يظلم بمظلمة فيقاتل فيقتل إلا قتل شهيدًا»[56].
ب- ما يرويه أبوهريرة أن رجلاً جاء إلى رسول الله r فقال: يا رسول الله أرأيت إن جاء رجل يريد أخذ مالي؟ قال: «فلا تعطه مالك» قال: أرأيت إن قاتلني؟ قال: «قاتله»، قال: أرأيت إن قتلني؟ قال: «فأنت شهيد» قال: أرأيت إن قتلته؟ قال: «هو في النار»[57].
وما جاء في الحديث الأول حاصله أنه لما جعل المقتول لأجل الدفع شهيدًا دل التزامًا على أن له القتل والقتال كما أن من قتله أهل الحرب لما كان شهيدًا كان له القتل والقتال[58]، ويؤيد ذلك ما جاء في الحديث الثاني من الأمر بمقاتلة الصائل فإن كان ذلك في المال ففي غيره مما هو أخطر كالنفس والعرض تكون المقاتلة والمدافعة أولى.
يضاف إلى ما سبق ما عرفت به الشريعة من حرصها على إزالة الضرر عن الأفراد والجماعات ودرء الوسائل والأسباب المؤدية إليه حيث يقول الرسول r «لا ضرر ولا ضرار»[59] واستلهم العلماء من هذا الحديث قاعدة فقهية وهي قاعدة «لا ضرر ولا ضرار» حيث ينهى الإسلام عن الضرر أيًا كان مصدره عن كل معصوم من آدمي وغيرهء[60].
وكما يدل النقل الصحيح على مشروعية الدفاع عن النفس يدل عليه العقل السليم.
إذ لو قيل بعدم مشروعية الدفاع عن النفس ورد الصائل لأدى ذلك إلى تلف المصول عليه وآذاه في نفسه وحرمته وماله، ولتسلط الناس بعضهم على بعضه، وأدى إلى الهرج والمرج. قال تعالى: { وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ }[61][62].
الفرع الثالث: أنواع المدفوع عنه، وحكم الدفع (مفصلاً) عن كل نوع:
المدفوع عنه إما أن يكون نفسًا أو طرفًا أو مالاً أو عرضًا أو دينًا، وقد بينتُ سابقًا مشروعية دفع الصائل في الجملة ولكن هل يدفع الصائل وجوبًا أم جوازًا؟
يختلف حكم الدفع -وإن كان مشروعًا- على حسب اختلاف المصول إليه ولذا كان لزامًا التطرق إلى كل نوع مما سبق والتفصيل في حكمه.
أولاً: أن يكون المدفوع عنه نفسًا.
إن كان الصائل بهيمة فقد أوجب بعض العلماء مدافعتها ولو بقتلها إذا لم تندفع بما هو أهون من ذلك.
يقول الإمام ابن العربي -رحمه الله-: إذا رأى مسلم فحلاً يصول على مسلم فإنه يلزمه أن يدفعه عنه وإن أدى إلى قتله، ولا ضمان على قاتله حينئذ سواء كان القاتل له هو الذي صال عليه الفحل أو معينًا له من الخلق[63].
ويقول الدسوقي -رحمه الله-: قد يقال ينبغي أن يكون الدفع هنا واجب لأنه لا يتوصل إلى نجاة نفسه إلا به لا سيما إذا كان الصائل غير آدمي[64].
ويقول عليش: إذا صال الجمل على الرجل فخافه على نفسه فقتله فلا شيء عليه... والمدافعة واجبة لا سيما إذا كان الصائل غير آدمي[65].
ويقول الشربيني -رحمه الله-: ويجب الدفع عن بضع... وعن نفسه إذا قصدها كافر... أو قصدها بهيمة[66].
ذكره تبعًا لما في الروضة[67] واحتج القائلون بالوجوب: أن البهيمة تذبح لاستبقاء الآدمي فلا وجه للاستسلام لها[68].
وبعض العلماء أطلق الجواز في مدافعة الصائل من البهائم ومن هؤلاء ابن قدامة، بل نقل -رحمه الله- الإجماع على جواز مدافعتها حيث يقول: وجملته أن الإنسان إذا صالت عليه بهيمة، فلم يمكنه دفعها إلا بقتلها، جاز له قتلها إجماعًا[69].
