من خطابة النبي صلى الله عليه وسلم :
عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ :
سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ فِي خُطْبَةٍ
:
" أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِكُمْ مَعَالِمَ فَانْتَهُوا
إِلَى مَعَالِمِكُمْ ، وَإِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ
،
إِنَّ الْمُؤْمِنَ بَيْنَ
مَخَافَتَيْنِ : بَيْنَ أَجَلٍ قَدْ مَضَى لا يَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ فِيهِ ،
وَبَيْنَ أَجَلٍ قَدْ بَقِيَ لا يَدْرِي مَا اللَّهُ قَاضٍ فِيهِ ،
فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْ دُنْيَاهُ
لآخِرَتِهِ ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْهَرَمِ ، وَمِنَ الْحَيَاةِ قَبْلَ
الْمَوْتِ ،
فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ
مُسْتَعْتَبٍ ، وَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ إِلا الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ " .
جو النص
هذه الخطبة جزء من خطبة الرسول صلى
الله عليه وسلم في حجة الوداع . فقد وقف عند المشعر الحرام كما كانت قريش تصنع في
الجاهلية , وأجاز حتى أتى عرفة , فوجد القبة قد ضربت له بنمرة , فنزل بها حتى إذا
زاغت الشمس أمر بالقصواء فرحلت له , فأتى بطن الوادي , فخطب الناس .
************
( أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ لِكُمْ مَعَالِمَ فَانْتَهُوا
إِلَى مَعَالِمِكُمْ ، وَإِنَّ لَكُمْ نِهَايَةً فَانْتَهُوا إِلَى نِهَايَتِكُمْ )
ـ امتازت خطب الرسول صلى الله عليه
وسلم ببراعة الاستهلال وقد استهلّ هذه الخطبة بالنداء بما فيه من تنبيه للسامع
وجلب انتباهه .
ـ جعل النداء (أيها الناس) ليكون الخطاب عاماً لجميع البشر في
كل زمان ومكان .
ـ مَعَالِمُ : مُفردُها : مَعْلَمٌ ، وهو
الأثرُ يُستَدَلُّ به على الطَّريقِ 0
ـ وهي استعارة تصريحية حيث شبه أوامر الدين و نواهيه بالعلامات التي يسترشد الإنسان بها في
طريقه فلا يضل ، وحذف المشبه وصرح بالمشبه به . وسر جمالها تجسيم المعنى
وإبرازه في صورة محسوسة
.
ـ اختار لفظ ( المعالم ) ليدل على أثر الدين في الإرشاد والتوجيه
. وفيها دلالة نفسية خاصة بالنسبة لسكان الصحراء التي يكثر فيها التيه والضياع
وتظهر قيمة المعالم في بلوغ الهدف بسلام .
ـ وأضاف المعالم إلى ضمير المخاطبين ( معالمكم ) ليوحي بأن الدين ما جاء إلا لإرشادهم . وتحس ذلك أيضاً
في ( لكم ) ، ( نهايتكم ) .
ـ بناء الفقرة يراوح بين الخبر
والإنشاء :
1ـ
الخبر : جمل اسمية مؤكدة بإنَّ تجري مجرى القواعد الثابتة .
2ـ الإنشاء : أفعال أمر حقيقية تلزم
باتباع القاعدة السابقة .
**************
( إِنَّ الْمُؤْمِنَ بَيْنَ
مَخَافَتَيْنِ : بَيْنَ أَجَلٍ قَدْ مَضَى لا يَدْرِي مَا اللَّهُ صَانِعٌ فِيهِ ،
وَبَيْنَ أَجَلٍ قَدْ بَقِيَ لا يَدْرِي مَا اللَّهُ قَاضٍ فِيهِ )
ـ بيان موقف المرء في الدنيا ، فهو بين
اثنين :
1ـ ماض خلفه ، ولا يدري هل أدرك رضا الله فيما قدم
فيه ، أو لم يدرك رضوانه .
2ـ مستقبل مجهول ، لا يدري ماذا يصنع
به الله فيه .
فهو من ماضيه ومستقبله بين
مخافتين ، كلتاهما تتطلب غاية اليقظة والانتباه .
ـ عبر بالعبد عن الإنسان ليدل
على عبوديته لله التي تشعر بالضعف وتقتضي الطاعة . فالذي يعيش بين مخافتين هو العبد الحقيقي الذي يعرف معنى الإيمان .
ـ عبر عن ماضي العمر ومستقبله بـ
(مخافتين) ليبعث الرهبة في النفوس حتى تكون على حذر .
ـ صور الرسول صلى الله عليه وسلم العبد
في حياته وهو يعيش بين مخافتين ، وكلمة ( بين ) الدالة على المكان نقلت
المعنى العقلي إلى صورة حية واقعية ، كأن الماضي والمستقبل جسمان محسوسان يقف
بينهما العبد تراهما ماثلين أمام عينيك .
ـ في العبارة تشويق نابع من ( التفصيل بعد
الإجمال ) حيث أتى بالمعنى مجملاً في قوله : ( إن العبد بين مخافتين ) ثم فصل المخافتين بعد ذلك .
ـ
الفقرة مبنية على التقابل بين : مضى وبقي ، وصانع وقاض ، مع تساوي عدد الكلمات في
كل من الجملتين . وهذا ما يعرف بالازدواج .
****************
( فَلْيَأْخُذِ الْعَبْدُ مِنْ نَفْسِهِ لِنَفْسِهِ ، وَمِنْ
دُنْيَاهُ لآخِرَتِهِ ، وَمِنَ الشَّبِيبَةِ قَبْلَ الْهَرَمِ ، وَمِنَ الْحَيَاةِ
قَبْلَ الْمَوْتِ )
ـ بيان ما يجب على المرء :
1ـ أن يمنع نفسه عن بعض ما تحب ،
ويحملها على بعض ما تكره في نطاق الدين .
2ـ أن ينقص من مطالب الدنيا ، ليضيف إلى أعماله الطيبة التي تنفعه في الآخرة .
3ـ وأن يبادر شبابه ، فيقدم فيه من صالح العمل ما
قد يعجز عنه في كبره .
4ـ وأن ينتهز فرصة الحياة ، فيعمل فيها
ما يقربه إلى ربه ، قبل أن يدركه الموت .
ـ الفقرة استمرار في الإطناب بإيضاح
ما يجب على الإنسان أن يأخذه من دنياه لآخرته ، ومن شبابه لشيخوخته .
ـ وهي جملة إنشائية استخدمت صيغة الأمر
الحقيقي لإلزام العبد بمضمونها . ناسبت الجملة الخبرية المؤكدة في الفقرة السابقة
( إن المؤمن بين مخافتين ) تقع منها موقع النتيجة من السبب .
ـ من المحسنات البديعية : الطباق ( دنياه
، آخرته ) و ( الشبيبة ، الهرم ) و ( الحياة ، الموت ) . فائدته إبراز المعاني
بالتضاد .
****************
( فَوَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ
بِيَدِهِ مَا بَعْدَ الْمَوْتِ مِنْ مُسْتَعْتَبٍ ، وَمَا بَعْدَ الدُّنْيَا دَارٌ
إِلا الْجَنَّةَ أَوِ النَّارَ )
ـ ختم عليه السلام الخطبة بتأكيد ما تقدم ،
فأقسم على أن الإنسان إذا مات انتهى رجائه ، ولم تبق أمامه فرصة يتدارك بها ما فات
، أو يعتذر عن ذنوبه ، وإنما أمامه الثواب ، أو العقاب : الجنة إذا كان محسنا،
والنار إذا كان مسيئا .
ـ القسم أسلوب توكيد يوحي بقدرة الله
وسيطرته على النفوس .
ـ ( والذي نفس محمد بيده ) كناية عن موصوف هو الله سبحانه
وتعالى . و (يده) مجاز مرسل عن القدرة علاقته السببية .
ـ مُستَعْتَبٌ : اِستَعْتَبَ وأَعْتَبَ
بمعنىً واحدٍ ، وهو سرَّهُ بعدما ساءَهُ0 ويقالُ أَيضًا : اِستَعْتَبَ : بمعنى طلب
أَنْ يُعْتَبَ . وهو مجرور بمن الدالة على التبعيض ، في تعبير يوحي
بالقلة ، أي : ولا حتى مستعتب واحد .
ـ أسلوب القصر بما وإلا ، يقصر
المصير على أحد الأمرين المذكورين بعده لا ثالث لهما ، ويدعو إلى تحكيم العقل عند
الاختيار ، الجنة أو النار .
أسلوب الخطبة عامة :
ـ وهذا النص لون من الخطابة الدينية وقد
اشتملت الخطبة على مقدمة قصيرة (أيها الناس) تلاها عرض الموضوع معتمدا على التكرار
والإطناب والإقناع والاستمالة، وجاءت الخاتمة (والذي نفس محمد بيده … الخ) وفيها
تلخيص لهدف الخطبة .
ـ الخصائص الفنية للأسلوب الخطابي: السهولة والوضوح ، والإقناع
والإمتاع، والتنويع بين الخبر والإنشاء.
*************