فإن كان الصائل آدميًا معصومًا: فإما أن يكون الصائل كافرًا من أهل الذمة ومثل هذا زالت عصمته وانتقض عهده بصوله وصار كالصائل الحربي الذي تجب مدافعته.
يقول الإمام مرعي بن يوسف الحنبلي فيما ينتقض به عهد أهل الذمة: فإن أبى من أهل الذمة بذل الجزية... أو قطع الطريق... أو تعدى على مسلم بقتل، أو فتنة عن دينه انتقض عهده[70].
يقول الشيخ إبراهيم بن ضويان معللاً ما ذكره الإمام مرعي: انتقض عهده؛ لعدم وفائه بمقتضى الذمة من أمن جانبه[71].
وقد نص بعض العلماء على وجوب مدافعة الكافر ولو معصومًا إذ غير المعصوم لا حرمة له، والمعصوم بطلت حرمته بصيالة والاستسلام للكافر ذل في الدين[72].
وأما إن كان الصائل آدميًا معصومًا فإن كان غير مكلف ففيه قولان:
القول الأول: لا يجب الدفع إذا قصدها مسلم ولو مجنون بل يجوز الاستسلام وقيل بل يسن [73].
القول الثاني: لا يجوز الاستسلام ويجب الدفع[74].
أدلتهم: استدل القائلون بعدم وجوب الدفع:
أن غير المكلف كالمكلف وقد ورد ما يدل على أن الاستسلام أولى يدل على ذلك قصة قابيل وهابيل[75].
استدل القائلون بوجوب الدفع وتحريم الاستسلام:
بقياس الآدمي غير المكلف على البهيمة بجامع عدم الإثم على الجميع[76].
وكأن المالكية -رحمهم الله- يلحقون غير المكلف من الآدميين بالبهيمة بجامع عدم فهم الخطاب[77]، ويمكن أن يستنبط من مجموع ما ذكروه أنهم يرون وجوب مدافعة الآدمي غير المكلف كما يجب مدافعة البهيمة. والراجح والله أعلم في هذه المسألة هو القول الثاني: إذ لا حجة فيما استدلوا به وقصة قابيل وهابيل لما سيأتي لاحقًا، ولو كانت القصة حجة؛ لكانت نصًا في المكلف ولا يلحق غيره به للفرق.
فإن كان الصائل آدمي مسلم فما حكم دفعه؟
لا يخلو إما أن يكون في فتنة أو في غيرها فإن كان في غير فتنة ففيه قولان:
القول الأول:
يلزمه الدفع، وهو قول الحنفية[78] ، وقول لبعض المالكية ورجحه منهم القرطبي وابن العز[79]، وهو وجه للشافعية [80]، وقيل قول للشافعية[81]، ورواية للإمام أحمد[82]. قال المرداوي في الإنصاف: «وهو المذهب»[83]، ورجحه ابن مفلح في الفروع حيث قال: «ويلزمه الدفع عن نفسه على الأصح»[84]
[1] في اللغة لابن فارس: باب الدال والعين وما يثلثهما من كتاب الدال، مادة (دفع) ص(360).
[2] مختار الصحاح لمحمد الرازي، باب الدال، مادة (دفع) ص(87).
[3] المرجع السابق، باب الصاد، مادة (صول) ص(156).
[4] المقاييس في اللغة، باب الصاد والواو وما يثلثهما من كتاب الصاد، مادة (صول) ص(582).
[5] لسان العرب لابن منظور، فصل الصاد، حرف اللام، مادة (صول) (13/411)، المجلد (7).
[6] مختار الصحاح، باب الدال، مادة (درأ) ص(84).
[7] المرجع السابق، باب الراء، مادة (ردد) ص(101).
[8] المرجع السابق، باب الميم، مادة (منع) ص(265).
[9] المختار، باب الجيم، مادة (جهد) ص(48).
[10] المختار، باب القاف، مادة (قتل) ص(218).
[11] المرجع السابق. باب العين، مادة (عدا) ص(176).
[12] المرجع السابق، باب الطاء، مادة (طال) ص(168).
[13] المقاييس، اللغة، باب الهاء والجيم وما يثلثهما، كتاب الهاء، مادة (هجم) ص(1065).
[14] روضة الطالبين (10/187)، المجموع (20/401).
[15] المجموع (20/401).
[16] إعانة الطالبين (4/170).
[17] إعانة الطالبين (4/171).
[18] مجموع فتاوى شيخ الإسلام (28/319).
[19] من موقع الشبكة الإسلامية على شبكة المعلومات من مجموعة دروس للشيخ يشرح بها (زاد المستنقع).
[20] شرح صحيح مسلم (2/343).
[21] المرجع السابق. والحديث يراد به حديث عبدالله بن عمرو -رضي الله عنهما- وحيث قال، قال رسول الله r: «من قتل دون ماله فهو شهيد» أخرجه مسلم، باب الدليل على أن من قصد أخذ مال... من كتاب الإيمان (359)، كما أخرجه في تحفة الأشراف (8611).
[22] نيل الأوطار للشوكاني (5/391).
[23] المجموع (20/403)، إعانة الطالبين (4/170)، تحفة الأحوذي (4/565)، سبل السلام (3/507)،.
[24] البقرة من الآية (188).
[25] النساء من الآية(29).
[26] أخرجه البخاري، باب من قال الأضحى يوم النحر من كتاب الأضاحي (5230)، ومسلم باب تغليظ تحريم.... من كتاب القسامة والمحاربين والقصاص والديات (1679).
[27] شرح صحيح مسلم (11/171).
[28] فتح الباري (1/192).
[29] المجموع (2/403).
[30] فتح الباري (12/245).
[31] المغني (12/530).
[32] مجموع الفتاوى (34/242).
[33] المرجع السابق (28/319).
[34] الهداية (4/448)، بداية المبتدي (4/448)، تنوير الأبصار (10/190)، الدر المختار (10/190)، حاشية ابن عابدين (10/192-193)، مختصر خليل (6/323)، جامع الأمهات (1/525)، مواهب الجليل (6/323)، حاشية الدسوقي (4/357)، الذخير (12/262)، الشرح الكبير (4/257)، التاج والإكليل (6/268)، منح الجليل (9/367)، روضة الطالبين (10/187)، الإقناع (2/545)، فتح المعين (4/171)، إعانة الطالبين (4/171)، الإنصاف (10/303)، المبدع (9/154)، المغني (12/530)، الفروع (10/162).
[35] مجموع الفتاوى (11/269).
[36] المرجع السابق (2/234).
[37] حاشية ابن عابدين (10/191)، الذخيرة (12/262)، حاشية الدسوقي (4/357)، الشرح الكبير (4/357)، جامع الأمهات (1/525)، روضة الطالبين (10/187)، إعانة الطالبين (4/173)، الإقناع (2/545)، الفروع (10/162)، المغني (12/530)، حاشية البعلي (10/162).
[38] مجموع الفتاوى (28/470).
[39] الإقناع (2/544).
[40] إعانة الطالبين (4/173)
مواضيع مماثلة
» دفع الصائل"
» أحكام دفع الصائل
» أحكام دفع الصائل
» في التفريق بين الجهاد ودفع الصائل(١)
» دفع الصائل في الشريعة الإسلامية .. أحكامه وشروطه
» أحكام دفع الصائل
» أحكام دفع الصائل
» في التفريق بين الجهاد ودفع الصائل(١)
» دفع الصائل في الشريعة الإسلامية .. أحكامه وشروطه
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
الجمعة 21 يونيو 2024, 12:25 am من طرف Admin
» هل الانجيل محرف
الأربعاء 19 يونيو 2024, 2:34 pm من طرف Admin
» شبهات النصاري زواج ام المؤمنين عائشه،
الإثنين 17 يونيو 2024, 10:30 am من طرف Admin
» الفرق بين السنه والفقه
السبت 11 مايو 2024, 11:23 pm من طرف Admin
» كيف عرفت انه نبي..
الجمعة 26 أبريل 2024, 5:40 am من طرف Admin
» موضوع هل يدخل الجنه غير المسلمين،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:48 am من طرف Admin
» التدرج في التشريع
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:43 am من طرف Admin
» كتب عليكم الصيام،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:41 am من طرف Admin
» اقوال العلماء في تفسير ايه الحجاب،،
الثلاثاء 09 أبريل 2024, 7:40 am من طرف Admin